يسر الإسلام
لقد يملك كثرة الناس العجب من تمام عظمة الإسلام في هذا الصدر اليسير من الزمن وبلوغه ما بلغ في غير عنف ولا مطاولة يكافئان هذا المجد كله ولا معظمه.
ولست الآن بصدد ترديد ما آثر التاريخ، وما دون المؤرخون في فتوح الإسلام وانتشاره السريع العجيب في قواصي الأقطار وأدانيها، وما كان لأهله في كل مكان من منعة وعزة وسلطان، فذلك شيء قد فاضت به الكتب، واحتفلت بتفصيله الأسفار الضخام، وبحسبي — فيما جردت له هذا الكلام القصير — أن ألفت القارئ إلى أن أمة بادية جاهلة صائلة يكون منها في هذا الزمن ما كان من العرب بفضل الإسلام. هذا فتح وهذه سيادة وهذا تعمير وتثمير، وهذي علوم وفنون وصناعات، وهذي حضارة لا تتعلق بأذيالها أعلى حضارات التاريخ!
لعمري ما هذا كله؟ وكيف كان؟ وكيف تأتى بهذه السرعة لدولة الإسلام؟
اللهم إن أوثق يقيني أن مرجع هذا أجمعه إلى ما في هذا الدين من يسر عظيم، الدين يسر وبفضل هذا اليسر كان من دولة الإسلام ما كان!
ستقول: إن الإسلام ما ساد إلا لأنه حق. وأقول لك: وهل ثمة أيسر من الحق أو أعسر من الباطل؟ ومتى احتاج الحق في تجليته إلى عنف أو إلى جهد؟ إن الباطل هو الذي يحتاج إلى هذا وهذا، وقل أن يثبت له معهما قرار!
وإذا قيل: إن الإسلام دين الفطرة، فمعنى هذا أنه دين اليسر؛ لأن ما جاء على حكم الفطرة لا عسر فيه ولا مشقة، أما ما جاء على جهة التكلف والتصنع فذلك الذي يقتضي كثيرًا أو قليلًا من الجهد والعناء.
الدين يسر، وإن هذا اليسر ليغمره من جميع أقطاره، أرأيت أيسر من دعوته «لا إله إلا الله محمد رسول الله.»
وأي شيء لعمري في هذه الجملة ينشر على الفهم، بل أي شيء فيها يتعثر فيه الذهن وتضيق عنه مساحة أدنى التفكير؟
هذا اليسر في هذا الحق الذي ليس وراءه حق، هو الذي سلك أقطار الأرض بدعوة الإسلام، واستفتح لها قلوب الأمم والجماعات في غير علاج ولا استكراه؟
وهذه تكاليف الإسلام، ما قامت فيها مشقة إلا قامت بإزائها رخصة، ولا كان في أحدها على أحد عسر إلا ذلل بين يديه طريق العذر، وهل بعد ذلك اليسر كله يسر؟ قال رسول الله ﷺ: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.»
لم يقتضِ الإسلام أحدًا احتمال ما لا طاقة له باحتماله، فهذه تكاليفه من استطاع القيام بها، وإلا تخفف منها في حدود أحكام الشرع الكريم، حتى تكافئ طاقته ويتسع لها ذرعه، ولا يتحرج بها وسعه، مقبولًا عذره مكفولًا عند الله أجره.
ومن يسر هذا الدين أنه لم يُقِمْ بينك وبين ربك أية واسطة.
وبعد، فإن من يسر هذا الدين شدة تسامحه، ولا يذهب عنك أن هذا التسامح إنما كان من أبلغ الأسباب في عظمته.
لا يدعوك الإسلام إلى كراهة ما يصدر عن مخالفك في الدين؛ لأنه يخالفك في الدين بل يدعوك إلى أن تكره منه ما يكره، وتقر منه ما يحب ويؤثر، فهو وأخوك المسلم في هذا بمنزلة سواء.
ولقد ثبت أن رسول الله ﷺ لبس جبة رومية.
ولا ريب في أن لهذا ولهذا دلالة كان لها أعظم الآثار في نهضة الإسلام!
لم ينفر المسلمون من مخالفيهم في الدين ولا في الجنس، ولم يحجز بهم تعصب عن مخالطتهم والاتصال الوثيق بهم، والانتفاع بكفاياتهم والأخذ عنهم، ولم يكد يستقيم أمر الملك لهم حتى أقبلوا على علوم من سبقوهم فترجموها إلى لغتهم، وجعلوا يترددونها ويشيعون الأذهان فيها، ويطبعونها على غرار عقولهم، ويزيدون فيها ما فتق الرأي والذكاء لهم، كذلك كان شأنهم في الفنون، فقد حذقوها أتم الحذق وبرعوا فيها أعظم البراعة، وأداروها على أذواقهم حتى اتسق لهم منها فن خاص، وناهيك بالفن العربي الذي ما برحت آياته مسطورة على جبين الزمان.
أرجو أن تكون قد اطمأننت بعد هذا إلى أن اليسر في الإسلام كان من أبلغ الأسباب في عظمة الإسلام.