الحكاءون (٢)
وترى أنني خالفت الكاتبين إلى رسمها بالصاد لا بالسين، وذلك لأجاري منطق الناس كافة، لثقل النطق بالطاء بعد السين الساكنة، ولقد يكتبونها في بعض الأحيان «اسلامبول»، فإذا نسبوا إليها — في الكتابة لا في النطق — كتبوا «الإسلامبولي» على أنهم إذا تكلموا قالوا: «رأيت سي محمد اصطمبولي»، «وسافر سي حسين اصطمبللي» … إلخ.
ومن أسماء هذا البلد القصطنطينية، والآستانة، وفروق — وهذه لا أعرفها إلا من شعر شوقي «بك» عليه رحمة الله — ودار السعادة على ألسن الترك و«دَرْ سعادَتْ» على ألسن الترك والمتتركين، وحقيق بمثوى الخلافة الإسلامية أن يكون كل هذه الأسماء، ولا تنسَ مثوى الخلافة الإسلامية في عهد العباسيين، فلقد كان من أسمائها: بغداد، بغداذ، بغذاد، بغدان، مدينة المنصور، مدينة السلام … إلخ. ولقد قال المتقدمون: إن كثرة الأسماء دليل على شرف المسمى.
وبعد فلقد علمت أن كثيرًا من المصريين كانوا يحجون في مطالع الصيف من كل عام إلى دار الخلافة، ثم يعودون إذا عادوا، فيحكون شأن رصفائهم من رواد بلاد الشام.
على أن الحديث — كما قلت لك في المقال السابق — مختلف بين الفريقين جد الاختلاف، فإنك قل أن تسمع من رواد اصطمبول حديث «البقلاوة» أو «البلنج ضلمة» أو «الأمام يبلدي»، وأرجو أن تفخم اللام في هذه بكل ما تستطيع من التفخيم.
إذن لم تكن جمهرة أحاديث هؤلاء مما تتحلب له الشفاء، ويتنزى على ذكره عصير المعد، بل لقد كان حديث «حكائيهم» في السياسة العليا، وفي شوكة السلطان، أو الخليفة، أو «الياديشاه» وما له من قصور تزخر بالعين الحور، وما تخرج يلدز للمقربين من موائد تعد في كل يوم بالآلاف، تجمع كل واحدة منها عشرات الصحاف … إلخ.
أما جنود السلطان وفيالقه وجيوشه وكتائبه، فمما «لو رمي بواحدة منها مناكث الأرض لم تثبت على قدم!»
وناهيك بما أصاب هؤلاء الرواد من متع دونها ما وصف، نعيم أهل الجنة، وناهيك بما وقفوا عليه من أسرار السياسة، سياسة الباب العالي التي سيدين لها العالم، وتحشر بين يديها دول الأرض في قريب من الزمان!
والعجب أن عثمانيًّا لم تطل خلافته كما طالت خلافة عبد الحميد، والأعجب أن استبدادًا وعسفًا وتخريبًا لم يقسُ في تلك المملكة كما قَسَا الاستبداد والعسف والتخريب في عهد عبد الحميد، ولم يخرج عنها من ولاياتها ولم يقتطع من أملاكه كما خرج واقتطع في عهد عبد الحميد، وأعجب الأعجب بعد هذا كله أن جمهرة المصريين لم يحبوا أحدًا كما أحبوا عبد الحميد، ولم يدينوا بالولاء الحاد للإنسان كما دانوا لعبد الحميد، ولولا بقية تمسكهم من دين لعبدوه مع الله أو لعبدوه من دون الله، والعياذ بالله، وأستغفر الله العظيم!
وذلك الحب المتمكن من النفوس، والمتغلغل في القلوب يرجع إلى أسباب لا محل لبسطها في هذا المقال، وكيفما كان الأمر فإن السلطان عبد الحميد لقد بلغ من نفوس المصريين على الخصوص موضع التقديس والتنزيه، حتى إذا لاح في خاطر المرء لائح من الأفكار لبعض حكمه وتصريفه، أسرع فرده واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم!
ولم يكن أعوان السلطان على إدارة الشئون وتصريف الأمور هم الوكلاء — الوزراء — ولا من دونهم ممن يشغلون عليا المناصب في الدولة، بل لقد كان الرأي قسمة بين السيد أبي الهدى الصيادي — من مشايخ الطرق الصوفية — والشيخ ظافر «شرحه» وعزت «باشا» العابد، ولا أدري ماذا كان منصبه، ولا تنس نفوذ الباش مصاحب — الباش أغا — أو كبير الخصيان في قصر السلطان، أما آخر من يتحدث عن أي أمر من الأمور، أو يرجع إلى رأيه في شأن من الشئون فهو صاحب الفخامة الصدر الأعظم، وكان يتقدم بحكم البروتوكول على خديوي مصر في تلك الأيام، ولهذا ظل المرحوم خليل رفعت «باشا» صدرًا أعظم في أكثر عهد السلطان عبد الحميد؛ لأنه لم ينطق في الشئون العامة بكلمة واحدة!
ولقد جرى الولاة في ولاياتهم على هذه الأساليب، وكذلك المتصرفون في متصرفياتهم، والسناجق في سناجقهم، وسائر العمال في أعمالهم، وكيف لهم بالعيش إذا كانت وظائفهم وأرزاق من قبلهم من الجند تحبس عنهم الأشهر بل السنين.
وولي هذا ما يجب أن يليه من ضعف الدولة ووهنها، وعجزها عن حماية أرضها، وتمكين سلطانها من ملكها، فجعلت ولايتها تنسلخ منها واحدة في إثر واحدة، حتى بلغت عدة الولايات التي خرجت عن حكمها في عهد السلطان عبد الحميد وحده قرابة الثلاثين!
ومع هذا وهذا وذلك يأبى الحكاءون إلا أن يشيدوا في المجالس بما أصابوا في دار السعادة من المتاع وما تقلبت فيه أعطافهم من النعيم، وما شهدوا من مجد الدولة وسلطانها، وما اطلعوا عليه من أسباب قوتها وبأسها، وما انتهى إلى علمهم من أسرار سياستها التي تعيي الأفكار وتعز على الأفهام، وإن كانت ثمراتها الضخام ستجنى بعد أعوام أو بعد أيام!
ولقد استهلكت هذه المقدمات التي لا بد منها القدر المقسوم لهذا المقال، فلنرجئ عرض نماذج الحكائين الاصطمبلليين إلى آخر إن شاء الله.