أثر الحبيب
قال سليمان الدمشقي لصديقه عبد الرحمن: «لقد علمت بأمر لم يعلمه أحد من أهل المدينة بعدُ، ولو علموه لتبدَّل كدرهم واضطرابهم سرورًا واطمئنانًا.»
فأراد عبد الرحمن استطلاع هذا الأمر واستبشر بمنظر صديقه؛ إذ كان يتكلم وأمارات الابتهاج تلوح على وجهه، فقال له: «هل لك أن تتكرم بإطلاعي على هذا الأمر.»
فقال: لما فتح المماليك المدينة وتسلموا القلعة، فرَّ الوالي ولم يَعُد يستطيع الإقامة خوفًا على حياته، ثم بعث إلى محمد أبي الذهب قائد الحملة المصرية يطلب إليه الاجتماع لعقد شروط التسليم حسب المعتاد، فأجابه إلى ذلك، وكنت ممن ذهبوا مع الوالي إلى مكان الاجتماع، وكان محمد أبو الذهب جالسًا هناك متعجرفًا منتفخًا نفخة النصر، وبين يديه أصحاب مجلسه من الأمراء المماليك، فلما دخل عليه الباشا وقف له تأدبًا، غير أن مخايل الكبرياء كانت تلوح على وجهه.
وكان لي صديق حميم بين رجال الباشا الذين وقفوا في انتظاره خارج الباب بعد أن ترجل عن جواده، فأسررت إليه أن ينتبه لما يدور بين الأميرين؛ لنرى شروط التسليم، ولبثت بعيدًا أنتظر ارفضاض المجلس، وبعد قليل رُفع الستر وخرج جميع الأمراء المماليك الذين كانوا في مجلس محمد أبي الذهب، ولم يبقَ إلا هو والباشا، فاستغربت ذلك وقلت: «لعل في الأمر شيئًا.» وما خرج الباشا من عند أبي الذهب وركب جواده حتى سارعت إلى صاحبي وسألته عما كان، فقال لي: «أبشر يا سليمان، لقد فرجها الله.» فقلت: «وكيف كان ذلك؟» قال: «إن عثمان باشا سأل أبا الذهب بعد أن خلا إليه: باسم مَن نكتب معاهدة التسليم؟» فقال أبو الذهب: «نكتبها باسم علي بك صاحب مصر.» فضحك عثمان باشا، وقال: «أتفتح البلاد وتتجشم خطر الحروب والأسفار ويكون الفخر لذلك الجالس على عرشه في القاهرة؟! وهبْ أنه أمير البلاد وأنت من قواده، فكيف تخرج من طاعة خليفة رسول الله سلطان البرين وخاقان البحرين لتكون في طاعة بعض أمرائه النابذين طاعته؟! إن مولانا السلطان مصطفى خان لأجدر بالطاعة، ولاسيما أنه لم يأتِ معك ولا من الأمير ما يدعو إلى غير ذلك، وسيان عندي أن تكتب شروط التسليم باسمك أو باسم علي بك، ولكني أرى أن ليس من مصلحتك في شيء أن تذعن لأمر علي بك وتخالف أمر السلطان، في حين أن علي بك لا يفضلك بشيء، وقد فتحت له الحجاز والشام وهو جالس في القاهرة بين سراريه ومماليكه وخدمه وحشمه، وليس يخفى عيك أن فخر الفتح لا يعود على أمثالك من القواد العظام بقدر ما يعود عليه هو دون أن يتجشم في سبيل ذلك أي عناء، وهكذا يذهب كل تعبك أدراج الرياح، ثم تكون في الوقت نفسه عرضة لغضب مولانا السلطان وانتقامه، فضلًا عن مخالفة الشرع؛ لأنكم إنما تحاربون لتنصروا الإفرنج على المسلمين، وإنما ساعدتكم ملكة المسكوف، لكي تنال بغيتها وتنتصر على المسلمين في بلاد الروملي. وهبْ أنكم فتحتم الشام والحجاز، فأين هذه البقعة الصغيرة من المملكة العثمانية الواسعة الأطراف؟ وأين جنود الحجاز والشام من الجيوش العثمانية المظفرة التي فتحت العالم بسطوتها وبطشها وشجاعة قوادها؟»
فمال محمد أبو الذهب إلى الإذعان، واستشار الباشا فيما يفعل، فأشار عليه بأن يُقلِع عن الانقياد إلى علي بك ويعود إلى طاعة خليفة رسول الله وظل الله على الأرض سلطان البرين وخاقان البحرين، وبذلك ينال فخرًا عظيمًا وينجو من الأخطار ومشاق الأسفار.
فصمت أبو الذهب قليلًا وأطرق مفكرًا، ثم رفع رأسه وقال: «لقد نطقت بالصواب.» ثم طلب إليه عثمان باشا أن يُقسِم على السيف والكتاب ليكونن مخلصًا للدولة العلية ويكف عن حربها، ففعل.
فقال عبد الرحمن لسليمان الدمشقي: «وماذا تم في الأمر بعد ذلك؟»
قال: «إنني عُدتُ إلى معسكر المصريين على أثر هذا الذي سمعته، فرأيت خيمة الأمير مغلقة، والجنود المصريين في هرج ومرج، لكنهم قد كفوا عن الأذى. ثم دنوت من خيمة محمد أبي الذهب، واسترقت السمع دون أن يشعر بي أحد، فسمعته يخاطب أمراءه قائلًا: «إنكم تشكون مشقة الأسفار وأخطار الحروب، وما أرى إلا أن علي بك يريد إعدامنا بهذه الكتب التي يبعث بها إلينا لكي نقذف بأنفسها في أتون الحرب، وكأنما جُبِلنا من تراب وجُبِل هو من تبر؛ ولذلك لا يشفق على حياتنا ولا على نسائنا وأولادنا الذين تركناهم في مصر لنسير في بلاد الله، بينما هو يعيش منعمًا بين حريمه وسراريه.»
ثم استطلع رأيهم، ففوضوا الرأي إليه فقال: «أرى أن نعود إلى بيوتنا ونكف عن الحرب وعن نبذ طاعة مولانا السلطان، وها أنا ذا أقسم لأحافظن على هذا العهد.» فردد هذا القسم، ولم يسعني بعد هذا إلا أن أسجد شكرًا لله على نجاتنا من حكم المماليك، ثم أسرعت لأطلعك على ذلك.»
•••
كان سرور عبد الرحمن عظيمًا بما سمعه من صاحبه الدمشقي، ولم يتمالك أن رفع يديه إلى السماء وقال: «تباركت يا رب، ولك الحمد. ها قد انقلب الظالمون على أعقابهم وستقوم الفتن بينهم فيبيد بعضهم بعضًا.»
