فتح بيروت
تركنا السيد عبد الرحمن وقد اعتزم مغادرة القاهرة قاصدًا إلى عكا ومعه علي خادمه الخاص، للبحث عن حسن هناك.
وكان قد عرف الطريق إليها من قبل، فقال لعلي: «إن الطريق لا يخلو من خطر ومشقة، ولكني أعرفها جيدًا منذ كنت أذهب إلى الشام للتجارة، وقد قطعتها في المرة الماضية بسلام عقب فراري من حملة الحجاز.»
فقال علي: «إني رهن إشارتك وعلى استعداد لأن ألقي بنفسي في البحر أو النار فداء لك، فهيا بنا إلى هناك على بركة الله.»
قال: «بورك فيك من صديق مخلص، وأرى أن نذهب إلى عكا متنكرَين، فأعود أنا إلى زي الطبيب المغربي الذي عُرفت به هناك، وتتنكر أنت في زي مساعد لي يحمل الجراب الذي به أدوات التنجيم والتنبؤ وضرب الرمل وما إليها؛ ولكي تقوم بمعاونتي حين أضطر إلى فتح المندل.»
فقال: «لقد نطقت بالصواب يا سيدي.»
ثم انطلقا حتى بلغا أول بلدة في الطريق وهي مدينة بلبيس، فابتاعا منها ما يحتاجان إليه من الملابس والأدوات لذلك التنكر، ثم اشتريا هجينين ركباهما إلى العريش، ومن هناك أخذا طريقهما إلى سوريا، فالتقيا بالحملة التي كان علي بك قد أرسلها بقيادة صهره محمد بك أبي الذهب لفتح غزة، ووجدا أن الحملة قد حاصرتها من جميع الجهات تمهيدًا لذلك الفتح.
فقال السيد عبد الرحمن: «أرى أن نعدل إلى طريق آخر نصل منه إلى يافا، حتى نكون بمأمن من أن يكشف أمرنا أحد من رجال أبي الذهب.» فاستحسن علي هذا الرأي، وتحولا بهجينيهما إلى طريق آخر يؤدي إلى يافا، وما زالا في حل وترحال حتى بلغاها بسلام، فوجدا أهلها يستعدون للدفاع وهم في خوف من مجيء الحملة المصرية.
وبعد أن استراحا قليلًا في يافا، واصلا رحلتهما إلى عكا، فأقاما بها أسبوعين، وهما يبحثان عن حسن في كل مكان يظنان أنه يقصد إليه، فلم يقفا له على أثر.
وعلما وهما في عكا أن حاكمها الشيخ ضاهر الزيداني أرسل كثيرًا من الجند مزودين بالأسلحة والمؤن، وعلى رأسهم بعض أولاده لمساعدة الحملة المصرية في غزواتها، وفقًا للمعاهدة بينه وبين علي بك.
فقال السيد عبد الرحمن: «لا أرى أن نبقى هنا بعد الآن؛ إذ لا فائدة من البقاء، وفيه علينا خطر، ولعل الأوفق أن نذهب إلى بيروت.»
قال: «كما تريد.» ثم سارا من هناك قاصدَين إلى بيروت، ومرَّا ببلدتي صور وصيدا؛ حيث بحثا عن حسن فيهما أيضًا فلم يجداه، وما كادا يصلان إلى قرب بيروت حتى وجدا السفن الروسية قد ملأت ميناءها، وأخذت تطلق عليها مدافعها إجابة لطلب الشيخ ضاهر، وكان الأمير يوسف قد أرسل إليه يستنجده لإخراج الجزار من المدينة، واتفقا على الاستعانة بالأسطول الروسي الذي كان مرابطًا في قبرص حينذاك، في مقابل خمسة وعشرين ألف قرش، وجعل الأمير موسى ابن الأمير منصور شهاب رهنًا عند الأميرال الروسي حتى يدفع ذلك المبلغ.
وكان الجزار قد أتم بناء السور المتهدم، وأحكم تحصين المدينة، فأخذ الأسطول الروسي يضربها من البحر حتى هدم جانبًا كبيرًا من السور والأبراج، ثم نزل جنوده وحاصروها من البر، ولكن الجزار صمد في دفاعه فبقي الحصار بضعة أشهر حتى مل الروسيون، وعادوا يضربون المدينة بمدافعهم من البحر.
