الفصل الثاني
المجتمع والحضارة والمدنية
يُولي علماء الاجتماع المحدَثون اهتمامًا كبيرًا كل ما يتعلق بمصطلحات علم الاجتماع.
بل
إنهم كثيرًا ما اتُّهموا بأنهم يستنفدون من الطاقة في الجدل حول معاني الألفاظ، ما يجعل
من
المستحيل عليهم الاقتراب من دراسة الظواهر الاجتماعية ذاتها. والواقع أن المصدر الأساسي
لهذه الصِّعاب هو أن علم الاجتماع، مثله في ذلك مثل كثير من العلوم الاجتماعية الأخرى،
قد
استعار مصطلحاته من لغة الحديث اليومي؛ ولذا كان يشاطرها ما فيها من غموضٍ وإبهام. كما
أن
هذه الصعاب ترجع، ضمن ما ترجع إليه من أسباب، إلى ميل بعض علماء الاجتماع إلى استخدام
المصطلحات الفنية التي تستخدمها علوم أخرى، وبخاصة علم الحياة، وعلم الطبيعة، وعلم النفس.
فبعض المصطلحات، مثل التوازن الاجتماعي، والكائن العضوي الاجتماعي، والعقل الاجتماعي،
وما
شاكَلَها — وإن تكن ذات قيمة من بعض الوجوه — قد أثارت من المشاكل أكثر مما أعانت على
حلِّه
منها؛ لذا كان لزامًا علينا هاهنا أن نتجنب المناقشات اللفظية البحتة، ونركِّز انتباهنا
في
تعريف ألفاظ معيَّنة لا غناء عنها في تصنيف العلاقات البشرية.
وأعم هذه الألفاظ وأوسعها هو لفظ «المجتمع». ولقد عُرف المجتمع أحيانًا بأنه يشتمل
على كل
العلاقات بين الناس الذين تجمَّعوا في هيئات أو اتحادات معينة، لها تركيب وتنظيم يمكن
التعرُّف
عليه؛ مما يؤدي إلى استبعاد تلك العلاقات التي تفتقر إلى التنظيم أو لا تقبَلُه. ولا
شك في أن
علماء الاجتماع قد اهتموا من الوجهة العملية بالتركيبات التجمعية المنظمة قبل كل شيء،
ما
دامت العلاقات الشخصية غير المنظمة تبلغ من الكثرة والتنوع حدًّا تكاد لا تخضع معه للدرس
العلمي. ولكن من الواضح، من جهة أخرى، أن هذه العلاقات الشخصية هي ذاتها التي تكون النواة
التي تنمو منها التنظيمات بالتدريج، ولا يمكن تجاهلها من الوجهة النظرية. وعلى ذلك يبدو
من
الأسلم أن نستخدم لفظ «المجتمع» للتعبير عن كل نسيج العلاقات البشرية، سواء منها المنظمة
وغير المنظمة.
ولقد جرَّب بعض علماء الاجتماع طريقة أخرى يجعلون فيها للفظ «المجتمع» معنًى محدودًا؛
فالمجتمع في رأيهم لا يوجد إلا عندما يكون لدى الأفراد وعيٌ بعضهم ببعض، وعندما تكون
لديهم
بعض المصالح أو الأهداف المشتركة. غير أن هذا التحديد سرعان ما يتضح أنه غير مأمون، ما
دامت
للعلاقات غير المباشرة وغير الواعية أهمية كبرى في الحياة الاجتماعية؛ ففي الميدان
الاقتصادي مثلًا قد تتأثَّر حياة الأفراد تأثرًا كبيرًا بالتغيرات التي تطرأ في علاقات
الأسواق العالمية، وهي تغيرات لا تكون لهؤلاء الأفراد معرفة واضحة بها، ولا يمكن الكشف
عن
أسبابها إلا عن طريق دراسات مفصَّلة ومتخصِّصة إلى حد بعيد. وعلى ذلك فسوف نستخدم هنا
لفظ
«المجتمع»؛ ليشمل كل معاملة أو أية معاملة بين الإنسان والإنسان، سواء أكانت هذه المعاملات
مباشرة أم غير مباشرة، منظمة أم غير منظمة، واعية أم غير واعية، تعاونية أم عدائية.
