الجنس١ والبيئة
تتمثل في مشكلة تأثير الجنس على التطور الاجتماعي والحضاري صعوبة كبرى. فالحقائق المتصلة بها عظيمة التعقيد، وهي تتطلب من أجل تفسيرها تضامن علوم كثيرة، كالأنثروبولوجيا الطبيعية وعلم الوراثة وعلم النفس المقارن، والآثار، والتاريخ. على أن هذه العلوم يتفاوت حظُّها من التقدم تفاوتًا كبيرًا، والمتخصصون فيها عرضة لأن يدرس أحدهم نتائج الباقين دون أن يتمكن من اختبار مدى دقتها أو إمكان الاعتماد عليها. أما عالم الاجتماع الذي يرغب في القيام باستعراض عام للعلاقات بين الجنس والحضارة؛ فيقف موقفًا أسوأ؛ إذ يُلفي نفسه وقد غرِق في خِضم من المواد التي لا يمكنه السيطرة عليها، ومن النظريات التي يتبين له أنها متحيزة، ولكنها تستند إلى تأييد المتخصصين في مختلف الميادين. ومما يضاعف من متاعبه أن مناقشة المشاكل قد زادت حدتها الأهواء والعداوات والخصومات السياسية، وأصبح التنزُّه العلمي أمرًا يزداد صعوبة على الدوام. غير أن هذه الأهواء ليست كلها متحيِّزة إلى جانب واحد؛ فهناك تحزب يقوم على ادعاء المساواة، كما أن هناك تحزبًا يقوم على ادعاء عدم المساواة. فأولئك الذين يبدءُون بالتسليم بأن البشر جميعًا تجمعهم وحدة وهوية أساسية، يميلون إلى البحث عن تفسير للفروق الحضارية في البيئة الطبيعية والاجتماعية، وإلى تأكيد مرونة الطبيعة البشرية وقابليتها للتشكُّل. أما أولئك الذين يتحزبون للرأي المضاد، فيميلون إلى تفسير هذه الفروق بأنها ناتجة عن تفاوت فطري أو وراثي يرونه ثابتًا أو على الأقل ذا دوام عظيم. ومن الأسلم أن نقول إنه لم تُكشف حتى الآن وسيلة عملية تمكننا من فصل العوامل الوراثية من عوامل البيئة، ومن تقدير الدور الذي تلعبه كل منهما في تشكيل المدنية. ومن الواضح أن الموضوع يقتضي بحثًا طويلًا شاقًّا، ولا ينفع فيه التأكيد القاطع لأي الرأيين.
- (أ)
ما الذي يعنيه علماء الأنثروبولوجيا الطبيعية بكلمة الجنس؟ وإلى أي مدًى يمكن الركون إلى ما أتوا به من تصنيفات، واتخاذها وحدات صالحة لدراسة العلاقة بين العوامل الوراثية وأشكال الحضارة والمدنية؟
- (ب)
هل تختلف الأجناس البشرية المتنوعة في تركيبها الذهني الفطري؟ وهل تؤدي هذه الفروق، إن وجدت، إلى تحديد الفروق في الطابع الذهني بين مختلف الأمم أو الشعوب؟
- (جـ)
أي ضوء تلقيه الإجابة عن هذين السؤالين، على هذه المشكلة العامة، مشكلة العلاقة بين الجنس والحضارة؟
-
(أ)
يعني علماء الأنثروبولوجيا بالجنس جماعة من الأفراد يشتركون، خلال حدود معينة من التنوع، في مجموعة من السمات الموروثة تكفي لتمييزهم عن الجماعات الأخرى. ولكي تُتخذ السمات معايير للجنس، ينبغي أن تكون موروثة، وأن يكون لها دوام نسبي رغم ما يطرأ على البيئة من تغيرات.
وفضلًا عن ذلك، فمن الواجب أن تكون هذه السمات مشتركة بين عدد كبير كبرًا معقولًا، فالسلالة العائلية التي تتصف بخصائص موروثة معينة لا يمكن أن تعد جنسًا، وإن كان من الممكن نظريًّا أن تعد كذلك لو أنها تكاثرت وانتشرت في بقعة جغرافية معينة. وأهم السمات التي استخدمها علماء الأنثروبولوجيا في تصنيفاتهم:- (١)
شكل الشعر: الذي يقسم إلى مسترسل، وناعم، ومتموج أو مجعَّد، ومفلفل أو «أكرت».
- (٢)
اللون: ويشتمل على لون الشعر والعين والبشرة.
- (٣)
شكل الرأس، وخاصة نسبة عرض الجمجمة أو الرأس إلى طولها.
- (٤)
القامة والأبعاد الجسمية.
- (٥)
بعض خصائص الوجه، كشكل الأنف، وشكل الشفتين، وشكل الجفون. ويستخدم دائمًا مزيج جامع بين هذه السمات في التمييز بين جماعات الأجناس. ومن الواضح أن عدد الجماعات الذي نصل إليه لا بد أن يتفاوت تبعًا لعدد مجموعات السمات التي تميز بينها. وليست هناك فيما يبدو سمة واحدة يمكن أن تُعدَّ هي الأساسية. بل إن علماء الأنثروبولوجيا يهتمون أحيانًا بسِمَة أو مجموعة سمات، وأحيانًا أخرى بسِمَة أخرى أو مجموعة سمات أخرى، تبعًا لاختلاف أغراضهم. على أن بعض التصنيفات الأخيرة التي أحرزت قدرًا كبيرًا من الذيوع تتخذ من شكل الشعر نقطة بداية للوصول إلى التقسيمات الأولية، ثم تلجأ إلى أشكال القامة، وقياس الأنف، واللون؛ لأغراض التقسيم الفرعي.
