رسول من عكا
تركنا حسنًا وقد أخذه بعض الجنود المماليك من حرس علي بك، على مشهد من أمه في القلعة، ليمضوا به إلى النيل ويغرقوه فيه، تنفيذًا لأمر مولاهم.
فلما وصلوا به إلى مصر العتيقة، استولوا على قارب وجدوه راسيًا على الشاطئ هناك قرب الميناء، وأنزلوه فيه وهو يبكي ويتوسل إليهم دون جدوى، ومعه كيس كبير من الخيش وحجر ثقيل أرغموه على حمله في الطريق، لكي يضعوه معه في الكيس حتى لا يطفو بعد قذفه في الماء.
وفيما هم يهمون بحل القارب، لاحت منهم التفاتة إلى إحدى السفن الراسية في الميناء، فوجدوا العمال يُنزِلون منها براميل أدركوا من هيئتها أنها ملأى بالنبيذ أو الزبيب، وزيَّف لهم الشيطان أن يستولوا على شيء مما فيها ليحتسوه في القارب احتفالًا بتنفيذ أمر علي بك. ومضى أحدهم لإنجاز هذه المهمة، فلما عاد بعد قليل إلى القارب وجد فيه مع زملائه مملوكًا من الحرس الخاص بقصر علي بك، فظن أنهم رأوه اتفاقًا هناك، فدعوه إلى مشاركتهم النزهة والشراب. ثم ركبوا جميعًا في القارب وانطلقوا به في عرض النيل، وما زالوا في شرب ولهو، وحسن قابع في ركن من القارب وقد مل انتظار الموت، وتمنى أن يعجلوا بقذفه في النيل. إلى أن سمع كبيرهم ينهض فجأة ويصدر أمره بالاتجاه نحو الشاطئ الشرقي، فلم يخالجه شك في أن لحظة إغراقه قد حانت، ونطق بالشهادتين، ثم تجلَّد وتطلع إليهم؛ ليريهم أنه لا يهاب لقاء الموت ويؤثره على الحياة في عهد حكمهم الفاسد الظلوم. وشد ما كانت دهشته إذ رآهم منصرفين عنه إلى ما هم فيه من سكر وضحك وغناء، ثم ازدادت دهشته حين وصل القارب إلى الشاطئ فأنزلوه أمامهم منه، ثم ابتسم كبيرهم وقال: «لقد كُتب لك عمر جديد، وهذا هو جبل المقطم أمامك، فعليك أن تدور حوله حتى تبلغ الطريق المؤدي إلى سوريا فامضِ فيه قدمًا دون أن تلوي على شيء، وإياك أن يشعر بفرارك أحد!»
ولم يصدِّق حسن سمعه، بل لم يصدِّق عينيه حين سارع كبير الجنود على أثر ذلك بفك قيوده وأغلاله وإعطائه صرة من المال يستعين بها في رحلته، وبقي واقفًا في ذهول حتى دفعه الرجل بقوة في الطريق الجبلي الممتد أمامه، فاندفع يعدو فيه وصوت الرجل يلاحقه وهو يحثه على زيادة العدو، حتى انقطع الصوت بعد قليل، فخفف من عدوه والتفت فلم يجد أحدًا غيره في تلك المنطقة الجبلية المقفرة، وقد زاد في وحشتها ما سادها من ظلام المساء، وما اعتمل في صدره من شتى الهواجس والانفعالات.
على أنه لم يجد بدًّا من مواصلة السير، وما زال يعدو تارة ويمشي الهوينى تارة حتى نال منه الجهد والإعياء، وسمع نباح الكلاب من بعيد، فخشي أن يتقدم نحوها فيكون هناك خطر عليه، وآثر المكث حيث هو حتى الصباح، فارتمى على الأرض، وحاول النوم فلم يستطعه لفرط خوفه وقلقه، وبقي كذلك حتى لاح ضوء الفجر فنهض واستأنف سيره حتى مر عند الظهر بمضارب لبعض الأعراب، فعرَّج عليها وحصل على حاجته من الماء والطعام، كما حصل على ثياب عربية استبدل بها ثيابه للتنكر، ثم مضى في طريقه حتى وجد أعرابيين يقودان جملين، وعلم منهما أنهما في طريقهما إلى الصالحية ليصحبا من هناك قافلة ذاهبة إلى سوريا، فانضم إليهما وهو يحمد الله على هذا التوفيق؛ لأنه كان يخشى السير منفردًا، فضلًا عن أنه لا يعرف الطريق.
