كتاب مفتوح
سيدي المختار
السلام عليك ورحمة الله، ولا شك أن هذا إخبار لا دعاء، فأنت من مثواك في الجنة في رحمة دونها كل رحمة، وفي سلام ليس يعدله سلام.
وإني أشكرك شكرًا جليلًا على كتابك الذي فرضت لي فيه ضميرًا، إذ ظننت أنني أتمثلك في مسائي وفي صباحي، وفي غدوي وفي رواحي بما أسلفت إليك وما أجرمت عليك، إذ الواقع أنك لم ترد لي على خاطر ولم تسنح لي قط في بال، اللهم إلا ساعة فضضت كتابك، وأزلفت عيني إلى توقيعك، في هذه اللحظة ذكرتك لأول مرة وذكرت ما كان مني إليك.
على أني جد مشغول عن مثل هذا الذي كان مني لك ولغيرك ممن تمكنا من نواصيهم، وسلطتنا القوة عليهم، مشغول عن هذا كله بالجزع على ما كان إلى الآن، والهول والذعر مما يكون بعد الآن.
ولقد تكشفت لنا — نحن قادة الفاشست — في ميادين الحرب والسياسة جميعًا، تلك الحقائق القاسية الأليمة بعد طول احتجاب، ومن هذه الحقائق أننا لم نخلق لحرب ولا لقتال، بل لقد عوضنا عن هذا بما طبعنا عليه من الفن الجميل، وما رزقنا من نصيب فيه جليل، فنحن أدق الناس إذا أحفرنا أو صورنا، ونحن أجود الخلق إذا غنينا أو عزفنا، وأبرع العالمين إذا رقصنا أو قصفنا، وأمهرهم وعدنا فأخلفنا، وما لنا وراء ذلك بالحرب ولا بغير الحرب يدان!
على أن الشيطان زين لنا الفتح والاستعمار، ويسر لأنفسنا الحرب في سبيلهما، وقد وفى بادئ الرأي بعهده وبر بوعده، فقادنا أولًا إلى بلاد لا يزال أهلها يعيشون عيش الحيوان، ولا يزال كثير منهم يسكن الغابات كما يسكنها الحيوان، ولا يأكلون إلا بما يأكل هذا الحيوان، أما اللباس إن كان لا بد من لباس، فشقة تواري السوءة، وأما السلاح فسيوف أو حراب، إن لم يستغنِ عنها بالمخالب والأنياب!
وقد صبحنا هؤلاء بما عندنا من كل فاتك قاصف، ومدمدم عاصف وبكل ما يتطاير بالحمم، ويرمي عزيفه بالصمم. فسرعان ما سلموا واستكانوا وسرعان ما خضعوا ودانوا، وبعد لَأْيٍ أطبقنا على طرابلس، ثم ما يليها من صحراء لوبيا، حيث القوم أهل بادية؛ الشعير طعامهم، والخيام مثواهم ومنامهم، وأما مسعدهم من السلاح فظبي السيوف وأسنة الرماح، فإذا كان في أيدي بعضهم شيء من البنادق القديمة، فمما لا غناء فيه ولا أضحت له قيمة، وأما مركبهم إذا اضطربوا في صحاريهم، فالإبل المهزولة تحمل معهم متاعهم وزادهم، وعدتهم وعتادهم، لقد أطبقنا على هؤلاء ثم على هؤلاء، وصببنا عليهم من النار ما لا يثبت له الحديد المصفى — الفولاذ — فكيف بالإنسان!
ثم رمتنا أهل هذه البلاد بكل متعطل في بلادنا ومن لا يجد فيها إلى القوت سبيلًا، وكلما شام هؤلاء المرتزقون رقعة من الأرض تنطق ولو بالنزر من الماء، وتخرج حتى الرقيق من النبات، أجلوا أولئك المساكين عنها ودعوهم إلى بطن الصحراء!
ثم بعد سنين غير طوال أغرنا على معاهدتنا الحبشة وزميلتنا في عصبة الأمم، وسلطنا على أهلها كل ما أخرج العلم من الفاتكات المدمرات، ولم نتأثم من أن ننضح على العدو الغاز السام وغاز الخردل، إذ هم لا يعلمون من أمر ذلك شيئًا، ولا يدرون من أسباب الوقاية منه والعلاج من أذاه كثيرًا ولا قليلًا.
إذن فنحن دولة عظيمة؛ لا نقل عن أعظم دول الأرض في البأس والسلطان، فليت شعري لماذا لا يمضي السيف ونمضي على اسم الإمبراطورية الرومانية، غازين فاتحين ذات الشمال وذات اليمين؟
وترى ما الذي يعوزنا لنكون كذلك؟ وهذه جيوشنا المدربة على خير الأساليب العسكرية تعد بالملايين، وقد زودت بأكفَأ الأسلحة وأمضاها في الحروب الحديثة، وهذه طياراتنا إن شئنا حجبنا بها وجه الشمس عن العالم، وهذه أساطيلنا تغطي ثبج البحار غادية رائحة؛ لا تخشى صولة ولا تهاب عادية حتى لقد أضحى البحر المتوسط — بفضلها — بحيرة إيطالية، لا يدافعنا عن سلطاننا فيها إنس ولا جان!
ثم هذه حلل ماريشالات وجنرالات وأمبرالات وكولونيلات … إلخ، قد «فصلها» خياطونا المهرة «تفصيلًا» بديعًا، ومن العجيب أنها حين أفرغت على قادتنا في البر والبحر والهواء، بدوا فيها وكأنهم ليوث الغاب، قد سلخوا الأعمار في الصيال والضراب، وشقوا الصفوف وتجسدوا في الجلى مواقع الحتوف، فأوقعوا بالعدو وعزموا أو رضوا بالموت وما سلموا!