وفي هذا المعنى العظيم الاتساع ينبغي أن يميز بين «المجتمع» عندما نطلقه دون نظر
إلى هيئة
خاصة، وبين «مجتمع» بعَينه ذي خصائص معينة؛ فالمجتمع بالمعنى الأول شامل متغلغل، وليست
له
نهاية محدَّدة أو حدود معلومة. أما المجتمع الخاص (بالمعنى الثاني)؛ فهو مجموعة من الأفراد
توحِّد بينهم علاقات خاصة أو طرق في السلوك تميزهم عن غيرهم، ممن لا تسود بينهم هذه العلاقات
أو ممن يختلفون عنهم في السلوك. وليست كل الجموع أو الحشود تكون جماعات Groups، وإنما الجماعات كتل من الناس بينهم اتصال أو ارتباط منظَّم، ولهم
تركيب معلوم. وهناك جموع أخرى، أو أجزاء من المجتمع، ليس لها تركيب معلوم، ولكن يشترك
أفرادها في مصالح معينة أو طرق خاصة في السلوك، قد تؤدي بهم في أي وقت إلى أن يكوِّنوا
من
أنفسهم جماعةً. وإلى فئة أشباه الجماعات هذه تنتمي مثلًا الطبقات الاجتماعية؛ فالطبقات،
وإن
لم تكن جماعات، ميدان لتعبئة الجماعات، ويتميز أفرادها باشتراكهم في طرق للسلوك خاصة
بهم.
ومن أمثلتها أيضًا، تلك الجماعات المبتدئة، مثل جموع الأفراد الذين يهتمون بأهداف واحدة،
أو
يحبذون سياسة واحدة، كأصحاب العمل الذين لم يكوِّنوا بعد أية هيئة تدافع عن مصالحهم،
أو
الأفراد الذين يهوون رياضة معينة، أو يرغبون في إصلاح اجتماعي، دون أن يكون قد جمع بينهم
أي
تنظيم محدد. ومن الممكن أن تصنف الجماعات على أسسٍ شتى، تبعًا لحجمها، وتوزيعها المكاني،
ودوامها، واتساع العلاقات التي ترتكز عليها، وطريقة تكوينها، ونوع تنظيمها … إلخ. كذلك
تختلف أشباه الجماعات اختلافًا كبيرًا في حجمها، وتختلف بوجهٍ خاص في مدى تماسكها، وفي
اتجاهها إلى تنظيم أنفسها في جماعات بالمعنى الصحيح. ومن الأهمية بمكان أن نحدد في أية
نقطة
تتبلور هذه الأشكال الأقل تماسكًا لتكون هيئات متجمعة.
وأهم أنواع المجتمعات هي المواطن Communities
والهيئات Associations. فالموطن يمكن أن يوصَف بأنه
المجموع الكلي للسكَّان القاطنين في بقعة معينة، (أو في حالة البدو الرحَّل، مجموع أولئك
الذين
يرحلون دائمًا سويًّا)، وهو المجموع الذي يجمع بين أفراده نسقٌ مشترك من القواعد ينظِّم
مجرى
حياتهم. ولا بد أن يكون للموطن تركيب مميَّز، أعني قواعد معينة للسلوك تحدد العلاقات
بين
أفراده، غير أن هذا لا يمنعه من أن يكون جزءًا من موطن أكبر؛ أي أن هناك مواطن داخل مواطن.
وعلينا أن نلاحظ أيضًا أن وجود أداة أو جهاز خاص لتنفيذ قواعد السلوك ليس أساسيًّا في
الموطن، رغم أنه من الصفات التي تتميز بها المواطن التي بلغت قدرًا عاليًا من النمو.
