مجال علم الاجتماع ومنهجه
في هذا الفصل سأتناول، بشيءٍ من الشرح أولًا، مجالَ علم الاجتماع ومنهجه، ثم أتحدث عن علاقته بسائر العلوم الاجتماعية الأخرى، وبالفلسفة الاجتماعية.
إن علم الاجتماع، في أوسع معانيه، هو دراسةُ التأثيرات والعلاقات الإنسانية المتبادلة، وما يتحكَّم فيها من شروط، وما ينجُم عنها من نتائج. ولو نظرنا إلى الأمر من الوجهة المثالية، لوجَدْنا أن ميدان علم الاجتماع ينتظمُ كلَّ مظاهر حياة الإنسان في المجتمع، وكلَّ أوجه النشاط التي يحافظ بها الناس على وجودهم خلال صراعهم من أجل البقاء، وكل التنظيمات والقواعد التي تحدد علاقاتِهم بعضهم ببعض، ومذاهبهم المختلفة في المعرفةِ والعقيدة والفن والأخلاق، وسائر أنواع القُدرات أو العادات التي اكتسَبَها الناس، وعملوا على تنميتها خلالَ ممارستهم لنشاطهم بوصفهم أفرادًا في الجماعة.
على أنَّ من الواضح أن هذا المثل الأعلى مبالغٌ فيه كل المبالغة، فمن الجليِّ أنه ليس في وسع أيِّ علم أن يخطُوَ في طريقه خطوات واسعة، إذا حاول أن يُعالج كل نسيج العلاقات البشرية في تفرعاتها اللانهائية. فكيف إذن نصلُ إلى تحديد مجالِ علم الاجتماع؟
إن وجهةَ النظر الأولى قد عُرضت على أنحاءٍ شتَّى، لن نذكر منها هنا إلا أهمَّها؛ فعلم الاجتماع عند زمل يُبنى على التمييز بين أشكال العِلاقات الاجتماعية وبين محتواها أو مادتها؛ فالتنافس، والائتمار أو الخُضوع، والتنظيم المتدرج، وتقسيم العمل، هذه كلُّها أمثلة لعلاقات تتمثل في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية، كالميدان الاقتصادي، أو السياسي، بل حتى في الميدان الديني أو الأخلاقيِّ أو الفني. ومهمة علم الاجتماع العام هي أن يكشف عن هذه الصُّور للعلاقات العامة ويدرسها مُجرَّدة من المادة أو المحتويات التي تتمثل فيها هذه العلاقات. وتبعًا لهذا الرأي تكون العلاقةُ بين علم الاجتماع وبين العلوم الاجتماعية الخاصة هي أنَّه يدرس نفس موضوعها، ولكن من زاويةٍ مختلفة، أعني من زاويةِ الصور المختلفة للعلاقات الاجتماعية.
ومن الجليِّ أن لهذا الفهم ولأمثاله مما يعد علم الاجتماع دراسة متخصِّصة قيمة كبرى؛ فتحليل أنماط العلاقة الاجتماعية وتصنيفُها لا بد — في أي رأيٍ من الآراء — أن يكون جزءًا من دراسة علم الاجتماع. على أن للمرء أن يشكَّ فيما إذا كان هذا التحليل والتصنيف يحل — كما يقرِّر أنصاره — مشكلة العلاقة بين علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية الخاصَّة؛ ذلك لأن دراسة العلاقة الاجتماعية تظلُّ عقيمة إذا ما ظلَّت مجردة، ولم تكملها معرفةٌ كاملة بالأطراف التي تربط بينها هذه العلاقة في الحياة الواقعية. ولنضربْ لذلك مثلًا: فدراسة المنافسةِ تظل قليلة الجدوى ما لم نتتبع بالتفصيل مظاهرَها في الحياة الاقتصادية أو في عالم الفنِّ والمعرفة، بل ربما كانت العواملُ التي تتوقف عليها العلاقات الاجتماعية تتباين تبايُنًا شديدًا في مختلف ميادين الحياة، كأنْ يكون للائتمار بالنسبةِ إلى الأسرة تفسيرٌ يختلف عن تفسيره بالنسبة إلى الكنيسة وبالنسبة للدولة. وليس في وُسعنا أن نقرِّر أكان الأمر كذلك أم لا إلا عن طريق معرفة مفصَّلة بهذه النظم. وهكذا نجد لزامًا علينا أن نوسِّع نظرتنا إلى علم الاجتماع من حيث هو دراسة للعلاقات الاجتماعية بوجهٍ عامٍّ، وذلك عن طريق إضافة علوم اجتماعية خاصة أخرى، تبحث في تلك العلاقات كما تتمثلُ في المجالات الحضاريةِ الكبرى، كعلم الاجتماع الديني، أو الفني، أو التشريعي، أو المعرفي. على أن هذا يؤدِّي إلى أن تظهر مرةً أخرى مشكلةُ العلاقة بين علوم الاجتماع الخاصة هذه، وبين علم الاجتماع الأعمِّ ذي النظام الخاص. فهل يكون في ذلك رجوعٌ إلى النظرة الموسوعية الجامعة لعلم الاجتماع؟
