الحكاءون (٣)
كان بائع غرابيل يجول في الطريق هاتفًا بغرابيله، فدعا به رجل واستنزله حمله وسأله أن يحل وثاقه، وينثر الغرابيل بين يديه نثرًا، ففعل الرجل وجعل «الزبون» يعجمها واحدًا بعد واحد، ويطيل النظر في تفقدها ويكثر من جسها وغمزها، حتى إذا أتى عليها جميعًا عاد إلى تفقدها وجسها وامتحانها، وما زال يفعل ذلك ويكرره حتى استهلك فيه الساعات الطوال، والرجل ينظر إليه في غيظ وحنق، لما أضاع من وقته وامتهن من سلعته، حتى إذا انتهى اختياره إلى أصلبها خشبًا، وأجودها جلدًا، وألحمها نسجًا، وأحكمها شدًّا، قال له: بكم هذا الغربال يا شيخ؟ فرأى الرجل أن يكافئ كل هذا العناء بالإغلاء في الثمن، فقال: بخمسة وعشرين قرشًا! فقال له في دعة وفتور: بثلاثة قروش تعريفة! فثار ثائر الرجل، وضرب الأرض بإطار الغربال فوثب حتى صك ناصيته، فأعاد الضربة بأشد مما ضرب فصك الغربال ناصيته بأشد مما صك، وما برح الغيظ يفعل به هذا، والسابلة يجتمعون حوله من كل مذهب ليطالعوا هذا المشهد العجب، حتى شدخ الغربال رأسه وأسال دمه، فصاح فيهم: أيها الناس! أمنتظرون أنتم حتى يقتلني هذا الغربال؟
ولا أكتمكم يا معشر القراء أن هذا القلم كثيرًا ما ينشز عليَّ ويجمع، وتستعصب على سياسته وضبط عنانه، ولقد أسوقه في طريق فيخالفني إلى غيره، ولقد أرسم للمقال نهجًا محدودًا، فيأبى إلا تعدي الحد والعدول إلى نهج آخر حتى ينتهي في بعض الأحيان إلى الغاية التي يبغيها هو لا الغاية التي أطلبها أنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
ومن هذا البلاء الذي امتحنت به من هذا القلم الجامح المتمرد، أنني بدأت مقال الحكائين على أن يجري كله لحال أو قصر في فنون من التسلية والتندر في هذا الحر وهذه الحرب، خيبة الله عليهما جميعًا، وإن كنت لا أتزيد ولا أعدو الصدق أبدًا، فإذا هو يتنظر لي بشبح عبد الحميد وحكم عبد الحميد، وحكايات من كانوا ينتابون الآستانة في عهد عبد الحميد ثم إذا هو يمعن في هذا الطريق إمعانًا لم يدخل لي يوم بدأت الحديث في تقدير ولا تصوير!
والآن كيف الرجوع إلى النهج الذي بدأنا بسلوكه، وكان بحمد الله بين الحدود واضح الأعلام؟
كيف لنا بهذا وقد التوت السبل، وغشت السياسة وجه الطريق بما هو أحد من الحسك ومن شوك القتاد؟
أفترانا نستعدي على جماح هذا القلم جمهرة القراء، كما استعدى النظارة على غرباله صاحب الغرابيل؟
أريد مفاكهة وتندرًا، ويأبى عليَّ القلم إلا خوضًا في ظلمات عبد الحميد، وما كان يعاني من ظلمة رواد الآستانة من المصريين وغير المصريين؟
اللهم إنه ليس من الرأي التصدي لكبحه وهو حمى ثورته، بل الرأي كل الرأي في مجاراته وإلانة قياده وإظهار المطاوعة له حتى تفطر حدته، ويطامن من جماحه، وحينئذ يتهيأ صرف عنانه إلى وضح الطريق، وكذلك نمضي في المقال على اسم الله العلي العظيم.
