في قلعة القاهرة
أدرك السيد عبد الرحمن أن الجابي هو الذي اقتحم منزله وأخذ ولده، رغم الأكياس والسلع التي أخذها منه في المتجر هو ومن معه، فطفرت الدموع من عينيه حنقًا وحزنًا. ومضى إلى زوجته في غرفتها فوجدها قد حلت شعرها وشقَّت ثيابها وتورَّم خداها واحمرت عيناها من شدة اللطم والبكاء. وما وقع نظرها عليه حتى صاحت قائلة: «لقد أخذوه … أخذوا حسنًا إلى الحرب والقتل.» واستأنفت اللطم والعويل.
ولم يستطع مغالبة تأثره الشديد بهذا المنظر، فأخذ هو الآخر يلطم وجهه وأطلق لدموعه العنان. وشاركهما في ذلك كل مَن في المنزل من الخدم والجواري.
وأخيرًا، اقتربت منه زوجته وهي على تلك الحال وقالت له: «ألا تخرج للبحث عن حسن والوقوف على ما تم في أمره، عسى أن توفَّق إلى إنقاذه بأي ثمن؟»
فقال: «لو قبلوا أن أفتديه بكل ما أملك، وفوقه حياتي نفسها ما أحجمت عن افتدائه. وقد بذلت للجابي كل ما طلب وزيادة، على أمل أنه أعفاه من التجنيد رحمة بنا. لكنه — لعنه الله — أبى إلا أن يفجعنا في مالنا وولدنا.»
فقالت: «سينتقم الله منه ومن كل ظالم عما قريب. لكن كيف نصبر على فراق وحيدنا وفلذة كبدنا، ونتركهم يأخذونه من الدار إلى النار؟»
فتنهد السيد عبد الرحمن، وصرَّ بأسنانه غيظًا من ذلك الظلم، ثم قال لزوجته: «وماذا أصنع وأنا لا أستطيع الخروج من المنزل الآن؟»
فأبدت دهشتها وقالت: «وما الذي يمنعك من الخروج؟»
قال: «يمنعني أن على باب الحارة قتيلًا مضرجًا بدمائه، وقد كادوا أن يقبضوا عليَّ ويتهموني بقتله، لولا أن كتب الله لي النجاة من أيديهم بعد أن اعتدوا علي بالضرب وسلبوني ثيابي وكل ما كان معي.»
فبُغتت كما بُغت جميع الحاضرين، وأدركوا سبب مجيئه إلى المنزل عاري الرأس حافيًا ليس عليه إلا الملابس الداخلية. ثم سألته زوجته: «ألم تعرف مَن ذلك القتيل؟»
قال: «عرفته. هو بواب الحارة المسكين!»
فقالت: «تبًا لهم من ظلمة أشرار! ذهب المسكين ضحية الإخلاص والوفاء والدفاع عن الحق، فقد سمعته يستمهلهم حتى تحضر، وهم يهمون بأخذ حسن.» وعادت إلى البكاء قائلة: «تُرى أين أنت الآن يا ولدي؟ وهل يقدر لنا أن نراك بعد الآن؟»
فلم يتمالك السيد عبد الرحمن عن البكاء معها، وأخذ يندب حظه وولده قائلًا: «آه يا حسن! كيف نتركك تذهب إلى الموت وليس لنا في الحياة سواك؟»
فقالت له زوجته: «ألا نشكو أمرنا ونتظلم عسى أن ترقَّ لنا قلوبهم أو يطلقوا سراح ولدنا بأية وسيلة؟»
فهز رأسه أسفًا وحزنًا وهو يتنهد، ثم قال: «ولمن نشتكي يا سالمة؟ هل نشتكي إلى المماليك وهم أنفسهم الذين ظلمونا … ليس أمامنا إلا الله وحده نشكو إليه بثنا وحزننا، وهو القادر على أن يكشف عنا هذا البلاء الذي غطى كل ما سبقه من ويلات ونكبات.»
فقالت سالمة: «أليس من وسيلة إلى مقابلة الباشا واستعطافه، لكي يوصي علي بك برد ولدنا إلينا لأنه لا يستطيع الحرب؟»
فقال: «إن الباشا نفسه يشكو مثلنا ظلم المماليك، عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا … لا. ليس لنا إلا أن نشكو إلى الله.»
