في الإسكندرية
كان عماد الدين قد جاء معه من القاهرة بالعطايا والهبات التي نفحه بها علي بك، فنزل للأعرابي مضيِّفهما عن بعضها ردًّا لجميله، ثم اشترى هجينتين ركب إحداهما وركب حسن الأخرى، وما زالا يجدان السير في الحوف الشرقي حتى أتيا الفرع الشرقي للنيل، فقطعه إلى الدلتا، فالفرع الغربي للنيل وما وراءه حتى وصلا إلى الإسكندرية أخيرًا، فباعا الهجينتين لبعض الأعراب هناك، ثم نزلا بفندق قرب الميناء، على أن يبيتا فيه ليلتهما، فإذا أصبحا مضيا إلى الميناء وزارا الأسطول الروسي لتسليمه رسالة علي بك، ثم بحثا عن سفينة ذاهبة إلى الشام فركباها إلى عكا.
ولم تكن الإسكندرية في ذلك الحين سوى مدينة صغيرة، أهم ما فيها أنها على البحر، وإن فيها مرفأين: أحدهما للمسلمين وتقف فيه السفن العثمانية والمصرية، وموضعه المكان المعروف برأس التين، والآخر للنصارى في الموضع المعروف بالمينا القديمة. فلما كان صباح اليوم التالي مضى عماد الدين وحسن إلى الميناء الجديد؛ حيث قيل لهما إن الأسطول الروسي فيه، فلم يجدا هناك أية سفينة، وعلما بأن هياج البحر بسبب النوء الشديد اضطر السفن إلى الابتعاد إلى عرض البحر خوفًا من الغرق في الميناء، ولاسيما أن سفنًا كثيرة تحطمت وغرقت فيه منذ أيام، وسألا: متى يُنتظر أن يهدأ البحر وتعود سفن الأسطول إلى الميناء، فقيل لهما: «إن هذا لا يُنتظر قبل يومين.» فعادا إلى الفندق آسفَين وأمضيا يومهما في تفقد المدينة. وفي صباح اليوم التالي رأى عماد الدين أن يترك حسنًا في الفندق ريثما يمضي هو إلى الميناء للسؤال عن الأسطول، وفيما هو واقف هناك يتطلع إلى سفن الأسطول الراسية في عرض البحر، وهو يرتدي الملابس السورية المؤلفة من القباء (القفطان) الحريري وفوقه الجبة، وعلى رأسه الكوفية والعقال، وفي يده غليون طويل يدخن فيه التبغ، دنا منه بحار من الإسكندرية يرتدي السروال الفضفاض المشدود على الساقين، وعلى رأسه عمامة أرسل طرفها على قفاه، وسأله قائلًا: «أراك تكثر من التطلع إلى سفن المسكوف، فهل يهمك الوصول إليها؟»
فقال عماد الدين: «إن معي رسالة أريد تسليمها إلى أميرال الأسطول.»
قال: «وممن هذه الرسالة؟» فقال: «من علي بك الكبير.»
فبُغت البحار، وتأدب في وقفته بعد أن كان يكلم عماد الدين ويداه خلف ظهره وغليونه في فمه، وقال له: «إذا كان إبلاغ الرسالة لا يحتمل التأجيل إلى غد فإني على استعداد لإبلاغها الآن!»
فعجب عماد الدين وقال: «وكيف تستطيع ذلك والبحر ما زال هائجًا كما ترى!»
قال: «إن أمواج البحر تعرفني وتعرف قاربي، فلست أخافها مهما تكن غاضبة ثائرة، ولكني لا أذهب في هذه المهمة إلا إذا نقدتني عليها كيسًا كاملًا (خمسمائة قرش)!»