علينا، قبل أن نجيب عن هذا السؤال، أن نتأمل هذه النظرةَ الأخيرة إلى علم الاجتماع بمزيدٍ من التفصيل. فالشيء الوحيد المؤكَّد هو أن كلَّ أجزاء الحياة الاجتماعية متداخلةٌ ومرتبطة ارتباطًا وثيقًا، فإن لم يكن المجتمع كائنًا عضويًّا، فلا جدالَ في أن في طبيعتِه شيئًا عضويًّا، بمعنى أن أجزاءَه تؤدي وظائفها سويًّا، وبمعنى أن التغيُّرات التي تطرأُ على أي جزء منه يتردد صَداها في الكل. وعلى ذلك، فمن المهمِّ إلى أقصى حدٍّ أن يُدرس أي مجتمع على أنه كلٌّ، وأن تُفهم طبيعةُ التفاعلات بين عناصره المختلفة. ومن الطبيعيِّ جدًّا أن نرى الباحثَ المتخصص يطالب بأرفع مكانة لما تخصَّص فيه من عناصر الحياة الاجتماعية؛ فدارس السياسة مثلًا يميل إلى أن يوحد بين الدولة وبين المجتمع كلِّه، وعالم الاقتصاد يَميل أن يرَى في تغيُّرات الأحوال الاقتصادية أصلًا لكل تغيرٍ اجتماعي، ومؤرِّخ الأديان أو الأخلاق يميل إلى أن يجعل للمُعتقدات الدينية أو الأخلاقية للشعوب دورًا حاسمًا، على حين يركِّز دارسُ العلوم الطبيعية نظرَه في التطور العقلي والعلمي. غيرَ أن العلاقة المتبادلةَ بين عناصر الحياة الاجتماعية هذه لا يُمكن أن تُحدَّد إلا عن طريق التوسُّع في الدراسة الاستقرائية المقارِنة؛ وهي نوع من الدراسةِ لا يتم عادةً في العلوم المتخصصة التي يهتم كلٌّ منها بجانب واحد من جوانب الحضارة.
فمن الجلي إذن أن الحاجةَ تدعو إلى قيام علمٍ اجتماعي عام شامل، يستغل النتائج التي وصل إليها المتخصصون، ولكنه يهتم خاصةً بعلاقاتها المتبادلة، ويحاول أن يقدم تفسيرًا للحياة الاجتماعية بوجهٍ عام.
وهذا الرأي لا يختلفُ في أُسسه العامة اختلافًا جوهريًّا عن رأي «هبهوس» الذي ساهم هو نفسُه بنصيب هامٍّ في فروع متعددة للبحث الاجتماعي، كما ساهم في علم الاجتماع العام؛ فالمثل الأعلى لعلم الاجتماع في نظرِه هو أن يكون مركبًا من دراساتٍ اجتماعية متعددة، أما المهمة المباشرة التي يتعين على عالم الاجتماع أن يحقِّقَها، فهي مهمة مزدوجة؛ فعليه أولًا بوصفه عالمًا متخصصًا، أن يتابع دراساتِه في الجزء الذي تخصَّص فيه من المجال الاجتماعي، ولكنا إذا وضعنا نصبَ أعيُننا ما بين العلاقات الاجتماعية من تداخُل، وجَدْنا أن عليه ثانيًا، وعلى نحو أعم، أن يمهِّد الطريق للتركيب النهائي، عن طريقِ مناقشة المفهومات المركزية التي يمكن أن تكون نقطة بداية للمركَّب، وعن طريق تحليل الطابع العام للعِلاقات الاجتماعية، ودراسة عوامل الثبات والتغيُّر، وطبيعة النمو الاجتماعي وشروطه.
والحق أن التأمل العميق للآراء التي تبيَّن لنا من قبلُ أنها تتعارض في فهمها لعلم الاجتماع، يوضِّح لنا أنه لا يوجد بينها خلافٌ ضروري في حقيقة الأمر؛ ذلك لأن دراسة العلاقات الاجتماعية مجردةً من محتواها، لا بد أن تؤدِّي إلى تحقيقٍ للنتائج التي اهتدى إليها عن طريق الرجوع إلى الوقائع التاريخية، وهذه مهمةٌ لا يحقِّقُها بنجاح إلا المتخصصون في مختلِف مجالات البحث الاجتماعي. أما ذلك العلمُ الذي سمي باسم علم الاجتماع العام أو الشامل، فمن المحال أن يكون قوامه ثبتًا لمقولاتٍ وأنماط خالية من الحياة، بل ينبغي عليه أن يثبت حيويتَه إذا ما رُبط بالتاريخ وعلم الإنسان، والدراسة الفعليَّة للنظم الاجتماعية. فالتركيب والبحثُ التفصيلي أو المتخصص، كلاهما ضروري، ومن الممكن أن يسيرَا جنبًا إلى جنب. والحق أن علم الاجتماع في هذه الصفة يماثلُ غيرَه من العلوم التي تَتَّخذ من الكائنات الحية موضوعًا لدراستها؛ فعلم الحياة مثلًا، هو بمعنًى من المعاني، مجموعةُ علوم متعددة، كلٌّ منها عظيم التخصص، ولكن أحدًا لا ينكر أن هناك أيضًا علمَ حياة عامًّا، هو نسق تام من المعرفة يتعلق بأحوال الحياة عامة. وكذلك الحال في علم الاجتماع، حيث توجد دراسات مُتخصصة متعددة، تتعلق بأوجه مختلفة للحياة الاجتماعية، ومن وجهة النظر هذه يكون علمُ الاجتماع مجموعةً كاملة من العلوم الاجتماعية. أما بالمعنى الآخر، فيكون علمُ الاجتماع هو ذاته علمًا متخصصًا، موضوعه هو كشف الروابط التي تجمع بين الفروع الأخرى، وهدفُه هو كشف الطابع العام للعلاقات الاجتماعية.