ثم رفع يديه ورأسه إلى السماء وأخذ يتضرع إلى الله قائلًا: «يا رافع السموات وباسط الأرض، يا عالمًا بكل شيء، وقادرًا على كل شيء، نسألك بحق ذلنا وانكسارنا، أن تلطف بنا فيما جرت به المقادير، وتنتقم لنا من الظلمة الغاشمين بجاه خاتم الأنبياء والمرسلين.»
•••
لبث السيد عبد الرحمن وسالمة زوجته يبكيان ولدهما حسنًا، ويشاركهما في البكاء كل مَن في منزلهما من الخدم والجواري حتى مضى الليل كله في ذلك دون نوم ولا طعام.
على أن السيد عبد الرحمن ما كاد يسمع أذان الفجر، حتى نهض وتوضأ وأدى ما عليه لله من فرائض للصلاة. وكان قد فاتته صلاة المغرب والعشاء بسبب ما تراكم عليه من الأحداث والأحزان.
ولما فرغ من الصلاة والدعاء إلى الله أن يكتب السلامة لولده العزيز الوحيد، جالت بخاطره فكرة رأى في تحقيقها ما قد يحقق رجاءه. فنهض ومضى إلى زوجته في غرفتها حيث كانت تواصل البكاء وقد خارت قواها واحمرت عيناها، وقال لها: «قد رأيت أن أمضي إلى السيد المحروقي في داره لأخاطبه في أمرنا، وهو من السادة الأشراف المقربين إلى علي بك، وما أظن أنه يرفض التوسط لنا عنده ليأمر بإطلاق سراح ولدنا.»
فقالت: «حسنًا تفعل، وما أظن أن علي بك يرد مثل هذا الطلب لصديقه الشريف الكبير. فهيا عجِّل بتنفيذ هذه الفكرة، وعلى الله التوفيق.»
ثم رفعت يديها إلى السماء والدموع في عينيها ورفعت صوتها المتهدج قائلة: «يا رب، أنت أعلم بحالنا فارحمنا يا أرحم الراحمين.»
وبعد قليل، كان السيد عبد الرحمن قد استعد للخروج، فارتدى جبة وقباء (قفطانًا) ووضع على رأسه العمامة، واحتذى نعلًا جديدة بدل التي سلبه اللصوص إياها مع بقية ملابسه ودراهمه بالأمس. ثم همَّ بالنزول من دار الحريم في الطابق العلوي من المنزل، داعيًا الله بقلبه ولسانه أن يوفَّق في مهمته.
وفيما هو كذلك إذا به يسمع ضجة كبيرة أمام المنزل، ثم طرقات عنيفة على الباب، فتسارعت دقات قلبه ووقف شعر رأسه وجحظت عيناه دهشة ورعبًا، ثم خطر بباله أن الطارق ربما كان ولده أو رسوله أو بشيرًا بقدومه، فعاودته همته وشهامته، وخفَّ إلى نافذة قريبة فأطل منها على باب المنزل. وشد ما كانت خيبة آماله؛ إذ رأى جماعة من العساكر والإنكشاريين وبينهم رجال موثقون بالقيود والأغلال، فعاوده رعبه وفزعه وتخاذلت ساقاه فلم يعد يستطيع الوقوف فضلًا عن المشي، فارتمى على مقعد بجانب النافذة حيث اعتمد رأسه بيديه وغرق في لجة من الوساوس والهموم.
وكان مَن في المنزل قد رأوا ما رآه فأخذهم ما أخذه من الخوف وتوقُّع الشر واجتمعوا حوله خافقة قلوبهم معقودة ألسنتهم، حتى سالمة زوجته إذ تحوَّل صراخها إلى أنين خافت مكبوت.
ومضت لحظة رهيبة علت بعدها ضجة المزدحمين بباب المنزل، واشتدت الطرقات عليه، وصحب ذلك صوت معالجة فتح الباب بالعنف، فرفع السيد عبد الرحمن رأسه وأشار إلى بعض الخدم الملتفين حوله أن ينزلوا لفتح الباب وإدخال العساكر القادمين قاعة الاستقبال (المنظرة) في الطابق الأرضي لتقديم القهوة لهم وسؤالهم عما يريدون. ففعلوا ما أشار به.