أما الهيئات Associations فقوامها جماعات من الناس
اتحدوا من أجل أداء وظيفة، أو وظائف خاصة، كالنقابات والأحزاب السياسية أو الجمعيات
العلمية. ومن الممكن أن تُصنَّف الهيئات على أساس هدفها أو غايتها الرئيسية، كما يمكن
أن تُصنَّف
على أساس خصائص أخرى عدة، كمدى توزيعها الإقليمي، أو عدد أعضائها، أو شروط القبول فيها
…
إلخ. ومن الشائع اليوم، أن يميَّز بين الهيئات وبين النظم Institutions؛ ففي وسعنا أن نصف هذه الأخيرة بأنها سُنن مستقرة معترف بها، تتحكم
في العلاقات بين الأفراد أو الجماعات. فالملكية مثلًا نظام، أي إنها مجموعة من السنن
المعترف بها، تتحكم في العلاقات بين الناس فيما يتعلق بسيطرتهم على الأشياء المادية،
واقتنائها وتبادلها. والنظم يخلقها، ويحافظ عليها، الموطن أو الهيئات التي قد تقع خارج
نطاق
الموطن. على أن لفظي الهيئة والنظام قد يُخلط بينهما في الاستعمال الشائع؛ إذ إنهما يشيران
في الغالب إلى شيء واحد، وإن يكن أحدهما يشير إليه بالمعنى المجرد، والآخر يشير إليه
بالمعنى العيني أو البشري؛ فالدولة مثلًا مجموعة من النظم إذا كنا نقصد مجموعة القواعد
التي
تنظم حياة الجماعة، ولكنها أيضًا تُعد هيئة إذا نظرنا إليها على أنها اتحاد يجمع بين
كائنات
بشرية.
ويمكننا أن نجمع بين المسائل التي أُثيرت في هذا البحث الموجز في الجدول الآتي:
ولننتقل الآن إلى لفظي «الحضارة» Culture و«المدنية» Civilization. والحق أن في استخدام هذين اللفظين خلطًا
يؤسَف له، وربما كان الأمل ضئيلًا في الوصول إلى تعريفات مقبولة لهما؛ فعلماء الأنثربولوجيا
يستخدمون كلمة الحضارة في معنًى عظيم الاتساع، بحيث تنتظم كل ميادين الحياة البشرية.
وهذا
الاستخدام يرجع إلى تيلور Tylor، الذي عرَّف الحضارة بأنها
«ذلك الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة، والعقيدة، والفن والأخلاق والقانون والعُرف،
وغيرها
من القدرات والعادات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوًا في مجتمع». ويشيع استخدام كلمة
«المدنية» بدورها في معنًى عظيم الاتساع. فهي تشير في معناها الحرفي، إلى مجموع الأمور
المكتسبة التي تتميز بها الحياة في مدينة أو دولة منظمة. غير أن هذا المعنى قد امتد فأصبح
لا يشتمل على التنظيم الاجتماعي وحده، بل على كل ما حققه الإنسان وتميَّز به عن الحيوان.
واللفظان معًا يُستخدمان أحيانًا لتمييز مستويات للنمو البشري، أعني مثلًا للتفرقة بين
الشعوب
المتمدينة والشعوب الهمجية، أو بين الشعوب التي تعيش على الطبيعة والشعوب المتحضرة. غير
أننا لن نطيل الحديث في هذا الاستعمال؛ فليس ثمة شَعب لم يصل إلى درجة معينة من الحضارة
والمدنية، أي إلى قدرة معينة على تشكيل الطبيعة، أو على الانتقاء من الأشياء الطبيعية
على
نحوٍ يطابق حاجاته، وبوسائل تخضع لإشراف المجتمع.