- (١)
يسعى علم الاجتماع إلى أن يأتي بما يُمكن أن يُسمَّى دراسة للأشكال، أعني تصنيفًا لأنماط العلاقات الاجتماعية وأنواعها، وخاصةً تلك التي تحددت في نظم وهيئات اجتماعية.
- (٢)
يحاول علم الاجتماع أن يحدِّد العلاقة بين الأجزاء أو العوامل المختلفة للحياة الاجتماعية؛ ومن أمثلة ذلك العلاقةُ بين العناصر الاقتصادية والسياسية، أو بين العناصر الأخلاقية والدينية، أو بين الأخلاقية والقانونية، أو بين العقلية والاجتماعية.
- (٣)
يحاول علمُ الاجتماع أن يميز الأحوال الأساسية لكلٍّ من التغيير والثبات الاجتماعيَّيْن.
ولما كانت العلاقات الاجتماعية تتوقف على طبيعةِ الأفراد وعلاقاتهم (أ) بعضهم ببعض، (ب) وبالجماعة، (ﺟ) وبالبيئة الخارجية؛ فإن علم الاجتماع يسعى إلى أن ينتقلَ من تعميماته التجريبية الأوليَّة إلى القوانين الأعم المتعلقة بعلم الحياة وعلم النفس، وربما انتقل إلى قوانين اجتماعية متميِّزة، أي قوانين ذات طابع خاص به، لا تُردُّ إلى تلك القوانين التي تتحكم في حياة الكائن العضوي الفردي أو في عَقْله. وينبغي على علم الاجتماع، إذ يأخذ على عاتقِه هذه المهمة الطموح، أن يوثق صلته بعلومٍ متخصصة أخرى كالتاريخ والتشريع المقارن وعلم الإنسان، وهي علومٌ تدخل في ذاتها في المجال الاجتماعي، وكذلك بعلوم أخرى أعمَّ في مجالاتها كعلم الحياة وعلم النفس. وهدفُه العام هو تحديد علاقة الوقائع الاجتماعية بالمدنية عامة، وهذا يقتضي الجمعَ بين النتائج على نحوٍ لا يمكن أن تُقدَّم عليه العلوم المتخصصة بصفتِها الخاصة.
أما مناهج علم الاجتماع، فإنها تُساير طبيعيًّا مجالَه كما حددناه. ولسنا هنا بحاجة إلى أن نعالج موضوع المبادئ العامة للتصنيف، التي يتضمنُها البحث في الأشكال الاجتماعية، فلا جدال في أن جهودًا هائلة قد بُذلت في هذا المضمار من قبلُ، فأمكن تمييزُ أنواع مختلفة للأسرة، سواء أكان ذلك على أساس نوعِ الزواج أو نظام القرابة التي ترتبط به، أو مركز السلطة في الأسرة ومدى هذه السُّلطة، أو علاقة الأسرة بالجماعة الاجتماعية التي هي أوسع منها محيطًا. كما قُسمت أشكال التملك على أساس الهيئة التي تُوكَل إليها مهمة الإشراف على ما يُملك، أو على أساس العلاقة التي تقوم بين التملُّك وبين البناء الاقتصادي بوجه عام (وهو تقسيم قد يكون أنفعَ من سابقه). أما النظم السياسية، فقد سبق أن صنَّفها أرسطو تصنيفًا طريفًا. ومنذ ذلك الحين ظهرت تصنيفاتٌ عدة، تختلف قيمتُها باختلاف سياقها. كما بُذلت جهود هائلة لإيجاد تصنيفات وصفية لظواهر القانون، والأخلاق، والتدين، والأسطورة، واللغة.