ثم التفت إلى سليمان وقال له: «إنكم من أهل هذه المدينة، ونجاتها تهمكم أكثر مما تهمني، ولكني أؤكد لك يا أخي أن فرح أهل دمشق كافة لا يوازي فرحي بحبوط مسعى هؤلاء المماليك!»
وسكت وقد ملأت الدموع عينيه، فلم يجرؤ سليمان على مخاطبته وبقي صامتًا يتأمل حركاته، ثم عاد عبد الرحمن إلى الحديث فقال: «اعذرني يا أخي إذا رأيت فيَّ هذا الضعف؛ لأن هؤلاء المماليك نغَّصوا عيشي وشتتوا شملي واغتصبوا أملاكي وأموالي وأبعدوا عني ولدي.»
واغرورقت عيناه بالدمع.
فتعجب سليمان، وود لو يقف على تفصيل ذلك فقال: «لا شك في أن هؤلاء القوم قد أمعنوا في الظلم والفساد، ولسوف ينالون جزاء أعمالهم، ولكن هلا أطلعتني على تفصيل أمرهم معك لعلي أستطيع مساعدتك؟»
فأراد عبد الرحمن الكتمان، ثم رأى أن في الإدلاء بقصته إلى صديقه الدمشقي ما قد يفرج كربه، فتنهد وقال: «آه يا أخي! لقد كنت أوثر كتمان هذا الأمر، ولكنني آنست منك مروءة وإخلاصًا فملت إلى الشكوى إليك؛ تمثلًا بقول القائل:
وقصَّ عليه حكايته من أولها إلى آخرها، فلما انتهى من ذلك قال سليمان: «والله إن حكايتك لمما يتفطر له القلب، فهل أنت مؤمل أن تجد ولدك هنا؟»
قال: «لولا الأمل ما تجشمت الأخطار ومشاق الأسفار.»
قال: «إذن هيا ننزل إلى المدينة لعل الله أن يفتح لنا باب الفرج أو يأتينا بأمر من عنده.»
فنهضوا وخرجوا إلى الأسواق وإذا بأهل المدينة قد غمرهم الفرح؛ إذ سمعوا مناديًا ينادي بالأمان وعودة الناس إلى أعمالهم؛ لأن جند المماليك عائدون من دمشق.
فتحقق عبد الرحمن صحة رواية صديقه، فقال له: «أرى أن نذهب خارج المدينة حيث يجتمع الناس لمشاهدة عودة الجنود المصريين، فلعلي أجد ولدي بينهم»، فوافقه على ذلك، وسارا حتى خرجا إلى حيث معسكر أبي الذهب، فإذا بالمماليك والمغاربة يقوضون الخيام ويحملون الأثقال، وأهل دمشق ينظرون إليهم ويعجبون لهذا الانسحاب السريع. ولم يأتِ الغروب حتى سارت الحملة عائدة من حيث أتت.
أما عبد الرحمن فكانت عيناه شائعتين في الجماهير لعله يشاهد ولده حسنًا، ولكنه لم يقف له على أثر.
ولبث بضعة أيام في المدينة يواصل البحث عنه حتى يئس من لقائه، فودَّع صديقه الدمشقي وأخبره بأنه اعتزم السفر، فتأثر هذا وحزن لحبوط مسعاه، ثم قال له: «إني والله لن يهدأ لي بال حتى أعلم بوجود ولدك، وقد عرفت شكله وملامحه وسأراقب مَن أراهم من الغرباء، فلعلي أقف على خبره فأبلغك ذلك، ولكن أين تكون؟»
فقال عبد الرحمن: «إني ذاهب إلى عكا الآن، ولا أعلم أين تسوقني المقادير.»
قال: «ألا ترجو أن تعود إلى مصر بعد ذلك؟» قال: «لا أدري.»
قال: «إن الله يدبر الأمر كيف شاء، وهو لطيف بعباده رحيم خبير.»
وعلى أثر ذلك سار عبد الرحمن مع خادمه على جملين في قافلة كانت سائرة إلى صيدا على أن يسيرا من هناك إلى عكا.
•••
ما زالت القافلة تواصل سيرها وعبد الرحمن وخادمه فيها، وبعد أن قطعت القافلة بضع مراحل قال خادم عبد الرحمن له: «أتأذن لي في كلمة؟» قال: «قل ما بدا لك يا علي.»
فقال: «إننا أينما نتوجه نجد عدونا أمامنا، وقد تركنا مصر فرارًا من ظلم علي بك، فإذا جئنا عكا كنا في خوف من الشيخ ضاهر العمر؛ لأنه حليفه، وعلى هذا لا نستطيع الظهور هناك، ثم إن العثور على سيدي حسن أمر لا نقوى عليه إلا بمساعدة الحكومة، فهلا فكرنا في وسيلة نتقرب بها إلى الشيخ ضاهر هذا.»
فقال عبد الرحمن: «إني إذا ذهبت إليه بنفسي وأطلعته على أمري، أخشى أن يأمر بقتلي.»
فقال علي: «خطرت لي فكرة إذا أذن لي مولاي أطلعته عليها.»
قال: «قل ما بدا لك.»
قال: «أرى أن تلتمس مساعدة الأميرال الروسي قائد السفن الروسية في البحر المتوسط، فقد آنست منه ميلًا إليك يوم كنا في ضواحي بيروت، ولو أنك سألته أن يعطيك توصية إلى الشيخ ضاهر العمر ما أظنه يأبى ذلك، ولا شك في أن الشيخ ضاهر يعمل بها لما بينهما من التحالف، فما رأيك؟»
فتهلل وجه عبد الرحمن استبشارًا بهذه الفكرة وقال: «بُورك فيك يا علي. لقد نطقت بالصواب، وليس أفضل لنا من هذه التوصية لدى الشيخ ضاهر، لكن كيف نعرف مكان العمارة الآن؟»
قال: «إذا وصلنا إلى مدينة صيدا نستفهم عن مكانها ونسير إليها والاتكال على الله.» قال: «حسنًا.» ثم تذكر فقدَ ولده فعاد إليه قلقه وقال: «آه يا حسن! هل يُقدَّر لي أن ألقاك؟»
فقال علي: «صبرًا يا سيدي، إن قلبي يحدثني بأننا لا نلبث أن نلتقي به؛ إذ قد تحقق لدينا من ذلك الشهم عماد الدين أنه لا يزال على قيد الحياة، ولعله الآن في عكا؛ لأننا لم نجده في دمشق، وإذا كان هناك فسيلتقي به عماد الدين ويخبره بأمرنا فيبقى هناك في انتظارنا.»