ومع ذلك فكثيرًا ما تُميَّز المدنية عن الحضارة على أُسس عدة؛ فمن قبل أكَّد «كانت»
أن
الأخلاقية ضرورية للحضارة، وكان يعني بذلك الأخلاقية بوصفها حالة داخلية، وقد وضعها في
مقابل المدنية التي كانت في رأيه أمرًا متعلقًا بالسلوك الخارجي. ومنذ «كانت» استُخدمت
متقابلات عدة أخرى في هذا الصدد. فمثلًا عرف ماثيو
أرنولد
Mathew Arnold الحضارة بأنها «دراسة الكمال، والسعي المنزَّه إلى الجمال والنور»،
وقال: إن قوامها هو «في أن يكون المرء شيئًا، لا في أن ينال شيئًا، أي في حالة داخلية
للعقل
والروح، لا في مجموعة من الظروف الخارجية». أما المدنية فهي نسبيًّا آلية وخارجية، وتزداد
اتصافًا بهاتين الصفتين على الدوام. وقد استخدم شبنجلر
Spengler التمييز نفسه في صورة أخرى، وبوصفه جزءًا من فلسفه طموح للتاريخ؛
فهو يرى أن المدنية هي المرحلة التدهورية للحضارة، أي المرحلة التي تفقد فيها الحضارة
حيويتها الخالصة، وتغدو آلية مقلدة. ومن بين الكتاب المحدثين، يفسر ماكايفر
Maclver التمييز بين المدنية والحضارة على أنه صورة من
صور التقابل بين الوسائل والغايات ﻓ «حضارتنا هي ما نكوِّنه، ومدنيتنا هي ما نستخدمه».
١ والمدنية في رأيه تشتمل على الجهاز، أو الأداة الكاملة التي يستخدمها الإنسان في
محاولة التحكم في ظروف حياته، بما في ذلك جهاز التنظيم الاجتماعي بأسره. أما الحضارة
فتتعلق
بالقيم الكامنة، أي بالأشياء التي يرغب فيها لذاتها؛ «فهي التعبير عن طبيعتنا في طريق
حياتنا وتفكيرنا، وفي معاملاتنا اليومية، وفي الفن والأدب والدين، وفي اللهو والمتعة».
٢
وعلى الرغم من أن الأستاذ «ماكايفر» قد توصل إلى هذا التمييز مستقلًّا عن الدكتور
ألفرد فيبر Alfred Weber؛ فإن لهذا الأخير تمييزًا
مشابهًا. وإن يكن قد وجد أن من الضروري التمييز بين عمليات ثلاث، أي عمليات المجتمع،
والمدنية، والحضارة. فالعملية الاجتماعية تنتج عنها تركيبات اجتماعية بالمعنى الصحيح،
وهذه
التركيبات في رأيه تسير في نظام محدد، ومن الممكن تتبعها بين مختلف شعوب العالم وإن كانت
تتنوع تنوعًا بسيطًا في كل حالة فردية. ومن هذا القبيل أننا نجد في كل مكان انتقالًا
من
التنظيم المبنيِّ على القرابة إلى تنظيم مبنيٍّ على التجمع الإقليمي. أما عملية المدنية،
فيعني
بها أساسيًّا نمو المعرفة والسيطرة الصناعية على قوى الطبيعة. وهو نمو مترابط يسير في
نظام محدد، ويمكن نقله من شعب إلى آخر، أي إنه يسري على البشر أجمعين. وأما عملية الحضارة
فلا تتبع نظامًا ضروريًّا؛ فهي لا تسير في خط واحد ولا تتراكم بالتدريج، وإنما تحدث متفرقة
في سلسلة من الانبثاقات التي هي أشبه ببروز مفاجئ، تكاد لا تتصل بعضها ببعض، إلا بقدر
ما
تتأثر به بالوسائل الفنية في التعبير بطبيعة الحال؛ فالحضارة لا يمكن أن تُبحث إلا
تاريخيًّا، أي أن كل حالة يجب أن تدرس في طبيعتها الفردية، وهي لا تخضع للمناهج العلمية
العامة. وهو يعتقد، مخالفًا في ذلك «شبنجلر»، أن عملية المدنية عملية جامعة، أي إنها
ليست
مرتبطة بأي شعبٍ بعينه. أما حضارات الشعوب المختلفة فليست متجانسة بأي معنًى من المعاني،
ما دام كل منها فريدًا، وبالتالي يستحيل قيام دراسة لأشكال الحضارة كما تصور
«شبنجلر».