وقد تعددت الوسائل التي اقترحها علماء الأنثروبولوجيا للتصنيف، بل إن أحدث هؤلاء العلماء يختلفون بعضهم عن بعض اختلافًا بينا. ﻓ سيرجي Sergi يقول بثلاثة أجناس رئيسية، وأحد عشر نوعًا، وواحد وأربعين فرعًا؛ ودنيكر Deniker يقول بستة أقسام كبرى؛ وثلاثة عشر قسمًا ثانوية، وتسعة وعشرين نوعًا أو جنسًا بالمعنى الصحيح، و«جوفريدا روجيري Guiffrida Ruggeri» يقول بثمانية أنواع مبدئية وثلاثة وأربعين قسمًا فرعيًّا، على حين يقول هادون Haddon بثلاثة أقسام رئيسية وستة وثلاثين قسمًا فرعيًّا. وكثير من علماء الأنثروبولوجيا الإنجليز يتبعون تقسيم «هكسلي» الذي وضعه في سنه ١٨٧٠م، وقال فيه بخمسة أنماط رئيسية: «الزنجي، والأسترالي، والمغولي، والأصفر، والأسمر»، على حين يستخدم غيرهم تقسيمًا رباعيًّا، أي القوقازي والمغولي والزنجي والأسترالي، ويقسمون القوقازي إلى الشمالي Nordie والألبي وجنس البحر المتوسط، وبهذا يقسمون البشر إلى ستة أقسام رئيسية.وعلينا أن نتساءل، دون أن نناقش مدى قيمة هذه التقسيمات وغيرها، عن كُنه هذه المحاولة التي يقومون بها، وعن طبيعة الوحدات التي ينتهون إليها. هذه الأسئلة كانت لها عند الأنثروبولوجيين على ما يبدو أجوبة متباينة كل التباين؛ ففي كتابَي دنكر Deniker، وربلي Ripley الهامين عن أجناس أوروبا، نجد المادة المستخدمة متقاربة إلى حد كبير في الكتابين، غير أن أحدهما يهتدي إلى ستة أجناس رئيسية، والآخر إلى ثلاثة. ومرد ذلك إلى أن فهمهما لمعنى الجنس يختلف؛ «فدنكر» يعني بالجنس مجموعة من الصفات التي تتحقق بالفعل مجتمعة في الشعوب الموجود. أما «ربلي» فيهتم بالبحث عن أنماط مثالية، أي كيانات فرضية يعتقد أنها قد وُجدت في وقت ما على صورة نقية خالصة. ويمكننا أن نفسر بامتزاجها التوزيع الحالي للسمات، وتفاوت هذه السمات حاليًّا في مدى تجمعها. وتبعًا لهذا الرأي ينبغي على علم الأنثروبولوجيا أن يجمع بين دراسة التوزيع الحالي للسمات، وبين نتائج علم الإثنولوجيا (علم الأجناس) في الفترة التاريخية وما قبل التاريخية، وبهذا يصل إلى الأنواع الأصلية الخالصة، وتاريخ امتزاجها. ويشير «دنكر» إلى أنه وإن كان لا ينكر أهمية دراسة بقايا الهياكل العظمية؛ فإنه يشك في أن في وسعنا، خلال المرحلة الحالية من مراحل معرفتنا، أن نأتي بشواهد تكفي لتتبُّع مظاهر التقارب بين السلالات؛ فعدد الحالات التي دُرست حتى الآن هو بوجه عام ضئيل للغاية، وهي على أيه حال لا تقدم إلينا معلومات كافية إلا عن خصائص شكل الرأس، وأحيانًا عن القامة. أما بقية الخصائص فلا تنبئنا عنها بشيء، وبهذا تقدم إلينا هذه المواد أساسًا هزيلًا لتقدير مدى تفاوت هذه السِّمات في ظهورها متجمعة. ولقد أحس كثير من الثقات بتلك الصعاب، ونظر كثير منهم إلى محاولة تقديم تقسيم للسلالات يوضح أوجه تقارب الأجناس المختلفة بعضها من بعض، على أنها محاولة ميئوسٌ منها. فهذا أُيجِن فيشر Eugen Fischer يقول مثلًا: «إن كل محاولة لتصنيف السلالات هي محاولة عقيمة.»٢ كما يختم ماتيجكا Matiegka عرضه لبحوث أنثروبولوجية حديثة باقتباس من توبينار Topinard يقول فيه: «إن الأنثروبولوجيا لا تزال في مرحلتها التحليلية؛ فهي تبحث عن الأنواع. أما إرجاع هذه الأنواع إلى أصولها فهذا أمر لم نخطُ بعدُ خطوةً واحدة في سبيل إثباته.» أما مارتين Martin في كتابه الدراسي الوسيط عن الأنثروبولوجيا فيعود صراحة إلى التصنيفات الجغرافية لتوزيع السمات وتجمعاتها، وينصرف عن محاولة إيجاد تصنيفات للسلالات. وكثير من التصنيفات تتذبذب في حَيرة بين مختلف المفهومات التي أشرت إليها هنا عن الجنس. ويشعر الدكتور هادون Haddon بكل هذه الصعاب، ويصرح بوضوحٍ أن تقسيمه «ليس تصنيفًا بالمعنى الذي يفهمه مصنِّفُو علمَي الحيوان والنبات؛ إذ إنه يحتوي اعتبارات جغرافية».٣ بل إن أسماء الأجناس في نظره، كالشمالي (النوردي) والألبي، لا تعدو أن تكون معاني مجردة نافعة تعيننا على فهم الظواهر العامة؛ «فليس لنمط الجنس من وجود إلا في أذهاننا».٤ وفي موضع آخر يؤكد تعقد الموضوع، فيقول: «إن المرء ليكاد يقول باستحالة إيجاد تصنيف محكم للجنس البشري.»٥ولكي نحسن تقدير عمل علماء الأنثروبولوجيا الطبيعية، ينبغي أن ندرك الصعوبات التي يواجهونها خلال قيامهم ببحوثهم. فأول ما نلاحظه أن الأفراد نادرًا ما تتمثل فيهم كل خصائص النوع الذي ينتمون إليه نظريًّا، وربما ذكر القارئ كلام ربلي Ripley عن الصعوبة التي ألفى صديقه الدكتور أمون Ammon نفسه بإزائها عندما طُلبت منه صور لأنواع ألبية خالصة؛ ذلك لأنه بعد أن قاس آلاف الرءُوس لم يجد حالة واحدة كاملة في كل التفاصيل، فقال: «لقد كان كل ذوي الرءُوس المستديرة الذين أجرى مقاييسه عليهم شقرًا أو طوال القامة، أو ضيقي الأنف، أو أي شيء آخر لم يكن يجب أن يتصفوا به.»٦ ويمكننا أن نقول بوجه عام: إنه كلما ازداد الشعب تمدينًا ازداد تعرضه للاختلاط، أو على أية حال، ازداد تعدد الأنواع التي يمكننا أن نميزها فيه. بل إننا لا نجد حتى بين الشعوب البدائية أيَّ تطابقٍ بين الشعب وبين الجنس، ويقال إن سكان جزر أندامان هم الجماعة البشرية الوحيدة التي تقرب من الجنس «النقي».