سؤال عن نشأة الحياة
من نحن البشر؟ وكيف وصلنا إلى هذا المكان؟ … تبدأ القصة من لاشيء. وتنتهي بأن كلًّا منا يشبه ناتجًا مشتقًّا على نحوٍ عرضي لقوًى ﺗﺗﺟﺎوز خيالنا في أوسع حدوده … وهي قصة تصف كونًا غريبًا إلى حد كبير عن هذا الكون الذي نسكنه، الذي هو كون ذاتي خاص زاخر بأشياء مغايرة تمامًا وبشرية الطابع والتقدير؛ أصدقاء وزوجات وأطفال وحيوانات ونباتات وأحجار بناء … إلخ. إن كل فرد فينا يسكن كونًا ذاتيًّا، أو لنقُل بمعنًى آخر إن كلًّا منا هو عالم بذاته؛ ذلك لأننا حين نفنى تفنى معنا عوالمنا الذاتية.
وإن ﺟﻣﺎع الكون الطبيعي مؤلف من جزيئات أساسية مثل الإلكترونات، ومن إشعاع مثل الضوء. ولكن الكون الذاتي مؤلف من أشياء مغايرة تمامًا. وليس معنى هذا أن الأكوان البشرية ليست مؤلفة من المادة العادية، بل تعني أن هذه المادة منظمة على نحو مغاير وقسماتها المميزة بشر وأنشطة وعلاقات اجتماعية متباينة، وابن المدينة عالمه غير عالم ابن الريف … أو غيره؛ ومن ثم فإن ما يشغل فكر هذا غير ما يشغل فكر ذاك، والمؤثرات هنا غير المؤثرات هناك.
ويحدث أحيانًا أن يتدخل العالم الخارجي غير البشر، ولكنه يتدخل عن طريق مصنوعات بشرية: السيارة بحاجة إلى إطارات جديدة، والمرضى بحاجة إلى علاج، والآلات الجديدة تغنينا عن الوظائف، واختراعات جديدة تضيف مؤثرات ونفقات ومظاهر وقيمًا اجتماعية مغايرة … وحين يتدخل العالم الخارجي على هذا النحو ويوثر في عالمنا الخاص نشعر بوجوده وإن وصفناه وصفًا ذاتيًّا؛ إذ نختار ما يلائمنا، ونفعل ما نحن بحاجة إليه دون زيادة.
وأهم قسمة مميزة للإنسان أنه يتأمل الكون من حوله، ويصوغه في أنماط. وهو الوحيد الذي دفعه التأمل إلى التجريب، وبناء المراصد وأدوات البحث والصناعة. وحين تأملنا العالم الخارجي استطعنا أن نقول إنه منظم بطريقة خاصة: له جاذبية، وعلاقة متبادلة بين مكوناته (أيكولوجيا) ويعج بحيوانات منقرضة مثل الديناصورات، وحيوانات باقية على قيد الحياة؛ وأنه مؤلف من أشكال هندسية بحيث إن مجموع زوايا المثلث تساوي ۱۸۰ درجة … إلخ، ويتداخل العالم الخارجي مع عالمنا الذاتي بوسائل عديدة: السعرات الحرارية للطعام، الموسيقى الرقمية التي نستمع إليها، والتلفزيون الذي نشاهده … إلخ؛ أي من خلال العلم الذي هو وسيلتنا الناجحة لسبر غور بنية هذا العالم الخارجي اللاشخصي، ويدعم علاقة التفاعل بين الاثنين.
إننا نعيش وجودًا مزدوجًا — في الطبيعة ولسنا منها — تفاعل مع تقييمنا لما سيكون عليه العالم مستقبلًا قبل ما هو كائن عليه الآن. إننا نعكس العالم الواقع خارجنا على صفحة مرآة داخل رءوسنا: هي إدراكاتنا عن هذا العالم. وهذه مرآة تُحدث تشوهات؛ أعني توضح صورة ناقصة أو غير مطابقة، ولكنها تبدو في نظرنا واقعية. ونتحكم في عالمنا، ونصنع اختياراتنا، ولنا عقولنا التي نصوغ من خلالها أفكارنا أو نغيرها. وحين نفكر في شيء آخر سوانا نفكر فيه باعتباره جزءًا من الطبيعة.
