فتح دمشق
ركب السيد عبد الرحمن وعلي خادمه الخاص هجينهما وسارا من صيدا وهما لا يزالان في زيهما المغربي قاصدَين إلى دمشق.
وبعد المسير ثلاثة أيام قاصدَين تارة على رُبى لبنان، وهابطَين تارة في سهوله وأوديته، وصلا إلى سهل البقاع المشهور بخصبه، وهو واقع بين جبل لبنان من الغرب وجبل الشيخ من الشرق، فمكثا هناك يومًا للاستراحة، ثم استأنفا رحلتهما فقطعا وادي الحرير، ثم وادي القرن المشهور يومئذٍ بكثرة مَن فيه من اللصوص وقاطعي الطريق.
وأخيرًا دخلا دمشق من باب الجابية، ونزلا بأحد فنادقها حيث باتا فيه ليلتهما واستراحا قليلًا من عناء رحلتهما الشاقة، وفي الصباح غادرا الفندق وأخذا يطوفان بأسواق المدينة وشوارعها، وأمضيا في ذلك طول النهار وهما يمعنان النظر في كل غريب يصادفهما لعله أن يكون ضالتهما، ثم عادا إلى الفندق في المساء فتناولا فيه عشاءهما، وأمضيا بعض الوقت يرسمان الخطط ويختاران أحسنها للبحث عن حسن.
وفيما هما جالسان في اليوم التالي بأحد المقاهي، يحتسيان القهوة وأمام كل منهما نارجيلة يدخِّن فيها التمباك، اقترب منهما أحد أهل المدينة وقد لفت نظره زيهما المغربي وحياهما في أدب ولطف، ثم بدأهما بالحديث قائلًا: «لعل دمشق أن تكون قد أعجبت السيدين الكريمين.»
فقال السيد عبد الرحمن: «الحق أنها مدينة عامرة جميلة، وقد وجدنا من لطف أهلها وكرم أخلاقهم ما أنسانا مشاق الأسفار والشوق إلى الوطن والأهل.»
فقال: «ومتى كان وصولكم إليها؟»
قال: «وصلنا منذ يومين.»
فقال: «أهلًا وسهلًا ومرحبًا بكما، لقد شرفت المدينة كلها بزيارتكما لها، ويا حبذا لو أن هذه الزيارة كانت ودمشق في ظروف عادية، إذن لطابت لكما الإقامة بها و…»
فقاطعه علي وقال: «هل المدينة الآن في ظروف غير عادية؟»
فتنهد الدمشقي، وهز رأسه أسفًا وقال: «ليس هناك إلا الخير بإذن الله.» وسكت.
فقلق السيد عبد الرحمن وقال: «إنك رجل كريم الأخلاق يبدو عنصرك الطيب في ملامح وجهك وحديثك، ونحن غريبان عن المدينة كما ترى، فهلا صرحت لنا بما طرأ على المدينة لنكون على بينة من الأمر؟»
فقال الدمشقي: «لقد كانت دمشق إلى ما قبل سنوات مدينة آمنة مطمئنة ينعم نزلاؤها جميعًا بالراحة والهدوء والسعادة، ثم تبدَّل الحال بعد ذلك غير الحال، ولكن الله قادر على أن يعيد الأمور إلى نصابها.»
فازداد قلق السيد عبد الرحمن وقال: «قد سمعنا أن أولاد العظم ولاة هذه البلاد من أحرص الحكام على إقامة العدل والسهر على الرعية، وكان هذا مما حملنا على المجيء لزيارة دمشق، فهل ما سمعناه ليس حقًّا؟»
فعاد الدمشقي إلى التنهد وهز رأسه أسفًا واكتفى بأن قال: «إن ما سمعتموه هو الحق يا سيدي، فالباشا — والحمد لله — لا يدخر جهدًا في سبيل أمن البلاد وسعادتها.»
فقال السيد عبد الرحمن: «إذن ماذا هناك؟ لعل الوفاق ليس تامًّا بين الباشا وبين الأمير يوسف، أو لعل الشيخ ضاهر الزيداني قد امتدت أطماعه إلى هنا؟»
فقال الدمشقي: «لا هذا ولا ذاك، ولكن النكبة جاءتنا من الخارج، ولعلك تسمع بالمماليك الذين يحكمون الديار المصرية وكبيرهم الآن علي بك؟»
فأجفل السيد عبد الرحمن عند سماعه اسم علي بك، وتذكر ما ناله من النكبات على يديه، فقال وهو يشرق بدموعه: «نعم سمعت بأولئك المماليك وكبيرهم المذكور، ولكن ما علاقتهم بهذه البلاد؟»
فقال الدمشقي: «لقد أرسل علي بك هذه الحملة لفتح هذه البلاد والاستيلاء عليها، وسمعنا أن هذه الحملة كثيرة العدد والعدة، ويتولى قيادتها محمد بك أبو الذهب صهر علي بك، وقد استولت على سواحل سوريا وما فيها من السفن بمساعدة الشيخ ضاهر الزيداني، كما سمعت بأنها فتحت طبريا ونابلس وغيرهما، وبأنها الآن في طريقها إلى هنا؛ ولهذا فالباشا وأهل المدينة كلهم في قلق عظيم، ولعلكما مررتما بأسوار المدنية وشاهدتما ما يجري فيها من أعمال الترميم والتحصين استعدادًا للدفاع.»
