الست نفيسة المملوكية
أخذ أعوان علي بك حسنًا من القلعة على مشهد من أمه وهم يضربونه ويسُبونه، وساروا به إلى مصر العتيقة لإغراقه في النيل هناك؛ تنفيذًا لأمر مولاهم، فلم تطق المسكينة صبرًا على رؤية وحيدها يُساق إلى ذلك المصير الرهيب، وأُغمي عليها بعد أن قطعت شعرها وشقَّت ثوبها وجرحت خديها وعينيها من شدة اللطم والعويل، فحملها بعض الجنود ومضوا بها إلى قصر علي بك عند بركة الأزبكية، حيث سلموها لقيِّمة القصر، وأبلغوها أمر علي بك بأن تُلحَق بالجواري الخادمات.
وكانت تلك البركة حينذاك تشغل مكان حديقة الأزبكية وما يحف بها من الأبنية الآن، فكان يحدها من الشرق حارة النصارى، ومن الغرب بساتين وغياض — هي التي صارت حي الإسماعيلية فيما بعد — ومن الجنوب منطقة المقس؛ حيث يقع الآن حي التوفيقية وما بعده، ومن الشمال منطقة العشماوي؛ حيث محافظة القاهرة، وهناك كان يقوم قصر علي بك الكبير.
وكانت المياه تأتي البركة من النيل عبر منطقة المقس السالفة الذكر، وتزداد في أيام الفيضان، مارة بقنطرة يُقال لها قنطرة الدكة ما زال مكانها معروفًا حتى الآن، فتنعكس على تلك المياه أضواء القصور المشيدة حول البركة لسكنى الأمراء والأعيان، وتكسبها جمال رونق وحسن منظر وبهاء، ولاسيما في ليالي الصيف والخريف؛ إذ يطيب السهر والسمر في تلك القصور وتزداد أنوارها، فتنعكس في الإبداع.
ولما أفاقت سالمة من إغمائها، ووجدت نفسها بين عشرات من جواري الخدمة بالقصر، تذكرت ما نزل بها من الفواجع والنكبات فعادت إلى البكاء، متضرعة إلى الله أن يعجِّل بموتها كي تلحق بوحيدها الذي أخذوه ليغرقوه في النيل. وعبثًا حاول الجواري تعزيتها وتوصيتها بالصبر في محنتها، فأمضت النهار دون أن تذوق شيئًا من الطعام والشراب ولم تنقطع عن الندب والعويل، غير مبالية ما يتهددها بسبب ذلك من التعذيب والإمعان في التشفي والانتقام.
وكان لعلي بك في ذلك القصر زوجة رائعة الجمال اسمها نفيسة، وقد اشتهرت بكمال العقل وحسن الرأي، والبر والرحمة بالفقراء والضعفاء (وهي التي تزوجها مراد بك فيما بعد وبقيت حية إلى ما بعد الحملة الفرنسية، وأشارت الصحف الإفرنجية بمكانتها ومبراتها، ولاسيما حمايتها لكثير من الإفرنج وإيواؤهم في دارها خلال الاضطرابات).
فلما سمعت بقصة سالمة، أرسلت تدعوها إلى مقابلتها في إحدى حجراتها الخاصة بالقصر، وأحسنت استقبالها، ثم أشارت إليها بالجلوس على وسادة بجانبها، وقالت لها: «علمت أنك ممتنعة عن الأكل مستغرقة في الحزن، وأنت فيما أرى سيدة عاقلة مؤمنة، فكيف تلقي بنفسك إلى الهلاك بالاستسلام للحزن واليأس؟»
فبقيت سالمة ساكتة مطرقة والدموع تنحدر من عينيها، وأدركت نفيسة أن المسكينة لا تقوى على التجلُّد. فازدادت حنوًّا عليها ودنت منها ومرت بيدها على رأسها مترفقة، وقالت لها: «اصبري يا أختاه، فالصبر مفتاح الفرج، والله لا يضيع أجر الصابرين.»
