أحب أولادي وأكرههم
أحبهم
تدعوني «الهلال» إلى أن أنشئ في هذا الموضوع مقالًا، كأن لي في أمر الولد شأنًا غير شأن الآباء جميعًا، إذ شأني فيه شأن الناس جميعًا، اللهم إلا أن تكون قد تفضلت فنصبتني نائبًا عن كل والد في الأرض، من يوم كان الإنسان إلى يوم يخلو وجه الأرض من هذا الإنسان!
إذا كان الأمر هكذا، فإنني باسم من تشرفت بالنيابة عنهم أقول: إنني أحب أولادي أشد الحب، وأعطف عليهم أبلغ العطف، وأجد لهم من الرقة والرحمة والحنان ما لا أجد لأحد في العالمين؛ أحبهم لأنني أحب نفسي وهم بعض نفسي، بل إنهم عندي لخير ما في نفسي، هم عصارة قلبي وحشاشة نفسي وكبدي، وأجمل ما يترقرق في صدري من منى وآمال، وأبهج ما يطوف برأسي من حلم وخيال، وقد تجسد كل أولئك أناسيَّ تغدو على الأرض وتروح!
وإنني لأرى أولادي إذا حضروا، وأذكرهم إذا غابوا فأجد من اللذة والسعادة والمتاع، ما لا تعد له كل ما في هذه الدنيا من لذة وسعادة ومتاع!
أحبهم لأنني أحب نفسي وأتمنى لو يكتب لها الخلود في هذه الدنيا، وإذا كان الموت حقيقة لا مناص منها أبدًا، فأولادي هم واصلو حياتي، ومطيلو أجلي ومادو ذكري والمثبتون على الزمان لاسمي.
أحبهم لأنهم أول من يعينني في ضعفي، ويسرع إلى الاستجابة لي في شدتي، ويرفه عني في شيخوختي، ويواسيني في علتي، ويتلقى في العزاء إذا هم القضاء بين الزفرة والبكاء.
أحبهم لأن اسمي من يوم أموت لا يرد على خاطر أحدهم، أو يجري بسمعه على أي لسان، إلا بادر فسأل الله لي الرحمة وإسكاني أعلى الجنان.
وولد لي ولد وكان عندنا بواب أربت سنه على المائة، فلما لقينى وقد انتهى إليه الخبر كانت دعوته لي: «الله يبقيه حتى يحل عقدة كفنك!» ووالله ما دُعي لي بدعوة كانت أبرد على كبدي، ولا أحلى موقعًا في نفسي من هذه الدعوة، ويا ليتها قد أجيبت ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
ولقد قال بعض السابقين: إن القرآن الكريم على كثرة ما أوصى الولد بالوالدين، وأمره بشدة البر بهما والعطف عليهما والطاعة لهما، لم يوصِ الوالد بشيء من هذا للولد ولا مرة واحدة، وذلك بأن الوالد غير محتاج إلى الوصية أبدًا، فالإنسان يحب ولده كما يحب نفسه، بل لقد يؤثره في أكثر الأحيان على نفسه.
قال زيد بن علي بن الحسين لابنه يحيى — رضي الله عنهم: إن الله لم يرضك لي فأوصاك بي، ورضيني لك فلم يوصني بك.
الوالد يسعى في الحياة ويجهد ويكد؛ ليستريح الولد ويسعد وينعم، وإذا ألمت بالولد وعكة، استحالت في قلب الوالد علة. وإذا ضربته العلة مات أبوه كل يوم عشرين موتة، ضارعًا إلى الله في صدق وإخلاص أن يحول ما بولده إليه إذا لم يكن من الفدية مناص!
ولقد أرى الصغير صحيحًا معافى، ما به أثر لجهد أو وعك، ولكن نفسي لا تستريح إلا إذا أكثرت من حبه وعد نبضات عرقه، ولقد يخرج إلى الطريق لبعض شأنه، فيمثل لي الشيطان اللئيم مكروهًا أصابه، فأحس قلبي يتمشى في صدري.
وقد رأيت كيف أن الله تعالى في الآيتين الكريمتين قد رغب بمحبة الولد وأرهب، وبغض بالخوف عليهم وحبب.
وروي أن النبي ﷺ قال: «ريح الولد من ريح الجنة.» وقال لأحد ابني بنته: «إنكم لتجبنون، وإنكم لتبخلون، وإنكم لمن ريحان الله.» وورد أنه حين جاءته البشرى بمولد فاطمة — رضي الله عنهما — قال: «ريحانة أشمها ورزقها على الله.»
ودخل عمرو بن العاص على معاوية وبين يديه بنته عائشة، فقال: «من هذه؟» فقال: «هذه تفاحة القلب.»
وقيل لبعضهم: «أي ولديك أحب إليك؟» فقال: «هما مني بمنزلة السمع والبصر!»
وكان عبد الله بن عمر يذهب بولده سالم كل مذهب، فلامه الناس فيه فقال:
ومن أحسن ما قال الشعراء في حب الولد قول أعرابي وهو يرقص ولده:
وقول أعرابية:
وقول أعشى سليم:
وهذه الأبيات المنسوبة إلى حطان بن المعلى:
وقول بعضهم:
وأخيرًا قول أعرابي يرثي ابنته:
وبعد، فهذا ما يملك قلبي من الترجمة عن بعض حب الولد، وإن مما يتدسى من العواطف في أطواء الجنان ما لا يستطيع أن يبلغه القلم أو اللسان، وذلك غير ما استعنت به من أقوال صدر من أعلام البيان، وعلى رأسهم سيد الأنام — عليه الصلاة والسلام.
أكرههم
نعم! وأكرههم بقدر ما أحبهم؛ أكرههم لأنهم لو لم يكونوا ما جهدت هذا الجهد في السعي عليهم، ولا تعنيت هذا العناء في تربيتهم والترفيه عنهم، بلى لبقي لي فضل أتمتع به في الحياة وأنعم.
أكرههم لأنهم لا يجزون من العطف عليَّ والرقة لي، ولو بنسبة واحد في المائة من عطفي عليهم ورقتي لهم.
أكرههم لأنني إن استنظرتهم لم يصبروا، وإذا واتيتهم لم يشكروا.
أكرههم لأنهم قد يدفعونني إلى سوء الخلق والتحيف من المروءة، وحسبي في هذا قول النبي ﷺ: «إن الولد مبخلة مجبنة.»
أكرههم لما يحز من الآلام في قلبي كلما شكا أحدهم أو ألمت به علة، فكيف بما هو أكثر من ذلك مما يطير اللب، ويخلع شعب القلب، والعياذ بالله!
أكرههم لكثرة ما ألهب الذهن بطول التفكير في حاضرهم، وما يفري القلب من الإشفاق عليهم في مستقبلهم.
أكرههم لأنهم كثيرًا ما يتعذرون على نصحي، ويخالفونني إلى بعض ما أنهاهم عنه مما يؤذيهم ولا يجديهم، ويضرهم ولا ينفعهم، ويبادونني بالغيظ والحقد إذا قمت لتأديبهم وبسط العقوبة الحق عليهم.
وبعد، فأرجو إذا حققت النظر فيما قلت أن تستيقن أنني لا أكره ولدي كل هذا الكره؛ إلا لأنني أحبهم كل هذا الحب.