وفي ذلك الحين وصل السيد عبد الرحمن وخادمه إلى بيروت، فلما وجداها على هذه الحال، قال السيد عبد الرحمن: «ماذا نصنع الآن؟ وهل تظن أن حسنًا يمكن أن يكون داخل المدينة مع من فيها من المحصورين؟»
فقال علي: «عِلم ذلك عند الله، وإذا كان سيدي حسن محصورًا فيها فإن الله قادر على أن يحفظه سالمًا.»
فقال السيد عبد الرحمن: «إني عرفت أميرال الأسطول الروسي منذ جئت عكا للمرة الأولى، وأرى أن نذهب لمقابلته لعلنا نفيد من ذلك شيئًا.»
قال: «هذا رأي حسن.» ثم سارا إلى معسكر الروسيين خارج المدينة، ورفعا علمًا أبيض دليل المسالمة، فلما قبض عليهما الجند وسألوهما عما يريدان، طلب السيد عبد الرحمن مقابلة الأميرال، فساقوهما إلى خيمته.
وما كاد الأميرال يرى السيد عبد الرحمن في زي الطبيب المغربي حتى عرفه فرحَّب به وسأله: «أين كنت منذ فارقتنا؟»
فقال: «قمت بجولة في الديار المصرية لمزاولة مهنتي، ثم عُدتُ إلى بيروت فإذا بكم تحاصرونها ومعسكركم قريب مني، فجئت لأؤدي لكم واجب التحية وأكون أنا وتابعي في خدمتكم وحمايتكم.»
فتنبه الأميرال إلى وجود تابع مع السيد عبد الرحمن، وقال مداعبًا: «يلوح لي أن مهنة التنجيم رائجة في مصر؛ لهذا عُدتَ من هناك ومعك تابع!»
فضحك السيد عبد الرحمن وقال: «يكفيني أن أنال رضاءكم السامي.» ثم أخذ في ملاطفة الأميرال وإطرافه بالمُلَح والفكاهات إلى أن قال الأميرال: «لقد جئنا في المرة الماضية ونحن في نزهة بحرية لطيفة، أما في هذه المرة فنحن في حرب وضرب، وعما قليل نضرب المدينة الضربة الأخيرة، فإما أن يخرج منها الجزار وإما أن ندكها على رأسه.»
فضحك السيد عبد الرحمن وقال: «ما دمتم تحاربون جزارًا فالأمر أهون من أن يحتاج إلى إطلاق المدافع ودك الحصون، ويكفي أن تهددوه بالذبح فيستسلم في الحال!»
فأُعجب الأميرال بهذه المداعبة وحسبها تلميحًا من الطبيب المغربي إلى قرب استسلام الجزار، فمضى يجاذبه أطراف الأحاديث، والسيد عبد الرحمن يضمِّن كلامه ما يُدخِل السرور والأمل في النصر القريب إلى قلب الأميرال.
وفيما هو في ذلك، جاء بعض الجنود الروسيين ومعهم رجل عربي قالوا إنه من أهل المدينة وقد هرب منها وقصد إلى المعسكر الروسي، مدعيًا أن لديه رسالة يريد تبليغها إلى الأميرال نفسه.
والتفت الأميرال إلى الرجل وأخذ يتأمله مليًّا، ثم قال له على لسان الترجمان: «يلوح لي أني رأيتك قبل الآن.»
فقال الرجل: «نعم يا مولاي، لقد تشرفت بمقابلتكم في الإسكندرية حين كان أسطولكم راسيًا في مينائها، وقد …»
فقاطعه الأميرال وقال: «نعم، نعم … قد تذكرت الآن، فأنت الرسول الذي حملت إلينا هناك رسالة من علي بك في القاهرة، أليس كذلك؟»
قال: «نعم يا مولاي.»
قال: «وماذا جاء بك إلى بيروت إذن؟»
قال: «إني من رجال الشيخ ضاهر الزيداني في عكا، واسمي عماد الدين، وقد أرسلني إلى مصر برسالة منه إلى علي بك، فلما بلغتها وتسلمت الرد عليها، كلفني علي بك حمل رسالته إليكم في الإسكندرية، وحينما أردت الرجوع إلى عكا لم أجد سفينة ذاهبة إليها، فركبت سفينة وجدتها قادمة إلى هنا على أن أقطع المسافة من بيروت إلى عكا على جواد أو جمل، وما وصلت إلى بيروت ودخلتها حتى أغلق الجزار أبوابها ومنع الخروج منها والدخول إليها، فبقيت هذه الفترة الطويلة في خطر القتل بنيران مدافعكم من جهة، وبيد الجزار من جهة أخرى إذا هو علم بأني من رجال الشيخ ضاهر.»
