الحكاءون (١)
رجوت في غاية مقال «في السياحة» أن ألم بحديث الحكائين ممن كانوا يطلبون البلاد الأجنبية إذا كان الصيف، ولعلك تذكر أنني زعمت في ذلك المقال أن غريزة المحاكاة والتقليد كان لهما في تلك البدعة الأثر البعيد.
كان الكبراء من رجال الحكم ومن على شاكلتهم يشدون الرحال إلى الآستانة في مطالع الصيف وعلى رأسهم ولي الأمر نفسه، وجعلت العدوى تسري حتى أصابت أهل الطبقة الوسطى فمن دونهم، فمن عز عليه السفر إلى الآستانة اكتفى بالشخوص إلى الشام، وكانت كلمة الشام تطلق في مصر على ما ندعوه الآن سوريا، ولبنان، وفلسطين … إلخ.
وكيفما كانت الحال، فإن السائح إذا عاد إلى مصر جلس في داره أيامًا للهناء، وربما سبق أهله فزينوا باطن الدار وظاهرها فرحًا بسلامة القدوم، وترى الناس يقبلون عليه أفواجًا يبدون له فرحهم بعودته سالمًا، وغبطتهم له بظهر الغيب على ما رأى وما شهد، ولا يلبثهم هو حتى يسألوه عن شيء من ذلك، بل إنه ليعاجلهم بالحديث الطويل، كلما أقبل فوج من الناس أعاد الحديث وكرره، وهكذا حتى تنقضي أيام الهناء، إذا يخرج للقاء الناس فلا يضمه بهم مجلس، بلى لا يكاد يلوح له اثنان يتحاوران في شأن لهما حتى يفسح لنفسه بينهما مجلسًا، ثم طفق يتحدث فيما رأى في رحلته وما شهد، وما أكل وما شرب، ولقد تكون رحلته من يوم تحمله إلى يوم مهبطه مصر قد استهلكت ثلاثين يومًا فقط، ولكنه مستهلك في الحديث عنها ثلاثين عامًا!
ولقد ضاق بهذا جماعة من أهل الأدب والظرف وبرموا به برمًا شديدًا، وكان على رأسهم المرحومان السيد محمد المويلحي «بك»، والسيد محمد البابلي «بك»، وغيرهما ممن لا يزالون في الحياة وصل الله في أعمارهم، وأسبغ عليهم العافية، فقعد والجماعة الحكائين كل مرصد، وكلما تحركت في مجالسهم شفتا حكاء، راحوا يوبخونه ويتلقونه بالنكتة الكاوية من جميع أقطاره حتى يعصروه عصرًا، وما زالوا بجمهرة الحكائين كذلك حتى أزعجوهم عن هذه الخلة، وعقدوا ألسنتهم عن الخوض في هذا الحديث السمج المعاد! فالفضل في كف هذا البلاء عن المجالس لهم، جزاهم الله خير الجزاء!
والعجيب أن الحكاء من هؤلاء سواء تحدث عن اصطنبول أو الشام فإنه قل أن يلم في حديثه الطويل العريض بالطبيعة، وما آثرت تلك البلاد من فتنة وجمال!
وقبل كل شء ينبغي أن نفرق بين حكائي الشام وحكائي اصطنبول، فالحديث عن كل منهما مختلف عن الآخر أشد الاختلاف، وسترى هذا من عرض الكلام.
وبعد، فقد لا يكون من أخلاق الحكاء الكذب، وقد لا يكون من خلاله التزيد، فإذا آنست من حديثه شيئًا من التزيد أو العلو الذي ينبو على كل تقدير، فاعذره فما كان الرجل ليضرب في الأرض، ولا ليعاني من ألوان المشقات ما يعاني، ولا ليبذل في وجوه النفقات ما يبذل ولا ليحتمل من آلام الغربة والغيبة عن الأهل والولد ما يحتمل، كل هذا ليقول لك: إنه مشى على أرض كالأرض التي تمشي عليها، أو رأى السماء كالسماء التي تنظر كل يوم إليها، أو أكل عنبًا كالذي يأكله، أو يشرب ماء كالماء الذي تشربه … إلخ.