٧ولقد تبين لعلماء الأنثروبولوجيا أن أفراد معظم الشعوب التي درست حتى الآن لا يُطابقون من كل الأوجه تلك الأنواع النقية المزعومة، بل يتصفون بخصائص هي مزيج من صفات تلك الأنواع. وربما كان ذلك راجعًا إلى اختلاط الجنس، وهو الاختلاط الذي ظلَّ يحدث في كل مكان منذ أقدم العصور، ولكن من الممكن تفسير ذلك أيضًا بأنه أثرٌ باقٍ من عنصر قديم غير متفرع، خرج منه ما نفترضه من أنماط مختلفة للأجناس. ففي رأي الأستاذ فلير Fleure مثلًا أن الجماعات النوردية وجماعات البحر المتوسط هي فروع لأنواع قديمة ممتزجة من ذوي الرءُوس الطويلة. فالشعب البريطاني في مجموعه بينَ بينَ، لا هو في هذا الطرف تمامًا ولا هو في ذاك تمامًا. غير أنه ليس خليطًا من الاثنين، وإنما الأصح أنه تفرع لم يصلْ إلى هذا الطرف أو ذاك.٨ ومن الواضح أن مثل هذه التفسيرات الممكنة تجعل تعقب أوجه الشبه بين الجماعات المختلفة أمرًا متخبطًا إلى أبعد حد. ومما يزيد هذا الأمر صعوبة أننا نجهل مصدر التنوعات، مما لا يُستبعد معه أن تكون قد حدثت تغيرات مستقلة في مختلف أجزاء العالم، فلا يكون وجود أوجه الشبه دليلًا على وحدة الأصل. فمثلًا، هل ينبغي أن نعد أفراد العنصر الألبي الأوروبي مرتبطين في أصلهم بأفراد العنصر الألبي في آسيا الصغرى؛ لأنهم معًا من ذوي الرءوس الصعلة (العريضة)، أم أن عرض الرأس قد ظهر في كل حالة مستقلًّا عن الأخرى؟ وإذا ما تذكرنا، بعد ذلك، أن قوانين الوراثة وخاصة فيما يتعلق بآثار اختلاط الجنس لم تبدأ دراستها على نهج علمي إلا في أيامنا هذه، وأننا على أية حال لا نستطيع أن نعتمد في تطبيقها على المادة الشحيحة التي تُستخلص من تلك الأوصاف الناقصة للعصور الماضية، سواء منها التاريخية وقبل التاريخية، إذا تذكرنا كل ذلك، أدركنا في التوِّ سببَ حيرة علماء الأنثروبولوجيا وافتقارهم إلى الاتفاق في تقسيماتهم.كل هذه الاعتبارات توحي إلينا بأنه فيما عدا التقسيمات الكبرى للبشر إلى ثلاث جماعات أو أربع، وهي التقسيمات التي تُبنى على أساس سمات واضحة الارتباط، فيما عدا هذه التقسيمات لا بد أن تكون تصنيفات أجناس البشر اعتباطية إلى حد بعيد. وقيمتها الأساسية هي أن تُقدم إلينا صورة عامة تجريبية مؤقتة للحقائق، وبهذا تمهد الطريق للبحث المفصل المتوسع. ولقد كان أثر ما تم القيام به من هذه البحوث المتوسعة، هو الكشف عن الفروق التي كان يخفيها منهج أخذ المتوسطات من جماعات كبيرة، مما يؤدي إلى فصم الوحدات الكبيرة إلى فروع عدة، تغدو علاقتها بعضها بالبعض، وبالمجموع الأكبر أكثر تعقدًا وغموضًا. فمن أندر الأمور أن نصادف جماعة محلية يتفق أفرادها في كل الصفات العنصرية، وإنما يكون للغالبية الغالبة من الجماعات العنصرية أصلٌ مختلط إلى حد بعيد، كما أن العناصر الوراثية فيها يُعاد تشكيلها في كل جيل. وفي رأي علم الوراثة الحديث أن الجنس ينبغي أن يُفهم على أنه مركب من الصفات التي اكتسبت ثباتًا معينًا؛ نتيجة لطول العزلة والتكاثر الداخلي (أي التناسل بين أفراد الجنس الواحد). أما إذا انقطعت هذه العزلة، وحدث اختلاط في الجنس؛ فإن الخصائص التي تتميز بها الجماعات المختلفة تكون على الدوام تجمعات جديدة، وتزداد بالتدريج صعوبة تحديد الجنس المعين الذي ينتمي إليه أي فرد؛ فقد تكون لدى هذا الفرد خصائص معينة كانت تنتمي من قبل إلى جنس «نقي»، ولكنه قد يحمل في ذاته أيضًا عوامل وراثية هي أساس خصائص تنتمي إلى أجناس أخرى، وهي خصائص قد تعود إلى الظهور في ذريَّته؛ ففي رأي علماء الوراثة المحدثين «أن من الممكن جدًّا أن يكون لرجل فرنسي طويل القامة، أزرق العينين، مستطيل الرأس، من خصائص الجنس النوردي أقل مما يكون لرجل قصير القامة، أسود العينين مستدير الرأس».٩ومن الواضح أن مثل هذا التحوير يجعل مهمة علم الأجناس التاريخي، أي العلم الذي يختص بربط الشعوب الحالية بالأجناس المشابهة لها في الماضي السحيق، عظيمة الصعوبة والخطورة. ومن الجائز أن علماء الأنثروبولوجيا سوف يكرسون مزيدًا من جهودهم في المستقبل لتحليل أصل أنماط الشعوب الموجودة حاليًّا، ولدراسة ما يمكن ملاحظته من آثار لاختلاط الأجناس.
- (١)
-
(ب)
ولأنتقل الآن إلى اختبار الأدلة المتعلقة بالفروق بين الأجناس في الصفات العقلية.
فقد قيل بوجه عام إنه ما دامت الأجناس تختلف في الصفات المادية، فلنا أن نتوقع اختلافها ذهنيًّا أيضًا. ولا شك في أن لهذه الحجة بعض القيمة. على أننا ينبغي أن نذكر أنه ليس لدينا أي سبب أوَّلي يجعلنا نتوقع وجود أي ارتباط بين تلك الخصائص ذاتها التي يستخدمها علماء الأنثروبولوجيا معايير للجنس، وبين الصفات الذهنية؛ أي إنه ليس هناك ما يدعونا إلى أن نتوقع اختلاف الذكاء تبعًا للون البشرة أو نوع الشعر مثلًا. والواجب أن يُختبر كل ارتباط كهذا اختبارًا مستقلًّا. ولقد استدل كثير من الثقات على وجود فروق في القدرة العقلية من الاختلافات في حجم الجمجمة، وفي وزن المخ ودقة تركيبه، غير أن الأدلة في كل هذه الحالات ليست حاسمة على الإطلاق.