- (١) علينا أولًا أن نبحثَ أي عناصر الحياة الاجتماعية تترابط ترابطًا وظيفيًّا. والفضل يرجع ﻟ تيلور Tylor في الاهتداء إلى إحدى صُور هذا المنهج، الذي أسماه منهج «تعقُّب الارتباطات Tracing Adhesions» فقد طبَّق هذا المنهج على الدراسة المقارنة والإحصائية للنظم المتعلقة بالأسرة في الشعوب البدائية، فبيَّن مثلًا أن تجنب الحماة يرتبط بعادةِ الإقامة في مسكن الأمِّ (أعني بالقاعدة التي تقضِي على الزوج بأن ينتقل للإقامة مع أهل زوجتِه)، وذلك بأنْ أوضَحَ أن وجود العادتين مرتبطتَيْن أغلب من وجودِ كلٍّ منهما مستقلةً عن الأخرى. ومنذ ذلك الحين توسع الباحثون في هذا المنهج وعمَّموه، وعلى الرغم مما يكتنفه من صعابٍ جمة، ناشئة عن غموض الوقائع التي يقدِّمها إلينا علمُ الإنسان والتاريخ، وعن افتقار الوَحْدات التي ينبغي استخدامها إلى التحديد بطبيعتها، على الرغم من ذلك كله؛ فقد تبيَّن أنه منهجٌ مثمر، يثير فروضًا اجتماعية قيِّمة. ولنضربْ لذلك بضعة أمثلة: ففي دراسةٍ للتنظيم الاجتماعي للشعوب ذات الحياة البسيطة، بُذلت محاولة لقياس درجة الارتباط بين أنماط التركيب الاقتصادي وبين مختلف النظم الاجتماعية، كالأسرة، وأشكال الحكومة، والملكية، والحرب، والتفاوُت بين الطبقات. وتوحي الوقائع بأن هناك تناسُبًا طرديًّا بين نمو روح النظام، التي تُقاس بمدى سيادة العدالة بين الناس وبتوسع الإدارة الحكومية في مَداها ودقَّتِها، وبين المرحلة التي بلَغَها التنظيم الصناعي. ومن ناحية أخرى، نجد ترابُطًا بين العوامل الاقتصادية وتطور التنظيم الحربي، واسترقاق الأسري بدلًا من قتلهم أو إطلاق سراحهم أو تبنِّيهم. كما أن ظهور طبقة النبلاء، واتساع مدى عبوديةِ الفلاحين يبدو مرتبطًا بنمو النظام الاقتصادي.٨
- (٢)
ولا بد أننا قد لاحظنا أن الجزء الأول من هذا المنهج يؤدِّي بنا — دون أن نشعر — إلى مرحلته الثانية، التي تتبيَّن فيها هل هناك انتظام معين فيما يطرأ على النظم من تغيُّرات، وهل التغيرات التي تطرأُ على أي نظام بعينه ترتبط بتغيُّرات في النظم الأخرى. ومن قبيل ذلك أن نتساءل: هل ترتبطُ التغيرات في تركيب الطبقات بالتغيرات في التنظيم الاقتصادي، أو هل ترتبط التغيرات في أشكال الأسرة ووظائفها بتغيرات في النظام الاقتصادي أو في المعتقدات الدِّينية أو في الأخلاق؟ والمشكلة في كل ذلك هي أن نتبيَّنَ إلى أي حد يستتبع كلٌّ من هذه التغيُّرات المختلفة بقيةَ التغيرات. وفي وسعنا الاهتداء إلى جواب هذه الأسئلة بالتوسع في تطبيق منهج تعقب الارتباطات، فلا يقف عند كونه مجرد مقارنة لحالات مُتعاصرة، بل يصبح دراسة للتغيرات المتعاقبة، أو مجموعات التغيرات المتعاقبة.