وهذه فرنسا فلنضربها الضربة القاصمة ولو من الخلف، ولو في ساعة قدر عليها الانهيار، فذلك في تحقيق الحلم الروماني لا ميزان له ولا عيار.
إذن فهلم يا ماريشالات، وهلم يا جنرالات، وهلم يا أمبرالات، وهلم يا سائر الضباط، وهلم يا رجال الفاشت، هبوا هبًّا للقتال، وامضوا للكفاح وللنضال.
ثم إذا فرنسا تسقط سقوط البقلة الذابلة، وما جرد أصحابنا سيفًا ولا شرعوا رمحًا، وإذن فلقد عقد لهم النصر على فرنسا العظيمة، وحقت لهم المغانم التي لا يبلغها حصر، وكفلت لهم تونس والجزائر، جزاء هذا النصر الباهر! ولا تنسَ أن تونس والجزائر تقعان في رقعة الحلم الروماني العظيم!
وهذه اليونان على رمية حجر من مستعمرتنا الجديدة ألبانيا، ولا شك أن اكتساحها بجيشنا الباسل، وسلاحنا الفاتك القاتل وعدتنا المجلجلة وآلات حربنا المزلزلة، لا يستهلك أكثر من أسبوع واحد من عمر الزمن، ولكي تقطع عليها سبيل العذر، فلننذرها في السحر أنها إن لم تجبنا دهمناها عند الفجر!
أما باقي الحلم الروماني فقد عقد الأمل في تحقيقه بسيف داعيكم الماريشال جرزياني وعسكره الذي لم يتهيأ مثله عدة وعددًا، لا للإسكندر الأكبر ولا لهنيبال ولا لبونابرت.
إذن فلنفتح مصر حالًا، وليسلك منها فورًا إلى السودان، والملتقى مع دوق داوست في حدود الحبشة بمشيئة الدوتشي لا بمشيئة الله!
ثم ماذا بعد هذا؟
لقد أبت هذه اليونان الصغيرة الضعيفة لا تفتأ تولينا نكبة بعد نكبة، ولا تألونا كل يوم مائة ضربة وضربة، وكأنما لقطت الأرحام في بلادنا الأولاد ليستأسروا لجنودهم، وكأنما قامت مصانعنا هذه السنين ذات العدد على صب المدافع الثقيلة والخفيفة، وصنع الدبابات والسيارات وسائر أسباب الحرب؛ لنكون مغانم لهم، وهذه ألبانيا تسلم لهم أمنع ما فيها من حصون ومعاقل، كانت أقوى درع لمن وراءها من الكتائب والجحافل!
أما أفريقيا وما أدراك ما أفريقيا! أفريقيا وا خيبتاه، هي مناط الحلم العظيم.
فأما شمالها فهذه لوبيا قد طارت، وهذه بني غازي قد طاحت، وهذا طريق النصر الذي عبدناه لاجتياح مصر، لقد أضحى لنا طريق الهزيمة والفرار! وربما سلمت طرابلس قبل أن يصل إليك هذا الكتاب، وكذلك يخرج عن أيدينا آخر معقل على شط بحر الروم أو بحر الإنجليز؛ لا بحر الطليان على كل حال!
وأما ملكنا الكبير في الأريتريا والحبشة والصومال، فهذا ويفل الجنرال بالكفاية لا بالبذلة العسكرية، هل جاء نبأ النمر الجائع وقد تمكن من فريسة يحمل لها الشر ويضمر الاضطعان؟ ها هو ذا يبقر بطنها بمخلبه، وينهش رأسها بأنيابه، وتارة يضغم كتفها حتى تلتقي أسنانه، ويلعق عظمها حتى يدمي لسانه، وكذلك يمزق ويفل ملكنا كل هذا التمزيق، أو شرًّا من هذا التمزيق!
أرأيت يا سيدي المختار أن الحلم الروماني إنما كان حقًّا؟ على أننا نهب اليوم من نومتنا تيك أهول هبوب!
تقول لي في كتابك: إنك لو كنت ماريشالًا في رواية تمثيلية لكسرت على الأقل طبقًا أو صدعت كرسيًّا، أو قرضت بأسنانك ستارًا! ألا فاعلم يا سيدي أن الله قد عقد لساني في هذه الحرب، ورمى يدي بالشلل وهيهات الفعل أو القول لأشل اليد معقود اللسان!
وأخيرًا، فإذا كانت هذه الأهوال الكارثة قد علمتنا — نحن معشر الفاشست — شيئًا فقد علمتنا شيئًا واحدًا، هو أن الحرب ليست جيوشًا تزم الأفق، ولو زودت بجميع الفواتك المهلكات من مدافع وبنادق ودبابات، ولا هي أساطيل تزحم نواصي البحار، ولا هي طيارات تسد جو السماء، إنما الحرب أولًا وآخرًا هي … رجال!
ولقد أذكرني هذا ما روي عن ذلك الشجاع العربي — يعني عمرو بن معد يكرب — وقد تهادن ابن الخطاب سيفه يعني الصمصامة، وقد طارت لها شهرة عظيمة، فقال له أمير المؤمنين: لقد رأيت الصمصامة ولكنك لم تر اليد التي تشرب بها؟
سيدي المختار!
لي إليك حاجة ليس قضاؤها عليك بالأمر العسير، تلك بأنكم أهل دار سؤلهم مقضي ودعاؤهم مستجاب، فادع ربك أن يقبضني ولكن على فراشي، فإنني لا أرى من العدل أن أموت كما يموت الجندي في ميدان القتال!
وإذا تفضلت وكتبت إليَّ فعنواني الجديد: وادي لظى — جهنم يحفظ بشباك البوستة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.