•••
استعاذ السيد عبد الرحمن بالله من شر هذا الخطر الجديد، وتذكَّر هو وعلي خادمه تلك الليلة التي قضياها في الجامع الأزهر مع اللاجئين إليه فرارًا من الجنود الخارجين في تلك الحملة، ثم أراد معرفة الأسباب التي أدت إلى إرسالها، فقال لمحدثه الدمشقي: «وما الذي دعا علي بك إلى مد عدوانه إلى هذه البلاد، هل وقع خلاف بينه وبين الباشا هنا؟»
فقال الدمشقي: «لم يحدث أي شيء يدعو إلى هذا العدوان، ولكن ذلك المملوك الجبار الطاغية تمرَّد على الدولة العلية وطرد الباشا ممثلها من مصر، ثم لم يكفه هذا فبعث بصهره هذا القادم إلينا لفتح الحجاز بحجة الانتصار لشريف مكة وتأديب الخارجين عليه. وعلى كل حال ما أرى إلا أن الدوائر ستدور على الباغي بإذن الله، وسوف ندافع عن بلادنا تحت راية مولانا الخليفة المعظم، وما النصر إلا من عند الله، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.»
وتحقق السيد عبد الرحمن من بعد ما سمعه من الدمشقي في المقهى، أن في بقائه في دمشق أكبر الخطر على حياته، ولكنه قال لنفسه: «كيف أغادر هذه المدينة قبل استكمال البحث عن ولدي فيها؟» وبقي صامتًا يفكر في هذا الأمر وكله حيرة وقلق واضطراب.
ولم يسع خادمه الوفي إلا أن يشاركه حيرته فبقي صامتًا هو الآخر، وإن استقر رأيه على أن يتبع سيده كظله إلى كل مكان يحل فيه، ليكون عونًا له في كل ملمة، ويفديه بحياته إذا اقتضى الأمر ذلك.
أما الدمشقي فأدرك ارتباكهما، وحسب أنها خائفان لأنهما غريبان، فمال على السيد عبد الرحمن وربت كتفه متلطفًا وقال: «لا تخف يا سيدي؛ فأنت وصاحبك في حمانا، وثق بأن كل دمشقي لا يتأخر عن تقديم حياته وكل ما يملك فداء لضيفه، وإذا تنازلتما بترك الفندق الذي تنزلان به لتقيما معي بمنزلي حتى يقضي الله بما شاء في أمر الحرب المنتظرة، فإني أَعُد ذلك شرفًا لي وحسن حظ.»
فأُعجب السيد عبد الرحمن بمروءة الرجل وشهامته ولطف عباراته مما يدل على طيب عنصره وكرم أخلاقه، وشعر كأنما أُزيح عن صدره حمل ثقيل، فالتفت إليه وعيناه مغرورقتان بدموع التأثر وقال: «بُورك فيك يا سيدي وفي أهل دمشق جميعًا، إنكم حقًّا لأهل لكل كرامة وفخار، وأعتقد أن الله ناصركم على أولئك الباغين.»
ثم نهض مستأذنًا في الانصراف بعد أن شكر له أريحيته وكرمه وعرَّفه اسمه واسم علي، كما عرف أن اسمه هو سليمان، فألحَّ عليهما في قبول دعوته إياهما إلى الإقامة بمنزله، ولما رأى إصرارهما على البقاء في الفندق أعطاهما عنوان منزله ليقصدا إليه في أي وقت، ثم نهض ليوصلهما إلى الفندق ويطوف بهما خلال ذلك بعض أسواق المدينة وشوارعها.
وما زال الثلاثة سائرين وهم يتبادلون الأحاديث حتى وصلوا إلى باب توما، فخرج بهما سليمان إلى ما هنالك من غياض وبساتين، وداروا حولها حتى نهر بردى، فما كادوا يشرفون عليه حتى شاهدوا أهل القرى في تلك المنطقة يَعدُون متصايحين وهم يسوقون أمامهم ماشيتهم ووجهتهم المدينة، وسمعوا بعضهم يقولون: «جاء المماليك … جاء المماليك.»
فعلم السيد عبد الرحمن أن جيش أبي الذهب وصل إلى حدود المدينة، ولم يسعه إلا الرجوع هو وخادمه مع صديقهما الدمشقي إلى المدينة؛ حيث أُغلقت أبوابها بعد قليل، وخرج جنود حاميتها إلى الأماكن المعدة للدفاع فوق الأسوار، وفي الأبراج والحصون، وتحصن كثيرون في القلعة، ولجأ الأهلون إلى المنازل خائفين مترقبين.