فتنهدت سالمة تنهدًا عميقًا، ومسحت دموعها، وقالت: «مَن لي بالصبر يا سيدتي وقد أخذوا ولدي الوحيد من بين يدي ليلقوا به في النيل، ومن قبل ذلك أخذوا أباه إلى الحرب، فهرب وهام على وجهه في الطرقات، ولا أدري أحي هو أم ميت؟ ولو أنه بقي على قيد الحياة فلن يتورعوا عن إلحاقه بولدنا دون رحمة ولا إشفاق!» قالت ذلك وعادت للبكاء.
فتأثرت الست نفيسة ولم تتمالك نفسها عن البكاء معها، ثم أخذت تعزيها وتحاول تخفيف مصائبها والترفيه عنها بما جُبلت عليه من رقة العاطفة وطيبة القلب وحب الخير.
ولم يسع سالمة رغم فداحة خطبها إلا أن تستأنس بلطف هذه السيدة ونبلها وسمو خلقها، وهمَّت بيديها لتقبِّلهما شاكرة، فلم تمكنها من ذلك وقالت لها: «هذا أقل ما يجب يا أختي، وإني أدعو الله أن يوفقني إلى ما يخفف كربك، فهو مفرج الكروب ورحمته وسعت كل شيء.»
فقالت سالمة: «جزاك الله خيرًا يا سيدتي، ولا أراك مكروهًا في عزيز لديك.» وعادت إلى إطراقها وقد أخذها العجب من أن تكون مثل هذه السيدة الفاضلة الكاملة الحنون قرينة لجبار عنيد غضوب مثل علي بك، ولكنها قالت في نفسها: «كل شيء نصيب، ولله في خلقه شئون.»
وكانت الست نفيسة في ذلك الوقت مرتدية ملابس البيت المؤلفة من ثوب حريري رقيق مشقوق من أعلى الصدر، وفوقه قباء من المخمل مشدود إلى خصرها بمَنطِقة من الحرير الدمشقي الثمين، وفوقه معطف فضفاض واسع الكمين يتدلى منهما طرفا كمي قميصها الشفاف، وقد تحلت بعقود وأساور من مختلف اللآلئ والجواهر، وتدلى من أذنيها قرطان هما جوهرتان كبيرتان. وهي مكتنزة الجسم ناصعة البياض مع حمرة خفيفة، واسعة العينين رقيقة الشفتين مستقيمة الأنف وضَّاحة الجبين، ذهبية الشعر قد ضفرته ضفيرتين أرسلت إحداهما على صدرها والأخرى على ظهرها، وغطت أعلاه بإكليل مرصع، فبدت غاية في الجمال والجلال.
ولاح لسالمة بصيص من الأمل في إنقاذ ابنها من الموتة الشنيعة التي حكم عليه بها علي بك، فهمَّت بأن تترامى على قدمي الست نفيسة وتتضرع إليها أن تتوسط لتحقق لها هذا الأمل، ولكنها رأتها تنهض من مجلسها وتصفِّق منادية جاريتها الخاصة (منورة)، فنهضت سالمة ووقفت بين يديها ساكنة حتى جاءت الجارية، وتلقت من سيدتها كلمات أسرَّت بها إليها، ثم انصرفت حانية رأسها سمعًا وطاعة.
•••
كانت السيدة نفيسة قد علمت بما أمر به زوجها علي بك من إلحاق سالمة بخدمة القصر وإلقاء ولدها في النيل، فاستنكرت الأمر فيما بينها وبين نفسها. ثم ازداد تأثرها حين علمت بامتناعها عن الطعام والشراب وانقطاعها للبكاء والعويل، فلما قابلتها بعد ذلك ورأت بنفسها ما هي عليه من سقم واكتئاب وزهد في الحياة، حدثتها نفسها بأن ترسل من عندها رسولًا إلى الجند الذين كلفوا إغراق ابنها، آمرة إياهم بالعدول عن ذلك، ولكنها رأت الانتظار حتى يعود علي بك إلى القصر وتتوسط لديه في الأمر، مخافة أن يغضب لإقدامها على ذلك دون إذنه، وقد يؤدي به الغضب إلى الانتقام منها بذبحها أو إلقائها في النيل، أو طردها من القصر مطلقة مهانة على أهون تقدير.
ولم يكن لديها شك في أنه يحبها ويؤثرها على كل نسائه وجواريه، ولكنها كانت — مع ذلك — لا تأمن حدة غضبه، وتعلم أنه سريع الانتقام لا يطيق أن يخالف أحد أي أمر يصدره. هذا إلى علمها بأن المماليك جميعًا لا يرعون حرمة النساء ولا شيء عندهم أسهل من الطلاق.