- (٣) ولو أمكن وضعُ القوانين التي تعبر عما بين التغيرات المتعاقبة من ترابط لوصلنا في ذلك، على ما أعتقد، إلى ما أسماه «مل» «المبادئ الرابطة» لعلم الاجتماع. ومع ذلك فلن تقدِّم إلينا تلك القوانين في هذه الحالة تفسيرًا نهائيًّا للظواهر الاجتماعية، أو تجعل من الممكن التنبؤ بالاتجاهات المقبلة. وإنما ينبغي أن تُربط هذه المبادئ بقوانين أعمَّ وأشمل؛ تبعًا لما أسماه «مل» بالمنهج الاستنباطي العكسي.٩ أما هذه القوانين الشاملة فهي في رأيه قوانين علم النفس، وقوانين ذلك العلم الجديد الذي اقترح له اسم «علم العادات Ethology» والذي يناظر إلى حدٍّ بعيد ما يُسمَّى اليوم بعلم النفس الاجتماعي. أما قوانين علم الحياة فلا يناقشُها «مل» في هذا الصدَد. ويبدو أن وجهة نظره في ذلك هي أن علينا أن نسير في تفسيرنا للأُمور الإنسانية بقوانين الطبيعة الإنسانية في صلتِها بالظروف المختلفة، ولا نلجأُ إلى الفروق في النزعات الفطرية إلا إذا كان لدينا جزءٌ باقٍ لم يتمَّ تفسيره بتلك القوانين. على أن من الواجب أن ننظرَ إلى دور العوامل الموروثة في الحياة الاجتماعية على أنَّه موضوع لم يُقطع فيه برأي بعد، وربما كان لزامًا علينا أن نُوليَه من الاهتمام قدرًا أكبر مما أولاه «مل». ولنلاحظ، بعد ذلك، أن «مل» لم يدركْ على نحو كافٍ كلَّ مضمونات ما أطلق عليه، مع كونت، اسم التوافق الاجتماعي. فمن الجائز جدًّا أن تكون العوامل المختلفة للحياة الاجتماعية قد بلغ تشابكُها بعضُها ببعض حدًّا يجعل من المحال إرجاعَ القوانين التي تتحكم فيها إلى قوانين علم الحياة أو علم النفس، أي أن تكون هناك قوانين اجتماعية لها طابَعها الخاص. وعلى ذلك، فنحن بينما نوافق «مل» على أن منهجَ علم الاجتماع هو في أساسه ما أسماه بالمنهج الاستنباطي العكسي، أي ذلك المنهج الجامع بين التعميم الاستقرائي الذي نصلُ إليه عن طريق المنهج المقارن أو المناهج الإحصائية، وبين الاستنباط من قوانين أعم، بينما نوافق على ذلك، ليس لنا أن نذهبَ إلى أن علم الاجتماع هو — في نهاية الأمر — مجرد علم نفس تطبيقي. أما مسألة الالتجاء إلى قوانينِ علم الحياة، وربما إلى القوانين التي تتحكَّمُ في الحياة، وفي تطور المجتمعات الإنسانية في ذاتها، فلنتركها مفتوحة دون أن نبتَّ فيها برأيٍ قاطع.
(١) علم الاجتماع والفلسفة الاجتماعية
ترجع جذور علم الاجتماع، من الوجهة التاريخية، إلى علمِ السياسة وفلسفة التاريخ. فعند مفكري اليونان لم تكنِ السياسة والأخلاق مبحثَين متميزين، وإنما كانتا قسمين لدراسة واسعة للإنسان بوصفه كائنًا اجتماعيًّا. وهذه الدراسة بدورها تخضع لنظريةٍ أعم عن الطبيعة وعن مكان الإنسان فيها. أما في العصر الحديث، فقد أصبح علم السياسة يهتمُّ أساسًا بثلاث مشكلات، منها ما هو فلسفي ومنها ما هو علمي. فهو أولًا دراسة للأشكال الفعلية للحُكومات وظروف قيامها، وبقائها أو تغيرها؛ وهو يبحث ثانيًا في طبيعة الغايات التي ينبغي أن تستهدفها الحكومات، وفي الأساس الأخلاقي للسلطة. وهو يعالج ثالثًا فنَّ الإدارة الحكومية. ويمكن القول بأن علم الاجتماع قد ظهرَ بوصفه امتدادًا لمجال البحث السياسي إلى نُظم أخرى غير الدولة، كالأسرة أو أشكال الملكية، وغيرها من عناصر الحضارة والمدنية، كالأخلاق والدين والفن، وذلك إذا نظرنا إلى هذه الظواهر على أنها نواتجُ اجتماعية، ودرَسْناها في علاقتِها بعضها ببعض. على أن العلاقة بين دراسة الأشكال الفعلية للنُّظم وبين غاياتِ الفعل الإنساني أو مثله العليا، تفتقر هنا، مثلما تفتقر في مجال السياسة، إلى التحديد الواضح. أما الأصلُ الثاني لعلم الاجتماع فهو فلسفةُ التاريخ، التي أصبحت في العصر الحديث محاولة طَموحًا لإيجاد تفسير لمجرى التاريخ البشري كله، وهي بهذه الصفة تكوِّنُ جزءًا من نظرة فلسفية إلى العالم أوسع منها وأشمل. ومن هنا يمكن القول بأن علم الاجتماع قد ظهر بوصفِه ردَّ فعل للأحكام العامة الجائحة، التي لا يدعمها بحثٌ استقرائي مفصل؛ لذا أصبح من المعتاد، في البحوث الأخيرة، أن يُميَّز علم الاجتماع عن الفلسفة الاجتماعية. وسأعرض الآن للصلات بينهما بإيجاز.