فعجب الأميرال من هذا الاتفاق العجيب وقال لعماد الدين: «وكيف استطعت الاختفاء كل هذا الوقت الطويل؟»
فقال عماد الدين: «يرجع الفضل في ذلك إلى جماعة من الرهبان المسيحيين، يقيمون بدير لهم على سور المدينة عند باب يعقوب، فقد آووني في الدير وتكلفوا بأمري منذ لجأت إليهم محتميًا من ظلم الجزار وغدره، وما خاطرت بحياتي اليوم وخرجت من المدينة إلى هنا إلا لكي أرد لهم بعض جميلهم علي، وذلك أني وجدتهم يبحثون عن رسول يبعثون به إليكم كيلا تضربوا ديارهم بمدافعكم؛ لأنهم ليسوا من الأعداء، فتطوعت لإبلاغ هذه الرسالة.»
فأُعجب الأميرال بشهامته وسأله: «أين يقع دير القوم؟» فقال: «هو هذا البناء الظاهر من هنا قرب باب يعقوب.» وأشار بيده إلى الدير.
فأصدر الأميرال أمره إلى قائد مدفعيته بأن يجتنبوا ضرب ذلك الدير، ثم أمر بأن تُعدَّ خيمة ينزل بها عماد الدين والطبيب المغربي وتابعه، وأن يُصرف لهم ما يكفيهم من الطعام والشراب وكل ما يحتاجون إليه إلى أن يقضي الله في أمر المدينة بما يشاء.
•••
كان عماد الدين منذ وقعت عيناه على السيد عبد الرحمن قد لاحظ شدة التشابه بينه وبين صديقه حسن، فخفق قلبه حزنًا على فراق ذلك الصديق وانقطاع أخباره عنه. كما تذكر ما علمه منه من أن أباه سبقه إلى عكا، فرجح عنده أن هذا الطبيب المغربي ليس سوى السيد عبد الرحمن والد حسن الذي يبحث عنه.
وما استقر المقام به في الخيمة مع الطبيب المغربي وتابعه وجلسوا لتناول الطعام معًا، حتى التفت إليهما وقال: «هل لي أن أسأل من أين جاء السيدان إلى هذه المدينة؟»
فقال السيد عبد الرحمن مقلدًا لهجة المغاربة في كلامهم: «جئنا من المغرب، وصناعتنا التطبيب والتنجيم.»
فقال عماد الدين: «أي تطبيب؟ وأي تنجيم يا أخي؟ لقد أكلنا معًا عيشًا وملحًا فلا ينبغي لنا أن يموِّه بعضنا على بعض.»
فاستعاذ السيد عبد الرحمن بالله من شر هذه الأسئلة المحرجة، ولاسيما بعد أن سمع محدِّثه يذكر للأميرال أنه من رجال الشيخ ضاهر، وأنه حمل رسالة منه إلى علي بك في مصر، وحمل من هذا رسالة إلى الأميرال، على أنه تجلَّد حتى لا يفضحه خوفه وقال: «لم أذكر لك إلا الحق يا سيدي، فإذا لم تصدقني فاسأل الأميرال فهو يعرفني منذ بضعة أشهر، وقد صحبته في سفينته من عكا إلى دمياط.»
فابتسم عماد الدين، ورجح لديه أن ظنه في محله، ثم أراد أن يمضي في امتحان محدِّثه، فقال له: «أكنت في دمياط؟ حسنًا … لقد وضح لي الآن سر المشابهة بين سحنتكما ولهجتكما في الحديث بسحنة أهل مصر ولهجتهم رغم محاولتك تقليد اللهجة المغربية.»
فازداد خوف السيد عبد الرحمن، ولكنه جاهد ليخفي خوفه وقال: «إن تابعي هذا أقام في مصر زمنًا طويلًا، وكانت أمي من مصر، فضلًا عن ترددي إليها كثيرًا لمزاولة مهنتي.»
فضحك عماد الدين ساخرًا وقال: «أليس غريبًا أن تغادرا مصر لمزاولة مهنتكما في غيرها في حين أنها أوسع رزقًا، وأهلها أكثر حاجة إلى الكحل وغيره مما في جرابكما.»