وبعد قليل صعد إليه أحد أولئك الخدم وقد ازداد وجهه صفرة، وأنبأه بلسان متلعثم أن القادمين هم رجال الشرطة المنوط بهم حفظ الأمن والنظام بالمنطقة، وأنهم قبضوا على كثير من سكان الحارة وغيرهم للتحقيق معهم في أمر مصرع بواب الحارة، ويريدون أن يخرج معهم لسماع أقواله أمام الوالي (رئيس الشرطة) في القلعة.
ولا تسل عن فزع السيد عبد الرحمن بعد أن سمع هذا الكلام، على أنه خشي أن يكون في تأخره عن النزول إليهم والخروج معهم إلى القلعة ما لا تُحمد عقباه، فتحامل على نفسه وودَّع أهل منزله ثم تزوَّد بقدر كبير من الدراهم لعله يحتاج إليها في الطريق. وهبط من دار الحريم إلى المنظرة فحيا العساكر في أدب واحترام وقدَّم لهم نفسه، فسرعان ما أوثقوه ثم خرجوا به مع المقبوض عليهم الآخرين آخذين طريقهم إلى القلعة.
•••
وصل السيد عبد الرحمن إلى القلعة وقد أنهكه التعب والحزن وما قاساه من إهانات العساكر في الطريق. وهناك أوقفوه مع بقية المتهمين أمام رئيس الشرطة، فأخذ يهددهم بالقتل ويُسمِعهم أفحش السباب، وكلما تراموا على قدميه مؤكدين براءتهم مما اتُّهموا به، لج في طغيانه وأصم أذنيه عن سماع توسلاتهم.
وأخيرًا، أمر العساكر بأن يزجوا بهم في السجن ريثما ينظر في أمرهم، فهمَّ هؤلاء بتنفيذ الأمر، وهمس جاويش منهم قائلًا للمتهمين الموثقين: «إن جناب الوالي (رئيس الشرطة) لا يبالي تظلمكم، ولا تهمه دعواتكم له بطول العمر والسلامة، ولكن إذا دفع كل منكم نصف كيس مساهمة في دية القتيل، فقد يقبل إعادة النظر في أمركم ويعفو عنكم!»
فاستبشر السيد عبد الرحمن وقال في نفسه: «هذا طلب هين يسير.» ثم دفع للجاويش نصف كيس للوالي ونصف كيس له. واقتدى به مَن استطاع الدفع من المتهمين، فأخذ الجاويش ما دفعوه من المال وعاد إلى الوالي فتحدث معه هنيهة، ثم جاءهم يقول: «قد عفا جناب الوالي عنكم.» فصاحوا جميعًا شاكرين داعين.
وحسبَ المتهمون — وفي مقدمتهم السيد عبد الرحمن — أن المسألة انتهت عند هذا الحد. ولكن العساكر ما لبثوا أن ساقوهم في قيودهم وأغلالهم إلى مقر الأغا (محافظ المدينة) في القلعة بحجة إتمام التحقيق!
وكان هذا الأغا إنكشاريًّا طويل القامة هائل الحجم، على رأسه عمامة بيضاء هرمية الشكل، وعلى كتفيه العريضتين فرو سمور، وهو كث اللحية عريضها، تدل نظراته الشزراء على أنه فظ غليظ القلب. فلما دخلوا عليه أمر بجلدهم قبل أن يسمع أي شيء عن أمرهم. فأخذوا يتضرعون إليه ويستعطفونه مترامين على قدميه يحاولون تقبيلهما، فركلهم وقال لهم محتدًّا: «إما أن تذكروا مَن القاتل وإما كنتم القاتلين وحق عليكم أشد العقاب!»
وبعد اللتيا والتي، كتب الله لهم الخلاص من شر الأغا. بعد أن جمعوا من بينهم ما تيسر من المال ودفعوه له ولمعاونيه، فأمر بحل وثاقهم وإطلاق سراحهم، فخرجوا من عنده وهم لا يكادون يصدقون أنهم نجوا.