وفي الصالحية، اشترى لنفسه جملًا وما يحتاج إليه من الزاد خلال الرحلة، ثم انضم إلى القافلة، وقد اطمأن إلى النجاة. ولكن القافلة ما كادت تخرج من البلدة حتى دهمها جماعة من فرسان المماليك، فاستولوا على ما فيها من الجمال والأحمال بحجة أن علي بك يحتاج إليهما فيما هو قائم به من الجهاد. وعبثًا حاول التجار أن يثنوا العساكر عن هذا الأمر؛ إذ هددهم هؤلاء بالقتل، واضطروهم إلى العودة إلى الصالحية؛ تمهيدًا لإرسالهم إلى القاهرة.
•••
كان همُّ حسن بعد أن رأى ما حل بالقافلة أن ينجو بنفسه؛ حتى لا يعود إلى القاهرة فينكشف أمره هناك، فانتهز فرصة اشتغال الفرسان المماليك بإحصاء السلع التي كان التجار في القافلة ذاهبين بها إلى الشام، وترك جمله بما عليه واختبأ وراء أكمة هناك حتى انتهى الفرسان من إحصاء تلك السلع، وساقوا القافلة عائدين بها إلى الصالحية. فلما ابتعدوا نهض من مخبئه ومشى في طريق الشام الذي كانت القافلة سائرة فيه.
وما زال يجد في سيره وليس معه سلاح ولا طعام ولا ماء حتى ولَّى النهار وبدأ الظلام ينشر جناحيه على الصحراء الممتدة أمامه، وكانت قواه قد خارت من فرط ما عاناه من الخوف والاضطراب مع العطش والجوع، فجلس على أكمة من الرمل ونظر إلى ما حوله فلم يجد سوى الرمال ينطبق عليها الأفق من جميع الجهات، فازداد قلقه وندم على مسيره وحده، وتذكَّر ما اضطره إلى ركوب هذا المركب الوعر، وما لحق بأسرته من الظلم والإهانة والتشريد والتعذيب، فأخذ يندب حظه مجهشًا في البكاء.
ولما اشتد الظلام، ازداد شعوره بالخطر المحدق به، حتى نسي عطشه وجوعه، وخُيل إليه أن ما حوله من السهول التي سادها الظلام والسكون قد امتلأت بوحوش كاسرة قادمة لافتراسه، فاقشعر بدنه وأخذته الرعدة وتسارعت دقات قلبه، وحاول النهوض فلم تقوَ ساقاه على حمله، فتمدد في مكانه، وأخذ يتلو ما تيسر من آيات القرآن ويبتهل إلى الله أن يقيه السوء، ويبعد عنه الهواجس.
وفيما هو كذلك، وصل إلى أذنه الملتصقة بالأرض صدى وقع أقدام مسرعة، فهبَّ من مرقده مذعورًا، وتلفت إلى مصدر الصوت ممعنًا النظر على ضوء النجوم، فلاح له شبح قادم من بعيد، وما لبث الشبح أن اقترب منه فإذا هو هجين مسرع فوقه راكب لم يتبين هيئته، ثم لاح له بضعة أشباح أخرى مماثلة كأنها تطارد ذلك الهجان.
وما هي إلا لحظة حتى كان الجميع عند سفح الأكمة التي يجلس فوقها حسن، وتبين أن هؤلاء المطاردين يرتدون ملابس الأعراب، فأدرك أنهم من اللصوص قاطعي الطريق، ثم تحقق هذا؛ إذ سمع أحدهم يصيح بهم قائلًا بعد أن لحقوا بالهجان الأول: «هيا لقد وقع الكلب فاقتلوه واستولوا على ما معه!» فانبطح على الأرض وعيناه تحملقان في اتجاه المعركة ليرى ما تنتهي إليه، وقلبه يخفق خوفًا من أن يشعر بوجوده أحد اللصوص.