-
(١)
فقد استطاع مارتين Martin١٠ أن يعد قائمة طريفة أوضح فيها أقيسة حجم الجمجمة في مختلف الأجناس. وكان متوسط هذا الحجم في الجماعات الأوربية هو بالسنتيمتر المكعب: ١٤٥٠ للذكور و١٣٠٠ للإناث. وأقرب الشعوب إلى الأوربيين تلك الشعوب المتمدينة التي تسكن شرق آسيا، والجماعات الأوقيانوسية في المحيط الهادي والأمريكيون. والقبائل الأسترالية كانت أقل من ذلك بكثير، إذ بلغ المتوسط في الذكور ١٣٤٧ وفي الإناث ١١٨١، وقبائل الفيدا Veddas١١ ١٢٥٠، ١١٣٩؛ وسكان جزر أندامان ١٢٨١، ١١٤٨. كما أن التوزيع في كل جماعة يستحق الانتباه؛ فأعلى النسب تتردد لدى الشعوب المتمدينة أكثر مما تتردد لدى الباقين:قياس يقل عن ١٢٠٠سم٣ : الهوتنتوت ٥١٪ – الأستراليون ٤٥٪ – الألمان ٨٪ – الصينيون ٢٪.قياس يزيد عن ١٣٠٠سم٣: الهوتنتوت ١٦٪ – الأستراليون ٢٨٪ – الألمان ٧٥٪ – الصينيون٩٢٪.على أن تأمل هذه القوائم بمزيد من الدقة يبين لنا أنه ليس هناك أي أساس حقيقي للقول بوجود أي ارتباط بين حجم الجمجمة وبين المستوى الحضاري. ويتضح ذلك في الحال إذا قارنَّا المتوسط الذي ذُكر للصيني، وهو ١٤٥٦، ومتوسط قبائل «كالموك Kalmuok»١٢ الرحل، وهو ١٤٦٦، أو متوسط اليابانيين وهو ١٤٨٥، ومتوسط سكان جاوه وهو ١٥٩٠، وأوضح من ذلك مقارنة الكافير Kaffir١٣ وهو ١٥٤٠، والأماكسوزا Amaxosa١٤ ١٥٧٠ مع العرب وهو ١٤٧٤. كذلك تنكشف لنا فوارق ملحوظة بين شعوب تنتمي إلى جماعة واحدة؛ فللإسكيمو في جرينلند حجم قدره ١٤٥٢، على حين أنه لبَقيَّة الإسكيمو ١٥٦٣، بل لقد ذكر ليبتسلتر١٥ أن متوسط قبائل الأقزام هو ١٦٠٠سم٣. ومن الملاحظ فضلًا عن ذلك أن التفاوت بين الأفراد كبير في كل الجماعات، ويحدد مارتن نطاق هذا التفاوت بأنه يقع ما بين ١١٠٠ و١٧٠٠سم٣.
-
(٢)
أوزان المخ: يحدد توبينار Topinard متوسط وزن المخ للأوربيين على أساس دراسة ١١ ألف حالة بأنه ١٣٦١ جرامًا للذكور و١٢٠٠ للإناث. أما عدد الحالات التي دُرست من الأجناس الأخرى فهو قليل. ومن المعلوم أن التفاوت في هذه الحالة يكون كبيرًا؛ إذ إنه يتراوح بين ١٥١٣ و١٥٨٧ في حالة زنوج أمريكا، وبين ١٠٦٣ و١٧٩٠ في حالة اليابانيين؛ ولهذا لم تكن النتائج موثوقًا فيها كل الثقة. ويقتبس «توبينارد» الأرقام الآتية (نقلها عنه دنكر Deniker ص١١٦): متوسط الأوربيين ١٣٦١؛ زنوج أمريكا الشمالية ١٣١٦؛ سكان أنام ١٣٤١، اليابانيون ١٣٦٧، البوريون Buriats١٦ ١٣٨٠، الصينيون (متوسط مأخوذ عن عدد قليل) ١٤٢٨. ويتضح خطر استخلاص أية نتيجة من مثل هذه المقارنات في حالة سكان «تيرادلفويجو» الأصليين (Tierra del Fuego)، فمارتن يذكر أن قبائل البسكرا Peschera الذين يوصفون بأنهم أنصاف حيوانات، يقترب وزن مخهم من وزن مخ الأوروبي، فإذا ما اعتبرنا حجم جسمهم، كانت المقارنة في صالحهم!
-
(٣)
زعم كثير من الباحثين وجود فروق في المقدرة بين الأجناس المختلفة، تطابق الفروق في دقة تركيب المخ عندهم. على أن عدد الحالات التي درست هو في العادة عدد ضئيل للغاية. ولما كانت توجد في هذه الحالة بدورها فروق فردية هائلة، فإن النتائج المتعلقة بجماعات الأجناس الكبيرة تبدو غير موثوق فيها. وينتهي كولبروجه Kohlbrugge،١٧ بعد قيامه بأوسع بحث عرف في هذا المضمار (فحص ما بين ١٠٠٠ و١٢٠٠ مخ) إلى أنه لا توجد أشكال من المخ يختص بها أي جنس معين، وأن وجود فروق بين الأجناس المختلفة في درجة توزيع هذه الأشكال هو أمر غير محتمل، وأن الفوارق في التركيب الدقيق ليست من خصائص الجنس. ومن الواضح أن هذه المشكلة لا زالت في حاجة إلى مزيد من البحث.
