النهج الاختزالي والنهج البيئي
يرى الكثيرون العلم مصدرًا لليقين، صندوقًا مليئًا بالإجابات التي يمكن استخراجها
عند
مواجهة أسئلة الحياة. ولكن العلماء يرون غير هذا؛ إذ يرون العلم منهجًا للإبحار بفعالية
وكفاءة وسط عالم اللايقين. وليس العلم مسألة تراكم وتجميع «حقائق»؛ ذلك أن العالم الخارجي
نادرًا ما يعرض علينا حقائق جلية صادقة تمامًا، وإنما يقدم لنا ضروبًا متنوعة من المؤشرات
بحاجة إلى تفسير. كما وأن تفسيرها عادةً موضوع للجدل. مثال ذلك: هل احترار الأرض نتيجة
للنشاط البشري؟ هل تسبب انبعاثات عوادم السيارات نوبات أزمة تنفس؟ هل مرض جنون البقر
قابل
للانتقال إلى البشر؟ … إلخ. وتعبر جميع هذه الأسئلة عن حقائق الحياة. وجميعها مصدر جدال
وسجال تأسيسًا على جميع شواهد وبحث منهجي.
إن ما يقدمه العلم حقيقةً ليس حقائق بل فهمًا؛ ولا يقدم إجابات بل خططًا لأحداث محتملة.
وإن كل ما تعرفه عن العلم قائم على افتراضات؛ نعني أن حواسنا لا تخدعنا، وأن معدات وأجهزة
البحث تعمل بالكفاءة نفسها في أي مكان، وأن أنماط السلوك التي تشهدها في عدد محدود من
التجارب صادقة بعامة … إلخ. ويدرس العلم نتائج هذه الافتراضات وينبذ ما لا يتلاءم معها.
والهدف هو تحديد وجهات نظر متلاحمة يمكن الاعتماد عليها في فهم عمل ونشاط العالم من
حولنا.
ونحن نمايز بين طريقتين في التعامل مع ظواهر الطبيعة لتفسيرها:
- (١)
النهج الاختزالي Reductionism الذي يفسر كيف
يعمل نظام ما عن طريق بيان عناصره ومكوناته وكيف تلاءمت هذه العناصر وظيفيًّا
وبيئويًّا مع بعضها.
- (٢)
النظرة البيئية أو السياقية Contextualism
التي تفسر لماذا يعمل نظام في ضوء الظروف والشروط التي يعمل فيها أو التي وجد
نفسه فيها. معنى هذا أن النظرة الاختزالية نظرة إلى الداخل، والنظرة السياقية
نظرة إلى الخارج ولكن ليس بالمعنى الحرفي وإنما حسب المفهوم علاوة على النظرة
إلى الداخل باعتبار النظريتين متكاملتين ومتفاعلتين.
وإن فكرة غرس نظام ما في البيئة المحيطة به تعني أن لا ندرس ما يفعله فقط، بل وأيضًا
ما
كان يمكن أن يفعله في ظروف تغيرت تغيرًا طفيفًا. ويفتح هذا المنهج سبلًا جديدة تمامًا
للتفكير في الكون. ويدعونا هذا إلى أن نبدأ بكلمة عن طبيعة التفسير العلمي.
الوصف الشائع عن البنية التقليدية للعلم أنها مجموعة من المعارف المتطورة تأسيسًا
على
عملية قوامها النظرية والتجربة. فالتجربة تختبر احتمالات ضعف واردة في النظرية. وتكشف
النظرية عن طبيعة التجارب اللازمة. ويتعين إسقاط أي نظرية لا تتلاءم مع الملاحظة. وهكذا
تقف
النظرية والتجربة على قدم المساواة معًا. ودور التجربة واضح بالقياس إلى النظرية. إذ
هي
الضمان بأننا لا نعتقد في صدق أشياء، لمجرد رغبتنا فيها. وتقدم التجربة «شهادة الواقع»
التي
تحول دون السقوط في فكر نابع عن رغبة وهوى في النفس، وتصديق أمور قبل هذه الشهادة. ولكن
من
المستحيل علينا أن نقيم وأن نصوغ ملاحظاتنا دون الاعتماد على إطار مفاهيمي تعمل على أساسه؛
ومن ثم فإن «الحقائق» العلمية رهن السياق أو البيئة، ذلك أن كثيرًا منها نستنتجه من نظرة
علمية معتمدة ومقبولة؛ أي من نموذج إرشادي أو إطار مفاهيمي
Paradigm.
والملاحظ أن ارتهان تحقق الملاحظات العلمية بالسياق جعل بعض الفلاسفة يدفعون بأن
العلم
مفترض ذهني اجتماعي Social Construct لا علاقة له بالحقيقة
الواقعة Reality. وأنه مجرد مواصفات اصطلاحية بين البشر.
