في الحروب
ما وقع حدث من أحداث هذه الحرب، وخاصة في ألبانيا التي أصبحت معتركًا حامي الوطيس بين دولة صغيرة، قليلة العُدَد ضئيلة الموارد كل همها من العيش أن تحظى داخل حدودها بالأمن والسلام، قانعة باليسير مما أفاءت عليها الطبيعة، وما يعالجه أبناؤها النشيطون من فنون الصناعات، وما يروجونه إلى أسواق العالم المختلفة من ألوان التجارات، لها من كل أولئك مقنع وليس لها فيما وراءه أي مطمع، فإذا كان لها جيش أو كان لها أسطول فبقدر ما تؤمن الحدود وتمنع الثغور ولو إلى حين، أما الطرف الثاني من هذا المعترك فدولة عظيمة، قوية بعُددها، قوية بعَددها، قوية بصناعاتها وبتجاراتها، قوية بمستعمراتها الواسعة الشاسعة التي ضمنت أرضوها من الكنوز المعدنية ما يغني في كل شيء من أسباب الحياة القوية الفنية ليس أعز منها في هذا العالم حياة، ومع هذا فإننا نرى أن هذه الدولة الصغيرة الدقيقة في كل شيء؛ لا تفتأ تضرب هذه الدولة العظيمة الضخمة في كل شيء، كلما طلعت الشمس ضربة وتركلها كلما غربت الشمس ركلة، وبين ذلك لا تفتأ في كل ساعة تجرعها من الصاب والعلقم ما يفري الحناجر، ومن الغسلين ما يذيب الأحشاء، وتلون لها المهانات ما أجراها مثلًا للخزي على ألسن العالمين.
إذن لم يظفر العرب في حروبهم كل هذا الظفر، ولم يتهيأ لهم ما دوخوا من البلاد. وما ملكوا من الأقطار، وما فتحوا من هذه الفتوح العظيمة في قواصي الأرض وأدانيها لأنهم كانوا أكثر من عددهم عددًا، ولا أمضى سلاحًا، ولا أعلم بفنون الحرب وأخبر بأساليبها ومكايدها، بل لقد علمت أنهم كانوا دائمًا دونه في جميع أولئك بما لا يجوز فيه تشبيه ولا يصح معه القياس.
- (١)
الإيمان.
- (٢)
الرحمة.
- (٣)
العدل.
فالإيمان ييسر على النفس التضحية مهما جلت، بل لقد يغري بها ويدفع بها في المطلب الجسام.
ولا تنسَ أن من أثر الإيمان بناء النفس على الصبر عند معاناة الشدائد وخوض المكاره، فإن إصابة الغرض الذي يدفع المجاهد إليه إيمانه لحقيقة بأن تحد من عزمه، وتشد من متنه فلا يعتريه خور ولا خذلان، وأنت خبير بأن الصبر هو مفتاح النصر، وصدق من قال: الشجاعة صبر ساعة، والأمثلة على هذا مما لا يحيط به الحساب!
وبعد هذا أحسب أن العجب قد أخذ فيك بادئ النظر، من نظم الرحمة والعدل في أسباب الظفر في الحروب والتنكيل بالأعداء، والواقع أنهما قد يكونان أمضى من السيف في كسب الحروب، وذلك بأن القسوة وغلظة الكبود لا تجدي على المقاتل شيئًا البتة؛ بل إن شهرته بين مقاتليه بالرأفة إذا تمكن والمعدلة إذا حكم، لمما يخذلهم عن الاجتهاد في قتاله، ويشيع فيمن وراءهم قلة الاستحماس لهم وثقل القادرين على القتال عن نجدتهم، بل لقد يرجون النصر لهذا العدو ليخرجوا من ظلمهم، وينعموا في ظلال حكم ملائكة الرحمة والرقة والعدل والإحسان.
وكذلك ساد العرب الدنيا، وما هداهم إلى هذا إلا دينهم العظيم …
والشواهد على هذا في حروب المسلمين مما لا يبلغه كذلك الإحصاء.
أسمعت حديثًا في المرحمة بالعدو المقاتل والرقة له أبلغ من هذا الحديث؟
ذلك بأن الإسلام لا يبغي بالحرب كيدًا ولا شفاء ضغن! إنما يبغي بالحرب أعلى المثل، فإما دفع أذى، وإما بسط حق والخير والفضيلة في هذا العالم.
وكيف ظنك بدين يأمر بالإحسان حتى في القتل! قال رسول الله ﷺ: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة.»
أما التمثيل حتى بالحيوان فقد أغلظ هذا الدين في النهي عنه، واشتد في الوعيد عليه، فقد روي عن النبي ﷺ، أنه قال: «من مثل بحيوان فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.»