فقال عبد الرحمن: «كل شيء بيد الله. وأرى أن هذه القافلة بطيئة السير وأحمالها ثقيلة، فالأفضل أن نسبقها.»
قال: «لا يا سيدي؛ لأننا لا نأمن المسير وحدنا في الطريق، فاللصوص فيه كثيرون من البدو وغيرهم، ولا بد لنا من مرافقة القافلة؛ إذ نكون في أمن معها.»
قال: «حسنًا، ولكنَّ هناك أمرًا آخر قد أهمني كثيرًا.»
قال: «ما هو؟»
قال: «رأيت في الحلم يوم خروجنا من دمشق كأني لقيت سيدتك في ثياب سوداء، فقالت لي عبارة لا أزال أذكرها وهي «إني لا أزال حية أنتظرك، فمتى تأتي إليَّ؟» فتذكرت ما وعدني به السيد المحروقي بمصر من أنه سيطلعني على أمرها إذا لم يتحقق قتلها، فكيف نستطلع حقيقة ذلك؟»
فقال: «إذا شئت فإني أذهب إلى مصر، متى وصلنا إلى عكا، وأسأل السيد المحروقي في ذلك الأمر، عسى الله أن يحقق أملك.»
قال: «بُورك فيك يا علي، ولعل الله قد قضى بجبر قلوبنا بعد ما قاسيناه من العذاب.»
وبعد مسيرة بضعة أيام وصلا إلى صيدا، فدخل عبد الرحمن المدينة وسار توًّا إلى البحر، فإذا بالعمارة الروسية راسية في الميناء، فاكترى قاربًا وقصد إلى دارعة الأميرال وطلع إليها، فسُرَّ الأميرال بلقائه وبش في وجهه، أما هو فأظهر الانقباض، فسأله الأميرال عن أمره، فطلب أن يخاطبه على انفراد، فخلا إليه في غرفة هناك، حيث قص عليه عبد الرحمن قصته وطلب إليه أن يوصي به الشيخ ضاهر العمر، فرد عليه قائلًا: «هذا أمر هين، وسأعطيك كتابًا آخر إلى علي بك.»
ثم أمر بأن يُكتب له كتابان: أحدهما إلى الشيخ ضاهر، والآخر إلى علي بك يؤكد فيهما التوصية به، ثم ختم الكتابين بخاتمه وسلمهما لعبد الرحمن قائلًا: «مهما يصبك من ضيق فإنا نفرجه عنك.» فقبَّل عبد الرحمن يده وخرج شاكرًا. ثم ركب في قارب وعاد إلى صيدا فإذا بعلي ينتظره على الشاطئ، فلما رآه أسرع إليه وسأله عما تم، فأخبره بما كان فسُرَّ كثيرًا، ثم عاد إلى الخان وباتا تلك الليلة على أهبة السفر. وفي صباح اليوم التالي ركبا من صيدا يريدان عكا.
•••
استيقظ حسن من نومه في تلك الحجرة الصغيرة على صوت الناقوس يدعو الناس إلى الصلاة، فنهض وخرج من الدير إلى حيث وقف على مرتفع، وأخذ ينظر إلى ما حوله فإذا هو محاط بسهول من الرمال يحدها من الغرب البحر الذي لا ينفك يدمدم ليلًا ونهارًا، ومن الشرق جبل لبنان وما في سفحه من الغياض والبساتين والقرى.
ولما عاد الراهب من الصلاة قال لحسن: «هيا بنا لأريك المغارة التي كان يبيت بها النبي إيليا؟» ثم قاده إلى باب صغير فتحه، ونزل به بضع درجات إلى مغارة صغيرة فيها صورة صغيرة على قماش، فقبَّلها الراهب قائلًا: «هذه هي صورة النبي إيليا صاحب العجائب والمعجزات.»
فقال حسن: «إنه — عليه السلام — مشهور بالكرامات والعجائب.» ثم حانت منه التفاتة إلى ركن من أركان تلك المغارة، فشاهد رجلًا مضطجعًا، فقال: «مَن هذا النائم؟» فأشار إليه الراهب أن يسكت، فسكت وقد استولت عليه الرهبة من منظر تلك المغارة ومنظر ذلك الراهب المسن بما عليه من اللباس الخشن.
ولما خرجا قال له الراهب: «إن ذلك الرجل الذي رأيته نائمًا مصاب بروح شريرة، وقد جاء ونام في هذه المغارة لتخرج منه تلك الروح.»
ثم عادا إلى مسطبة مشرفة على البحر، وجاء الراهب بغليون ملأه تبغًا وأشعله له، فأخذ حسن يدخن ثم قال للراهب: «ألا تستغرب مجيئي إليكم وأنا لست مسيحيًّا؟»
قال: «إن هذا المكان يا ولدي يأتيه الزائرون من سائر الطوائف والملل بغير استثناء.»
قال: «وكم تبعد مدينة صيدا من هذا المكان؟»
قال: «مسافة يوم تقريبًا، والطريق على شاطئ البحر ومعظمها في الرمال.»
قال: «وهل يستطيع الرجل أن يسير منفردًا؟»
قال: «قد يستطيع ذلك، ولكن الطريق لا يخلو من الخطر ولاسيما في هذه الأيام.»
فقال: «ما الداعي لزيادة الخطر الآن؟»
قال: «الداعي إلى ذلك كثرة خطايانا وعدم سيرنا على مقتضى أوامر الله سبحانه وتعالى، حتى اختلف حكامنا وقام الخصام بينهم ونشبت الحروب؛ فإن صيدا تابعة لحكومة لبنان ولكنها دخلت في حوزة الشيخ ضاهر العمر الزيداني والي عكا، وهذا الرجل قد نبذ طاعة الدولة العلية وطمع في السلطة، وقامت بين رجاله ورجال الأمير يوسف حاكم لبنان حروب كثيرة في أماكن مختلفة، وفي السنة الماضية جاء ذلك الأمير الشهابي بجند من لبنان ومن عسكر الدولة لفتح صيدا، فأخرج منها الدنكزلي حاكمها من قبل الشيخ ضاهر، وبعد حصار أسبوع جاءت المراكب الروسية التي هي في هذا البحر بإيعاز من الشيخ ضاهر وضربت جنود الأمير يوسف بالقنابل وشتتتها. أما هذه السفن — ومن بينها خمس سفن كبار — فإنها مرسلة من كترينة ملكة المسكوف لمساعدة الشيخ ضاهر في كل ما يريد؛ وذلك لأنها حليفته ضد الدولة العلية.»
فقال حسن: «إذن الطريق خطر ولا يستطيع المرء أن يسير وحده فيه؟»
فضحك الراهب حتى اهتزت لحيته ثم قال: «بل لا يستطيع نفر من الناس أن يسيروا في هذه الأصقاع آمنين من الخطر، وترانا لذلك في ضيق شديد.»
