كتاب مفتوح
عزيزي الماريشال
أكتب إليك هذا وأنا حق واثق من أنك لم تنسني، بل حق واثق من أنني وخاصة في هذه الأيام، أتمثل لك سواد الليل وبياض النهار، ومهما يكن من أمر فإن آخر لقائنا لم يمض عليه من الزمان ما يُنسي الصديق عهد الصديق!
أتذكر، يا عزيزي ذلك اليوم الذي جاءوك بي وأنا مقرن في الأصفاد، فتقدمت إلى أحراسك أن يلقوني في الطيارة التي أشرت بإعدادها لمهم لم تقم به طيارة من قبل، وسرعان ما حلقت بي تشق أجواز الجو طبقة بعد طبقة حتى كادت تصك وجه الشمس، ثم قذف بي من ذلك الحالق قذف النواة، لا رحمة ولا إشفاق!
وإن أعجب لشيء وإن أفرح بشيء فبطيارتكم التي بلغت هذه السرعة الهائلة، بحيث تحمل المرء من هذه الدنيا فتبلغه جنة عدن فيما دون عشر دقائق!
ولئن عاب أهل الدنيا طياريكم، معشر الطليان، بأنهم لا يحسنون إصابة الأهداف، لقد اضطرب هذا الحكم عليهم بين الجهل والتجني فطياروكم أحسن الطيارين تسديدًا إلى المرامي وإصابة للأهداف، ما دامت القذيفة شيخًا في حدود المائة، والهدف ظهر الصحراء!
عزيزي الماريشال!
لقد انعقد إجماع أهل العلم على أن الشجاعة تلازمها الرقة للضعيف ورحمة من ليس له بالكفاح يدان، وكذلك كان شأنكم، يا معشر قادة الجنود، فإنكم لا تؤذون الأسرى وتسرعون إلى مداواة الجرحى من عدوكم، كما تداوون جرحاكم سواء بسواء، وتلقون الجميع بالبشاشة، وتعاملونهم بالإكرام، فما بالك قد صنعت بي أنا الشيخ الفاني، ذلك الذي لم يسمع بمثله أحد طول الزمان، هذا الذي لا ترضى بفعله الحجارة، لو كانت الحجارة تشعر وتريد.
لقد التمست لك وجه العذر يا عزيزي الماريشال، ولا تعجب لأن ألتمس أنا العذر لك أنت، فإنني في دار لا نحس فيها حقدًا ولا يجد الضغن إلى قلوبنا سبيلًا.
وجه العذر — فيما أرى — أنكم معشر الطليان، أو معشر الفاشت، على الأصح، وقد جمعتم العزم على فتح أفريقيا؛ لتستنقذوها من الجهالة، وتخرجوها إلى نور الحضارة، رأيتم سلفًا أن تشهدوا العالم على مبلغ ما أحرزتم أنتم من حضارة وعطف على الإنسان، وليس من شك بعد هذا في أن فعلتك تيك إنما كانت أصدق نموذج — عينة — لحكمكم إذا ملكتم نواحي الأرض، وبلغتم منيتكم في استعادة ملك الرومان!
ولعلك أيها الماريشال الشجاع جدًّا، ساعة تقدمت بإعدامي على تلك الصورة قدرت أنني لن أتعذب أكثر من دقيقة واحدة، فإنني كنت أجهل مصيري حتى إذا قذفوا بي في الجو خفق قلبي خفقة أو اثنتين ثم استشعرت صدمة هل علمت خطرة البرق؟ ثم لم أدرِ شيئًا ولم أحس شيئًا، حتى رأيتني في الجنة بين الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.
ولعل هذا مما كان داخلًا في تقديرك أيضًا، فأبت همتك إلا أن تسدي إليَّ هذا الجميل أجزاك الله عني أعظم الجزاء!
هناك يا صديقي سؤال يضطرب في صدري ولا يجد له متنفسًا من جواب: لقد كنت أعلم وأنا من أهل الدنيا وازددت يقينًا حين صرت إلى الآخرة أن السيد المسيح — عليه السلام — كان أكبر مظاهر رسالته الرفق والرحمة، والمحبة والسلام، والعفو عمن جنى والصفح عمن أساء، ولقد كان عليه السلام، أول رسول لم يؤيد بمعجزة من عصف أو خسف، وإغراق أو دمدمة، أو ريح عاصفة، أو رجفة قاصفة، وإنما كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتي بإذن الله. وليس وراء هذه الرحمة رحمة، وليس أبلغ من هذا في باب العطف على الإنسان، فهل من الفضائل المسيحية التي تتشادق بها أنت ومعشرك، والتي تزعمون أنكم ما شهرتم هذه الحرب على خصومكم إلا لتسودوها في العالمين — هل من هذه الفضائل أن تمثلوا بشيخ مثلي هذا التمثيل، وتقتلوه بصورة لم تعهد في تاريخ التذبيح والتقتيل؟
لا والله! لقد برئ منكم المسيح الرحيم النبيل، وبرئت منكم التوراة والإنجيل!
وبعد، فاعلم يا هذا الرجل ولعلك الآن إن شئت تعلم، اعلم أن الله تعالى يمهل ولا يهمل، وهو للظالمين بالمرصاد وإنه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
ولقد أملى لك وأمهلك وما أمهلك ولا أملى لك، إلا ليزيد لك في العقاب، ويضاعف لك العذاب ففسح لك في الأمل، وأدنى منك كرائم المنى وقطع في نفسك جميع علائق الشك في أن ستكون الغازي الفاتح الذي يرد لقومه ملك الرومان القديم في غير مشقة ولا جليل عناء، حتى خلت نفسك كذلك، وتسلقت الزهو به، وتقبلت الهناء عليه.