ولم يطل انتظاره؛ فإن الهجان الأول ما لبث أن سقط عن ظهر هجينه، فهمَّ به مطاردوه واستولوا على سلاحه وملابسه ما عدا القميص والسروال، ثم تركوه ممددًا على الأرض وساقوا هجينه أمامهم بما عليه من أمتعة وغيرها، وعادوا من حيث أتوا، وحسن يتابعهم بنظراته حتى ابتعدوا وابتلعهم الظلام. وهنا نهض من مخبئه وهو يحمد الله على نجاته، وهمَّ بالابتعاد عن هذا المكان الذي قتل اللصوص فريستهم فيه، لكنه سمع أنينًا صادرًا من جهته، فعلم أنه ما زال فيه رمق من الحياة، وتحركت في نفسه عاطفة الشفقة ولاسيما بعد أن تصور أنه كان معرضًا لمثل ذلك المصير، فزايله خوفه وسارع إلى المصاب المحتضر، لعله أن يخفف عنه آلام الاحتضار، أو يعلم مَن هم أهله فيعمل على إبلاغهم وصيته إن أراد أن يوصي إليهم بشيء.
ولما وصل إيه، وجده قد كف عن الأنين فظن أنه مات، ولم يتمالك عواطفه فبكى تأثرًا بمصرع الرجل بعيدًا عن أهله في ذلك القفر الموحش، ومال على جثمانه يفحصه ليتحقق موته قبل أن يواريه التراب كما قرر بينه وبين نفسه. وشد ما كان اغتباطه؛ إذ وجد أن الرجل ما زال حيًّا، لكنه مصاب بجرح في رأسه يسيل منه الدم، فسارع إلى إخراج منديله وأخذ يمسح ذلك الدم، ثم عصب له رأسه، وأخذ يحرك جسمه ويربت وجهه حتى أفاق من غشيته وتحرك وعاد إلى الأنين، فاستمر في تنبيهه ومواساته سائلًا إياه عن موضع ألمه. وما زال كذلك حتى استطاع الرجل أن يتكلم وعلم منه أنه يشكو من الألم في ساقه، فقال له: «لا بأس عليك يا أخي، ولسوف تُشفى عاجلًا بإذن الله.»
ثم حل حسن عمامته، وبحث عن خشبة ليجبر له ساقه بها، فوجد في مكان المعركة عصا مكسورة، وسرعان ما أخذ منها ثلاث قطع جعلها حول ساقه المكسورة متوازية، ولف العمامة عليها لفًّا محكمًا، وكان قد تعلم صنعة التجبير في البيمارستان المنصوري، ثم أمسك بيد المصاب وأجلسه برفق مسندًا رأسه إلى صدره، وراح يشجعه ويطمئنه على نفسه، والرجل يعجب لصنيعه ويتمتم بشكره وهو ما زال بين الغيبوبة والصحو.
وأشرقت شمس اليوم التالي، وحسن مستمر في إسعاف الرجل والترفيه عنه بالعبارات الرقيقة، وقد استأنس به وإن يكن جريحًا، واعتزم ألا يفارقه حتى يطمئن إلى نجاته.
وبعد قليل استطاع الرجل أن يسترد بعض قواه، ونظر إلى حسن في ضوء النهار وإلى الجبيرة التي صنعها له، فاطمأن إليه وذهب عنه الروع، وهمس وعيناه تدمعان تأثرًا بما رأى من مروءته وأريحيته قائلًا له: «جزاك الله عني خيرًا يا سيدي، إني مدين لك بحياتي.»
فقال له حسن: «إنني ما قمت لك إلا بأقل ما يجب علي، وأنت الآن في حاجة إلى الراحة، وثق بأنني لن أتركك حتى تبلغ مأمنك إن شاء الله.»
ثم نهض حسن وبحث فيما حولهما من السهل حتى وجد موضعًا مستويًا عند سفح أكمة قريبة، فحمل صاحبه إلى هناك وفرش له عباءته وأرقده عليها، وأشار عليه بأن يستريح قليلًا ريثما يجد وسيلة ينقله بها إلى الصالحية، فقال الرجل: «لن أنسى فضلك ما حييت، وإن اسمي عماد الدين، وقد جئت من عكا حاملًا رسالة من حاكمها الشيخ ضاهر الزيداني إلى علي بك حاكم الديار المصرية، والحمد لله على أن هذه الرسالة بقيت معي ولم يستولِ عليها اللصوص الذين سلبوني مطيتي وسلاحي وأمتعتي وما كان معي من مال، فهل لي أن أتشرف بمعرفة اسم سيدي، وكيف ساقك الله لإنقاذي من الموت في هذا القفر بالليل؟»
فقال: «إني من أهل مصر واسمي حسن، وكنت عازمًا على السفر إلى عكا في مهمة خاصة، فخرج عليَّ لصوص آخرون كثيرون واستولوا على راحلتي وأمتعتي، ولم أنجُ بحياتي من بين أيديهم إلا بمعجزة، وكأنما نجاني الله لكي أشهد ما وقع لك هنا، وأسارع إلى إسعافك بالعلاج عقب انصراف المعتدين الآثمين، فنحن إذن شريكان في الغربة والبأساء، ولكن لا بأس عليك إن شاء الله.»