فضحك عماد الدين وقال: «كيس كامل؟ هل حسبت أنني علي بك نفسه حتى أستطيع دفع هذا الأجر؟!» قال هذا وغادر الميناء عائدًا إلى الفندق مؤثرًا الانتظار حتى اليوم التالي، ودخل الغرفة التي ترك حسنًا فيها فلم يجده هناك، وعلم أنه خرج منذ قليل، فقال في نفسه: «لعله استبطأ عودتي فخرج ليروِّح عن نفسه عناء الانتظار بالتنزه على شاطئ البحر.» ولبث ينتظره في الفندق حتى حان موعد الغداء دون أن يرجع، فأوجس خيفة عليه؛ لعلمه بحكايته وبأنه لا يعرف أحدًا في المدينة، وخرج يبحث عنه هنا وهناك، فلما لم يجده بعد ساعات من البحث، عاد إلى الفندق لعله سبقه إليه من طريق آخر، فعلم أنه لم يأتِ إليه بعدُ، وخاطب في شأنه صاحب الفندق فقال له هذا: «لا خوف عليه إلا أن يكون قد سار إلى جهة قلعة رأس التين؛ لأن فيها بعض الجنود المماليك والإنكشارية وهم لا يتورعون عن إنزال الأذى بأي إنسان، بل لا يتورعون عن القتل إذا كان لهم من ورائه نفع بسيط!»
•••
انتظر عماد الدين في الفندق على نار حتى صباح اليوم التالي، ثم خرج من الفندق قاصدًا إلى الجمارك لمقابلة مديرها وطلب مساعدته في البحث عن حسن. وكان صاحب الفندق هو الذي أشار عليه بذلك؛ لأن مدير الجمارك يومئذٍ شامي مثله واسمه أنطون فرعون، ولا يقل نفوذه عن نفوذ أعظم الأمراء، ولاسيما أنه — فضلًا عن كبر منصبه — ذو ثروة طائلة، وقصره الفخم الجميل على الشاطئ لا يخلو من الحفلات التي يدعو إليها الكبراء من الأجانب والوطنيين.
فلما وصل إلى إدارة الجمارك، علم أن المدير لم يحضر بعدُ، فوقف ينتظر قدومه هناك، وبعد ساعة رأى موظفي الإدارة وعمالها في هرج ومرج، ثم اصطف أكثرهم عند مدخلها ووقفوا متأدبين، فعلم أن المدير قادم، وانتظم في جملة المستقبلين. وما لبث المدير أن أقبل في زي فخم تحفه الهيبة والأبهة والوقار، فهمَّ كبار الموظفين بتقبيل يده، ففعل عماد الدين مثلهم، ثم تبعه حتى بلغ حجرته الخاصة وهمَّ بدخولها، فناداه عماد الدين بلهجته الشامية قائلًا: «سيدي المدير.» فالتفت إليه وسأله «ما حاجتك؟» فقال: «أرجو أن يتنازل السيد بدقيقة أروي له فيها ما دفعني إلى المجيء هنا.»
فأشار إليه بأن يتبعه إلى الحجرة، وإذن له في الجلوس وطلب له قهوة، ثم لم يكد يسمع حكايته عن فقد زميله وخوفه أن يكون الإنكشارية قد نالوه بسوء، حتى طمأنه وقال له: «هذه مسألة بسيطة، وسأرسل الآن نائبي إلى قلعة رأس التين، فإذا كان الجنود الذين فيها قد اعتقلوا صاحبك طمعًا في ماله أو في أن يفتديه أهله بالمال، أخرجه النائب من السجن وجاءنا به معززًا مكرمًا.»
فوقف عماد الدين وقبَّل يد المدير قائلًا: «جزاك الله أحسن الجزاء، وهكذا المروءة والشهامة.»
فقال: «هذا أقل ما يجب.» ثم صفَّق، فلما جاء الحاجب أمره بأن يبلغ النائب أمره بالذهاب إلى قلعة رأس التين، والسؤال عن شاب اسمه حسن يظن أن الجنود اعتقلوه هناك، فإذا وجده أبلغ الأغا رئيس الجنود أنه من أتباعه، وجاء به.
فحنى الحاجب رأسه سمعًا وطاعة وانصرف. والتفت المدير إلى عماد الدين وسأله: «كيف حال الشام الآن؟ وهل الشيخ ضاهر الزيداني ما زال حاكمًا في عكا؟»
قال: «نعم يا سيدي، وهو الآن بسبيل الاستيلاء على بلاد الشام كلها؟»
فهز المدير رأسه عجبًا وقال: «ما شاء الله! الشيخ ضاهر يحكم بلاد الشام كلها؟ هل تعرف تاريخه جيدًا؟»
فقال عماد الدين: «سيادتكم أدرى.»