فأخذ السيد عبد الرحمن يبتلع ريقه بصعوبة لجفاف حلقه من إحراج محدِّثه إياه بأسئلته، وخشي أن يطول سكوته فيزداد الرجل ريبة فيه، فقال له: «إن الله هو الرزاق، وقد تعودنا التنقل من بلد إلى بلد، والحل والترحال بيد الله.»
فضحك عماد الدين وقال: «نعم كل شيء بيد الله، ولكنه — جل شأنه — جعل لكل شيء سببًا، فما هو السبب الذي جعلك تترك مصر إلى مدينة محاصرة من جميع الجهات؟!»
وهنا لم يُطِق علي خادم السيد عبد الرحمن صبرًا على هذه الأسئلة المحرجة المتلاحقة، فقال لعماد الدين: «ما هذه الأسئلة كلها يا سيدي؟ هل رأيتنا طلبنا منك رزقًا أو سألناك أي سؤال؟»
فضحك عماد الدين ساخرًا وقال له: «إن كنت قد أكثرت من الأسئلة فما ذلك إلا لأنني من رجال الشيخ ضاهر حليف علي بك حاكم مصر، وقد يكون في خروجكما منها بلا سبب معقول ما يضر بمصلحتهما، فأسئلتي قانونية كما تريان.»
فاغتاظ السيد عبد الرحمن من خشونة خادمه وإغلاظه القول لعماد الدين، وبادر إلى انتهاره ترضية لهذا قائلًا: «ومن أقامك محاميًا عني؟ إن أسئلة السيد كلها من حقه أن يسألها، وإذا صح ظني فهو إنما يريد أن يستفزنا ليحفزنا إلى أن نُظهِر له ما نعرف من فنون التنجيم وغيرها.»
وهنا كان عماد الدين قد انتهى من تناول الطعام، فالتفت إلى السيد عبد الرحمن وقال له: «أما فنون التنجيم فما أحسب أن في الدنيا مَن هو أعلم مني بأسرارها وخفاياها، مع أني لا أحمل جرابًا، وليس معي كتاب ولا أنا مغربي، فهل تريد أن أقدم لك دليلًا عمليًّا على ذلك؟»
فسبق علي إلى الرد على عماد الدين وقال متحديًا: «هذا هو الجراب، وفيه كل أدوات التنجيم ومعداته، فأرنا فنك لعلنا منك نستفيد!» قال هذا ونهض، فجاء بالجراب ووضعه بين يدي عماد الدين، ولكن هذا نحَّى الجراب جانبًا وقال: «لا حاجة بي إلى مثل هذه الأدوات.» ثم التفت إلى السيد عبد الرحمن وقال له: «هل أقول ما علمته بفني عنك؟»
فأوجس السيد عبد الرحمن خيفة من هذا التحدي، لكنه لم يسعه إلا أن هز رأسه موافقًا وقال: «قل ما عندك.»
فقال عماد الدين: «إن اسمك عبد الرحمن، فهل هذا يكفي أم أقول أيضًا؟»
فأجفل السيد عبد الرحمن وعلي، وأخذ كل منهما ينظر إلى الآخر، وفي نظراتهما دلائل العجب والاضطراب، فتجاهل عماد الدين واستأنف كلامه فقال: «وقد تركت مصر يا سيد عبد الرحمن في جمع كبير من مختلف الأجناس والألوان، ثم تخلفت عنهم في الطريق واتجهت إلى جهة أخرى للقاء بعض الأعزاء، وبينهم ابنك حسن!»
وهنا كان السيد عبد الرحمن وعلي خادمه قد بلغت دهشتهما أشدها فوقفا ينصتان ذاهلَين، وبينما مضى عماد الدين في الكلام قائلًا: «ولكنك لم تجد الأعزاء الذين ذهبت للقائهم، فرجعت إلى مصر متنكرًا في زي طبيب مغربي، وكان رجوعك من طريق البحر.»
فلم يتمالك السيد عبد الرحمن عواطفه بعد ذلك وانفجر باكيًا، ثم همَّ بيدي عماد الدين يحاول تقبيلهما وهو يقول له: «كفى كفى يا سيدي، وما دمت مطلعًا على حقيقة أمرنا فأتوسل إليك بحق مَن تحب أن ترثي لحالنا ولا تفضحنا.»
فبدا التأثر في وجه عماد الدين وقال له: «طب نفسًا وقر عينًا يا سيد عبد الرحمن، واعلم أن ابنك حسنًا بمنزلة أخي، بل هو أعز كثيرًا؛ لأني مدين له بحياتي.»