فعجب عماد الدين من أمر هذا الاتفاق الغريب، وقال له: «هذه إرادة الله، وإنه ليسعدني أن ألقاك في عكا لعلي أستطيع أن أرد لك هناك بعض جميلك، وأكون أكثر سعادة إذا لم يكن لديك ما يمنع ذهابنا إليها معًا، بعد أن نمضي إلى القاهرة وأؤدي الرسالة إلى علي بك.»
فسكت حسن ولم يدرِ بم يجيب؛ إذ تذكر ما أصابه وأسرته على يد علي بك، فهاجت أحزانه ولم يستطع إخفاء الدموع التي تسابقت تجري على خديه.
ولم يخفَ ما به على عماد الدين، فاشتد عجبه وسأله: «أهذه أول مرة قصدت فيها إلى عكا أم لك معرفة بها من قبل؟»
وكان حسن في هذه اللحظة يفكر في أبيه، وفيما وعده وأمه به من أنه سينتظرهما في عكا، فتلاحقت دموعه على غير إرادة منه، ثم تجلَّد ولاح له أن عماد الدين قد يكون لديه نبأ عن أبيه، فقال له: «الواقع أنني كنت قاصدًا عكا لأول مرة، وقد سبقني إليها أبي، وتواعدنا على أن ألحق به.»
قال: «وكيف تذهب وحدك في طريق لا تعرفه؟»
فسكت حسن حائرًا، وخاف أن يكشف حقيقة أمره فيقع في مصيبة أخرى، وزاد هذا في شوق عماد الدين إلى استطلاع الأمر، فقال له: «إنني صرت لك أخًا بل خادمًا منذ أنقذت حياتي، ولا شك أن ما يهمني يهمك، ولعلي أوفق إلى القيام لك بخدمة.»
ولم يجد حسن بدًّا من النزول على رغبة الجريح الصديق، فتنهد وقال له: «إن حكايتي يبكي لها الصخر الأصم!» ثم رواها له من أولها إلى آخرها.
فتأثر عماد الدين كل التأثر وقال له: «حقًّا، إن حكايتك تدعو إلى الأسى والأسف، ولكن لا حيلة فيما وقع، اللهم إلا الصبر. فاصبر وكن على يقين من أن الله سيثيبك على صبرك، ولك عليَّ عهد الله وميثاقه لأكونن في خدمتك ما حييت.»
فشكره حسن، وتفقد جروحه فوجد ألا خطر منها، كما علم منه أنه ارتاح قليلًا من الآلام التي كان يشعر بها في ساقه، فحمد الله على ذلك، وبشَّره بعاجل الشفاء. وما زال يسامره بالأحاديث والأماني حتى لاح لهما جمل قادم من بعيد، وفوقه راكب بملابس الأعراب، فاستعاذ عماد الدين بالله من أن يكون القادم لصًّا قاطع طريق، وبدا عليه الاضطراب، فابتسم حسن في وجهه مطمئنًا وقال له: «إن الذي نجانا فيما مضى قادر على أن ينجينا فيما هو آتٍ.» ثم نهض وصعد إلى الأكمة التي كان جالسًا عليها بالأمس، ثم خلع ثوبه وأخذ يلوِّح به في الهواء ليراه الجمَّال القادم.
وبعد قليل كان الجمَّال قد رأى الثوب الملوَّح به، فحوَّل عنان جمله إلى جهته وما زال يحثه حتى وصل إليهما، فترجَّل وسلَّم ثم سألهما: «ما خطبكما أيها الصديقان؟»
فاطمأن كل منهما لحسن لهجته وأدبه، وقال له حسن: «إننا من القاهرة، وكنا في عكا نحمل إلى حاكمها رسالة من علي بك حاكم مصر، وفي عودتنا من عكا قطع علينا الطريق هنا بعض لصوص البدو، واعتدوا على أخي هذا وجرحوه. فإذا تفضلت بنقله على جملك إلى أقرب قرية من هنا، كنا لك من الشاكرين.»