وبين أن لهذه التمييزات بعض القيمة، ولكن نظرًا إلى الاختلاف الهائل في استعمالاتها،
يجب
علينا الآن أن نبحث في مدى أهميتها بالنسبة إلى الدراسة الاجتماعية. فأولًا نلاحظ على
التمييز بين الوسائل والغايات، أو بين ما له قيمة من حيث هو أداة لغيره، وما له قيمة
كامنة
فيه، أنه تمييز مفيد بلا شك. ولكن ينبغي لنا أن نذكر أن للنشاط الاجتماعي أوجهًا عدة
يمكن
أن تُستخدم لتحقيق نوعي الغايات معًا؛ فنحن مثلًا نجد الناس يسعون وراء العلم، لا لأنه
يفيد
في التحكم في ظروف الحياة فحسب، بل لرغبتهم في الكشف أو من أجل لذَّة البناء والتعمير.
وبالمثل يكون من الصعب غالبًا أن نحدِّد الخط الفاصل بين الوسائل والغايات في النظم
الاجتماعية. فمثلًا: أي الأمور، في حياة الأسرة ينبغي أن يُعدَّ وسائل؟ وأيها ينبغي أن
يعد
غايات؟ وحتى في التنظيم الاقتصادي لا نهتم بوسائل العيش فحسب، بل نهتم أيضًا بكفالة الفرص
لممارسة الملكات إيجابيًّا، وهي الممارسة التي ينبغي أن تعد ضمن الغايات، من حيث إنها
وسيلة
للتعبير عن النفس.
أما بالنسبة إلى النظام والاتصال اللذَين يسير عليهما النمو والتطور، فمن الواضح
أن هناك
فروقًا بين نمو المعرفة ونمو الصنعة الفنية وغيرها مما حقَّقه العقل الاجتماعي؛ فالمعرفة
تزداد بالإضافة التدريجية، وتقدمها متصل ومطَّرد، على الرغم من وجود فترات من التدهور
بين وقت
وآخر. ويمكن القول بوجه عام إن كل جيل يرِث ما كان للأجيال السابقة كاملًا، ويضيف إليه
من
عنده إضافات جديدة. أما في الدين والأخلاق والفن فيبدو أن هذا الاتصال مفقود، ولكن هنا
أيضًا ينبغي ألا نتحيز في بداية بحثنا لهذا الموضوع؛ فقد يتبين مثلًا أن هناك وحدة كامنة
وراء تلك الكثرة الهائلة من الحركات الدينية، ولقد قيل بالفعل إن الدين هو العنصر الوحيد
من
عناصر التجربة البشرية، الذي ظل يسير مرتقيًا إلى أعلى على الدوام. «إنه يذوي ثم يرجع،
ولكنه
عندما يجدد قواه، يعود، وقد اكتسب قوة جديدة، وازداد محتواه نقاء».
٣ وفضلًا عن ذلك، فلا يجوز بحالٍ من الأحوال أن نفترض أن مختلف العناصر التي تشتمل
عليها الحضارة ينبغي أن تتَّبع اتجاهًا موحدًا فيما يتعلق بترتيب نموها واطراد هذا النمو.