ولقد حدثتك في المقال السابق عن بعض ما جرى من المحن على دولة الخلافة باستبداد عبد الحميد وظلم عبد الحميد، حتى لقد انسلخ عنها في ذلك العهد الأشأم قرابة ثلاثين ولاية، وإن شئت قلت: ثلاثين مملكة.
وقلت لك: إن المصريين لم يحبوا أحدًا كما أحبوا عبد الحميد، ولم يدينوا بالولاء لأحد كما دانوا لعبد الحميد، حتى لقد خالط حبه اللحم ولصق بالعظم، وجرى في أعراقهم مجرى الدم، فلم تجر بسوء حكمه على الإسلام محنة إلا جعلوها موضع منة، ولا دب إلى جسم الدولة بظلمه فساد إلا أحالوه على صلاح، فإذا غم عليهم الأمر ولم يهدهم إلى الرأي طول التعسف في التأويل والتعليل، أحالوا الأمر إلى الحكم التي تعلو على أفهام العباد!
وإن من الإنصاف أن نقرر أن أشد الناس كانوا استحماسًا في هذا الباب هم سلالة الترك المتمصرين، وكان زعيم هؤلاء جميعًا شيخًا واسع الغنى يسكن في بعض أطراف القاهرة، ولا أسميه ولا أعين مسكنه لكيلا أدل عليه — رحمه الله وغفر لنا وله.
كان هذا الرجل أو هذا الزعيم العظيم حين أدركناه في حدود السبعين، وكانت داره الواسعة مثابة القصاد ونجعة الرواد، يؤمها في كل ليلة جماعات الظماء إلى أخبار الباب العالي، وما عسى أن يكون قد أجد لدولة الإسلام من مفاخر ضخام!
فإذا كان عيد الجلوس السلطاني رصعت الدار بمصابيح تخطف الأبصار، ووشيت بأذكى الورود وأنضر الأزهار، وصدحت الموسيقات بأحلى الأنغام، وقرب للفقراء أشهى الطعام من لحوم الأنعام، ووقف البك بالباب يستقبل جماعات المهنئين الداعين لجلالة الخليفة بالبقاء على السنين حتى يَربو عمره على المئين، وغنى في الليل أعلام المغنين، ونثرت بدر الدراهم على الجماهير المحتشدين من المعوزين وغير المعوزين!
وقلت: إنه يقف بالباب في تلقي الهناء من الوافدين، وإنه ليكافئ هناءهم بالشكر والدعاء، كما يصنع أي امرئ في أسباب مسراته الخاصة وأمزاحه العائلية، وذلك لما يشعر به أو ما يريد أن يشعره الناس من أن له سهمًا ولو ضئيلًا من شئون السلطان أو من شئون الدولة، يهيئ له تقبل الهناء والإثابة عليه بالشكر والدعاء، وكيف لا وقد كثر كل حبه وولائه وإخلاصه على الياديشاه، وهو عند الباب العالي مطلع الرأي ومتنزل السر، على الرغم من بعد الديار وشط المزار!
ولا تظن أن هذا الرجل كان في هذا الباب فذًّا منقطع النظير في فتح داره لجماعات الاصطمبلليين، فلقد كان نظائره كثيرين وإنما أفردناه بالذكر؛ لأنه كان أكبرهم سنًّا، وأبعدهم شهرة، وأوسعهم غنًى، وأقدرهم على الوصف وتفخيم التصوير.
وبعد، فما يكاد يخيم الغسق حتى تحتشد دار صاحبنا ودور أمثاله بالوافد للاستخبار، والاضطلاع على ما أجد الباب العالي من جلائل الآثار!