فقال حسن: «حقًّا إن هذا لمما يضيق عليكم؛ إذ يقل عدد الوافدين من الزوار وغيرهم.»
فقال الراهب: «ليس ذلك فقط ما نشكوه، ولكن من عاداتنا ومثلنا في ذلك جميع الأديرة، أن نبعث كل سنة وفدًا من الرهبان يطوفون البلاد المجاورة والبعيدة لجمع النذور التي ينذرها أصحابها باسم صاحب هذا الدير — قدس الله سره — لكننا في هذه الأيام لا نستطيع إرسال أحد، وقد مضت علينا بضع سنين لم نرسل أحدًا إلى أن كانت هذه السنة فبعثنا بعض رجالنا يطوفون البلاد لجمع النذور، وقد مضى عليهم بضعة أشهر دون أن يرجعوا، فترانا من أجل ذلك في قلق عظيم عليهم لئلا يكونوا قد أُصيبوا بسوء من اللصوص في الطريق بعد نهب ما جمعوه من هذه النذور.»
فقال حسن: «لقد أخطأتم إذن يا سيدي بإرسالهم.»
قال الراهب: «إننا لم نرسلهم إلا بعد أن رأينا إرسالهم ضروريًّا؛ لأننا نرسلهم أيضًا للأديرة الأخرى في الأقطار البعيدة لجمع المساعدات، وللطائفة الأرثوذكسية أديرة عديدة في أماكن مختلفة فيساعد غنيها فقيرها.»
فقال حسن: «ولكن ألا تخافون وأنتم في هذه البرية من أن يسطو عليكم اللصوص أو قاطعوا الطرق؟»
فقال: «قلما خفنا ذلك؛ لأن الله يحرس أماكن العبادة.»
فقال حسن: «وهل للمسلمين مكان مثل هذا في هذه الأنحاء؟»
قال: «إن لهم مقامًا قديم العهد جدًّا على مقربة منا، يُقال له مقام الشيخ الأوزاعي، وقد مرَّت عليه أجيال عديدة، والزائرون من المسلمين يقصدونه كما يقصدون هذا الدير.»
فتاقت نفس حسن لزيارة ذلك المقام؛ لأنه كان يقرأ كثيرًا عن كرامات الشيخ الأوزاعي، فقال: «هل هو بعيد من هنا؟»
قال: «لا … فهو لا يبعد إلا مسافة تدخين غليون.»
قال: «هل يمكنني الذهاب إليه؟»
قال: «نعم إذا مشيت على هذا الرمل مشرقًا، فإنك تشرف عليه حالًا، وهو قائم في قرية يُقال لها قرية منتوش.»
فقال: «ألا ترسل معي أحدًا من خدم الدير.»
قال: «لك ذلك.» ثم نادى أحد الخدم فجاء وسار مع حسن حتى أشرفا على قرية صغيرة في وسط تلك الرمال، ثم وصلا إليها، فإذا هي غاية في الصغر، وفي جانب منها قبة فيها ضريح، فسار حسن توًّا إلى المقام وقرأ الفاتحة، ثم تذكر ما جاء من أجله إلى تلك الديار فانقبضت نفسه وتذكَّر أباه ووالدته، فأخذ يصلي ويتضرع إلى الله تعالى ألا تحبط مساعيه.
وبعد أن أتم الصلاة والدعاء، أعطى خادم الضريح بعض المال، ثم عاد وقد انبسطت نفسه وتجددت آماله بلقيا والديه، رغم ما كان يظن من قتل والدته، وأحس كأنه أصبح في عالم غير الذي كان فيه.
فلما عاد إلى الدير رأى عند بابه جمالًا كأنها قادمة من سفر طويل، فتوسم الخير وأسرع إلى الدير، فلقيه وكيله منبسط الوجه قائلًا: «نحمد الله يا ولدي، أنَّ وفدَنا قد عاد من سفره بخير.» وقاده إلى غرفة من غرف الدير ليريه إياهم، فوجدهم جالسين والشمس قد لوحت وجوههم والأسفار قد أنهكتهم، ورأى بين أيديهم كيسًا علم أن فيه التحف التي أتوا بها.
فجلس إليهم وأخذ يسألهم عن الأمن في الطريق فقال أحدهم: «إن أشد الطريق خطرًا ما بين مصر والشام.»
فقال: «هل وصلتم إلى مصر؟»
قال: «نعم ذهبنا إليها، وعدنا منها بخير.»
فقال: «وهل أهل مصر ينذرون لهذا الدير أيضًا؟»
فقال الوكيل: «قلت لك يا ولدي إننا نرسل هؤلاء ليس لجمع النذور فقط، ولكن لجمع المساعدات من الأديار الأخرى، وهناك بقرب القاهرة دير يوناني، وبعض الأديار القبطية تعوَّدنا تلقي المساعدة منها.»
فتأوه حسن لتذكره تلك البلاد التي فقد فيها والديه، وقال: «عسى أن تكونوا قد نلتم ما أردتم؟»
فقال أحد الرهبان القادمين: «إننا لقينا في دير مار جرجس أكثر مما نلناه من سواه، وقد وقع لنا فيه اتفاق غريب مع راهبة من راهباته، وذلك أننا نزلنا هناك، وبعد أن أتتنا الرئيسة بالمساعدة المعتادة، جاءتنا راهبة يظهر أنها ليست يونانية مثل بقية الراهبات هناك؛ إذ كلمتنا باللغة المصرية، ولما علمت بأننا قادمون من الشام بكت ثم أخرجت من جيبها عقدًا من الكهرمان الثمين وقالت: «إني أقدِّم هذا العقد لمقام النبي إيليا، وإذا وجدت ضالتي فسيكون علي نذر آخر كبير.»
فتعجبنا من قولها، وأردنا الاستفهام منها، فأومأت الرئيسة إلينا ألا نسألها فسكتنا، ثم لما خلونا إلى الرئيسة أسرَّت إلينا أمرًا لا يمكننا ذكره، ولكننا صلينا من أجلها صلاة خاصة وتضرعنا إلى الله أن ينيلها مرامها؛ لأننا رأيناها منكسرة القلب، عسى أن يستجيب الله دعاءنا.»
فأحس حسن بانقباض، وصمت. أما الراهب فأخرج من جيبه عقد الكهرمان وقدَّمه لوكيل الدير لينظر إليه، فما رآه حسن حتى خفق قلبه، وتأمله فإذا هو عقد والدته بعينه، وظهرت على وجهه أمارات الدهشة، فتعجب الحاضرون من ذلك ولبثوا ينظرون إليه وهو يتأمل العقد ويقبِّله، ثم رفع رأسه إلى الراهب وقال له وقد شرق بدموعه: «هل رأيت صاحبة هذا العقد في ذلك الدير؟» قال: «نعم.»