تشتمل الفلسفة الاجتماعية على جانبَيْن: جانب نقدي أو منطقي، وجانب إنشائي أو تركيبي. ومهمة الأول هي أن يبحثَ في منطق العلوم الاجتماعية، وفي مدى صلاحية المناهج والمبادئ التي تستخدمها هذه العلوم. ومن قبيل المشكلات التي يناقشُها مشكلة صلاح فكرة القانون، مفهومًا بمعنى الارتباط الضَّروري، للتطبيق في ميدان النشاط البشري، وكيف ترتبط مثل هذه الارتباطات المطردة بالإرادة الإنسانية؛ أو مشكلة أن عنصر الفردية قد يؤدي إلى بعث عاملٍ من عوامل الشك يهدِّد بالقضاء على أيِّ تعميم جدِّي في علم الاجتماع. أما الوجهُ الإنشائي للفلسفة الاجتماعية، ففيه تبحث في مدى صلاح المثل العليا الاجتماعية. فهي، من هذه الزاوية، تطبيق لنتائج الأخلاق على مشكلات التنظيم الاجتماعي والنمو الاجتماعي. فمشكلة التقدم، مثلًا، تتعلق بعلم الاجتماع وبالفلسفة الاجتماعية، ما دام بحثُنا إياها يقتضي منا، لا أن نعرف التغيرات التي تحدث بالفعل فحسب، بل أن نعرف أيضًا مدى مطابقةِ هذه التغييرات لمقاييسنا الأخلاقية أو معاييرنا التقويمية. ويمنعني ضيق المجال من أن أخوض هنا في موضوع الجانب النقدي أو المنطقي للفلسفة الاجتماعية، بل سأقصر اهتمامي على المشكلات التي تُثيرها العلاقات بين دراسة الوقائع وارتباطاتها المتبادلة، وهي الدراسة التي تقع في نطاق العلم الاجتماعي، وبين دراسة القيم التي يُجمع الباحثون على أنها علم من العلوم الفلسفية.
إن التمييز بين الوجهين ليبدو جليًّا لأول وَهْلة، وبالفعل نجد أن البحوث الحديثة في العلوم الاجتماعية قد أكدت أهمية استقلالِ الوجه العلمي عن كل مشكلة متعلقة بالتقويم. ومن العوامل التي أوحتْ إلى العلماء تأكيد هذا الحِياد الأخلاقي، تلك الرغبة المحمودة في التنزُّه العلمي في الأمور التي تتعلق بالانفعالات والأهواء البشرية، ومنها أيضًا ذلك الزعم غير المؤكد، القائل بأن أحكام القيم ذاتيةٌ ولا يمكن أن تُختبر بواسطة الوسائل العلمية المعتادة. ومن الممكن معالجة هذا الموضوع من وجهتَيْ نظر متميزتَيْن: أولًا أن نتساءل: أليست دراسة القيم ذاتها لأنماط معينة من الواقع، أعني أفعال التقويم أو عملياته؛ فمثلًا، أليست الأخلاق في نهاية الأمر فرعًا من علم الاجتماع؟ أعني دراسة للوسائل التي يصل بها البشَر، بوصفهم أفرادًا في مجتمع، إلى استحسان فئات معينة من الأفعال واستهجان فئات أخرى، ودراسة للأحوال النفسية والاجتماعية التي تطوَّرتْ من خلالها العقائد والعادات الأخلاقية؟ ولنا أن نتساءَلَ ثانيًا: هل في وُسعنا، خلال بحثنا للوقائع الاجتماعية، أن نترك جانبًا كلَّ إشارة إلى الغايات والمثل العليا والأماني الإنسانية؟ أليست الغايات والآمال هي ذاتها المادَّة التي تُصنع منها الأحداث الاجتماعية؟ أليس من صميم مشكلتنا أن نحدد أن للأهداف أهميةً بالنسبة إلى مجرى المدنية أو أنه ليس لها أهمية، وأن نحدد على الأخص كونَ النظم تحقق بالفعل تلك الوظائف أو الأهداف التي يقال لها إنها تحققها، أو أنها مجردُ مظهر خيالي أو عقلي لميول خفيَّة كامنة؟ أليس من الواضح أن الغايات والقيم ينبغي أن تكون — بمعنًى معين — جُزءًا من العلم الاجتماعي، وأن التمييز بين الفلسفة الاجتماعية وبين علم الاجتماع لا يُطابق تمامًا ذلك التمييزَ بين دراسة الوقائع وبين دراسة القيم؟
ومهمة الأخلاق من حيث هي علم، هي البحث في العلاقة بين هذه الظواهر الاجتماعية التي هي القواعد الأخلاقية، وبين سائر الظواهر الاجتماعية، بحيث إن المعرفة التي نصل إليها من هذا البحث لا بد أن تؤدي بنا — كما هو الحال في كل معرفة للواقع — إلى موقف نتمكن فيه من السيطرة والتوجيه. وبعبارة أخرى، مهمة الأخلاق ليست مجرد تقنين القواعد الأخلاقية التي تفرضها أو فرضتها، مختلف المجتمعات — إذ لو كان الأمر كذلك، لأدى بنا ذلك إلى فهمٍ للأخلاق محافظ لي حد بعيد، ومعادٍ لكل إصلاح، وإنما هي أن نستغل معرفتنا بتطور العادات الأخلاقية في معالجة المشاكل الشائعة، وذلك بأن نبين، مثلًا، أن المجتمع يجهل في لحظة معينة عناصر معينة ثبتت قيمتها في الماضي. وهكذا يكون في وسع الأخلاق، في فترة كهذه الفترة الحالية، حيث يظهر الميل إلى تجاهل حقوق الأفراد، يكون في وسعها أن تشير إلى الدور الهام الذي كان لهذه الحقوق من قبل في بناء المجتمع الإنساني. ومن جهة أخرى، قد يكون في وسع علم العادات الأخلاقية أن يكشف ما يوجد من اتجاهات عاملة ناشطة تتعارض مع القواعد الأخلاقية الشائعة، وأن يبين أن هذه القواعد الأخلاقية تلائم في حقيقة الأمر ظروفًا للحياة الجماعية بدأت تسير في طريق الاندثار. وعلى هذا النحو يقول صاحب هذا الرأي إن هذا العلم، رغم كونه مجرد دراسة للظواهر الاجتماعية، يمكننا، بمعنًى ما، من تجاوز الوقائع الموجودة، ويمكن أن يكون موجهًا للسياسة الاجتماعية.
