نوايات حقيقية وأخرى كاذبة
نأتي بعد هذا إلى فكرة الشبكة الذاتية الحفز، وهي فكرة مختلفة عن ذلك. ويوضح لنا
هذا
النوع من الشبكات مدى الارتباط الوثيق بين الكيمياء المحضة Unaided
Chemistry أو المجردة وبين الحياة الأصلية من حيث القدرة على التكرار،
أو لنقل القدرة على أن تضاعف هويتها كشيء محدد تمامًا دون أن تفقدها في المحيط الكيميائي
الشاسع. ويعتبر العالم السوفيتي ألكسندر أوبارين Alexander
Oparin أول وأهم الداعين إلى هذه النظرية، ويؤكد أوبارين تأسيسًا على
تصور نظري أن الحياة يمكن أن تتشكل نتيجة تجمعات طبيعية لقسمات كيميائية وفيزيائية عادية
من
العالم غير العضوي. ويفسر بذلك ظهور المادة العضوية نتيجة تحولات طارئة في المادة غير
العضوية.
والملاحظ أن كبسولات الدهن Lipid Capsules المليئة بشبكات
من كيمياويات ذاتية الحفز قريبة جدًّا من الكائنات العضوية الأصلية، وتنطوي على قدر من
التعقد مماثل لدرجة التعقد في البكتيريا أو ما يسمى خلايا ذات نواة كاذبة
Prokaryotes. وظهرت في البدء هذه الخلايا ذات النوايا
الكاذبة وتكاثرت وتطورت وغطت سطح الأرض فور ظهور بحر سائل. ومن المتوقع أن بعض ما قذفته
الشهب نحو الأرض يحتوي على مكونات عضوية. ولعل الجزيئات المتساقطة من الفضاء الخارجي
هي
العامل الأول لعناصر تولد الحياة.
وهيمنت على البحار الحياة المؤلفة من خلايا ذات نوايا كاذبة لمدة ثلاثة بلايين سنة
قبل أن
تنشأ وتتطور أشكال أخرى من الحياة أكثر تعقدًا. وابتكرت أنواع مختلفة كثيرة على مدى هذه
الحقبة نظام التمثيل الضوئي، فكانت وسيلتها لمضاعفة قدرتها الكيميائية الارتدادية
Recursive Chemistry عن طريق استخلاص الطاقة من ضوء
الشمس. وأدى هذا إلى إفراز منتج عالي السُّمِّية، والذي تنتجه باعتباره عادمًا؛ ألا وهو
الأكسجين. وهنا استخدمت بعض الكائنات العضوية الأكسجين كمادة كيميائية عالية التفاعل.
وأدى
الأكسجين إلى تغيير الغلاف الحيوي المحيط بنا تمامًا.
وظهرت أشكال جديدة للحياة منذ حوالي بليون ونصف بليون سنة. وتميزت هذه الأشكال بتركيبها
الكيميائي الارتدادي Recursive المعقد، واستهلكت التفاعلات
الجديدة الناشئة عن الأكسجين. وهذه هي الخلايا ذات النواة الحقيقية
eukaryotes وأهم قسماتها هي أن لها نواة.
وجدير بالملاحظة هنا أن الناس يتحدثون عن البكتريا وكأنها كائن حي أحادي الخلية، وأن
الكائنات مثلنا «متعددة الخلايا»، وكأن بالإمكان استحداث إنسان عن طريق لصق كميات من
البكتريا ببعضها. وهذا تصور خاطئ؛ ذلك أن البكتريا ليست كائنات حية أحادية الخلية؛ إذ
إنها
ليست خلايا. وإنما هناك قسمات مشتركة بينها وبين الخلايا، ولكن الخلية الأحادية أكثر
تعقدًا
من البكتريا.
وظهرت بعد ذلك الخلايا ذات النواة الحقيقية، وهي كائن أحادي الخلية، وأشهر مثال عليه
الأميبا. ولكن يمكن أن تتكون أيضًا من خلايا عديدة. وتختلف الأميبا عن البكتريا من حيث
إنها
أكبر حجمًا بحوالي عشرة آلاف مرة، ولها أعضاء دقيقة لوظائف متخصصة
Organelles مثل النواة التي تحتوي على القسط الأكبر من
الخلية، كما تحتوي على أجسام ميتوكوندرية Mitochondria التي
تحمي الخلية من الأكسجين وتوفر لها قدرًا كبيرًا من الطاقة. وترجع هذه النظرية المقبولة
حتى
الآن إلى قرن مضى. وأحياها مرة أخرى عام ١٩٦٧م لين مارجوليس Lynn
Margulis. وتقضي بأن الخلية ظهرت من أنواع مختلفة من البكتريا المستقلة
نتيجة عملية التكافل Symbi-osis. ولعل الأصوب أن نقول إن
الخلايا طرأت إلى الوجود نتيجة التطور المشترك Co-evolution
للبكتريا. ونحن هنا لم نشأ أن نقول ظهرت وإنما نقصد معنًى محددًا وهو «ظاهرة طارئة».