اللهم إن هذا الرحالة الجواد بالمال والنفس إذا دعت الحال في سبيل الترف وتلذيذ النفس بأسباب الرفاهية؛ ليرى نفسه ملزمًا بأن يأتيك بالجديد، ويطالعك بالطريف، بل مما يذهلك ويدخل عليك الدهش والعجب.
ولنبدأ بحديث رواد الشام، وما أصابوا في بلاد الشام: أما العنب فالعنبة لا تقل في حجمها عن بلحة الزغلول، ولهذا ترى القطف منه أكبر وأضخم من عذق النخل، فإذا أنت قشرتها وعرضتها للهواء استحالت قمعًا من السكر لا يميز بينهما إلا البذر، فإذا لم يكن ثم بذر فالتمييز ضرب من المحال!
وهناك أنهار وجداول، ماؤها أحلى من العسل وأبرد من الثلج إلى آخر ما انتهى إلينا من صفة الكوثر في الجنة، وهناك التفاح وما أدراك بالتفاح؟ لقد تلقي بالتفاحة في النهر أو الجدول، وسرعان ما تتناولها مقشرة وقد شطرها لك الماء أربعة شطور، فإذا قذفتها في فمك استحالت شرابًا ولكنه زلال، وخمرًا ولكنه حلال!
وأما الخوخ، فلا يقل في الحكم عن ثمر الجوز الهندي، وهل تراك تحرك فكًّا لتمضغه مضغًا؟ بل إنك لتترشفه ترشفًا وتعب من عسله عبًّا! وأما البطيخ فمما تنوء واحدته بالعبقريين الشداد!
وأما المشمش، وأما التين، وأما الكمثرى، وأما وأما مما تخرج الأرض وما تعالج الأيدي من ألوان الفطائر والحلوى، فعد ذلك مما يتجاوز الجهد ولا يتسع له نطاق الكلام.
ولقد زعمت لك في بعض هذا المقال أن الحكاء من هؤلاء قل أن يلم في حديثه الطويل العريض بالطبيعة، والآن ذكرت، وأستغفر الله مما عراني من النسيان، فإنهم يعرضون للطبيعة وفضل الطبيعة، فإن أحدهم ليصف لك ما كان يصيب في وجبته من لحم الضأن والطير والسمك والخضر والحلوى والنقل والفاكهة … إلخ. حتى ليخيل إليك أنه قام وحده بالتهام مطعم كامل، أو أنه طهي له سوق خضار تزاد عليه صواني الكنافة والبسبوسة والهريسة، وما شئت أو لم تشأ من الفطائر والحلوى، وإياك أن تنسى صينية «الكبة الشامي» التي تقرب إليك في صدر الطعام!
ولعمري، هل كان هذا كله إلا بفضل جودة الهواء؟ أعود فأستغفر الله! فلقد كان هؤلاء الحكاءون يذكرون الطبيعة؛ بل لقد كانوا يشيدون بفضل الطبيعة، ولكن في العون على سرعة هضم الطعام! يا سبحان الله! وهل ثمة شيء وراء الطعام؟
وبعد، فلقد خرج لنا مما مضى من القول أولًا: أن بدعة قضاء جمهرة المصريين الصيف أو فترة من الصيف، إنما كان منجمها شهوة المحاكاة والتقليد، اللذين ما برحا شائعين في خلالنا مع الأسف الشديد مهما عادا بالضر العظيم، وثانيًا: شدة الرغبة في الأطراف والأغراب بالتزيد والإفراط في المبالغات إظهارًا للاستئثار دون القاعدين، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب إنسان! وثالثًا: إفراد الطعام وكل ما يتصل بشهوة البطن، واختصاصها بالوصف بين كل ما يرى المرء وما يصيب من السياحة في بلاد الشام، ولو قد جعلوا شطرًا من حديثهم لوصف ما حبا الله تلك البلاد من سحر وفتنة، أو لما وثقوا من حبال المودة بيننا وبين جيرتنا الكرام، أو لذكر ما يلقى القوم من عنت ورهق وأذى تحت الحكم التركي في تلك الأيام، لما كان لحديث الحكائين شيء من تلك الفسولة والإبرام!
ولقد رأيت أن حديث الحكائين من رواد الشام قد استغرق المساحة المقسومة للمقال، فلنرجئ حديث رواد اصطنبول إلى وقت آخر، أرجو أن يكون قريبًا إن شاء الله.