السيد المحروقي
وصل السيد عبد الرحمن إلى دار السيد المحروقي وهو يدعو الله أن يأتيه بالفرج على يديه، فوجد باب الدار مغلقًا، والسكون يخيم عليها على غير العادة. وكان يعهدها حافلة بالقصاد. فتشاءم، وبحث عن البواب فيما جاور الدار فلم يجد له أثرًا، فعاد إلى الباب وطرقه هائبًا، فسمع صوتًا من الداخل يسأل: «مَن الطارق؟» فتشجع ورد على صاحب الصوت وهو لا يراه ذاكرًا اسمه وأنه جاء لمقابلة السيد في شأن خاص.
وسكت مرهفًا أذنيه ليسمع الجواب، فلم يسمع شيئًا. ولما ملَّ الانتظار همَّ بإعادة طرق الباب، لكنه سمع وقع أقدام قادمة من الداخل، ثم فتح الباب وأطلَّ منه أحد الخدم داعيًا إياه إلى الدخول، فلما دخل أغلق الخادم الباب كما كان، ثم تقدمه إلى حجرة الجلوس، وكان بابها مفتوحًا على مصراعيه. فلمح السيد المحروقي جالسًا على وسادة في صدر الغرفة وفي يده كتاب يقرأ فيه، والدخان يتصاعد من غليونه، فأسرع السيد عبد الرحمن في مشيته حتى بلغ باب الغرفة فخلع نعليه وتركهما مع عصاه خارج الباب، ثم دخل محييًا في أدب واحترام وقبَّل يد السيد، فهمَّ هذا بالوقوف لاستقباله مرحبًا به، فأمسكه السيد عبد الرحمن ليحول دون ذلك وهو يقول: «أستغفر الله … أستغفر الله.»
وأشار إليه السيد المحروقي بالجلوس على وسادة بجانبه، وأمر له بالقهوة والغليون، مكررًا عبارات الترحيب به، وكان قد عرفه من قبل، وكثيرًا ما التقيا في الأزهر وغيره من المساجد الجامعة، ثم بدأ الحديث معتذرًا من إغلاق باب الدار قائلًا: «إن الأحوال الحاضرة اضطرتنا إلى إغلاق الباب، فالجنود كما تعلم يتأهبون للسفر إلى الحرب في الحجاز، ومن عادتهم أن يجوسوا خلال الديار للنهب والسلب والتحرش بالسابلة كلما هموا بالخروج للقتال. ولسوف يزدادون عتوًّا وفسادًا في هذه المرة؛ لأن الديوان قرَّر اليوم عزل الباشا، فمتى علموا بذلك أمعنوا في تمردهم واعتداءاتهم على السابلة والمتاجر والبيوت.»
فقال: «قد شهدت بعيني عزل الباشا منذ قليل، وقد جئتكم من القلعة عقب انصراف أبي طبق منها.» وروى له حكايته من أولها إلى آخرها إلى أن قال: «ولم يبقَ لي بعد الله ملجأ سواكم، وإني لأرجو أن ينفعنا الله ببركتكم فأنتم سلالة الشرف والمجد، وقاصدكم لا يخيب بعون الله.»
ولم يتمالك السيد عبد الرحمن عواطفه التي هاجها تذكُّر ولده الوحيد، وما هو فيه من خطر، فأخذت دموعه تجري على خديه ولم يعد يستطيع الكلام. فتأثر السيد المحروقي، ووضع كتاب الحديث الذي كان يطالع فيه جانبًا، ثم التفت إليه وقال: «صبرًا يا أخي، فالعقبى للصابرين، ولا تحسبن الله غافلًا عن ظلم هؤلاء القوم واستبدادهم، وكأني به — جل شأنه — قد سلطهم علينا لنثوب إليه ونعلم ألا ملجأ إلا إليه.»
ثم تنهد وهز رأسه أسفًا وواصل حديثه فقال: «ومن عجبٍ أنهم يدَّعون الإسلام، والإسلام بريء منهم ومن أعمالهم التي لم يأتِ مثلها الفراعنة والمجوس. وقد طالما نصحنا لهم ورجونا إصلاحهم فما ازدادوا إلا طغيانًا وفسادًا. وبلغ من قحتهم وكفرانهم بأنعم الله أن صرَّحوا بالخروج من طاعة مولانا السلطان، منتهزين لذلك فرصة اشتغاله بمحاربة روسيا. وقد رأيت اليوم كيف عزلوا الباشا، ليخلو لهم الجو، وليفسدوا في الأرض ما شاء لهم الظلم. وصحيح أن الباشوات الأتراك قصرت أيديهم في الزمن الأخير، وصارت الكلمة العليا في البلاد لهؤلاء المماليك، على أننا مع ذلك لم نكن نحرم من مساعدة على يد الباشا.»