ولكن ما تفسير أوجه الاختلاف بيننا نحن البشر وبين غيرنا من الحيوانات؟ تكشف النظرة التاريخية أن البشر لم يكونوا دائمًا وأبدًا مثلما هم الآن. والسؤال كيف حدث ذلك؟
الإجابة عن السؤال هي القضية الرئيسية التي يعرض لها الكتاب. أعني الإجابة عن سؤال كيف تحولت المادة غير الحية إلى كائنات معقدة عضوية مثلنا بكل ما تحمله عقولنا وخيالاتنا من عوالم ذاتية؟ وإذا كان هذا ممكنًا فلماذا حدث؟ ولماذا نحن على صورتنا هذه؟
يحاول الكتاب أن يحكي قصة البشر من وجهة نظر جديدة؛ أعني أنه يبحث مسائل العقل والثقافة من وجهتَي نظر متباينتين ولكنهما متكاملتين. الأولى وجهة النظر العلمية التقليدية. والثانية النظر إلى السياق وكيف جرت صياغة المنظومة بفعل المجال المحيط بها. ويتمثل الهيكل العام للقصة في الخطوات التالية: النظر في الأصول التي نشأت عنها الحياة على الأرض وتطورها وصولًا إلى الإنسان، وكذا احتمالات نشأة الحياة فوق كواكب أخرى. ويصف الكتاب تطور الحواس وكيف أثرت في تطور شبكات الخلايا العصبية بحيث أفضت إلى تكوُّن ذلك العضو الملغز وهو المخ. وبيان أن حواسنا ليست مجرد أجهزة قابلة في سلبية بل تلاءمت وتعدلت على مدى مسيرة التطور لتؤكد القسمات المميزة للمخ. وهكذا نستطيع أن نبني «خرائط مفاهيمية» عن الواقع المحيط بنا مما يساعدنا على أن نفكر ونتخذ قراراتنا وأن نغير من تفكيرنا؛ أي نعدل اختياراتنا في استجابة إلى نتائج القرارات.
والذكاء أو القدرة على التعقل أو إعمال العقل وحل المشكلات ليس قاصرًا على الإنسان. وإنما ظهر الذكاء في ترابط وثيق مع حيلة عجيبة يستخدمها الوالدان لتزويد ذريتهما بالبداية الأولى التي ينطلقون بها ومنها إلى خضم الحياة. ويبدأ نشوء هذه الميزة منذ تكوين المخ أو صفار البيض والعش، وتبلغ الميزة ذروتها في صورة الثقافة. ولهذا نرى أن ليس الذكاء وحده أو الثقافة وحدها هي التي تقودنا إلى العقل، وإنما كلاهما يعملان معًا متضافرَين ومتداخلَين أو متواطئَين.
وتمثِّل اللغة إحدى قسمات عقل الإنسان. واللغة والذكاء (إعمال العقل) تطوَّرا معًا متشابكَين وفي ارتباط وثيق لا انفصام له بالثقافة. وتأسيسًا على هذه النظرة يحكي الكتاب قصة ثقافة المجتمعات البشرية والتقنيات التي تستخدمها الثقافات على الجماعات العرقية المهاجرة والمشردة، وكيف أدى هذا إلى نشوء مجتمعات متعددة الثقافات، حيث يواجه البشر تغيرات تؤثر في هويتهم الثقافية. ويثور هنا تساؤل عن مستقبل التعدد الثقافي البشري. وهل يمكن التراجع عن ذلك بتأثير ثورة الاتصال الكوكبي؟ ونحاول أن نصوغ مفهومًا موحدًا هو الذكاء الخارجي الجمعي، وهو النظير السياقي المشترك والثقافي للذكاء الداخلي الذاتي أو الفردي.