فقال حسن: «هل تحققت وجهها جيدًا؟»
قال: «لم أتحققه تمامًا، ولكنني علمت من مجمل ملامحها ومن الوشم الذي على صدغها أنها من أهل مصر.»
فقال حسن وقد وثب من مكانه: «هل عاينت الوشم الذي على صدغها؟ أهو ثلاث نقط متوازيات؟»
فنظر الراهب إلى حسن متعجبًا وقال: «إن الوشم الذي على وجهها كان على هذه الصورة حقيقة، فكيف عرفت ذلك؟»
قال حسن: «هي والدتي.» ثم أخذ في التأوه والبكاء، فبُهت الجميع، ثم قص حسن على الرهبان قصته، فعلموا أن أباه هو ضالة تلك السيدة، وأنها تعتقد أن ابنها قُتل وليس على قيد الحياة.
فدنا أحد الرهبان من حسن وطلب الانفراد به، فلما انفردا قال له: «بما أني قد عرفت أن تلك السيدة هي والدتك، فأخبرك بأن السر الذي أسرَّته إلى الرئيسة إنما هو حكاية فقدكما، وقد أوصتني بأن أبحث لها عن أبيك وأخبرها، فهل تعرف عنه شيئًا؟»
فقال حسن: «وهل ذكرت لك شيئًا عن ولدها؟» قال: «لا.»
قال: «ذلك لأنها قد تحققت قتلي.» ثم أخذ في البكاء.
فقال له الراهب: «خفف عنك يا ولدي وأخبرني بما تعرفه عن أبيك؟»
قال: «لا أعرف عنه سوى أنه جاء إلى عكا هاربًا من وجه حكامنا المماليك، وأنا الآن لم أصل إلى تلك المدينة، وقد كنت عازمًا على المسير إليها منذ أيام، ولكن خطر الطريق حال بيني وبين ما أريد.»
ثم صمت وأطرق مفكرًا في ذلك الاتفاق العجيب، وبعد قليل رفع رأسه وقال: «مَن لي بأن أطير إلى القاهرة وأشاهد تلك الوالدة المسكينة وأُعلِمها بأني لا أزال على قيد الحياة، لا شك أنها حالما تراني تقع في دهشة وربما أصابها جنون؛ لأنها رأت بعينها الجلادين يقودونني بحبل ليغرقوني في البحر، وكيف تحلم بأني لا أزال حيًّا وهي لو علمت ذلك لطارت إليَّ بأجنحة الشوق، فكل همها الآن لقاء أبي.» ثم رفع يديه نحو السماء ودعا الله قائلًا: «يا رب العالمين، أسألك بجاه سيد المرسلين ألا تحرمنا من الاجتماع مرة ثانية في بيت واحد، إنك جابر قلوب المستضعفين.»
فقال الراهب: «آمين يا رب آمين.» ثم خرجا إلى حيث كان الباقون. وعلم حسن أن لا بد من الانتظار حتى تمر قافلة فيصحبها إلى هناك؛ لأن الطريق لا يخلو من الخطر، فلم يسعه إلا الانتظار على نار.
•••
خرج عبد الرحمن من صيدا مع خادمه برفقة جماعة يريدون عكا، فمروا بمدينة صور التي كانت منذ القدم أعظم مدن سوريا قوة وثروة، ومكثوا فيها يومًا ثم ساروا منها يريدون عكا، فمروا بالناقورة وهي جبل صخري مرتفع واقع على شاطئ البحر، يخترقه طريق يصعب سلوكها؛ لوعورتها وتعرضها لهجمات اللصوص، وإذا نظر المار فيها إلى أسفل الجبل هاب ارتفاعه عن البحر وسمع صوت الأمواج تلطم قاعدته، وإذا نظر فوقه خُيل له أن الجبل سيسقط عليه. فقطعوا ذلك الجبل بسلام وما زالوا يجِدُّون السير ليصلوا إلى المدينة قبل الغروب؛ مخافة أن تغلق أبوابها قبل وصولهم. لكنهم أمسى عليهم المساء قبل أن يدخلوها، وكانوا بقرب بابها الشرقي فقال التجار: «نخشى إذا سرنا إلى المدينة أن يكون الباب مغلقًا، فلنبت الليلة هنا، وفي الغد ندخل المدينة.» فنصبوا خيامهم وباتوا ليلتهم ساهرين؛ مخافة أن يعتدي عليهم أحد.
وكان عبد الرحمن وخادمه أكثر الجميع حذرًا، فقضوا معظم الليل جالسين، ولما أصبح الصباح دخلوا المدينة جميعًا، فسار عبد الرحمن توًّا إلى الخان الذي كان قد نزل به في المرة الأولى، فتلقاه صاحبه بالترحاب وأخلى له غرفة من غرفه، فمكث بها ذلك اليوم للاستراحة والاستعداد لمقابلة الشيخ ضاهر وعرض كتاب الأميرال عليه، وكان يخاف حبوط مسعاه، فكان تارة يفضل كتمان أمره حتى يقابل صديقه عماد الدين، وطورًا تحدثه نفسه بالمسارعة إلى مقابلة الشيخ ضاهر، فلبث في المدينة وهو بلباس المغاربة أسبوعًا، وأخذ يجول في أسواقها ويسير إلى مقر الحكومة لعله يلقى عماد الدين، لكنه لم يقف له على أثر، فاعتزم الانتظار حتى يلقاه ويستشيره في أمر الكتاب.
ثم سمع أن الشيخ ضاهر خرج في فرقة من رجاله لمحاربة بعض اللبنانيين في بعض الجهات، فلبث ينتظر عودته وهو يسعى جهده في البحث عن عماد الدين وحسن، فمضى شهر ومعظم الشهر الثاني دون أن يعلم شيئًا جديدًا حتى كاد ييأس، ثم ذهب يومًا إلى قصر الشيخ ضاهر وقد التف ببرنسه وخادمه يحمل له الجراب إيذانًا بأنه طبيب مغربي يكتب الحجاب ويكتب الكتاب … إلخ. فلما أشرف على القصر عند الزاوية الشمالية لسور المدينة تعجَّب لهول منظره؛ لأنه رآه أشبه بالقلاع لعلو أسواره ومتانة بنائه، وفيما هو يتأمل ذلك البناء وقد همَّ بالدخول رأى أحد الجند قادمًا وعرف أنه الهجان الذي ذهب إلى بيروت برسالة الشيخ ضاهر إلى الأميرال الروسي، وكذلك عرفه الجندي فحيَّاه وسأله عن أمره فقال: «إني أزاول مهنة الطب هنا.» وأخذ علي يطنب للجندي في مدح مهارة سيده في تلك المهنة، وسأله عبد الرحمن عن عماد الدين فقال: «إنه سار برفقة الشيخ ضاهر ولا يلبث أن يعود.»
