الطفيل والنملة
توجد دودة طفيلية مفلطحة الشكل تقضي فترة من حياتها داخل نملة، بينما تقضي فترة تكاثرها
داخل جوف بقرة. وطورت الدودة طريقة خاصة تحقق بها عملية الانتقال من حيوان إلى آخر؛ مما
يكشف عن مدى دقة عملية التطور؛ ذلك أن الدودة الطفيلية تصيب النملة بعدواها، وتضغط على
جزء
خاص من مخ النملة. ويؤثر هذا على السلوك العادي للمخ؛ مما يجعل النملة تتسلق جذع عشب
وتتشبث
به بفكيها. وتظل هكذا ممسكة بفكيها طرف العشب إلى أن تأتي بقرة وتأكل العشب. وهكذا تدخل
النملة إلى جوف البقرة.
إن التطور مبني تمامًا على عمليات تواطؤ مشترك بين أنواع كثيرة متباينة. وقصة الطفيل
والنملة حالة معبرة عن ذلك. والتواطؤ هنا أكثر من مجرد التفاعل؛ ذلك أن التواطؤ المشترك
يعني التفاعل الذي يؤدي إلى تغير الطرفين، ومع أنهما مختلفان إلا أنهما يستمران في التفاعل
والتغير مرة بعد أخرى.
ونحن نرى أن غالبية النظم الطبيعية متواطئة مع بعضها، وأن العالم الطبيعي، وبخاصة
المخ
البشري، لا يمكن فهمه فهمًا صحيحًا دون أن نضع هذا في الاعتبار؛ ذلك أن علاقة التواطؤ
تتولد
عنها ظواهر «طارئة»، مع ملاحظة أن سلوك المنظومة يتجاوز حدود سلوك أجزائها. ونحن نعتقد
أن
العقل والوعي والثقافة أمثلة من هذا النوع من الظواهر. معنى هذا أننا لا نستطيع فهمها
تأسيسًا على نهج اختزالي؛ ومن ثم يتعين على العلم أن يوسع من نطاق منهجه البحثي ليشمل
من
بين ما يشمل نظرية النشوء الطارئ Theory of
Emergnce.
ونذكر هنا كمثال على النشوء الطارئ جهازًا ذاتي الحركة «أوتوماتون» خلوي البنية،
ابتكره
جون هورتون کونواي Conway وسماه الحياة. وأثبت كونواي أن
بإمكان هذا الجهاز أن يحاكي آلة تورنج، نسبة إلى آلان تورنج، وهي حاسب آلي «كمبيوتر»
قابل
للبرمجة. وتعتبر آلة تورنج نموذجًا رياضيًّا بسيطًا للعملية الحسابية. وأثبت آلان تورنج
أن
ليس بالإمكان كمثال، تحديد سلوك الآلة على المدى الطويل، بمعنى أنه من المستحيل أن نثبت
مقدمًا إذا ما كان البرنامج سيتوقف وينتهي أم لا. وأن ترجمة هذا إلى لغة الحياة يعني
استحالة الإجابة القاطعة عن سؤال: «هل سيظل هذا التكوين يتغير إلى الأبد أم سيذوي وينتهي؟
ويرى في هذا برهانًا «كيفيًّا» قاطعًا على النشوء الطارئ الأصيل.»