فمثلًا قد تكون هناك فروق هامة في هذا الصدد بين التفكير النظري، والسلوك العملي في الأخلاق،
وفي الفن. وبالمثل ينبغي أن يُبحث كل عنصر من عناصر المجتمع والحضارة كأنه قائم بذاته،
من
حيث مدى انتشاره وقابليته للنقل؛ فما ينتج عن الكشوف الصناعية التطبيقية يمكن أن ينقل
بسهولة من شعب إلى آخر، غير أن المعرفة الكامنة وراء هذه الكشوف، والقدرة على المساهمة
في
تقدمها بوجهٍ خاص، لا يمكن أن تُنقل إلى بعد إعداد دقيق، وربما اقتضى ذلك إعادة تنظيم
الحياة
الاجتماعية بأسرها. كما أن أشكال الحكومة لا تُنقل إلا سطحيًّا، ولم يثبت دائمًا إمكان
تكيفها في البيئات الجديدة، مما نجد له مثلًا في النظم الديمقراطية، وإنما اختفت في هذه
البيئات، أو طرأت عليها تعديلات جوهرية حتى تمكَّنت من مواجهة الظروف الجديدة. ومع ذلك
فمن
الصحيح أننا كلما اقتربنا من ذلك الوجه الخارجي نسبيًّا من أوجه الحياة، ازداد النقل
والاقتباس سهولة. ولهذه الفروق في سرعة الانتشار وسهولته أهميتها القصوى؛ فشعوب العالم
تتحول بسرعةٍ إلى التشابه بعضها مع بعض في الوسائل الفنية المستخدمة، وفي الأوجه الخارجية
للحياة، ولكن ليس هناك تقارب سريع مماثل في نظرتها إلى قيم الحياة. وهذا الافتقار إلى
التوازن في النمو الاجتماعي يزداد وضوحًا بازدياد اعتماد الشعوب بعضها على بعض، وهو بهذا
يمثل إحدى المسائل الكبرى للمجتمع الحديث.
٤
ولا شك أن هناك بعض الأهمية للفروق التي ظهرت خلال عرضنا هذا لمعنَى لفظي الحضارة
والمدنية، حتى لو لم يكنْ في وُسعنا أن نقبلها بالصورة التي عرضت بها، أو لم نكن نضمن
الاتفاق
على مثل هذا الاستخدام اللفظي. فمن المهم أن ندرك أن مختلف مجالات النشاط داخل الكل المركب
الذي يتكوَّن منه المجتمع قد يتبع كل منها نظامه الخاص في النمو، ولكن لا يقل عن ذلك
أهميةً أن
نتجنب التمسك مقدَّمًا بالرأي القائل بأن كلًّا من هذه العمليات، أو مظاهر النشاط المختلفة
تسير
في طريقها الخاص مستقلةً عن الأخرى، أو بالرأي القائل بأن واحدًا منها، وليكن ذلك الذي
نطلق
عليه اسم الوجه الاقتصادي، هو الذي يتحكَّم في الباقية بأجمعها. فالعلاقة بين مختلف أوجه
الحياة الاجتماعية هي ذاتها مشكلتنا. وعلينا، إذا شئنا الإجابة عنها أن نَعزل من العناصر
المتغيرة ما يمكن عزله، وندرس الارتباطات بينها. فيمكننا مثلًا أن نبحث عن احتمال أن
الفروق
في السلوك الاجتماعي مترابطة مع التغيرات في الأفكار الأخلاقية، أو عن كون الأفكار
الأخلاقية قد ظلَّت في أساسها على ما هي عليه طوال مجرى التطور الاجتماعي، كما يعتقد
البعض،
بحيث تكون العوامل المتحكمة في مجرى التطور متضمنة في التغيرات التي طرأت على التركيب
الاجتماعي والاقتصادي، وفي تقدم المعرفة في سائر الميادين، فيما عدا ميدان الأخلاق. ولنا
أيضًا أن نبحث في العلاقة بين التطور الأخلاقي وبين نمو الدين، وفي العلاقة بين هذين
وبين
العرف والقانون.
أما في ميدان التنظيم الاجتماعي، فيمكننا أن نبحث مثلًا عن احتمال وجود ترابط بين
أشكال
الأسرة وأشكال التركيب الطبقي، أو التنظيم الاقتصادي، أو عن إمكان وجود فروق في النظم
الاجتماعية بين شعوب تعيش في مستوًى اقتصادي واحد.