-
(٤)
ولننتقل الآن إلى البحث المباشر للخصائص الذهنية لجماعات الأجناس عن طريق الاختبارات. وأشهر هذه الاختبارات التي أُجريت في أمريكا على جماعات من الأجناس والأمم المختلفة. وقد أجرى أوسع هذه الاختبارات خلال الحرب١٨ في الجيش الأمريكي، وقيل إن الاختبارات تثبت تفوُّق الأجناس النوردية على الألبية، وعلى جنس البحر المتوسط. ولكن يهمنا أن نلاحظ أن الأستاذ بريجهام Brigham الذي كان مسئولًا عن بعض هذه النتائج قد رجع عنها رجوعًا صريحًا. ففي مقال نشر في مجلة علم النفس Psychological Review. في مارس سنة ١٩٣٠م يقول: «لقد لخصتْ هذه المجلة بعض الكشوف الحديثة التي تُبين أن الدراسة المقارنة لمختلف جماعات الأجناس والشعوب لا يجوز أن تتم عن طريق الاختبارات الموجودة، وتُبين بوجه خاص أن واحدًا من أجرأ هذه الدراسات المقارنة للأجناس وأكثرها ادعاء — أي الدراسة التي أجراها كاتب هذا المقال — قد قامت على غير أساس.» ويقوم نقده لعمله على أساس أن أرقام الاختبار لا تمثل أشياء موحدة، ولهذا فإن أرقام الاختبارات الفرعية لا يمكن أن تجمع، كما كان الحال في البحوث السابقة. وإلى جانب هذه الاعتراضات الرياضية اعتراضات جدِّية أخرى على النتائج التي استخلصت من هذه الدراسات فيما يتعلق بالفروق العنصرية. فأولًا يلاحظ أن الجماعات التي درست لم تكن جماعات عنصرية، بل جماعات قومية. وليس هناك ما يضمن على الإطلاق أن يكون الأفراد الذين يُقال عنهم إنهم إنجليز أو فرنسيون، أو إيطاليون يمثلون أنماطًا لأجناس مختلفة، ما دام علماء الأنثروبولوجيا أنفسهم يعترفون بأن الجماعات النوردية، والمنتمين إلى جنس البحر المتوسط والجنس الألبي، تمتزج امتزاجًا وثيقًا في كل دولة من دول أوروبا الغربية. ولقد فشلت حتى الآن كل المحاولات التي بُذلت من أجل إيجاد ارتباط مباشر بين الخصائص العنصرية، كالشعر أو لون العينين، وبين الذكاء. وفضلًا عن ذلك، فمن الخطأ أن نفترض أن الأعداد الصغيرة التي اختُبرت في أمريكا هي أمثلة صادقة للشعوب التي استخلص منها هذا العدد، وكل الاحتمالات تشير إلى وجود فروق هامة في نوع المهاجرين الذين ترسلهم مختلف دول أوروبا إلى أمريكا. ولنضف إلى ذلك أن الدراسات التي تمَّت في أوروبا لا تكشف عن وجود فروق يمكن أن تسمى فروقًا عنصرية.١٩ وفيما عدا هذه الدراسات المتعلقة بالجماعات الأوربية، وهي الدراسات التي لا تبدو لها أهمية كبيرة يمكننا أن نلخِّص النتائج الأخرى على هذا النحو. فإذا نظرنا إلى معامل الذكاء بالنسبة إلى البيض على أنه ١٠٠، فإن معامل الذكاء بالنسبة إلى بقية الشعوب هو: الصينيون ٩٩، اليابانيون ٩٩، المكسيكيون ٧٨، الزنوج الجنوبيون ٧٥، الزنوج الشماليون ٨٥، الهنود الأمريكيون الأصليون ٧٠.٢٠ على أن من الصعب في ضوء طرق القياس التي استخدمت في هذه الدراسات أن نحدد الدور الذي تلعبه عوامل الجنس في تحديد معاملات الذكاء؛ فعلماء النفس يجمعون اليوم أن نتائج اختبارات الذكاء تتأثر بعوامل البيئة؛ ولذا يكون من أصعب الأمور عند مقارنة الجماعات التي ذكرناها من قبل أن نستبعد الفروق في الحالة الاجتماعية، والصعوبات المتصلة بطبيعة اللغات المختلفة التي يجري بها الاختبار، والاختلافات في عادات التفكير والسلوك، وفوق ذلك كله نظرة الشعوب المختلفة إلى الاختبار. صحيح أنه قد ظلت هناك فروق عندما استبعدت عوامل البيئة هذه، غير أن الباحثين أنفسهم نادرًا ما ادَّعوا أنهم قد نجحوا تمامًا في استبعاد الاختلافات في تقاليد البيئة أو الحضارة، ولنُضف إلى ذلك كله أن بعض الشواهد تدل على إمكان تغير معامل الذكاء عن طريق تحسين البيئة؛ فمثلًا أوضح «جارث Garth» «أن الهنود الأصليين والمختلطين (المهجنين) عندما وُضعوا في بيئة صالحة، هي بيئة المدرسة الحكومية، قد فاقوا في درجاتهم وفي معامل ذكائهم سواهم من الهنود أو البيض الذين ينتمون إلى المدارس العامة».٢١
وعلى ذلك، فإلى أن نتوصل إلى وسيلة أصلح للتحكم في عامل البيئة، يكون من الخطر أن نستخلص نتائج متعلقة بالفروق في الجنس من بحوث مقارنة مبنية على اختبارات ذكاء. وينبغي أن يكون حكمنا حتى الآن هو الحكم «بأن الدليل لم يقم». فإذا وجدت أية فروق فطرية بين جماعات، فلا جدال في أن هذه الفروق تقوَى عن طريق عوامل البيئة. وفضلًا عن ذلك، فعنصر التداخل واضح، والفروق الفردية في داخل الجماعات أكبر من الفروق بين الجماعات نفسها.
-
(٥)
أما الدراسات التجريبية بشأن الفروق بين الأجناس في الصفات المزاجية وفي الطبع؛ فلا زالت هزيلة إلى حد بعيد، ولا زالت الوسائل التي تستخدم في هذه الدراسات من السذاجة بحيث لا تستحق أن نناقشها هنا. على أن مؤلفات علم الاجتماع والإثنولوجيا تزخر بأحكام عامة غير تجريبية عن هذه الصفات، ولهذه الأحكام العامة أثر في التفكير الشائع يفوق كثيرًا قيمتها العلمية؛ ولهذا كانت تقتضي منا بعض التعليق؛ فهي كلها مشوبة بعيوب أساسية في المنهج. فهذه الأحكام العامة أولًا تعزو في كثير من الأحيان خصائص معينة لمجموعات كبيرة من البشر، لم تثبت وحدتهم العنصرية، وذلك على أساس تجارب عارضة محدودة جدًّا، قام بها سائحون وأدباء. فمثلًا، يخبرنا باحث معروف أن الجزء المغولي من البشر (الذي ينبغي أن نتذكر أن تعداده يبلغ حوالي ٦٩٥ مليونًا، أي ٣٨٪ من مجموع الجنس البشري كله) هم بوجه عام «متحفظون إلى حد ما، مكتئبون، مشاعرهم جامدة، وهم في مظهرهم الخارجي مجاملون إلى أقصى حد، ولكنهم مترفعون … وكلهم على وجه التقريب يدمنون المقامرة».