فقال الأعرابي: «إني رهن أمركما، ومنزلي غير بعيد من هنا، فأنا أحق بشرف الضيافة.» ثم اقترب من عماد الدين وتأمل الضماد على رأسه والجبيرة على ساقه، وقال متعجبًا: «إن مثل هذه الإسعافات لا يحذقها إلا طبيب.»
فاحمرَّ وجه حسن خجلًا، وبادر عماد الدين إلى الإجابة قائلًا: «من فضل الله ونعمته أن أخي درس الطب في البيمارستان المنصوري على يد طبيب مغربي كبير.»
فالتفت الأعرابي إلى حسن وهش في وجهه وقال: «الحمد لله. نحن إذن أهل وإخوان، فإن جدي — رحمه الله — كان طبيبًا ومغربيًّا أيضًا.» ثم أناخ الجمل وتعاون مع حسن على حمل عماد الدين إلى متنه وشدَّاه إلى الرحل مستلقيًا على ظهره، ثم عاد ثلاثتهم إلى قرية الأعرابي، فبلغوها بعد ساعات، ونزل حسن وعماد الدين بمنزل الرجل ضيفين مكرمين إلى أن التأم جرح عماد الدين، والتأمت عظمة ساقه المكسورة، أو كادت بفضل العلاج الذي قام حسن به، فاستأذنه عماد الدين في أن يركب هجينًا يذهب عليها إلى القاهرة فيؤدي الرسالة إلى علي بك، ثم يعود إليه بعد ستة أيام على الأكثر. فاستحسن الفكرة، وودَّعه والأعرابي مضيِّفهما، سائليْن له السلامة في الذهاب والإياب.
أمضى حسن الأيام الستة الأولى بعد ذهاب عماد الدين إلى القاهرة، يغالب الهواجس وتغالبه، فلما كان اليوم السابع أخذ ينتظر عودته منذ طلعت الشمس حتى غروبها، فلما لم يعد في موعده، قلق وتعاظمت هواجسه وظنونه ومخاوفه، وعبثًا حاول مضيِّفهما الأعرابي تخفيف قلقه، فلم يتناول في العشاء إلا لقيمات رغم أنه لم يتناول أي طعام طول النهار، ثم جفا النوم عينيه طول ليلته. فلما أصبح تجدد أمله في عودة عماد الدين، وبقي ينتظره عند مدخل القرية نهاره كله وجانبًا من الليل، لكنه لم يأتِ أيضًا، فيئس حسن وخاف أن يكون صاحبه قد وقع مرة أخر في أيدي قاطعي الطريق فأعدموه، وقرر أن ينهض عند الفجر فيمضي إلى القاهرة متنكرًا ليقتفي أثر عماد الدين ويقف على جلية أمره، وأفضى بما اعتزمه إلى صاحب المنزل، فوافقه وأعد هجينًا خفيفة ليستقلها، وجلس معه بعد العشاء ليسامره كعادته ثم يودِّعه.
وفيما هما في ذلك، أقبل عماد الدين، فتعانقوا وتصافحوا وكان اغتباطهم جميعًا باللقاء عظيمًا.
ثم روى عماد الدين ما أخَّره فقال: «لقد علمت حين وصولي إلى القاهرة أن علي بك غادرها في حملة إلى الصعيد لمحاربة قبيلة الشيخ همام، فاضطررت إلى انتظاره حتى رجع وأديت إليه الرسالة، فأكرم وفادتي وغمرني بالعطايا والهبات، ثم حمَّلني رسالتين: إحداهما للشيخ ضاهر حاكم عكا ردًّا على رسالته، والأخرى لأسلمها للأميرال لسمبيكو قائد الأسطول الروسي الموجود الآن في ميناء الإسكندرية؛ وذلك لظن علي بك أنني سأعود عن طريق البحر؛ إذ هو أقرب. وقد رأيت أن آتي إليك أولًا حتى لا تقلق، ولكي أعرض عليك أن نسافر إلى عكا بحرًا من الإسكندرية، فالطريق البحري أكثر أمنًا، فما قولك؟»
فوافق حسن على ذلك الاقتراح؛ حبًّا في صحبة عماد الدين؛ وتفاديًا لخطر اللصوص في الطريق الصحراوي؛ ولتأخره عن الموعد المضروب للقائه بأبيه هناك.