ولا شك في أن نصيب علم الاجتماع من التقدم في بحث هذه المسائل وما شاكلها قد تفاوَتَ
إلى حد
بعيد في مختلف الميادين؛ فلدينا مواد متراكمة هائلة في ميدان المعتقدات والعادات الأخلاقية،
وهذه المواد قد عمل على تنظيمها بدقَّة باحثون مثل «هبهوس ووستر مارك Westermarck» و«فُنت Wundt». كما أن
الحقائق الوفيرة التي تتعلق بالتطور الديني قد حلَّلها وصنفها دارسون متعددون، بذلوا
محاولات
لتتبع أوجه التشابه التاريخي بينها، ولإيضاح الدور الذي لعِبه الدين في الحياة الاجتماعية.
وفي ميدان النظم الاجتماعية أصبحت لدينا معلومات وفيرة زاخرة عن التنظيمات السياسية
والتشريعية. وبالمثل بدأت النظم الاقتصادية تُبحث من وجهة نظر مقارنة على يد مؤرخين
وأنثربولوجيين، متأثرين في تفكيرهم بعلم الاجتماع، وفي دراستهم هذه مجال خصب للبحث والكشف
الاجتماعي. ولنُضِف إلى ذلك كله تلك الدراسات المتعلقة بأحوال المجتمع المعاصر، وهي الدراسات
التي تتزايد بسرعة هائلة، وتقوم بها كل البلدان المتمدينة، وتُتبع فيها غالبًا مناهج
إحصائية
لها قيمتها الكبرى، ومن الممكن الاعتماد عليها إلى حد بعيد. ويجدر بنا أن ننوِّه خاصة
بتلك
الدراسات المتعددة لمناطق بأكملها، منها الكبير ومنها الصغير، وهي الدراسات التي تتراكم
الآن بسرعة. وهذه الدراسات، وإن لم تصبح مترابطة بعد، فإنها إنْ عاجلًا أو آجلًا سوف
تُقدم
إلى الباحثين المشتغلين بالتنظيم المذهبي العام موادَّ لها قيمتها في الدراسة المقارنة.
كذلك
أحرز تحليل الأسباب الرئيسية للتغير والثبات الاجتماعي بعض التقدم، وإن كان علم النفس
الاجتماعي، الذي يمكنه في رأيي أن يساهم بأكبر نصيب في هذا المضمار، لا زال في مرحلة
أولية
إلى حد بعيد.
وبيِّنٌ أن تناول هذا الميدان الواسع، حتى لو كان تناولًا موجزًا، هو أمر يستحيل تحقيقه
في
كتاب صغير كهذا؛ لذا اخترت للبحث مشكلات هامة معينة، واستهدفت في ذلك توضيح المجال العام
لعلم الاجتماع وبيان مناهجه، كما عرضتهما بإيجازٍ في هذا الفصل وفي الفصل السابق. ويبحث
الفصلان الثالث والرابع في بعض الأحوال التي تتحكم في حياة الجماعات، فيختص أولهما بدراسة
أثر البيئة الطبيعية والجنس، ويختص ثانيهما بتحليل نفساني (سيكلوجي) لعناصر الطبيعية
البشرية التي لها أوثق صلة مباشرة بالعلاقات بين الإنسان والإنسان. ويلي ذلك بحث يهدف
إلى
عرض بعض أنواع العلاقات الاجتماعية التي درَسنا خطوطها العامة في هذا الفصل، وإن كنا
بطبيعة
الحال لن نحاول وصفها بإسهاب. ويعالج الفصل الخامس موضوع المبادئ العامة للتنظيم الاجتماعي،
كما تتمثل في نمو الجماعات السياسة. كما يبحث في الأشكال المختلفة للإشراف الاجتماعي،
وفي
الفصل السادس ندرس مشكلة التركيب الطبقي والتنظيم الاقتصادي. ويبحث الفصل السابع، بإيجاز
كبير، في الاتجاهات الرئيسية للنمو الذهني، وذلك في ميدان الأخلاق والدين والعلم. أما
الجزء
الختامي فيثير مشكلة العلاقات بين هذه المجالات المختلفة للحياة الاجتماعية، ويوضح المهمة
التي تقع في المستقبل على عاتق علم الاجتماع.