٢٢ وفي مقابل ذلك يبدي الأستاذ زليجمان Seligman ملاحظاته عن الصين فيقول: «حسبنا أن نرقب جماعة من العمال الصينين يبحثون عن عمل لنقتنع بأن الصينيين أكثر تهيجًا وأقوى عاطفة من الأوربيين الشماليين … فطبيعتهم أبعد ما تكون عن ذلك الطابع الجامد غير المكترث الذي يُعزي إليهم عادة.»٢٣ وبالمثل يخبرنا كثير من الثقات أن «جنس البحر المتوسط» يتميز بقوة الروح الاجتماعية، أو بالميل إلى الصحبة. فهل يفترض أن هذا الحكم يصدق على كل سكان منطقة البحر المتوسط؟ لنستمع إلى ما يقوله باحث إسباني مدقق عن شعبه هو: «إن الإسباني أبعد ما يكون عن الميل إلى الصحبة، فإذا ما بحث عن الرفقة، فإنما يكون ذلك من أجل أن يشعر باحتكاك شخصيته بشخصيات الآخرين، بحيث إنه في صحبته لا يبحث عن روح الجماعة، وإنما يبحث عن شخصيات أخرى، ومن هنا كان ذلك الشعور الخشن في تجمعات الإسبان، ذلك الإحساس الذي نشعر فيه بأنهم أشبه ما يكونون بحقل من الأحجار الصخرية الصلدة.»٢٤ وفي وسعنا أن نأتي بأمثلة لا نهاية لها المثل هذه الأحكام العامة، وهي قلما تثبت أمام اختبار صحتها اختبارًا ناقدًا.وهناك عيب ثانٍ خطير في علم النفس العنصري؛ هو ميله إلى أن ينسب إلى جماعات الأجناس صفات مستخلصة من سلوك أفراد ينتمون إلى شعوب مختلطة العنصر، دون أية محاولة للتحقق من خصائص جنس هؤلاء الأفراد. فعندما يقال مثلًا إن تأسيس الجمهورية الأمريكية يرجع إلى دأب المهاجرين النورديين وقيادتهم، فهل هناك أي دليل على أن هؤلاء الأفراد الذين نتحدث عنهم هم نورديون على التخصيص، في صفاتهم الجسمية على الأقل؟ لا دليل على الإطلاق، وإنما توحي الأبحاث التي أجريت على الخصائص الجسمية لقدماء الأمريكيين بأن بعضهم فقط كانوا من الشقر، وأن ذوي الرءوس المستديرة كانوا بالتأكيد أكثر من ذوي الرءوس المستطيلة.٢٥ وبالمثل فإننا عندما نفحص الرأي الذي يتردد كثيرًا، والقائل بأن النورديين هم خير المستكشفين في العالم، لن نجد شيئًا يدل على الطابع الجسمي للمستكشفين. وإذا تأملنا الإنجليز منهم خاصة، وجدنا دراسة هافلوك إليس Havelock Ellis توضح «أن أبرز مستكشفينا وأعظمهم خبرة، كانوا في الأغلب من ذوي العيون الداكنة والشعر الداكن».٢٦وأخيرًا، في علم النفس العنصري، الذي يشيع اليوم، عيب أوضح من ذلك كله، هو إخفاقه في التمييز بين ما يمكن أن يكون سمات وعادات حضارية، وبين الصفات الكامنة في الجنس، وافتقاره إلى النظرة التاريخية بوجه خاص. فلنتأمل مثلًا تلك المزايا المزعومة التي تعزي إلى النورديين من حيث هم منظمون وحكام.٢٧ فلا شك أن تاريخ القبائل التيوتونية لا يثبت ذلك؛ إذ كان الألمان قبل قيام بروسيا مشهورين بافتقارهم إلى القدرة على التنظيم الواسع النطاق. على أن التركيب العنصري للبروسيين هو أكثر موضوعات الأنثروبولوجيا مثارًا للجدل، وإن الحقائق القليلة الموجودة لتبين أن أربعة أخماس سكان بروسيا من ذوي الرءوس المستديرة.٢٨ومن الأمثلة الأخرى التي تكشف بوضوح عما يكمن في تعميم صفات الجنس من خطر، ذلك الاختلاف الهائل في وصف الجنس الألبي بين كاتبين لا يفصل أحدهما عن الآخر إلا نحو ثلاثين عامًا؛ ففي رأي ربلي Ripley أن الألبيين يتميزون بالصبر، والسلبية، والمسالمة، وهم من الوجهة الاجتماعية محافظون ومستسلمون، ثم يقول إن مما يشهد على ذلك «الاستسلام الذليل في الجماعة السلافية». أما بيك Peake، الذي كتب بعد الثورة الروسية؛ فيقول عنهم إنهم ديموقراطيون، ويميلون في الواقع إلى الشيوعية؛ إذ «إن روسيا السوفيتية من الجنس الألبي في الأغلب، وقد أتى «كارل ماركس» من المنطقة الألبية». ومجمل القول أن علم النفس العنصري لا يزال حتى الآن في مرحلة «القصص» Anecdtole Stage وخاصة عندما يبحث في الطبع والمزاج؛ فهو يتورط في إصدار أحكام عامة على جماعات هائلة ظل تركيبها العنصري غير محقق، وربما كان من المحال التحقق منه. وهو لا يستبعد العوامل التاريخية والاجتماعية، ولم يكشف عن أية وسيلة علمية يعزل بها العناصر الوراثية عن عناصر البيئة، وتبدو أهمية هذا النقص بوجه خاص إذا أدركنا أن معلومتنا عن القوانين التي تتحكم في وراثة صفات الطبع والمزاج ضئيلة إلى أبعد حد. ونحن لا نجد ما يدعو إلى الشك في أن لهذه الصفات أساسًا وراثيًّا، غير أن هذا لا يعني أنها سمات للجنس، أو أن لها ارتباطًا ضروريًّا بالصفات الجسمية التي تُستخدم معايير للجنس. أما المحاولة التي بُذلت حديثًا للربط بين أنماط التركيب المختلفة التي يقول بها كرتشمر Kretschmer وبين أجناس محددة، فلم تفلح حتى الآن، وفي رأي الباحثين المدققين أن كل أنماط التركيب توجد في أي جنس من الأجناس.٢٩ ومن المفيد أن نلاحظ أيضًا أن البحوث التي أُجريت بواسطة «طريقة التصنيف»، حول العلاقة بين السمات السمراء والشقراء، وبين مختلف الصفات المزاجية والخلقية، كحب العدوان، والصبر، والهمة والسيطرة والمحاكاة والاستسلام، هذه البحوث قد أدت إلى نتائج سلبية.٣٠ ومما يؤسف له أن الأنثروبولوجيا الطبيعة لم تُعِر حتى اليوم إلا انتباهًا ضئيلًا لما بين مجموعات الأجناس من فروق فسيولوجية متميزة عما بينها من فروق تشريحية.
ومن الممكن أننا إذا توصلنا إلى معلومات أوسع عن الفروق الفسيولوجية، فسيلقي على مشكلة العلاقة بين الجنس والمزاج ضوءًا أوضح.