فقال السيد عبد الرحمن: «هل ترى أنهم يستطيعون تحقيق مطامعهم وإخراج مصر من حوزة الخلافة؟ وهل لا يخشون قوة الدولة وشدة بطشها؟»
قال: «إنهم لجهلهم أحوال الدنيا يظنون أنها في متناول أيديهم، وأنهم سينالون مرامهم من أيسر سبيل. ومما جرأ علي بك على هذا فيما علمت أن كاتبه (المعلم رزق) زعم له أن علم التنجيم دلَّه على نجاح مساعيه في سبيل الاستقلال بمصر. ومنذ ذلك الحين وعلي بك لا يعمل عملًا إلا بمشورة ذلك الكاتب القبطي، ويسارع إلى قبول كل وساطة له في شأنهم.»
فهزَّ السيد عبد الرحمن رأسه أسفًا وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! أبعد أن كان خلفاء المسلمين وولاتهم لا يعتمدون في مشوراتهم إلا على العلماء والفقهاء يأتي علي بك في آخر الزمان فيقلب الأوضاع ويتخذ النصارى أولياء ومستشارين من دون المؤمنين؟!»
فقال السيد المحروقي: «وهناك شاب نصراني آخر من أهل البندقية. اسمه «روزتي» قرَّبه علي بك إليه وجعله من خاصة مستشاريه، ولاسيما بعد أن نجح روزتي هذا في عقد معاهدة بين أهل بلده وبين علي بك تقضي بأن يكونوا حلفاء وأنصارًا له يمدونه بالعساكر وغيرهم عند الحاجة.»
قال: «سمعت أن معاهدة التحالف التي عقدها علي بك كانت مع المسكوف.»
فقال: «هذه معاهدة أخرى، عُقدت بين علي بك وبين الكونت ألكسيس أورلوف أميرال الأسطول الروسي في البحر الأبيض المتوسط، وقد تمت بوساطة رجل أرمني من مستشاري علي بك اسمه يعقوب. وقد كان هذا وذاك مما أغرى علي بك بالمضي في خطة الخروج على الخلافة ومحاولة توسيع نطاق سلطانه والاستقلال بمصر. وها أنت ترى أنه بذلك قد خرَّب البلاد، وسلب أهلها أملاكهم وأرزاقهم.»
فعاد السيد عبد الرحمن إلى تذكر مصائبه وأفدحها أخذ ولده الوحيد إلى حرب لا غاية لها إلا مناوأة دولة الخلافة وتمكين السلطة للمماليك الظلمة المفسدين، فتنهد وكفكف دمعة انحدرت على خده وقال: «ألا يرى السيد أن هناك أملًا في إطلاق سراح ولدي المظلوم. إنه وحيد أبويه كما تعلم، ولم يجاوز العشرين بعد، ولا معرفة له بالحرب والقتال، فهو قد أمضى طول عمره حتى الآن في الدرس والتحصيل ونسخ الكتب القيمة النادرة من المكتبات. وأعتقد أنه إن مضى إلى الحرب فهو هالك لا محالة. كما أني وأمه لن ننتفع بحياتنا بعده؛ إذ هو كل آمالنا في الحياة.» قال ذلك وعاد إلى البكاء.
فأخذ السيد المحروقي يخفِّف عنه وقال له: «إن علي بك كما تعلم رجل غضوب، اشتهر بأنه أشد بطشًا من أسلافه جميعًا، وكنا نحسب في أول عهده أنه أقرب إلى العدل والرفق بالرعية، مما كان يصرح به حينذاك، لكنه ما لبث قليلًا حتى عاد إلى ما طُبع عليه هو وأسلافه من الجور والإرهاب وأكل أموال الناس بغير الحق، وقتلهم بالجملة دون أي ذنب اقترفوه. حتى صارت رؤيته وحدها كافية لإدخال الرعب والفزع إلى قلوبهم. ولعلك سمعت بالمساكين الذين ماتوا في مجلسه منذ حين، حين رأوه لأول مرة فأرعبتهم هيئته التي تظهره أقرب إلى الأسد منه إلى الإنسان!»
قال: «نعم سمعت بذلك، غير أني أعلم كما يعلم غيري أنه يجل منزلتك ويحترم كلمتك. وأرجو أن تزول شدتي بفضل وساطتك في قضيتي عنده إن شاء الله.»
فقال السيد المحروقي وهو يمشط لحيته بيده: «حقَّق الله رجاءك، وسأسارع إلى مقابلته الآن لأخاطبه في هذا الشأن، وعسى الله أن يرقِّق قلبه فيكرم شيبتي هذه ولا يردني خائبًا.»
•••
صفَّق السيد المحروقي بيده، فجاء أحد خدم الدار ووقف متأدبًا، فقال له: «سأخرج بعد ساعة في مهمة إلى القلعة، فأبلِغ السائس ليسرج البغلة.» فحنى الخادم رأسه سمعًا وطاعة وانصرف لتنفيذ ذلك الأمر.