قال: «لقد أخبرني أبي بأنه عرفه منذ كان غلامًا يعيش مع أبيه الشيخ عمر الزيداني وقبيلته البدوية في جهة بحيرة طبرية، ولما تُوفي أبوه آلت إليه رياسة القبيلة، وحاربه أولاد العظم حكام دمشق لما رأوه يحاول توسيع سلطانه، لكنهم لم يستطيعوا قهره، وأخذ في التجارة مستعينًا بأعوانه الكثيرين من البدو، فجمع ثروة كبيرة، وما لبث أن استولى على عكا وانتزعها بلا حرب سنة ١٧٤٩ من يد الأغا الذي كان يحكمها باسم والي صيدا، ثم حصنها وبنى له شمالها قصرًا أشبه بالحصن، ولم تجد الدولة العلية بعد ذلك بدًّا من منحه سنة ١٧٦٨ لقب «شيخ عكا وأمير أمراء طائفة المتاولة وقومندان الناصرة وطبرية وصفد وشيخ الجليل»، ولم أعد أسمع عنه شيئًا منذ ذلك الحين.»
فقال عماد الدين: «إنه فتح مدينة صيدا، وأقام عليها واليًا اسمه «الدنكزلي». ولما نشبت الحرب بين الدولة العلية وروسيا انحاز إلى الروسيين متحدًا في ذلك مع علي بك هنا في مصر، ولا يخفى عليكم أن الأسطول الروسي في ميناء الإسكندرية الآن. ولست أخفي عليكم أني جئت من عكا برسالة من الشيخ ضاهر إلى علي بك، وقد كلفني هذا حين قابلته في القاهرة منذ أيام حمل رسالة منه إلى أميرال الأسطول الروسي هنا.»
فقال المدير: «يلوح لي من هيئتك ولهجتك في الحديث أنك من الدروز اللبنانيين، فما الذي أدخلك خدمة الشيخ ضاهر؟»
قال: «إن أسرتي ملت كثرة المنازعات بين الأمراء الشهابيين حكام لبنان، فانضمت كغيرها إلى الشيخ ضاهر.»
وما زالا في مثل هذا الحديث حتى عاد النائب ومعه حسن، فنهض عماد الدين وقبَّل يد المدير، وكذلك فعل حسن، ثم استأذنا في الانصراف شاكرين، فأذن لهما وانصرفا.
•••
سار حسن مع عماد الدين إلى الفندق، وقصَّ حسن في الطريق قصة اعتقال المماليك إياه، ذاكرًا أنهم استولوا على كل ما كان يحمله من النقود وطمعوا في المزيد، فسألوه عن أهله ليرسلوا إليهم لكي يفتدوه من السجن، فلما أخبرهم بألا أهل له في الإسكندرية ولا في غيرها من الديار المصرية لم يصدقوه، وأبقوه في السجن حتى يرشد عن أهله وهددوه بالقتل إن لم يفعل. فلبث في السجن خائفًا يترقب حتى جاء نائب مدير الجمارك وخاطب الأغا في شأنه فأفرج عنه في الحال.
وباتا ليلتهما في الفندق، ثم سارا إلى الميناء في الصباح فوجدا السفن الروسية قد عادت إليه، فاكترى عماد الدين قاربًا أوصله إلى سفينة الأميرال حيث سلمه رسالة علي بك، ثم عاد إلى حسن وأخذا في البحث عن سفينة ذاهبة إلى السواحل السورية إلى أن وجدا سفينة تجارية كبيرة تعتزم الذهاب في الغد إلى بيروت رأسًا، فحجزا لهما مكانًا فيها، على أن يقطعا المسافة القريبة من بيروت إلى عكا برًّا، ثم عادا إلى الفندق فأعدَّا أمتعتهما للسفر، وما أشرقت شمس اليوم التالي حتى كانا في السفينة وهي تمخر عباب البحر ناشرة أشرعتها، ومرت قبل مغادرتها المياه المصرية بميناء دمياط فحملت منه مقادير كبيرة من الأرز، ثم استأنفت رحلتها قاصدة إلى بيروت فأشرفت عليها بعد بضعة أيام.