-
(٦)
وهذا يؤدي بنا إلى مشكلة عويصة، هي مشكلة الطابع القومي. والمقصود بهذه الكلمة، مجموعة النزعات الفكرية والوجدانية والسلوكية التي ينفرد بها شعب معين، وتنتشر فيه، وتتجلى باطراد متواصل أو منقطع في أجياله المتعاقبة. وربما كان في وسعنا أيضًا أن نتحدث عن مزاج شعب معين، قاصدين بذلك صفات ذهنية خاصة، مثل درجة الشدَّة في الاستجابة، وسرعة النشاط، ومدى استجابته للمؤثرات، ولون المزاج، أو الطابع الانفعالي السائد في سلوكه. فإن كان هناك ما يسمى بالمزاج القومي، فمعنى ذلك أن هناك فروقًا بين الجماعات القومية بالنسبة إلى هذه الصفات. وحين نسمي هذه الصفات قومية؛ نقصد أنها تسود شعبًا معينًا على نطاق واسع وعلى الدوام، كما نقصد أنها تنعكس على نُظم ذلك الشعب وتقاليده ومظاهر نشاطه العام وسياسته. وعلى هذا الأساس يقال مثلًا: إن الألمان أجلاف أو ثقلاء (Heavy) (Lourds Allemands)، ويقصد بذلك أن استجابتهم بطيئة، ولكنهم بمجرد أن يستثاروا يغدون متحمسين مثابرين، كما يقصد بذلك أنهم يتصفون بالصبر والنشاط، والنظام والدقة، وأنهم يفتقرون إلى الروح الصريحة، ولديهم ميل إلى النزعة الفردية والانعزالية. كذلك يقال إن الأمة الإنجليزية تتميز بالنشاط والابتكار، والشعور بالمسئولية الفردية؛ وطاعة القوانين ولديهم ميل إلى التوفيق بالحلول الوسط وإلى الاعتدال٣١ وأن الفرنسيين ذوو حيوية، يميلون إلى الحركة، ويتصفون بالصراحة والألفة، ويفتقرون إلى ما لدى الإنجليز من قوة، وما لدى الألمان من الصبر الطويل٣٢ ومن المحتمل جدًّا أنه حتى لو صح وجود مثل هذا الطابع والمزاج القومي، بالمعنى المقصود هنا، فسوف تكون بين مختلف الشعوب فروق هائلة في درجة التجانس التي يصل إليها الشعب بصفةٍ عامة، وفي مدى دوام الملامح القومية واستمرارها. غير أن الدراسات الدقيقة للفروق بين المدينة والريف، أو بين مختلف الجماعات المهنية أو الاجتماعية، هذه الدراسات، إن وجدت، فهي قليلة نادرة. أما عن استمرار الطابع القومي، فقد أكد الكُتاب الألمان بوجهٍ خاص، دوام الطابع القومي، وكانوا في ذلك متأثرين بنظريات عن الروح القومية أو في الأغلب بمذاهب عنصرية. غير أن هذا الدوام قد أكَّده أيضًا مؤرخون فرنسيون، كما أكده في إنجلترا كتاب مثل ماكدوجل Mc Dougall في كتابه «العقل الجمعي The Group Mind» الفصل (١٦). وليس في وسعنا هنا أن نناقش تفاصيل هذا الموضوع، ولكن الذي لا شك فيه هو أن هناك قدرًا من الاتصال في حالة الأمم الكبيرة ذات الماضي التاريخي الطويل، ولكن حتى في هذه الحالة لا يكون هناك ما يبرر القول بأن الطابع القومي شامل أو غير قابل للتغير. وذلك ما أشار إليه هيوم Hume بوضوح في مقاله المعروف عن الطابع القومي إذ يقول: «لقد كان قدماء الإسبان قلِقِين، ثائرين، وبلغ تعلقهم بالحرب حدًّا جعل الكثيرين منهم ينتحرون عندما جرَّدهم الرومان من أسلحتهم. أما اليوم (أو على الأقل منذ خمسين عامًا)؛ فلا يقل عن ذلك صعوبة أن تستحث المحدثين من الإسبان إلى خوض غمار الحرب.» ولاحظ هيوم، في تاريخ إنجلترا، فروقًا كبيرة بين الحِقب المختلفة في درجة التحمُّس للدين. ولقد أشار الأستاذ باركر Barker إلى الميول والعادات الجديدة التي أخذت تنمو في إنجلترا الحديثة، كازدياد حدة المزاج، والميل إلى التكتل، وازدياد الاستعداد للخضوع لتنظيمات الدولة.٣٣ وفي الألمان المحدثين نجد مثلًا واضحًا للانتقال من نزعة فردية متطرفة إلى تطرف بالغ في عبادة سلطة الدولة. أما محاولات تقدير إمكانيات أي شعب على أساس ماله من طابع مزعوم، فهي محاولات لا تؤمن عواقبها على الإطلاق، كما تبين بوضوح من مصير مثل هذه المخاطرات في الماضي. فمن الأمثلة الجيدة لذلك شك الأوربيين في محاولات اليابانيين صبغ بلادهم بالصبغة الغربية، وهي المحاولات التي ظن أن مآلها سيكون إلى الإخفاق، أو تلك الآراء التي أبداها كتاب قدماء عن قدرة الإيطاليين والألمان في ميدان الصناعة، وهي الآراء التي تبدو مضحكة في ضوء التطور التاريخي الأخير.
وسوف يتبين لنا أن علم النفس الشعوبي، لم يكد يصل إلى مرحلة الدقة العلمية؛ فقوامه أساسًا سلسلة من الانطباعات، يقوم بها في الغالب كُتَّاب لامعون، وملاحظون مدققون لسلوك مختلف الشعوب، واستدلالات عن نزعات الشعوب، مستخلصة من دراسة نظمها، وما ساهموا به في ميادين الفن والعلم. وليس لنا أن نستهين بهذه الجهود، أو نرتكب خطأ إنكار وجود الخصائص القومية؛ لمجرد أن هذه الخصائص لم تخضع حتى الآن للتحليل الدقيق أو القياس الكمي. وقد يكون لنا أن نتوقع نتائج أصحَّ إذا عرفنا المزيد عن الناحية الوراثية للطبائع، وإذا توصلنا إلى وسيلة عملية موثوق بها، تمكننا من ملاحظة سلوك الجماعة وتسجيله.