فإذا شئنا أن نحدد قيمة هذه النظرية وأشباهها، كان علينا أن نتساءل هل هي متسقة مع ذاتها بحق، وهل فيها الجواب عن أهم الأسئلة التي نريد أن نجد لها جوابًا. فأولًا: ما المعيار الذي يمكننا أن نحدد به أن لدى المجتمع من الأخلاق ما يحتاج إليه؟ لقد ذكر «دوركيم» نفسه أن هذا الأمر لا يمكن أن يتم بمجرد تحليل الرأي السائد. فما يهمنا هو أن نعلم ما يكونه المجتمع بالفعل، لا ما يعتقد أنه يكونه؛ إذ إنه قد يكون مخدوعًا في هذا الأمر. إن ما يحتاج إليه المجتمع ليس هو بالضرورة ما يريده، بل يجب أن نقول ولا هو بالضرورة ما سوف يريده. على أن هذا يتضمن الإشارة إلى معيارٍ يمكننا في ضوئه أن نحدد ما ينبغي على المجتمع أن يريده، تمشيًا مع طبيعته الأساسية. ويقول «دوركيم»: إن سقراط قد عبَّر خيرًا من قُضاته عما كان مجتمعه في حاجة إليه من أخلاق. ولكن إذا لم يكن معاصروه قد أحسُّوا بالفعل بهذه الحاجة، فكيف كان يمكنهم أن يلتزموا بنظرته الأخلاقية الأرفع؟ أليس علينا أن نعترف بأن ما يُلزِم هو ما يتمشَّى مع النظام الاجتماعي السائد فحسب؟
وأظن أنه قد وضح لنا من مناقشتنا الموجَزة هذه أنه ينبغي لمثل هذه المذاهب الأخلاقية، إذا شاءت أن تكون متسقة مع ذاتها، أن تكون نسبية تمامًا. فعليها عندئذٍ أن تقتصر على تقديم عرض تاريخي ونفساني (سيكولوجي) للأحكام الأخلاقية للبشر في صِلتها بالمذاهب الاجتماعية التي تكوِّن هذه الأحكام الأخلاقية جزءًا منها. على أن الواقع هو أن أي مذهب من هذه المذاهب لم يفلح أبدًا في تجنُّب التعبيرات التي تنطوي على تقويم يقارن بين هذه الأحكام الأخلاقية، ويصف بعضها بأنه يفوق الآخر «استنارة» أو «تطورًا» أو «عمقًا». وواضح أن مثل هذا الوصف ينطوي على التجاءٍ إلى معايير تتجاوز تلك التي تسلِّم بها الأخلاق السائدة في أي مجتمعٍ بعينه.
فلا ينبغي إذن أن نقول إن الأخلاق ما هي إلا دراسة مقارنة للشرائع الأخلاقية، أو تحليل نفساني (سيكولوجي) للإلزام. وليس معنى ذلك أن هاتين الدراستين الأخيرتين لا أهمية لهما، بل إن لهما قيمةً كبرى؛ أولًا: بوصفهما أجزاء من علم الاجتماع الحضاري، وثانيًا: من حيث إنهما يقدمان إلى الأخلاق ذاتها موادَّ هامة. والحق أن لهما في هذه الصفة الأخيرة قيمة خاصة؛ فعن طريقهما يمكننا أن ننظر إلى أحكامنا الأخلاقية نظرة نقدية؛ إذ يكشفان لنا عن ذلك التغيير الهائل الذي طرأ على المعتقدات والعادات الأخلاقية. غير أنه يستحيل أن تحل دراسات كهذه محل الأخلاق بمعناها الصحيح، مثلما يستحيل أن يكون قوام المنطق هو الدراسة التاريخية أو النفسانية للفكر. وإنما تكون مهمة البحث الأخلاقي هي الكشف عن المسلَّمات التي ترتكز عليها الأحكام الأخلاقية الفعلية، وعن المبادئ العامة التي يمكن أن تنقُد هذه الأحكام وتنظم في ضوئها. وينبغي أن يكون المنهج الذي يتبع في مثل هذا البحث نقديًّا بالمعنى الذي يفهم به «كانْت» هذه الكلمة، لا مجرد منهج تاريخي أو نفساني. وهكذا يتضح لنا أن الأخلاق والدراسة المقارنة للعادات الأخلاقية هما مبحثان متميزان مع كونهما مرتبطين.