ولاح للسيد عبد الرحمن أن ينتهز فرصة وجوده في القلعة فيذهب لمقابلة الباشا في مقره هناك، ويقص عليه حكايته، فإن لم يجد فائدة منه ذهب إلى السيد المحروقي كما قرر من قبل. ثم تردد في تنفيذ هذه لفكرة؛ لأنه لا يعرف اللغة التركية، والباشا لا يتكلم إلا بها ولا يعرف العربية. لكنه تذكر أن الباشا لا بد أن يكون لديه مترجم خاص أو أكثر، فزايله تردده ومشى في طرقات القلعة حتى وصل إلى قصر الباشا فهاله عِظم بابه، وكثرة الحجاب الأتراك الواقفين به وعلى كل منهم سراويل قصيرة، وقد تقلد بندقية.
ودنا من أحد أولئك الحجاب واستأذنه في الدخول، فسأله الحاجب: «ما حاجتك؟» قال: «لي قضية مهمة أريد أن أعرضها على أفندينا الباشا.»
فقال الحاجب: «انتظر قليلًا حتى نعرض أمرك على جناب الكتخدا نائب الباشا.»
ثم دخل الحاجب وغاب دقائق عاد بعدها وقال له: «قد أذن جناب الكتخدا بدخولك عليه فتعالَ نفتشك أولًا لئلا يكون معك شيء من السلاح.» وبعد أن فتشه وتحقق أنه لا يحمل سلاحًا، قاده إلى الداخل حيث مضى به إلى غرفة الكتخدا، وأزاح له الستارة الموضوعة على بابها فدخل وقلبه يخفق هيبة، فوجد الكتخدا جالسًا في صدر القاعة بالملابس التركية، فحياه باحترام. وأشار إليه الكتخدا أن يجلس على مقعد بالقرب منه وكلَّم الحاجب بالتركية آمرًا إياه بدعوة الترجمان إليه. فجلس السيد عبد الرحمن مطرقًا ويداه على ركبتيه. وبعد هنيهة جاء الترجمان وسأله بالعربية عما يريد، فأخذ يقص عليه حكايته من أولها إلى آخرها، وهذا يترجمها فقرة فقرة للكتخدا، فيهز رأسه مبديًا دهشته وأسفه.
والتفت الكتخدا أخيرًا إلى السيد عبد الرحمن وفي نظراته ما يدل على الرثاء له والرأفة به، ثم قال له بوساطة الترجمان: «قد فهمت قضيتك وأدركت أنك على حق فيما شكوته من الظلم. وسأذهب بنفسي لرفع هذا الظلم عنك ورد ولدك إليك.»
فلم يتمالك السيد عبد الرحمن عن الوقوف ودموع الاستبشار بقرب الفرج تطفر من عينيه، ثم همَّ بتقبيل يد الكتخدا، فمنعه من ذلك، وأشار إليه أن يجلس كما كان. فعاد إلى مقعده ولسانه ما زال يلهج بالشكر والدعاء.
وأخذ الكتخدا يتبسط في الحديث بوساطة الترجمان مع السيد عبد الرحمن، إلى أن استطلع رأيه فيما يُقال من اعتزام علي بك الاستقلال بحكم مصر وإخراجها من يد الدولة العلية، فأجاب بقوله: «قد سمعت يا سيدي شيئًا عن ذلك. وأكبر الظن أن الغرض الأول لعلي بك من إرسال الحملة إلى الحجاز ليس مساعدة شريف مكة ضد منافسه فقط، بل غرضه إخراج تلك البلاد من يد دولة الخلافة أيضًا. ولهذا أكثر من الجنود في تلك الحملة حتى لم يبقَ أحد من الشبان المقيمين بمصر إلا ألحقه بها، لا فرق بين المصريين منهم والمغاربة والشوام والأتراك والأروام. وقد شاءت المقادير أن يكون ولدي الوحيد بين أولئك المجندين، مع أنه من المتخرجين في الأزهر ومدرسة السلطان حسن، ولم يكتفِ بما حصَّله من علوم الدين واللغة وغيرهما فالتحق بمدرسة البيمارستان المنصوري ليدرس الطب على يد أحد الأطباء المغاربة فيه.»
فقال الكتخدا: «إن هؤلاء المماليك قد أمعنوا في طغيانهم وتمردهم على مولانا السلطان، ولا شك في أن جلالته لا يُقِر هذه الأعمال، لما عُرف عنه من الميل إلى العدل والحلم والبر برعاياه. ولا بد من وضع حد لهذه المظالم. فطِب نفسًا وقر عينًا، وثق أن حاجتك مقضية، ولا يلبث ولدك أن يعود إليك سالمًا بإذن الله.»