على أنها خشيت كذلك أن تتأخر عودته إلى القصر فتضيع فرصة إنقاذ الفتى البريء المظلوم، وتذهب نفس أمه المسكينة حسرات عليه، فنادت خادمتها الخاصة الأمينة (منورة)، وأسرَّت إليها أن تسارع إلى إرسال مَن يلحق بالجنود ويبلغهم رغبتها في العفو عن الفتى وإطلاق سراحه ومعاونته على الفرار من مصر إلى سوريا أو غيرها من البلاد المجاورة في الحال.
وفيما هي تتحدث مع سالمة عقب انصراف منورة وتكرر النصح لها بالصبر وألا تيأس من الفرج بعد الشدة، وصل إلى سمعها وقع أقدام تقترب من الغرفة، فأجفلت الست نفيسة وامتقع لون وجهها، وطالعت سالمة في نظراتها وحركاتها معاني القلق والاضطراب والخوف، فأدركت أن القادم علي بك، وأن زوجته الرحيمة الطيبة القلب تخشى غضبه لسماحها لها بدخول غرفتها، فهمَّت بالخروج تفاديًا لشره، لكنها ما كادت تصل إلى باب الغرفة حتى دخل منه علي بك، فلم تتمالك قواها لهول المفاجأة وسقطت على الأرض مغمى عليها.
وعرفها علي بك حين وقعت عينه عليها، فحمي غضبه والتفت إلى زوجته التي خفَّت إلى ملاقاته محاولة ملاطفته، وقال: «ما هذا يا نفيسة؟ ما الذي جاء بهذه الخائنة إلى هنا وقد أمرت بأن تُسند إليها أحقر أنواع الخدمة؟»
فتكلفت الابتسام، وتجلَّدت لتخفي اضطرابها، وقالت له: «إنها يا مولاي لم تأتِ إلا بطلب مني؛ إذ سمعت بأنها كادت تقتل نفسها حزنًا على ما آل إليه أمرها، وامتنعت عن تناول الطعام، فدعوتها لأخاطبها في ذلك.»
فنظر إليها شزرًا، وقال محتدًّا: «كادت تقتل نفسها؟ ما شاء الله! لعلها اشتاقت إلى ولدها المدلل الجبان حسنًا. سأرسلها إليه الآن!»
ثم أشار إلى بعض الجواري أن يُخرِجن سالمة من الغرفة ويسلمنها إلى بعض حرس القصر ليُلقوا بها في النيل، فسارعن إلى تنفيذ الأمر.
•••
أفاقت سالمة من إغمائها، فوجدت نفسها محمولة على أيدي بعض جواري القصر الحبشيات والتركيات، وما علمت بما أمر به علي بك حتى صاحت قائلة: «مرحبًا بالموت ما أعذبه وأحلاه! ولاسيما أنه سيقربني من ولدي وفلذة كبدي العزيز.»
وتذكرت ما لقيته من لطف الست نفيسة وحنانها ولطف مواساتها، فخشيت أن تكون قد نالها سوء بسببها، وسألت الجواري في ذلك، فلما اطمأنت إلى نجاة السيدة الفاضلة من شر غضب زوجها، تنهدت تنهد الارتياح، وقالت للجواري وهن ينظرن إليها راثيات لحالها باكيات: «أشكركن يا أخواتي العزيزات على عواطفكن الرقيقة النبيلة، وكل ما أرجوه الآن أن تسرعن بي إلى النيل حيث ينتظرني ولدي العزيز، وأن تبلغن سيدتكن الكريمة أني لن أنسى فضلها ونبلها حتى ألقى الله، فأضرع إليه أن يجزل مكافأتها ويكتب لها السعادة في الدارين.»
وكان لكلامها أكبر الأثر في نفوس الجواري، فلم يستطعن إمساك دموعهن رثاء لحالها وإعجابًا بوفائها الدال على طيب عنصرها، فعرجن بها إلى إحدى الغرف المخصصة لهن في القصر، وجئن إليها ببعض الطعام راجيات منها أن تتناوله، فاعتذرت من عدم استطاعتها إجابة طلبهن، وكررت لهن الشكر.