نعم، لقد أذنت وأذن معشرك لا في بلادكم وحدها، بل في جميع رقاع العالم، بأن مصر والقناة التي تسلكها بين البحرين، وأن السودان من قسمكم، كما أضحت الحبشة والصومال والأريتريا من حر ملككم، لا ينازعكم على ذلك منازع، ولا يستطيع أن يدافعكم عن شيء منه مدافع، ولقد سكنتم إلى هذا واطمأننتم إليه، وخلتم أنكم قد فرغتم من الشغل به وما لكم تشغلون البال بما حصل في أيديكم، ومكنت لكم القوة الساطية منه تمكينًا؟
أمهلك الله وقومك وأملى لكم، حتى بلغتم من حسن الظن بالأيام هذا المدى، أليس أعداؤكم الإنجليز قد خشوا بأسكم فسبقوا إخلاء وجه الصومال لكم، كما خلوا بينكم وبين السلوم وسيدي براني، فاحتللتموهما في غير جهد ولا قتال؟
إذن لقد تم الأمر لكم، فأنتم ولا محالة بالغو قصارى مناكم في يسير من الزمان، حتى لقد واعد كثير من جندكم خطيباتهم قضاء شهر العسل، بعد أسابيع أو بعد أيام على ضفة النيل، والنعيم في واديه الجميل.
ثم ما فعل الله يا ماريشال بإمبراطورية الرومان؟
هذا قرينك «ويفل» يضربك في كل نهار ضربة، فلا يقنع بأن يسترجع منك سيدي براني والسلوم، بل إنه ليغير على ملككم في لوبيا، فتفتح بلادها مدينة بعد مدينة، وليتولى على حصونها واحدًا بعد آخر، ويأسر حامياتها التي حشدت فيلقًا بعد فيلق، ويغنم من المدافع والدبابات والذخائر وسائر آلات الحرب وعتادها لو كنتم تعاقدتم من قبل مع إنجلترا على أن تورده مصانعكم إليها بالثمن العاجل، لعجزت في هذه الفترة عنه ولم تستطع على شدة حاجتها إلى المال الوصول إليه!
ولقد بلغ من خذلان الله لكم أن تظل طائراتكم — وهي تعد بالآلاف — جاثمة في أفاحيصها — مطاراتها — التي تعد بالمئات، في انتظار الطائرات البريطانية التي تصبحها وتمسيها كل يوم، حتى إذا أصلتها ضربًا أو تمزيقًا، وأوسعتها تدميرًا وتحريقًا، عادت إلى حظائرها وكأنها لم تعانِ غزوًا، ولم تلاقِ عدوًّا!
أفتراك يا ماريشال، قد تعهدت للإنجليز بأن تعينهم على تمرين طياريهم في إصابة الأهداف وتسديد المرامي، فنثرت لهم الطيارات في كل مطار؛ ليتعلموا فيها الرماية في كل ليل وفي كل نهار؟
ألا خبرني بعيشك؟ لماذا حشدت كل هذه الجيوش؟ وهي لا تضطلع من أعباء الحرب بأكثر من التسليم! ولماذا أقمت كل تلك الحصون؟ وهي لم تقم بأكثر من تفتيح الأبواب للغازي المغير! ولم أرصدت كل هاتيك الموبقات الفواتك من آلات الحروب؟ إذ هي لم تصنع أكثر من أن تعد نفسها غنيمة للعدو باردة برود الثلج!
ثم ماذا كنت تصنع أنت يا ماريشال؟
لم يسمع أحد قط أنك قمت بهجمة، أو تحركت لاتقاء صدمة، أو أمددت فيلقًا رق حبله، أو أنجدت جيشًا انهد حيله!
أتراك قد جئت إلى شمال أفريقيا لتتفرج في هذه الحرب، لا شأن لك بوضع خطة، أو تدبير مكيدة أو سن منهج أو إصدار أمر أو المشورة، ولو ساعة الضيق برأي؟
صدقني يا ماريشال فنحن أهل الجنة لا نكذب أبدًا صدقني إذا قلت لك: إنك لو كنت ماريشالًا في رواية مسرحية وجرى في أحداثها بعض هذا الذي يجري في لوبيا، لكان لك من الأثر في عالم الحقيقة أكثر مما رأى العالم منك في هذه الحرب، إذ لم يكن أقل من أن يصدع الماريشال الممثل كرسيًّا، أو يكسر طبقًا أو يمزق ولو بأسنانه ستارًا!
صدقني يا ماريشال إنك لو كان في موضعك هرٌّ لصارع أو حمام لدافع وقارع، أو طفل لنضح أو جدي لنطح!
على أنك لم تصنع شيئًا من ذلك قط يا حضرة الماريشال الغازي الفاتح العظيم.
جرزياني لقد قتلتني مرة واحدة، وها أنت ذا تذوق أمرَّ ألوان القتل كل يوم عشرين مرة!
ها أنت ذا يا سند إيطاليا ومعقل آمالها في ملك روما القديمة لا تفتأ تبوء بالفشل بعد الفشل، ولا تفيق من لطمة إلا لتلقى لطمة، ولا تجوز بفضيحة إلا لتستقبل فضيحة، أرأيت عذابًا أشد من هذا العذاب وعقابًا على الظالم أوجع من هذا العقاب؟
اللهم إنني لم أكتب إليك هذا شفاء لحقد، أو بذلًا لضغن، فقد علمت أننا معشر أهل الجنة لا نحقد ولا نطغن، ولكن بسطًا للعظة وضربًا للعبرة، وفي الختام أرجو يا حضرة الماريشال أن تنوب عني في إزجاء أخلص التهنئات إلى صديقك موسوليني قيصر الرومان العظيم!