فوقف السيد عبد الرحمن، وحاول مرة أخرى تقبيل يد الكتخدا ولكن هذا منعه أيضًا، ثم ودعه مطيبًا خاطره مكررًا وعده بالسعي العاجل بنفسه في سبيل رد ولده إليه. فخرج من عنده وقد أنساه ذلك كل ما عاناه من نصب وعذاب.
•••
ما كاد السيد عبد الرحمن يهم بالخروج من القلعة، حتى بصر بموكب قادم إلى قصر الباشا، يتقدمه شيخ ذو لحية طويلة راكبًا على حمار، وعلى رأسه عمامة غريبة الشكل. فسأل بعض الجنود عمن يكون هذا الشيخ، فقال له أحدهم: «ألا تعرفه؟ إنه أبو طبق، لعنه الله ولعن مَن أرسلوه!»
فتذكر ما كان يسمعه عن الأوضه باشي الذي تعوَّد المماليك أن يرسلوه إلى الباشا الذي يقررون عزله، لتبليغه هذا القرار. وكان العامة يسمونه أبا طبق، نظرًا إلى أن عمامته متخذة من لبادة سوداء تنتهي عند حافتها بدائرة واسعة مصنوعة من نسيج من الأسلاك الرفيعة، تجعلها أشبه بالقبعات الإفرنجية الواسعة الحوافي. ولم يكن يذهب لأداء مهمته هذه إلا راكبًا على حمار، ومن خلفه بعض أمراء المماليك.
فقلق السيد عبد الرحمن، وأوجس في نفسه خيفة من أن يكون الرجل قادمًا لإعلان الباشا بعزله، فتحبط مساعيه لإطلاق سراح ولده. وبقي واقفًا حتى مر عليه الموكب فاختلط به، وعاد معه إلى قصر الباشا ليرى ما يكون.
فلما وصل الأوضه باشي أو أبو طبق إلى باب القصر، ترجَّل عن حماره، وهمَّ بالدخول فتنحى كل مَن كانوا خلفه في الموكب، ولم يدخل معه إلا بعض أمراء المماليك. فدخل السيد عبد الرحمن في أثرهم، ولم يمنعه الحراس لأنهم رأوه في القصر منذ قليل.
ووقف الأوضه باشي أمام قاعة كبيرة أدرك السيد عبد الرحمن من ضخامة بابها وفخامة الستارة المرفوعة عليه أنها غرفة الباشا، فأصلح الأوضه باشي وضع عمامته الغريبة وجلبابه الفضفاض المزرر من الأمام، ثم دخل دون استئذان وخلفه أتباعه، فدخل معهم وأدار عينيه في القاعة فإذا الباشا قد جلس مطرقًا في صدرها على سجادة ثمينة وعلى رأسه عمامة فوق القاووق، وعلى جبته فرو سمور، وبيده مذبة من ليف النخل. فلما شعر بدخولهم رفع وجهه وبدت الدهشة في نظراته وبقي ساكنًا. بينما اقترب منه الأوضه باشي، ثم همَّ بيديه فقبلهما، ثم تأخر قليلًا وثنى طرف السجادة التي يجلس الباشا عليها، ورفع صوته وهو ينظر إليه قائلًا: «انزل يا باشا.»
ثم مد يده فأخرج من ثوبه كتابًا أخذ يقرؤه، فإذا هو قرار أصدره المماليك بعزل الباشا، وبأن يكون قصره بما فيه وكل حراسه تحت إمرتهم منذ ذلك الحين!
ولم ينبس الباشا ببنت شفة، ولكن وجهه بدا شديد الصفرة كوجوه الأموات، وكادت المذبة تسقط من يده؛ لما اعتراه على أثر سماعه نبأ عزله من الرعدة والارتجاف.
وانصرف الأوضه باشي على أثر ذلك مزهرًا بأداء مهمته، فركب حماره وانطلق بموكبه عائدًا من حيث أتى. ولم يتمالك السيد عبد الرحمن عن البكاء أسفًا على حبوط مساعيه بسبب ذلك العزل المفاجئ، ثم تجلَّد وغادر القلعة آخذًا طريقه إلى دار السيد المحروقي عسى القدر الذي كتب له الفشل هنا، يكتب له التوفيق هناك …