وأخيرًا مضت إحداهن إلى قيِّم القصر، فأبلغته أمر علي بك بإلقاء سالمة في النيل، وروت له قصتها باختصار. فلما رأت التأثر باديًا في وجهه، انتهزت هذه الفرصة، وتضرعت إليه أن يعمل على إنقاذ تلك المسكينة المظلومة، ولاسيما أن الست نفيسة تعطف عليها وترثي لما أصابها في ولدها وزوجها ومالها، ولا شك في أنها تُسَر بإنقاذها من ذلك المصير. فوعدها ببذل جهده في هذا السبيل، ثم نادى بعض الحرس ممن يثق بهم، واتفق معهم على التظاهر بأخذ سالمة من القصر لإلقائها في النيل خارج القاهرة، ثم إطلاق سراحها هناك والنصح لها بالفرار إلى الريف أو الاختفاء في أي مكان منعزل، وألا يُشعِروا بذلك أي إنسان.
فقالوا: «سمعًا وطاعة.» ثم خرجوا بها من القصر، وهي لا تكاد تقوى على السير لفرط ضعفها وحزنها، ولا تعلم شيئًا مما اتفق عليه قيِّم القصر مع أولئك الجنود.
ولما بلغوا مصر العتيقة، كان الليل قد سدل نقابه، ولكن سالمة أدركت أنهم يسيرون بحذاء النيل هناك، من انعكاس ضوء النجوم على صفحة الماء، فتذكرت ابنها ولم تملك عواطفها فانفجرت باكية، وكانت قد بقيت صامتة مطرقة طول الطريق، فحسب الجنود أنها تبكي خوفًا من إغراقها تنفيذًا لأمر علي بك، وهمس كبيرهم في أذنها قائلًا: «لا تبكي يا سيدتي ولا تخافي، فإننا لن نمسك بأي سوء، وسنطلق سراحك عما قليل لتمضي إلى أي مكان شئت وتختفي فيه.»
فصاحت سالمة قائلة: «تطلقون سراحي؟ مَن قال لكم هذا؟ كلا يا سيدي، لست راغبة في الحياة، فهيا عجِّلوا بموتي ولكم الشكر!»
فبُغت الجنود، وعجبوا لإيثارها الموت ورغبتها في التعجيل به بدلًا من أن تطير فرحًا بالنجاة، وعاد كبيرهم فقال لها: «لعلك لا تصدقين أننا سنطلق سراحك ولا نغرقك في النيل؟»
فقالت: «سواء عندي أكنتم صادقين أم ساخرين، وليس أحب إليَّ من أن أغرق الآن لألحق بولدي الذي أغرقتموه هنا قبلي ولم ترحموا شبابه، ولا اتقيتم الله في قتله ظلمًا وعدوانًا بلا أي ذنب جناه!»
فأدرك الجنود أنها أم الفتى الذي سمعوا بأن علي بك أمر بإغراقه في الصباح، وازدادوا رأفة بها ورثاء لمصابها، ثم أخذوا في تعزيتها متنصلين من تبعة إغراق ابنها، وأكدوا لها أنهم سيطلقون سراحها ويعاونونها على الاختفاء تنفيذًا لرغبة الست نفيسة، فلما سمعت ذلك صدقتهم وازدادت تقديرًا لفضل السيدة البارة الكريمة الرحيمة، لكنها قالت لهم: «جزاها الله وجزاكم أحسن الجزاء، غير أني لا أريد الحياة بعد قتل ولدي وفقد أبيه، فأرجو منكم أن تقتلوني أيضًا وتريحوني من العذاب الذي أنا فيه!»