وبينما السيد عبد الرحمن يهم بالنهوض مستأذنًا في الانصراف وهو يكرر الشكر للسيد المحروقي على كرم وفادته ومبادرته بإجابة ملتمسه، جاء إلى القاعة خادم آخر وقال: «إن سرَّاج علي بك (سائس جواده) بالباب.» فقال السيد: «دعه يدخل.» ثم التفت إلى السيد عبد الرحمن ونظر إليه كأنه يستبقيه حتى يعلم فيم أرسل علي بك يدعوه إليه. فبقي جالسًا حتى عاد الخادم ومعه السراج، ثم وقف هذا متأدبًا بباب القاعة وقال: «إن مولانا علي بك يدعو سيادتكم إلى منزله الليلة للمفاوضة في بعض الشئون.»
فسأله السيد المحروقي: «وأين هو الآن؟»
قال: «هو في القلعة لاستعراض الجنود المسافرين الليلة إلى الحجاز، وقد تركته جالسًا في قصر الباشا هناك بعد أن عزل هذا وتم الاستيلاء على القلعة وما فيها.»
فقال السيد المحروقي: «أبلغ تحياتي إلى البك، وسأكون في شرف مقابلته بعد ساعة إن شاء الله.»
فحنى السرَّاج رأسه إجلالًا، وتقهقر خطوات ثم خرج من الدار وركب جواده المنتظر بالباب ومضى عائدًا إلى القلعة.
وعلى أثر ذلك نادى السيد المحروقي خادمه الأول، وأمره بإحضار ملابس الخروج الرسمية. فأحضرها له بعد قليل. وهي مؤلفة من فروة سمور تُلف حول العنق ويُرسل طرفاها على الكتفين. وعمامة كبيرة ملفوفة حول قاووق طويل تبدو قمته ظاهرة في أعلاها.
وكان السائس قد أسرج البغلة ووقف بها عند الباب استعدادًا لخروج سيده عليها، فهمَّ السيد عبد الرحمن بيد السيد المحروقي وقبَّلها، وسار معه حتى ركب البغلة ومضت به في الطريق إلى القلعة. فعاد هو إلى منزله ليبشر مَن فيه بما أشرق في قلبه من الأمل في إنقاذ ولده الوحيد العزيز.
وفي طريقه إلى المنزل، سمع المنادين يصيحون في الشوارع والحارات قائلين: «ليكن معلومًا لديكم يا أهل مصر أن الجنود سيخرجون اليوم من القلعة بأمر مولانا علي بك ذاهبين إلى الجهاد، فادعوا الله أن ينصرهم ويعيدهم إلى البلاد سالمين غانمين.»
وكان الناس يسارعون إلى إغلاق دورهم ومتاجرهم، توقيًا لما تعودوه في مثل هذه الحال من قيام الجنود بالسلب والنهب والاعتداء على الآمنين والآمنات دون خوف ولا حياء.
فلما وصل إلى المنزل، كانت زوجته قد سمعت نداء المنادين. فأمرت الخدم بإحكام إغلاق الباب مخافة اعتداء الجنود، ثم استأنفت العويل والنحيب جزعًا على ولدها الذاهب معهم إلى الحرب.
وما كاد الخدم يسمعون طرقه الباب بشدة حتى أجفلوا، وساد الذعر كلَّ مَن في البيت حتى خفتت أصوات زوجته والجواري. فلم يجد بدًّا من رفع صوته مناديًا الخدم بأسمائهم ليعلموا أنه هو الطارق، فعرفوا صوته وسارعوا إلى فتح الباب وقد زايلهم الذعر والرعب، وبادرته زوجته سائلة عما تم في أمر مساعيه، فقص عليها ما كان من ركوب السيد المحروقي لمقابلة علي بك والتوسط لديه في شأن تسريح حسن من الجندية، وكتم عنها نبأ عزل الباشا. وما سمعه من السيد المحروقي عن شدة سطوة علي بك وغلظته حتى لا يقطع خيط أملها، وأخذ يهوِّن عليها، ويتظاهر بالاطمئنان إلى انفراج أزمتهما، حتى عاودها بعض الاطمئنان وسكتت عن الصراخ والعويل. لكن قلبها لم يطاوعها على الصبر، فقالت له: «إن قلبي غير مطمئن، فلم يبقَ على سفر الجنود إلا قليل، وأرى أن تمضي أنت لتلحق بالسيد المحروقي، وتبقى معه حتى يخاطب علي بك في أمر ولدنا، وإذا اقتضى الإفراج عنه التضحية بكل ممتلكاتنا وأموالنا فيجب أن نضحي بها دون أي تفكير.»
وهمَّ بأن يصارحها بخشيته اعتداء الجند عليه في الطريق؛ لأن علي بك موجود في القلعة بعد أن عزل الباشا وحل محله فيها. لكنه آثر أن يكتم عنها ذلك، ونهض متحاملًا على نفسه، وغادر الدار مسرعًا، بعد أن أوصى الخدم بأن يعودوا إلى إحكام إغلاق الباب، والتيقظ لكل طارئ حماية لهم ولمن فيه من أي عدوان.