وتلك كانت سنة الغزاة والفاتحين في صدر الإسلام.
وإن تعجب فعجب أن يكون ذلك أدب الإسلام في عصر كان من السائغ المألوف فيه سوم المحكومين المقهورين ألوان الخسف من إهدار الدماء، وتخريب الدور، واستصفاء الأموال، في غير جرم يقترف أو إثم يجترح، حتى كاد يكون ذلك شرعًا مشروعًا وواجبًا مفروضًا!
وأما المثل الثاني فأجلوه لك في حادثين مأثورين عن عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — وهذان الحادثان معروفان شائعان، وما كنت لآتي بهما لولا أنه قد اقتضى الإلمام بهما نظم المقال، وأولهما ما حكي من أن جبلة بن الأيهم، وكان آخر ملوك بني غسان، أسلم وخرج إلى مكة، فلما كان في بعض طوافه داس رجل من فزارة على طرف ردائه فحل أزراره فلطمه جبلة، فاستدعى الرجل عليه عمر، فدعا به وخيره بين أن يترضى الرجل أو يقيد له منه، فقال: يا أمير المؤمنين، أتقيده مني وأنا ملك وهو سوقة؟ فقال: ولكن الإسلام سوى بينكما!
وأما الحادث الثاني، فما حكي عن رجل من أهل مصر قدم على عمر، فقال: عائذ بك يا أمير المؤمنين! فقال — رضي الله عنه: عذت بمعاذ! فقال: لقد ضرب ولد عمرو بن العاص ولدي — وكان عمرو يومئذ عامله في مصر — فأرسل في طلبه معه ولده واستقاد من الولد والوالد جميعًا، ثم أقبل على عمرو وقال: يا عمرو، بماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟
هذه الأمثلة على قلتها، تريك مبلغ ما يدعو إليه الإسلام من الرحمة بالمقهور والرقة له، وإقامة العدل بين الناس، مهما يكن الفرق بين الظالم والمظلوم، وأخيرًا توطيد الحرية وتوكيدها على أنها حق طبيعي للإنسان، كائنًا من كان.
أما الحرب في هذا العصر، فقد صارت إلى ما ترى، وهي إن امتازت بشيء فأبرز ما في وجوه هذا الامتياز أن ضحاياها وصالي حرها من المستأمنين الوادعين، أصبحوا أكثر كثيرًا ممن تجردوا للقتال، واستنفروا للكفاح والنزال، بل لقد تعدل الموبقات القواصف من الطائرات عمدًا عن المسالح ومستودعات الذخائر وثكنات الجند، وغير ذلك من أسباب الحرب إلى دور المستأمنين، حيث المرأة ترضع ولدها وحيث الرجل الذي نام ليستجم للعمل من بكرة الصباح إلى غاية النهار الأطول، سعيًا على الأم الشيخة والزوج والطفل الثلاث أو الأربع، وحيث المريض المدنف يتلوى على الجنبين من ألم وعذاب، لقد تعدل تلك المدمرات القواصف إلى هؤلاء عمدًا، وتزلزل عليهم الأرض زلزلة وتدمر الدور تدميرًا، فإذا هؤلاء أجزاء تتناثر، وأشلاء تتطاير فمن سلم منهم على الموت، فليستقبل حياة شرًّا من الموت.
فإذا جاءك أن الإسلام فتح كل هذا الفتح، وملك كل هذا الملك، وانبسط له على وجه الأرض كل هذا السلطان في أقل من قرن واحد، فإن السر لا يعدو ما قدمناه لك من قوة الإيمان، وإشاعة العدل بين الناس وإيثار الرقة والرحمة بالإنسان وبالحيوان!
وإذا طلعت عليك الأنباء في كل صباح وكل مساء بأن الجيش اليوناني الصغير الضئيل لا يفتر لحظة واحدة عن صفع الجيش الطلياني الضخم الكثيف باليد، وركله بالرجل إذ لا يكاد يرى فيالقه وكتائبه إلا من الأقفاء من انهزام بعد انهزام، إذا طالعتك الأنباء كل ساعة بهذا فصدق، وأحل الأمر كله على قوة الإيمان بحق الوطن المعتدى عليه بغير إثم ولا عدوان!
فإذا قال لك قائل: لقد ذهب عنك ما فعلت القوة القوية من اجتياح للممالك وقبض على نواحي الشعوب، واستصفاء لأموال الأمم، وامتصاص لدمائها واتخاذها عبيدًا فقل له: لا تعجل بالحكم، فإن الله ليملي للظالم، ولتعلمن نبأه بعد حين.