•••
ما زال الجنود سائرين بسالمة وهم يحاولون تعزيتها وإقناعها بالتزام الصبر والرضوخ لمشيئة القدر، حتى وقفوا بها أمام بناء هناك في مصر العتيقة، ثم مضى كبيرهم إلى باب صغير مصفَّح بالحديد، يُوصَل إليه من ممر منحدر، فطرقه طرقًا عنيفًا متواليًا، أعقبه صوت ضعيف مرجف منبعث من الداخل يسأل: «مَن الطارق؟» ما كادوا يجيبونه بأنهم من الجنود حتى سارع إلى فتح الباب وفي يده مصباح زيتي خافت الضوء، فدخلوا وسالمة وراءهم، وهي تعجب من أمر ذلك المكان، وبابه الحديدي الضيق ذي المفتاح الخشبي الغليظ، وما زالوا سائرين في زقاق ضيق على جانبيه أزقة أخرى مثله، والبواب الشيخ العجوز يتقدمهم بمصباحه، حتى بلغوا بابًا صغيرًا آخر طرقوه ففُتح لهم ودخلوا وهي معهم، ثم سمعت كبير الجنود يسأل البواب الجديد: «أين الرئيس؟ إننا نريد مقابلته في أمر خاص.» فمضى البواب وغاب قليلًا ثم عاد ومعه رجل في مثل لباسه وسنه. وبعد أن تبادل الرجل مع كبير الجنود بضع كلمات لم تتبينها، ولكنها أدركت من إشارتهما إليها أنها خاصة بها، عاد الرجل من حيث أتى، ثم أقبل بعد حين ومعه سيدة استقبلتها مرحبة، ثم قادتها إلى حجرة صغيرة خالية إلا من فِراش بسيط ومصباح زيتي صغير، وأشارت إليها أن تستريح فيها حتى الصباح. وبعد أن جاءتها ببعض الطعام وإناء به ماء، تركتها راجية لها نومًا طيبًا هانئًا، وأغلقت باب الحجرة وانصرفت. فبقيت سالمة ساعة تتقاذفها الهواجس والأفكار، ولم تجد في نفسها قابلية لتناول الطعام رغم أنها لم تذق شيئًا منذ وقت طويل، فاكتفت بجرعة من الماء، وتمددت بثيابها على الفراش الموضوع في الحجرة، فما لبثت قليلًا حتى أخذها النعاس، ولم تستيقظ لفرط ما قاسته من الجهد والحزن وعديد المفاجآت إلا قرب ظهر اليوم التالي.
ولم تكن هذه الحجرة إلا إحدى حجرات دير كنيسة مار جرجس، ورهبانه جميعًا من اليونانيين. ولليونان يومئذٍ امتيازات كثيرة في مصر لكثرة جاليتهم فيها، ولحاجة المماليك إليهم في الطب وتجارة الرقيق وغيره، وصُنعِ السفن وقيادتها. ولم يكن بالدير راهبات سوى راهبة جاءت من اليونان لتمضية بضعة أشهر في مصر، هي التي استقبلت سالمة ومضت بها إلى تلك الحجرة.
وبجانب هذا الدير تقوم أديار أخرى كثيرة للأقباط والأروام، ومن بينها دير أبي سرجة، ودير المعلقة، ويحيط بها جميعًا سور أشبه بأسوار الحصون؛ إذ كان ذلك البناء كله حصنًا فيما مضى، وفيه حاصر العرب أقباط مصر حين جاءوا لفتحها بقيادة عمرو بن العاص.
أما الجنود الذين جاءوا بسالمة، فانصرفوا عائدين أدراجهم بعد أن أوصوا بها رئيس الدير خيرًا، وطلبوا إليه أن يبقيها في مأمن عنده؛ لأن حياتها مهددة بالخطر، فلم يسعه إلا القبول.
ولما وصلوا إلى الباب الخارجي وجدوه مفتوحًا، والبواب ليس في مكانه هناك. فعلموا أنه فرَّ خوفًا منهم كما فعل أكثر الرهبان الذين صادفوهم داخل البناء، وأوجسوا خيفة من أن يكون أحد هؤلاء قد ظن أنهم آتون للنهب والسلب، كما كان يحدث في ذلك الحين، فذهب ليشكوهم إلى المعلم إبراهيم الجوهري أو المعلم رزق، وهما يومئذٍ ملجأ القاصدين وذوي الحاجات من أقباط مصر، لتوليهما الكتابة عند علي بك، وحصولهما بسبب ذلك على كثير من سعة النفوذ والسلطان، فضلًا عن الثراء الوفير.
وكان أن تسلل الجنود خارجين من الباب، ثم أغلقوه وراءهم وعادوا إلى القصر دون أن يشعر أحد من أهله بشيء مما قاموا به.