ونبع هذا الرأي من الإيمان بأن «الحقيقة» العلمية ليست مطلقة. ولكن هذا رأي ساقط لأنه
يغفل
جانبًا مهمًّا يميز هذه الأطر المفاهيمية التي تعمل على أساسها. إنها ليست أطرًا تعسفية،
وإنما هي نتاج عملية علمية سابقة. مثال ذلك أن العلماء لا يمكنهم دفع أشياء لكي تحلق
عالية
في عنان السماء مجرد اتفاقهم في الرأي على أن الجاذبية تعمل في اتجاه صاعد وليس نازلًا.
معنى هذا أنه لا بد من حقيقة واقعة شاهدة على صدق ما نقول، ولا بد أن تكون هذه الشهادة
ضمن
سياق موضوع في الحسبان.
ولكن ماذا نعني بالفهم؟ إن فهم شيء ما مختلف تمامًا عن وصفه في كل صغيرة وكبيرة. ونحن
لا
نستطيع وصف الطبيعة بالتفصيل الكامل. ولكن هدف الفهم هو الإمساك بعدد معين من قسمات الشيء
المميزة له والتي نريد تفسيرها وإلقاء الأضواء عليها. ويأتي الفهم على مستويات عدة. ونحن
في
مجال العلم يتحدد مستوى الفهم ونمطه بالمدى الذي يتسنى لنا على أساسه الإجابة عن أسئلة
مطروحة عن الطبيعة، وعلى نمط السؤال الذي يمكن أن نجيب عنه. وهناك على الأقل ثلاثة أنماط
مختلفة من الأسئلة، ولكل منها نمطها الخاص في الإجابة.
النمط الأول والأسهل هو السؤال بكيف؟ مثل كيف تتغير سرعة الجسم الساقط؟ والإجابة عنه
وصفية؛ أي بناء على النظرة الاختزالية. والنمط الثاني السؤال بلماذا؟ لماذا يسقط الجسم
متجهًا إلى الأرض؟ والنمط الثالث والأصعب هو السؤال بلماذا؟ ولكن على مستوى مغاير؛ أعني
على
المستوى الفلسفي؛ وهذا سؤال مفتوح غير مكتمل ولا منتهٍ، ويشتمل على السياق الذي تجري
فيه
الظاهرة. مثال ذلك سؤال: لماذا الكون الذي نعيش فيه متعدد الظواهر والجزئيات والأحداث
…
إلخ؟
وهناك واقعيًّا نمط رابع من الأسئلة يبدو في ظاهره للوهلة الأولى ضربًا من ضروب الفكر
العميق، ولكنه لا ينتمي إلى الفكر على الإطلاق. من ذلك مثلًا: ماذا حدث قبل أن يبدأ الزمان
مع واقعة الانفجار الكبير Big Bang؟ أو ماذا هناك وراء
الزمان والمكان؟ أو سؤال أنت لا تؤمن بالعفاريت ولكن ماذا تفعل لو رأيتها؟ … إلخ.
ونحن هنا نلتزم نهجًا مغايرًا يساعد على تقديم استبصارات على عكس النهج الاختزالي
الذي
يعرض لنا خليطًا نعجز عن النفاذ إلى داخله، ونسمي نهجنا نظرية التعقد
Complexity Theory؛ إذ يصوغ نماذج «لمنظومات معقدة
تأسيسًا على تفاعلات بسيطة بين أعداد كبيرة من العوامل الفاعلة.»
ولكن ما نحن بحاجة إليه عمليًّا هو: نظرية البساطة، Simplicity
Theory؛ أي طريقة فعالة وغير شاقة نسبيًّا لاستخلاص البسائط من خلال
القواعد الأساسية. وتتوفر لنا الآن بداياتها. ولقد اعتاد البشر منذ أقدم عصور التاريخ
البداية من البسيط إلى المركب. وطوَّر المخ البشري نهجًا غير اختزالي في تعامله مع العالم؛
أي النظرة الكلية قبل النظرة التحليلية، مثال ذلك أننا نسمع طائرًا يصدح، ونقف عند هذا
الحد. وليس المطلوب أن نسأل ما الذي يدور في خاطر الطائر وفي أي سياق أو بيئة؟ وما القيود
والشروط التي تفرضها هذه البيئة على السلوك؟ وهذا هو النهج السياقي أو البيئي
Contextualism في التفسير. إن النظرة الكلية أو
الشمولية Holism إمكانية واضحة. ولكن
ليس هدفنا أن يحل النهج السياقي محل النهج الاختزالي.
فقد حقق النهج الاختزالي نجاحًا في مجاله. وليس ثمة تناقض في الجمع بين الاثنين؛ ذلك
أن
الطائر يقبض ويبسط عضلات تطورت على مدى آلاف السنين، ولكنه أيضًا يشدو لأسباب محيطة به.
ولكن أهم ما يميز النهج السياقي أنه يركز على البساطة.