فمكث عبد الرحمن في المدينة أسبوعًا آخر، وفي الأسبوع التالي سمع الناس يتحدثون بقرب مجيء الجند، وخرجت الموسيقى والعساكر لملاقاتهم إلى خارج المدينة، فمكث هو في الخان حتى تحقق عودتهم، فخرج مع خادمه إلى قصر الشيخ ضاهر لعله يلقى صديقه عماد الدين، وهناك لقيه الهجان، فأخبره أن عماد الدين مصاب بجرح ويقيم بمنزله على السور، فقال: «أذهب إليه لعلي أطببه فأكافئه بعض المكافأة على فضله.» وسأل الرجل عن بيته فسار به إلى طابية من الطوابي المبنية على السور، وهناك دخل غرفة شاهد فيها عماد الدين ممددًا في الفراش، لكنه ما كاد يراه حتى نهض كأنه لا يشكو ألمًا وسلَّم عليه وأجلسه بجانبه، أما علي فبقي خارجًا.
ولما استتب بهم المقام سأله عبد الرحمن عن حسن فقال: «لقد مررت بكل السواحل ولم أقف له على خبر، فلعله أبطأ في الطريق. وأنت ماذا فعلت؟» فقص عليه القصة من أولها إلى آخرها.
فقال: «وهل أتيت بتوصية إلى الشيخ ضاهر؟» قال: «نعم، ولكنني لا أزال خائفًا منه.»
قال: «وهل تستطيع التطبيب حقًّا؟» قال: «نعم.» فقال: «إني مصاب بجرح خفيف، ولكنني سأشيع أني تألمت منه كثيرًا، وأنك قد شفيتني بمهارتك، وعند ذلك تتقرب من رجال الشيخ ضاهر، وأنا أعلم أن ولده ناصيف مصاب بجرح خفيف أيضًا في ساعده، وقد قتل طبيبه هذه المرة، فإذا شفي على يدك نلت حظوة في عينيه وربما عينوك طبيبًا للقصر، وعند ذلك تتمكن من استخدام الشيخ ضاهر في البحث عن ولدك.» ثم أفهمه الكثير من عادات ناصيف وطباعه، وأعطاه مقدارًا من مرهم البيلسان في قارورة لكي يستعمله في تطبيبه.
وأخذ منذ ذلك الحين يتظاهر بتثاقل المرض عليه، وأشاع في القلعة أنه ظفر اتفاقًا بطبيب مغربي أظهر في تطبيبه مهارة كبرى حتى شُفي، فذاع ذلك بين الجند والأمراء في القلعة والقصر حتى بلغ الشيخ ضاهر وأولاده، فبعث ناصيف وهو في فراشه إلى عماد الدين، فلما ذهب إليه سأله قائلًا: «سمعت بطبيب مغربي قد شفاك من مرضك بعد أن ثقلت وطأته عليك، فهل ذلك صحيح؟»
قال: «نعم يا سيدي.» وأخذ يطنب في مدح مهارة طبيبه وفراسته إلى أن قال: «وهو ليس طبيبًا فقط، ولكنه عالم بالفراسة ويعالج الداء بدواء واحد فقط وتظهر النتائج بسرعة.» فطلب منه أن يدعوه إلى مقابلته.
فذهب عماد الدين وأتى بعبد الرحمن بعد أن أخبره بكل شيء، فدخل وحيا، فقال له الشيخ ناصيف: «قد سمعنا بمهارتك في الطب، فجئنا بك لتطبيب جرحنا، فهل أنت واثق بنفسك.» قال: «إن الشفاء من عند الله، وأرى أني بمعونته تعالى أستطيع شفاءك.»
فأعجبه كلامه فقال: «هذا ساعدي وهذا جرحي، فما هو الدواء عندك للجروح؟»
قال: «إن البلسم أحسن الأدوية له، وعندي منه قارورة أحضرتها معي من بلاد الغرب لم أستخدمها في شفاء جرح غير جرح عماد الدين، فإذا أذن لي مولاي طببته بها.» قال: «افعل.»
فنادى عبد الرحمن خادمه عليًّا فجاءه بالقارورة ففتحها، وأخرج من الجراب ريشة صغيرة من ريش النعام غمسها في المرهم ومسح بها الجرح بعد غسله، ثم لفَّه بعصابة وقال: «يشفيك الله يا سيدي بإذنه تعالى.» وما زال يتردد عليه حتى شُفي تمامًا وقال له: «إني معجب بك أيها الطبيب، فهل أنت في هذه الديار من قديم؟» فقال: «لم آتِ إليها إلا حديثًا، ولكني طببت كثيرين وشُفوا على يدي بإذن الله؛ لأنه هو الشافي، وقد رافقت أمير المراكب الروسية مدة وسرت معه في السنة الماضية من هنا إلى مصر، وقد أُعجب بي وأعطاني كتاب توصية للأمير الجليل الشيخ ضاهر.»
فقال: «وأين كتاب التوصية هذا؟»
قال: «هو في جيبي.» وأخرجه وناوله إياه، فأخذه وقرأه فسُرَّ جدًّا وقال: «إن لهذا الأمير صداقة وطيدة مع أبي، ولا أشك في أنه حالما يقرأ كتابه، ويسمع مني عن مهارتك في الطب سيعينك طبيبًا في القصر؛ لأن طبيبنا قُتل في الحرب هذه المرة.»
فهمَّ عبد الرحمن بيد ناصيف وقبَّلها وقال: «إني على كل حال من عبيد مولانا.»
فأخذ ناصيف الكتاب، وطلب منه أن يعود إليه في الغد، فلما جاء في الموعد قال له: «إن أبي يريد أن يراك.» قال: «سمعًا وطاعة.» وسار خلفه إلى القاعة التي يجلس فيها الشيخ ضاهر، فوجده جالسًا في صدرها بعمامته وجبته وقفطانه، وكان طاعنًا في السن أشيب الشعر عريض اللحية غليظ الحاجبين متجعد الوجه، واسع العينين حادهما سريع الحركة مع كبر سنه؛ لأنه كان إذ ذاك في نحو التسعين من العمر، ولكنه كان في نشاط الشبان يركب الخيل كأحسن الفرسان، وكان ذا هيبة ووقار. وقد جلس على وسادة ثمينة بقرب نافذة مشرفة على البحر، وإلى جانبه وزيره إبراهيم الصباغ المسيحي في أفخر ما يكون من اللباس، وهو يقرب سنًّا منه، وإلى كل من الجانبين بقية أعضاء المجلس من الأمراء والمشايخ.
