الكليات والجزئيات الفردية
إن تطور الذكاء رفيع المستوى تطور شامل؛ ذلك لأن التعقد الحسي والسلوكي زاد زيادة مهولة في أفرع عديدة من أفرع شجرة التطور. وربما لا تجد ندًّا يضارع ذكاء البشر على الأرض. وإذا افترضنا أن البشرية اندثرت فسوف تفيد كائنات عضوية أخرى من اندثارنا إذ تتهيأ لها الفرصة لتطوير ذكائها.
وتذهب النظرية التقليدية في تفسيرها للذكاء على أساس نظرة اختزالية إلى ما يلي: بدأ الذكاء في صورة أعضاء حس بدائية. ثم تنتقل النظرية إلى المرحلة التالية حيث الخلايا العصبية التي نشأت، وتراها نوعًا من منظومات الاتصالات الهاتفية الموصلة للإشارات الحسية، وتفسر بعد ذلك كيفية تشابك الخلايا العصبية مع بعضها في شبكات تزايدت كفاءة ومهارة حتى تصل ذروتها في صورة مخ ألبرت أينشتين، ولكن يعيب هذه النظرية أنها أغفلت كل شيء انطوى عليه تطور الذكاء؛ فالكائنات تكون ذكية نظرًا لوجود شيء ما تكون ذكية معه وإزاءه أثناء فعلها أو تفاعلها. ولهذا نربط نحن بين الذكاء البشري وبين الثقافة البشرية. وهذان طرفان متواطئان متضافران يغذيان بعضهما بعضًا ويؤثر كل منهما في الآخر؛ ومن ثم يتعدلان ويتلاءمان بالتبادل مع كل خطوة من خطوات التطور.
واخترنا أن نناقش من الحواس البصر والسمع والشم.
البصر
العين على الرغم من تعقدها فهي صريحة مباشرة، وهي أكثر تعقدًا من آلة التصوير. وتوجد أنماط مختلفة من العيون في المملكة الحيوانية. نذكر منها على سبيل المثال عين الذبابة المتعددة العدسات. ولكن سنركز هنا على العين البشرية. تتألف العين البشرية من سطح حساس للضوء هو الشبكية، وعدسة لمركزة الضوء في بؤرة فوق هذا السطح، والقزحية لملاءمة مستوى الإضاءة، والقرنية ولها وظائف عدة من بينها العمل كعدسة إضافية …
وينقل النظام البصري عند الإنسان الصورة بعد تثبيتها إلى المخ لمعالجتها كشيء حي ملون ثلاثي الأبعاد موجود في العالم الخارجي مع تداعيات ذلك من مفاهيم؛ مثال: «هذه بقرة، تدر اللبن، بعضها يصاب بالجنون … إلخ». ولكن العين دون المخ لن ترى صورًا. وجدير بالذكر أن القطط الوليدة إذا لم تعتد عيناها رؤية الخطوط الأفقية في مرحلة محددة من نموها الباكر فإنها حين تكبر «لا ترى» بعينيها خطوطًا أفقية أبدًا. معنى هذا ارتباط ضروري بين الإبصار والمخ لتفسير الصورة وليكون لها معنى، وأن كليهما مرتبط بالتدريب (الثقافة).
الشم
والشم حس غير عادي. إنه حس قديم، بل لعله الأقدم زمنًا وربما يعود إلى بليون سنة أو أكثر. والملاحظ أن الروابط الحسية تربط الأنف مباشرة بأقدم مناطق المخ. ويمكن لحاسة الشم أن تستثير ذكريات قديمة خافية. ولعل السبب في ذلك أن مناطق المخ البشري التي كانت مخصصة لمعالجة المشمومات أصبحت مستخدمة كذاكرة. والملاحظ أن غالبية كبار السن أو البالغين من البشر يعجزون عن استبيان مشمومات معينة. ويشبهون في هذا القطط التي تعجز عن رؤية الخطوط الأفقية إذا لم تتدرب عليها في مرحلة النمو الباكر، ويشبهون صغار أطفال البشر الذين يشذبون من أصوات مناغاتهم لتتلاءم وتتآلف مع لغة ثقافتهم، ويفقدون القدرة على «سماع» «فونيمات» أو الوحدات الصوتية غير المألوفة في لغتهم. وهكذا فإن المخ المتطور الذي لا تنبهه مشمومات معينة في مرحلة بذاتها من مراحل النمو قد يفقد القدرة على تعرُّف هذه المشمومات.
بناء على هذا يمكن القول إن حاسة الشم تعتمد على مجموعة اعتباطية من الاختيارات؛ أعني أنها آلية عامة شاملة ولكنها تتحقق في واقع الحياة على أساس انتقائي محدود، ويتعين أن يتوفر للكائن العضوي هنا نوع من الدوائر العصبية للاستجابة إزاء أنماط محدودة من التنبيهات الشمية، وكذلك البصرية أو غيرها والمرتبطة بسلوك محدد من جانبه أو من جانب عناصر البيئة المحيطة. مثال ذلك الحيوان المفترس والفريسة؛ إذ إن كلًّا منهما تستثيره منبهات محددة ويستجيب إليها الاستجابة الملائمة لبقائه ولغرضه وظروفه. وتحذرنا هذه الملاحظة من أن نفكر في موضوع الحواس بمعزل عن شبكة الدوائر العصبية المرتبطة بها وعن ما تدركه وتحسه هذه الحواس.
ولكن ما مصدر هذا التعقد وكيف نشأ؟ وكيف يمكن لدوائر بسيطة من الخلايا العصبية أن تنفذ مهامَّ معقدة؟ تُجرى بحوث كثيرة ومتزايدة باطراد، في مجال الرياضيات والحواسب الآلية والكمبيوتر والبيولوجيا وعلم النفس لدراسة هذه الإمكانات. وموضوع الدراسة الشبكات العصبية حيث توجد شرائح وطبقات من الوحدات التي تعمل في صورة نموذج مبسط من الخلايا العصبية، ومرتبطة ببعضها بوسائل مختلفة، ومدربة على تأدية مهام محددة مثل تعرُّف إشارة واردة.
وها هنا نقول إن الإنسان جديد دائمًا؛ إذ يتغير مع تغير المنبهات والمدخلات من حوله. وبهذا يكون التطور المشترك العضوي للجهاز العصبي ولأجهزة الحس أو لنقل المخ. وتكون لمناطق المخ المختلفة وظائف مختلفة، ولكننا نقول علاوة على أداء الوظائف المختلفة إن المخ يتصف بالذكاء. ويرى أكثر علماء البيولوجيا الذكاء وكأنه مجرد معالجة إضافية لهذه الوظائف يقوم بها المخ بما لديه من قوًى موروثة متأصلة. ولكن مشكلة هذه النظرية أننا مهما صنعنا من شبكات عصبية أو غيرها فإن هذه الأجهزة لا تتصف بالذكاء. ويبدو الأمر وكأننا نفتقد عنصرًا مهمًّا. ونحن هنا نقول إن العنصر المفتقد ليس العقل الذي حدثنا عنه ديكارت، وإنما عنصر السياق البيئي المشترك للثقافة التي تتطور بالاشتراك معه.