ولننتقل الآن إلى مشكلتنا الثانية، وهي: هل ينبغي على العلم الاجتماعي، تمسكًا منه بروح الموضوعية والتنزُّه، أن يدع جانبًا دراسة القيم، ويقتصر على ما هو موجود بالفعل؟ فمن الواضح أن من واجب علماء الاجتماع ألَّا يتجاهلوا الاعتقادات في المثل العليا، ما دامت هذه الاعتقادات هي ذاتها عوامل تؤثر في السلوك والتغير الاجتماعي. وعلى ذلك ففي وسعنا، من وجهة النظر هذه، أن نقول بحقٍّ إن المثل العليا لا تعدو أن تكون فئة أخرى من تلك الظواهر، التي يستطيع علماء الاجتماع أن يدرسوها دون البحث في صلاحها أو صوابها. بل إن للمثل العليا الخاطئة أهميةً لا تقل عن المثل العليا الصحيحة، وذلك إذا تبيَّن أنها تتحكم في السلوك وتؤثر في الحركات الاجتماعية.
فإذا ما طرقنا هذه المشكلة من زاوية الأخلاق، فربما قيل أيضًا إن دراسة المثل العليا ينبغي ألا تُفصل عن دراسة الواقع؛ ذلك لأنه ينبغي أولًا، كما لاحظنا من قبل، أن تكون الأحكام الأخلاقية التي يصدرها الناس بالفعل هي نقطة بداية البحث الأخلاقي. ثانيًا: يكاد يكون من المحال أن نصل إلى نظرية معقولة بشأن ما هو مرغوب فيه، ما لم ندرك طبيعة الإنسان الفعلية وإمكانياته. وفضلًا عن ذلك، فإن كل الآراء في الأخلاق تتفق على أن تقدير ما في الاتجاهات المختلفة في السلوك من خير أو صواب، ينبغي أن يرتكز على بحث نتائجها. ومن الواضح أن البحث في هذه النتائج أمر ينتمي إلى مجال العلوم الاجتماعية. ومجمل القول أننا، سواء بدأنا بالنظر إلى ما تقتضيه العلوم الاجتماعية، أم بما تقتضيه الأخلاق، فسوف نجد أن دراسة المثل العليا ودراسة الواقع متداخلتان تداخلًا وثيقًا.
وعلى الرغم من هذه الحجج، فمن الواضح أنه لا يجوز الخلط بين هاتين الدراستين، وإن كان من الممكن المضيُّ فيهما جنبًا إلى جنب. وعلينا أن نعرف في كل مرحلة من مراحل البحث، أنبحث في الأشياء كما هي، أم فيما نعده أمرًا مرغوبًا أو ملزمًا من الوجهة الأخلاقية. وكما قال «هبهوس»: «علينا أن نتجنب الاعتقاد بأن الأشياء تحدث لأنها خيِّرة، أو بأنها خيِّرة لأنها تحدث، وإلَّا أدى ذلك إلى أن يشوب التحيُّز تقريرنا للحقائق، ويشوب الفساد أحكامنا التقويمية.» والواقع أن لهذين الخطرين أمثلة كثيرة في تاريخ العلوم الاجتماعية؛ فكثيرًا ما دافع مفكرون عن نظم كالحرب والرِّق، وعدِّها نظمًا معقولة في أساسها؛ لأنها استطاعت أن تظل قائمة خلال حقبة طويلة، أو لأنها واسعة الانتشار، ومن أكثر الأمور شيوعًا أن نرى مفكِّرين يحملون على أية سياسة تنطوي على تغيير حاسم، بحجة أنها بطلان وخيم العواقب، زاعمين أن مجرد كون النظام القائم قد استطاع البقاء، معناه أن هذا النظام قد أثبتَ قيمته.
وعلى ذلك؛ فلكي نتجنَّب الأخطار التي تنجم من جهة عن النظر إلى الواقع من خلال مثل أعلى، مما يستتبع الحط من قيمة المثل الأعلى، ومن جهة أخرى عن تشويه الواقع؛ إذ نعكس عليه رغباتنا وأهواءنا، ينبغي أن نُبقي على التمييز بين دراسة الواقع ودراسة القيم، وإن كان من الواجب أن تتقارب الدراستان عندما نصل إلى المركب النهائي؛ ذلك لأن عدم الاعتراف بتميزهما خليق بأن يؤدي إلى الخلط، غير أن انفصالهما النهائي يؤدي أيضًا إلى النتيجة نفسها. وعلى ذلك فالدراسة الكاملة للحياة البشرية تقتضي إيجاد مركب من العلم الاجتماعي والفلسفة الاجتماعية، لا مزْجهما مزجًا تامًّا.
لمؤلفَيه: L.T. Hobhouse., G. C. Wheeler and M. Ginsberg.