وكانت القاعة مفروشة بالبُسط والسجاد، وفي يد الشيخ ضاهر «شبق» طويل مرصع بالقصب، حُلِّي طرفه الأعلى بقطعة من الكهرمان، وقد أخذ يدخِّن ما فيه من التبغ وينفخ الدخان في الغرفة، وكذلك كان يفعل الصباغ.
فعجب عبد الرحمن لعظم هيبة ذلك الرجل التي زانها الشيب وحدة النظر، وهمَّ بيده فقبَّلها وقبَّل يد الصباغ، وكان قد سمع عن تقربه من الشيخ ضاهر ونفوذه لديه حتى أصبحت أَزِمَّة الأحكام في يديه وأصاب مالًا طائلًا، ولم تبقَ فوق يده في الحكومة يد؛ لأن الشيخ ضاهر لم يكن يأتي عملًا إلا بمشورته، ثم وقف أمامهما متأدبًا، فأشار إليه الشيخ ضاهر أن يجلس فجلس.
فخاطبه الشيخ ضاهر قائلًا: «أأنت الذي جاء بكتاب الأميرال أورلوف؟» قال: «نعم يا سيدي.»
فقال: «وكيف وصلت إليه؟ وماذا كنت تعمل في معيته؟»
قال: «كنت في عكا منذ سنة أو أكثر، فسار بي بعض رجاله إليه، فلبثت في معيته وقتًا أضرب له الرمل وأستخرج له الأسرار والمغيبات.»
قال: «وهل لك اطلاع على ضرب الرمل والتنجيم؟» قال: «نعم يا سيدي.»
قال: «أريد أن أمتحنك بسؤال، فإذا عرفته نلت مقامًا رفيعًا وكنت من حاشيتي، وإذا أخطأت جُوزيت جزاءً صارمًا لا يقل عن القتل، فما رأيك؟»
فخفق قلب عبد الرحمن وخاف أن يقع في مكروه؛ لأنه لم يكن قد مارس من ضرب الرمل شيئًا غير أنه كان يشاهد الرمالين في مصر مذ كان تاجرًا، وكان يلاحظ أعمالهم، وقد قرأ شيئًا عن تلك الصناعة حتى أحب ممارستها.
وكأن الله قدَّر له ذلك إذ ذاك حتى ينتفع به في هذا الوقت، ولما خاطبه الشيخ ضاهر في هذا الأمر لم يمكنه إلا إجابة طلبه؛ لأن رفضه يثبت كذبه على أهون سبيل، بينما إجابته قد يترتب عليها نجاح مشروعه. فتشدد وقال: «نعم يا سيدي بإذن الله تعالى.»
فصمت الشيخ ضاهر برهة وكل مَن في مجلسه شاخص إلى ما يريد الاستفهام عنه، وعبد الرحمن مختلج القلب ومرتعد الفرائص، ولكنه أسلم أمره إلى الله وقال في نفسه: «إما أن أعوم وإما أن أغرق، والاتكال على الله.» فنظر إليه الشيخ ضاهر قائلًا: «يهمني أن أعرف سبب رجوع محمد بك أبي الذهب عن دمشق بعد فتحها بغير داعٍ يوجب ذلك، وهذا أمر قد شغل قلوبنا في هذه الأيام، فهل يمكنك معرفته؟»
فاستبشر عبد الرحمن بالفرج؛ لأنه كان يعرف سبب ذلك الانسحاب معرفة جيدة، فاشتدت عزائمه وأشرق وجهه ونظر إلى الشيخ ضاهر وقال: «إن استخراج ذلك السر يحتاج إلى مندل، والأسرار عند الله يهبها مَن يشاء من عباده.»
فقال الشيخ: «اضرب لنا مندلًا الآن وأنت جالس بيننا.» وأراد بذلك أن يبقيه ويتحقق صدقه.
فقال عبد الرحمن: «أفي هذه القاعة يا سيدي؟ إن ضرب المندل يحتاج إلى أوعية كثيرة وإلى نار وبخور ومياه.»
قال: «لا بأس، اطلب ما تريد فنأتيك به.»
قال: «أعطوني وعاء كبير واملئوه ماء نقيًّا.» فجاءوه به، ثم طلب كانونًا به نار، وشيئًا من البخور النقي فجاءوه بكل ذلك، فقال: «لا ينقصني إلا غلام لم يبلغ رشده، ولكنني قد صحبت خادمًا تدرَّب على مساعدتي في هذا الفن، وهو يستطيع ما لا يستطيعه الغلام الحدث غير البالغ الذي اعتاد ضاربو المندل استخدام مثله في هذه الأحوال؛ لأنني وجدت بالاختبار أن الأحداث يُتعِبون ضارب الرمل بما يستولي عليهم من الخوف مما يشاهدونه أثناء العمل من المناظر الغريبة، أما خادمي فقد اعتاد هذا.»
فقال الشيخ: «وأين هو خادمك؟»
قال: «في منزلي، فَأْذن لي في أن أسير لإحضاره وجلب بعض المواد اللازمة في هذا العمل.» فأذن له وكلَّف عماد الدين أن يسير برفقته لئلا يفر أو يتواطأ مع خادمه، فسار الاثنان حتى أتيا المنزل، فقال عماد الدين: «ها أن باب الفرج قد فُتح لك بإذن الله.»
ثم أفهم عبد الرحمن عليًّا ما يفعله عند فتح المندل، وعادوا جميعًا إلى قاعة الشيخ ضاهر، فجلس بجانب الكانون، وفتح كتابه وألقى في النار قطعة من البخور وأخذ في القراءة والدعاء كما يفعل المنجمون، ووقف علي بجانب وعاء الماء، والشيخ ضاهر ورجاله شاخصون بأبصارهم وكأن على رءوسهم الطير.
وبعد أن أتم القراءة قال لعلي: «ما ترى يا غلام في هذا الماء؟»
فتأمل علي في الوعاء ثم تراجع كأنه رأى شيئًا مخيفًا، فقال له عبد الرحمن: «لا تخف وقل ما تراه.»
قال: «أرى يا سيدي خيامًا عديدة منصوبة في سهل خارج المدينة عالية الأسوار، وأعلامًا عديدة مختلفة الأشكال، وأرى في وسط تلك الخيام خيمة كبيرة أمامها رجلان بسلاح كامل كأنهما حاجبان.»