وهذا
مصطلح استعرناه من الفلسفة والذي يستخدمه المفكر للدلالة على أن سلوك منظومةٍ ما يتجاوز
المألوف في مكوِّناتها. وظهرت الكائنات المتعددة الخلايا انطلاقًا من خلية أحادية وانقسامها
مرات ومرات؛ أي تضاعفت عن طريق التكاثر. وهكذا أصبحت الخلية الكبيرة مؤلفة من خلايا ثانوية
وتشتمل على الحامض الأميني نفسه أو الدنا نفسها. وأصبح بإمكان كل خلية ثانوية أن تتخصص.
وإذا ساعد هذا على استمرار دورة التوالد للكائن العضوي الحي فإن الخلايا ذات النوايا
الحقيقية والإيوكاريوتات، تتطور لتصبح أنماطًا مختلفة من الخلايا، ولكلٍّ منها قدراته
المميزة، وهيَّأ المناخ الجديد السبيل لكائنات تتنفس الأكسجين بأسلوب أسرع للحفاظ على
الحياة.
وما إن بدأت الخلايا ذات النوايات الحقيقية في أن تعيش حياتها بهذه الطريقة حتى بدا
من
المفيد أن تتشكل لها نظم حسية وحسابية؛ أي لتقدير الأوضاع حولها. وهكذا نشأت الخلايا
العصبية. فالكائن المفترس إذا كانت فريسته يتطور لديها جهاز عصبي للإحساس وتقدير الظروف
فإنه لن ينجح في مهمته؛ أي في عملية الافتراس مستقبلًا إلا إذا تطور معها على نحوٍ يؤهله
للانتصار. وهنا تتداخل الأدوار الحافزة للتطور، ويحدث ما يشبه «سباق التسلح» في سبيل
نشوء
آلية عصبية تزداد تعقدًا. وهذا هو ما أدى إلى إنتاج المخ حتى الآن وإن كنا لا نعرف ماذا
سيحدث للمخ من تطور في المستقبل.
ولكن حيوانات كثيرة لها مخ، غير أن القليل جدًّا له عقل. فالعقل تنظيم آخر أرفع مستوى،
بحيث نقول إن علاقة العقل بالمخ تماثل علاقة الظبي بالأميبا. ولكن السؤال الذي يعنينا
هنا
هو: «من أين جاء العقل أو ما مصدر نشوئه؟» نقول بإيجاز إلى أن نعود إلى الموضوع ثانية
ما
يلي: «يمكن تتبُّع انتقال الأمخاخ إلى طور العقول راجعين إلى العصر الذي توفرت فيه
للحيوانات سبل غير جينية لحماية ذريتها. فالعقل يمثل حيلة مفيدة لدى الحيوانات الأكثر
تعقدًا. وطورت بعض الثدييات حيلتها في حماية ذريتها. ويمثل الرحم إحدى وسائل هذه الحماية؛
فهو بيئة محكومة لرعاية الجنين. وكذلك اللبن للرضاعة وسيلة لتزويد الحيوان الرضيع بحاجته
من
الغذاء الفوري. وهذه حيوانات محظوظة بما تلقاه من رعاية.»
وعلى مدى سلاسل كاملة من التحولات التدريجية أدى امتياز العلاقة الوالدية إلى ظهور
نوع
جديد تمامًا من الذكاء متضمنًا الحيل الجديدة في التعلم والتعليم؛ إذ أصبح الوالدان جزءًا
من السياق السلوكي لذريتهما. والملاحظ أن بعض الحيوانات الأخرى الذكية لا تفعل هذا. مثال
ذلك الأخطبوط أو الجمبري؛ فهذه حيوانات لها أمخاخ — أي ذكاء — ولكنها أمخاخ ضعيفة جدًّا،
والذكاء هنا معتمد على مجموعة دارات باطنية Internal
Circuitry تتعلم من بيئتها. ولكن بعض الثدييات والطيور تجعل الأبوين
جزءًا من سياق الذكاء. مثال ذلك الفئران والذباب والقطط والدلافين إذ تولد جميعها وسط
بيئة
والديَّة تلتقط من خلالها حيلًا جديدة «داخل العش» صيحات تحذير جديدة، سبلًا جديدة لاصطياد
السمك، أو سبلًا جديدة للتطفل على غذاء البشر.
وها هنا يظهر العقل في الصورة؛ إذ من خلال هذا النوع من النقل الثقافي لأشكال خاصة
من
السلوك، تطور العقل البشري بصورته المميزة. فالعقل ليس مجرد بنية معقدة لمادة المخ، وإنما
شيء آخر نما وظهر من خلال الحيلة الثقافية لنقل السلوك عن طريق التعليم والتعلم؛ ومن
ثم فإن
عنصر السياق عنصر حاسم: فالعقل لا ينشأ ولا يظهر في فراغ أو عزلة. وينتهي بنا هذا إلى
بيان
أن القسمات الفريدة المميزة للخيال البشري والإبداع والأخلاق هي قسمات نشأت طبيعيًّا
نتيجة
عمليات مركبة طويلة المدى مثل التطور والثقافة.