واعلم أولًا أن كل شيء يجري على الدولة لا بد وأن يكون برأي السلطان وتدبيره، ودهائه وجبروت حيلته ولو بدا لك في هذا الأمر كارثة، ورأيت منه مصيبة واقعة وبلية لاحقة، وهل بعد قوة السلطان قوة أو وراء دهائه دهاء؟
ولعمري، ما جاءت البشرى بانسلاخ ولاية من تلك الولايات الثلاثين، أو وقعت على الدولة بلية من إحدى الدول الغربية، كما احتلت الجنود الفرنسية بعد جماركها أو تذعن لبعض المطالب ما حدث شيء من ذلك ونحوه إلا قال قائلهم: «دي سياسة أفندم!» فيزر صاحبه على إحدى عينيه ويهز رأسه ويقول: «دي سياسة كبير» فيصيح الثالث: أمال أفندم، لازم يا ديشاه هو اللي عاوز كده، إذا كان مش عاوز ما كانش يحصل، إيش عرفنا إحنا؟ دي سياسة فوق عقول!»
وسرعان ما تشرق وجوه الجماعة ويتطارح الهناء وتتصافح الأيدي وتتضام الصدور إلى الصدور، وتبسط الخدود لتحيات الثغوب.
والآن وقد هدأت ثورة هذا القلم بما ناله من الجهد والتعب، نستطيع بحمد الله أن نصرف عنانه إلى حيث نشاء، فهلم إذن إلى معاودة الحديث في الحكائين والله المستعان، وإذا كنت سأقتصر على إيراد حكاية واحدة، فلعلك واجد فيها أفخم وأضخم وأبلغ وأعظم من كل ما انبث وانبسط، وشاع وذاع، وملأ الطباق، وسطع في الآفاق وعلى جميع ألسن الحكائين من يوم عبد الحميد إلى يوم الدين.
احتشد الجمع على العادة في دار صاحبنا، وجعلوا يتقاولون في أمر الدولة، وعظمة الدولة، وقوة جيوش الدولة، وسياسة عبد الحميد، وشدة دهائه، وبعيد مراميه … إلخ.
«إذن فاسمعوا لقد زرت المابين ذات يوم، وأبديت لفخامة الصدر الأعظم مثل هذه الملاحظة، فأظهر الموافقة لي والندامة على تقصير الدولة في أمر الدوننمة، وغمز لي بعينه غمزة خفيت على جميع حاضري المجلس، فلما هم الجميع بالانصراف ضغط على يدي واستبقاني، حتى إذا خلا له وجهي ولم يبقَ معنا أحد قال لي: «إذا انتصف الليل فامض إلى شارع كذا، فإذا بلغت الموضع الفلاني فخذ على يمينك في أول شارع، ثم خذ على يسارك في ثالث حارة، ثم عد ثلاث حارات وادخل في الرابعة، وستلقى زقاقًا على يسارك فاسلكه حتى تنتهي إلى خربة على يمينك، وستجد على مدخل هذه الخربة رجلًا شحاذًا رث الثياب، مقنع الوجه، فافعل ما يأمرك!»
ومضيت في الميعاد وإذا الشحاذ في الانتظار، فما أن رآني حتى أجال طرفه في الأرض والسماء، ولما أمن عيون الإنس والجن، ودابة الأرض وحدق الطير في أوكارها أسرع إلى زاوية في الخربة، وظل يفحص عن الأرض إلى أن انكشف له غطاء من الحديد فرفعه، ودفعه إلى ما دونه وتدلى ورائي وأعاد الغطاء فوقه، وتدلينا في سلم عددت له ١٢٧ درجة، ثم انتهينا إلى دهليز طويل، سلكنا منه إلى دهليز آخر أعرض وأطول، وما زلنا ننعطف من دهليز إلى آخر حتى أفضت بنا خاتمة السعي إلى فضاء يزيد على التسعين ألف فدان، وقد ازدحم «بالورش والترسخانات» العظيمة الهائلة التي لا نظير لها في جميع الدنيا، وإذا خلق من الناس لا يحصيهم إلا خالقهم.
الله أكبر! الله أكبر! ما شاء الله! نصر الله السلطان آمين آمين!
وسلام على فلان بك في الحكائين ورحمة الله عليهم أجمعين.