فصاح السيد عبد الرحمن قائلًا: «ابني … ابني حسن … هل رأيته يا سيدي؟ بالله أخبرني أين هو؟» ثم رمى بنفسه عليه وأخذ يقبِّل كتفيه وهو يبكي وينتحب، وكذلك فعل علي خادمه، فبكى لبكائهما عماد الدين، ثم أخذ في مواساتهما والتخفيف عنهما، وروى لهما حكايته مع حسن من أولها إلى آخرها، فلما انتهى من ذلك قال له السيد عبد الرحمن: «ألا تظن أن حسنًا بعد أن هرب من بيروت قد ذهب إلى عكا ليبحث عني فيها؟»
فقال: «هذا ما أرجِّحه، وعلى كل حال ثق بأني لن يهدأ لي بال حتى يجمع الله شملنا به سواء أكان في عكا أم في غيرها.»
وفيما هو في ذلك؛ إذ وصل إلى أسماعهم صوت الأبواق تدوي في المعسكر، ثم ما لبثوا أن سمعوا أصوات المدافع منطلقة من البر والبحر على المدينة، فخُيل إليهم أن السماء ستنطبق على الأرض وخرجوا من الخيمة مهرولين؛ فإذا الجو قد امتلأ بالدخان والغبار، فأدركوا أن الأميرال قد نفذ ما توعد به من ضرب المدينة ضربته الأخيرة، فلم يسعهم إلا الرجوع إلى الخيمة والانتظار فيها حتى تنجلي المعركة ويروا ما يكون.
وفي صباح اليوم التالي وقف عماد الدين ومعه السيد عبد الرحمن وعلي خادمه أمام خيمتهم ينظرون إلى بيروت ويأسفون لما نالها من الهدم والتخريب.
وفيما هم كذلك شاهدوا هجانًا قادمًا من الجهة الغربية قاصدًا إلى المعسكر، فلما مر بخيمتهم عرف عماد الدين أنه من زملائه رجال الشيخ ضاهر فناداه، وما كاد الرجل يراه حتى بُغت وترجل عن هجينه وراح يعانقه ويقبِّله قائلًا: «أين كنت يا أخي؟ لقد أقلقتنا بطول غيابك.»
فقال عماد الدين: «إن حكايتي يطول شرحها، وسأقصها عليك في وقت آخر، فقل لي أنت فيمَ قدومك الآن؟»
فقال الرجل: «إن الجزار كتب إلى الأمير يوسف شهاب بأنه مستعد لتسليم المدينة على أن يُؤذن له بالخروج منها بأصحابه وأمواله آمنًا. فكتب الأمير إلى الشيخ ضاهر راجيًا أن يتوسط لدى الأسطول الروسي كي يكفَّ عن ضرب المدينة ويرفع عنها الحصار، فأجاب الشيخ ضاهر طلبه، ثم أرسلني برسالة إلى الأميرال؛ ليبعث معي بفرقة من الجنود لتسليم المدينة إلى الأمير يوسف.»
ثم مضى الرسول إلى خيمة الأميرال فأبلغه رسالة الشيخ ضاهر، فأمر هذا بتنفيذ ما جاء فيها.
ولم تمضِ ساعة حتى خرج الجزار وأعوانه من المدينة، وقد كسا وجوههم الخجل لما أصابهم من الفشل والانكسار، ورغم الخراب الذي عمَّ المدينة أخذ أهلها في الاحتفال برفع الحصار عنها وخروجها من حكم الجزار.
وفي مساء اليوم نفسه عاد جميع الجنود الروسيين إلى سفينتهم في البحر، معتزمين الرحيل بعد أن أدوا مهمتهم، وعرض الأميرال على السيد عبد الرحمن أن يصحبه في سفينته كما صنع في المرة الماضية، فاعتذر شاكرًا، ثم سار هو وعلي خادمه ومعهما عماد الدين إلى صيدا فوصلوا إليها بعد مسير حوالي عشر ساعات على شاطئ البحر بالهجين، وهناك ودَّعهما عماد الدين على أن يسير هو جنوبًا قاصدًا إلى عكا، بينما يسيران هما شرقًا قاصدين إلى دمشق عبر جبال لبنان؛ وذلك كي يبحثوا جميعًا في تلك المناطق، ثم يكون لقاؤهم جميعًا في عكا بعد شهر.