فقال عبد الرحمن: «أدخل الخيمة وانظر ما فيها.»
فأمعن علي نظره كأنه يدقق في البحث عن شيء وقال: «أرى بساطًا كبيرًا مفروشًا في أرض الخيمة، وعليه رجلان: أحدهما لابس قاووقًا عليه عمامة ولباسه فاخر كأنه أمير كبير، والآخر يظهر من ملابسه أنه والٍ كبير، وعلى رأسه عمامة وعلى كتفيه فروة سمور، وأرى بينهما سيفًا وكتابًا أظنه المصحف الشريف، وقد جعل الرجل الأول يده فوقهما.»
فقال عبد الرحمن: «اسمع ما يقول وأخبرنا به.»
قال: «اسمعه يقول: «أقسم بالله العظيم والنبي محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين وبرأس مولانا السلطان خليفة رسول الله، أن أنبذ طاعة علي بك وأعصي أوامره، وأعود إلى طاعة مولانا أمير المؤمنين الخليفة الأعظم وأحارب بسيفه وأذب عن حقوقه، ولا أعرف سلطانًا سواه، وإن حنثت في هذا اليمين، كنت مخالفًا للشريعة مجردًا من الذمة والشرف، وأستحق القتل بهذا السيف!» …»
فبُغت الشيخ ضاهر وارتجفت لحيته في وجهه، وكذلك كان شأن جميع رجاله، ولم يعد يستطيع صبرًا فقال: «تبًّا له من خائن!» ثم جعل يده على حسامه وهزه كأنه يهدده.
فأومأ إليه عبد الرحمن وقال: «اصبر قليلًا يا سيدي لعلي أرى شيئًا آخر.»
ثم التفت السيد عبد الرحمن إلى علي وقال له: «وماذا ترى أيضًا؟»
فتظاهر علي باشتداد خوفه واضطرابه وقال: «أمهلني قليلًا يا سيدي، ريثما يهدأ روعي وأستطيع التثبت من المناظر التي تبدو لي.»
فقال له: «هدئ من روعك، ولا تخف من شيء ما دمتُ بجانبك، ثم أمعِن نظرك فيما أمامك وأخبرني بما ترى.»
قال وهو يرتعد متظاهرًا بأنه ما زال خائفًا: «أرى يا سيدي أن الرجل الذي يرتدي الفرو قد نهض ثم خرج وركب منصرفًا.»
فقال: «حسنًا، وماذا ترى غير ذلك؟»
قال: «أرى جماعة من الكبراء، على رءوسهم العمائم، ويتدلى السيف إلى جانب كل منهم فوق جبته، وها هم أولاء قد دخلوا الخيمة الكبيرة التي خرج منها الباشا.»
فقال السيد عبد الرحمن: «أدخل معهم في الخيمة وانظر ماذا يصنعون.»
قال: «أرى الرجل الأول ما زال جالسًا وأمامه المصحف والسيف، وقد أشار إلى الداخلين بالجلوس فجلسوا وأخذ يحدثهم.»
فقال: «وماذا يقول لهم، أصغِ جيدًا لكلامه، واحذر أن يفوتك منه شيء.»
قال: «أسمعه يقول لهم: «ما زال علي بك يبعث إلينا بأوامره المتشددة، كي نواصل الأسفار والحروب وتكبد المشاق والأخطار، وهو ناعم بالعيش في قصره بين حريمه وسراريه، ويستأثر وحده بثمرة جهادنا وتعبنا، فما قولكم؟» …»
ثم تململ علي في مجلسه متظاهرًا بالتعب، فقال له السيد عبد الرحمن: «امضِ في الاستماع لما يدور بين القوم من الأحاديث، وأخبرنا بم أجابوه.»
فتنهد علي، ثم استأنف تفرسه في الإناء وقال: «لقد تشاوروا فيما بينهم، ثم فوضوا الرأي له مؤكدين أنهم أطوع له من بنانه في كل شيء، ثم عززوا ذلك بأن وضعوا أيديهم على المصحف والسيف اللذين أمامه، وأقسموا ليكونن رهن إشارته، وهذا هو يثني على همتهم ويقول لهم: «إن علي بك يريد أن تذهب أعماركم في الحروب والفتوحات في سبيل تحقيق مطامعه التي لا تقف عند حد؛ ولهذا أرى أن نرجع إلى مصر وكفى ما قاسيناه من الغربة وأخطار الحروب حتى الآن، فإذا لم يعجبه ذلك فليس له عندنا إلا هذا.» وأشار إلى السيف الذي أمامه.»
وكان الشيخ ضاهر مرهفًا سمعه لتتبع كل ما يقوله علي، فلما سمع عبارته الأخيرة على لسان أبي الذهب، لم يتمالك عواطفه وأخذ ينتفض من شدة التأثر، ثم نهض وجرَّد سيفه وراح يهزه بقوة قائلًا: «ويل لك يا أبا الذهب! ويل لك يا خائن!»
وهنا تظاهر كل من علي والسيد عبد الرحمن بأن الجهد قد نال منهما، وطلبا ماء للشرب فجيء لهما به، وبعد أن شربا جلسا يمسحان عرقهما وهما يلهثان تظاهرًا بالتعب والإجهاد.
ودنا الشيخ ضاهر من السيد عبد الرحمن وسأله: «أأنت واثق من صحة ما رواه غلامك؟» فأجابه بقوله: «نعم يا سيدي، إنني واثق بصدقه كل الثقة؛ فهو لم يروِ لي إلا الصدق منذ استخدمته حتى الآن، ثم إني أضع نفسي رهنًا عند مولاي حتى يتحقق الأمر بالوسيلة التي يراها.»
فقال الشيخ ضاهر: «الحق أني جد معجب ببراعتك في الطب والتنجيم؛ ولهذا ستكون من حاشيتي منذ الآن، للانتفاع بعلمك في أي وقت.»
فهمَّ السيد عبد الرحمن بيد الشيخ ضاهر وقبَّلها وقال: «إني عبد مولانا، ولا شيء أحب إليَّ من هذا الشرف العظيم.»
ثم أمر الشيخ ضاهر بأن يُخصص له مسكن خاص في القلعة، وأن تُخلع عليه أثمن الخلع، ويُجاب كل طلب له، وسُرَّ السيد عبد الرحمن بهذا لعله ينفعه في البحث عن ولده وزوجته، لكنه خشي أن ينكشف أمره إذا لاح للشيخ ضاهر أن يمتحنه بفتح مندل آخر، وأخيرًا لم يسعه إلا الرضا بما كان مسلمًا أمره لله فيما يكون، ثم التمس من الشيخ ضاهر أن يأذن له في إبقاء خادمه معه، فأذن له في ذلك.