وباتت دمشق تلك الليلة ساهرة تتقلب على أحر من الجمر، وما أصبح الصباح حتى دوت المدافع، وتسامع الناس بأن المدينة توشك أن تسقط في أيدي الغزاة الفاتحين؛ فقد جاءوها بجنود لا قِبل لها بهم، مزودين بأقوى الأسلحة المعروفة في ذلك الحين، وانضم إلى الحملة المصرية جنود كثيرون من المتاولة والزيادنة والصفديين بقيادة أولاد الشيخ ضاهر.
ولم تمضِ بضعة أيام حتى دخل الفاتحون المدينة وانتشروا في أنحائها للنهب والسلب، وكانت قلعتها ما زالت صامدة للحصار، ولكنها ما لبثت أن سلَّمت هي الأخرى بعد قليل.
•••
لجأ السيد عبد الرحمن وخادمه إلى إحدى الحجرات في الفندق الذي نزلا به، وهما بملابس المغاربة. فلما مضت ساعات بعد فتح المدينة، وخفَّت حدة النهب الذي قام به الجنود والفاتحون، قال علي لسيده: «ألا تأذن لي في الخروج لتفقد الحالة خارج الفندق، عسى أن نجد فرصة مواتية لمغادرة هذه المدينة؛ حتى لا نقع في يد أبي الذهب؟»
فقال السيد عبد الرحمن: «لا أرى أن تخرج الآن، فالجنود ما زالوا يملئون الطرقات، وقد يصيبك شيء من شرهم وطغيانهم، كما أني لا أستطيع أن أغادر دمشق إلا بعد أن أجد حسنًا فيها أو أتحقق أنه ليس هنا.»
وبعد ساعة أخرى، لم يطق علي صبرًا على الانتظار في مخبئهما، فنهض وأتم ارتداء ملابسه المغربية وحمل الجراب على كتفه؛ تأهبًا للخروج وهو يقول: «ما أظن الجنود يطمعون في أسلاب مغربي في مثل هيئتي هذه.» ثم خرج من الفندق على أن يستكشف الحالة ويعود بعد قليل.
وما كاد أن يصل إلى الشارع حتى وجد أكثر المتاجر قد حُطمت أبوابها ونهب الجنود ما كان فيها، كما وجد أن سكان المنازل ما زالوا في قلق وخوف واضطراب، فحدثته نفسه بالرجوع، لكنه خجل من أن يكون جبانًا إلى هذا الحد، وواصل السير حتى بلغ منعطفًا إلى يمينه في ذلك الطريق، فوقف مترددًا بين الدخول في هذا المنعطف وبين المضي في الطريق الذي هو فيه.
وفيما هو كذلك سمع صوت رجل يدعوه باسمه، فأجفل وخفق قلبه بشدة؛ مخافة أن يكون مناديه جنديًّا من جنود المماليك، ثم زايله بعض خوفه؛ إذ تذكر أنه متنكر في زي مغربي فلا يمكن أن يعرفه لأول وهلة أي أحد من عارفيه.
وقبل أن يلتفت ليرى مَن ناداه، كان هذا قد وصل إليه وألقى عليه التحية، فإذا به سليمان الدمشقي الذي تعرَّف إليه هو وسيده في المقهى يوم مجيء الحملة، فرد تحيته بمثلها معربًا عن سروره بلقائه.
فقال سليمان: «أين السيد عبد الرحمن؟» قال: «هو في الفندق.»
قال: «هيا بنا إليه، فعندي له أنباء سارة.»
فانبسطت أسارير وجه علي، وقال له: «سرَّك الله يا أخي دائمًا، ما هي هذه الأنباء؟»
فقال: «ستعلمها عما قليل حين نصل إلى الفندق.»
فلم يسعه إلا السكوت وانطلق عائدًا إلى سيده في الفندق، لكن الفضول غلب عليه بعد بضع خطوات فعاد يقول لسليمان: «هل هذه الأنباء خاصة بالمماليك الذين فتحوا المدينة اليوم؟»
فقال له: «اصبر يا سيد علي، وستعرف كل شيء بعد حين.»
وكان السيد عبد الرحمن ما برح جالسًا في الحجرة والهواجس تدور في رأسه، فلما وقعت عيناه على سليمان وهو داخل عليه مع علي، نهض مستبشرًا بقدومه وابتسامه، وبعد أن تبادلا العناق والقبلات، أجلسه بجانبه، وراح ينظر إلى وجهه مندهشًا مما يلوح عليه من دلائل الغبطة والابتهاج، وأراد أن يسأله عن السبب لكنه خجل، وأدرك سليمان ذلك منه، فقال له: «لماذا لا تسألني عما دعاني إلى الابتهاج في مثل هذه الظروف؟»
فقال: «خشيت أن أكون طفيليًّا فأُثقِل عليك، ولا شك في أنك صاحب فضل وهمة، فهات ما عندك، بارك الله فيك.»