ولنتأمل الآن ما يمكن أن يكون للجنس من أثر على الطابع القومي. وقد نتصور أن هذا الأثر يحدث على النحو الآتي: فإذا افترضنا أن الأجناس تختلف في نزعاتها الموروثة، فإن هذه النزعات الفطرية سوف توجد بنسب مختلفة بين مختلف الأمم أو الشعوب، وذلك تبعًا لما دخل في تكوينها من سلالات عنصرية. وفضلًا عن ذلك، فإن عوامل البيئة، وضمنها تأثير الشعوب الأخرى، وتاريخ الشعب نفسه ونظمه الداخلية، هذه العوامل سوف يكون لها تأثير انتقائي أو انتخابي على مجموعة النزعات الفطرية فتشجع بعضها وتستأصل البعض الآخر. ونتيجة ذلك هي تكوين نمط قومي له دوام نسبي يمكن أن ينتقل بالوراثة. وعلى هذا النحو يكون للنظم والأحداث التاريخية تأثير غير مباشر على الصفات التي كانت موجودة أصلًا، وذلك عن طريق التشجيع أو الاستئصال أو الكبت، على الرغم من أن هذه الصفات يمكن أيضًا أن تُعدَّ، بمعنًى ما، أساسًا للنظم والأحداث التاريخية. فمثلًا، نجد أن الهجرة الإجبارية التي تحدث الآن٣٤ للألمان ذوي الشخصية القوية والاستقلال العقلي، قد تسهل في ألمانيا نمو النظم التي تتطلب خضوعًا وانقيادًا، وقد تكون النظم التي تنمو على هذا الأساس عاملًا يزيد هذه الصفات رسوخًا في أذهان الألمان. أما في الأوقات العادية؛ فقد يحدث هذا التأثير الانتقائي للنظم على نحو أبطأ وعلى نطاقٍ أضيق؛ مما يعلل لنا الثبات النسبي للطابع القومي.والحق أن هذا الفرض معروضًا على هذا النحو هو فرض معقول للغاية. ولكنا إذا اختبرنا المحاولات التي بُذلت لتطبيقه تطبيقًا مفصَّلًا وجدنا أن معظم هذه المحاولات ينطوي على التجاء إلى عوامل مجهولة، بل عوامل ربما لا يوجد إلى معرفتها سبيل. فالأمم أو الشعوب التي يُراد وصف طابعها كلها مختلطة القوميات والشعوبية، ولا نعلم من الوجهة العلمية شيئًا عن تلك الخصائص الفطرية لتلك الأجناس النقية التي نفترض وجودها، والتي يزعم أن هذه الشعوب قد تركبت منها.
فالأوصاف التي تُقال على التركيب الذهني الفطري للنورديين أو الألبين أو شعوب البحر المتوسط، هي ذاتها مستمدة من تاريخ الشعوب، مع أن طابع هذه الشعوب هو نفسه الشيء المراد وصفه. على أننا ما دمنا لا نعلم إلا القليل عن آثار اختلاط الجنس على الصفات العقلية، وما دامت السمات، على ما يبدو، تتجمع ثم يُعاد تجمعها على أنحاء لا حصر لها، فإن إعادة تصوير الأنماط العقلية للأجناس الأصلية لا يعدو أن يكون رجمًا بالغيب. وكلما رجعنا في الزمان إلى الوراء، ازداد هذا الأمر صعوبة. فما يقوله الكُتاب الرومانيون مثلًا عن الخصائص العقلية ﻟالغاليين Gauls والجرمانيين إذا ما حملت أقوالهم على محمل الجد، هو بالتأكيد أمر قليل الجدوى في الوصول إلى التركيب الذهني للجنس الألبي والنوردي. والحق أن هذه النظرية قد بلغت من المرونة حدًّا يجعل من الممكن استغلالها لتأييد أية فكرة يُراد إثباتها عن صفات الجنس. ولو ظهر أي خروج عن معيار الجنس المثالي، فمن الممكن أن يُعزى ذلك إلى اختلاط الجنس. وفي هذا يقول عالم أنثروبولوجي ألماني مشهور: «إن النفوس النوردية قد تتحد في كثير من الأحيان بأبدان غير نوردية، على حين قد تعمر نفس غير نوردية على الإطلاق بدنًا نورديًّا خالصًا.»٣٥ وبالمثل يكون من المألوف عند بحث العلاقات بين الشعوب البيضاء والشعوب الملونة، أن تُعزى أية ميزة نصادفها في قدرة رجل ملون أو في طبعه إلى عرق «أبيض» في السلالة التي انحدر منها. مثل هذه «التفسيرات» لا تقوم على دليل، بل هي تفتح الباب على مصراعيه للتعصب والتحزب.ومجمل القول أن علم النفس الشعوبي لم يستفِدْ حتى الآن من علم النفس العنصري إلا القليل. فتحليل سمات الطبع والمزاج والمقدرة من الوجهة الوراثية هو أمر هام، غير أنه لم يطبَّق إلى الآن على الجماعات الكبيرة إلا تطبيقًا يسيرًا. وخير السبل في هذا المضمار هو أن نبدأ بتفسير الأمور من خلال العوامل التي يمكن التحقق منها، كالعقائد، والعوامل الجغرافية والاقتصادية والسياسية، وأن نركز جهودنا حاليًّا في استنفاد إمكانيات هذا التفسير، ولا نلجأ إلى خصائص الجنس إلا عند بحثنا للظواهر التي ظلَّت من غير تفسير، أو التي لا يمكن تعليلها على أي نحو آخر.
-
(١)
-
(جـ)
وعلينا الآن أن نعود إلى مسألتنا الأساسية، مسألة العلاقة بين الجنس وبين الحضارة أو المدنية؛ فالعرض العام للحقائق الأنثروبولوجية والتاريخية يوضح لنا أن توزيع السمات الحضارية لا يسير تبعًا للجنس. فلا اللغة، ولا الفن، ولا أشكال التركيب الاجتماعي لها أي نوع من الارتباط الوثيق بجماعات عنصرية متميزة. ومع ذلك فقد أكَّد كثير من الباحثين أهمية الجنس، بوصفه عاملًا من عوامل نحو الحضارة، وذلك لأسباب عدة، سوف أناقش هنا أهمها مناقشة موجزة:
-
(١)
أرجع البعض ما يوجد في المستوى الحضاري من فروق إلى اختلافات في المواهب الفطرية أو الكامنة في الجنس. فقيل مثلًا إن تخلف الزنجي ينبغي تفسيره على أساس أن قدرته في مستوًى منحطٌّ. على أن مثل هذه الحجج التي تُرجع الفعليات إلى الممكنات لا ترتكز على أي أساس متين. وفي وسعنا أن نثبت تهافُتَها إذا تساءلنا: ماذا عسى أن يكون رأي أي مشاهد روماني، لو قيل له إن البرابرة التيوتونيين سوف ينشئون في يوم ما تلك الموسيقى الرائعة وتلك المذاهب الميتافيزيقية المتعددة؟ الحق أن حيوية سكان أوروبا الغربية ونشاطهم شيء جديد. ولقد كان من المحال أن يتكهَّن بهما مخلوق قبل القرن السادس عشر. «فأي شخص نافذ البصيرة يستعرض العالم في أوائل القرن السادس عشر، كان خليقًا بأن ينتهي إلى أنه لن تمر أجيال قليلة حتى يغدو العالم بأسره مغوليًّا … أو قد يكون مسلمًا».٣٦ وليس من المستبعد أن يصل الزنوج إلى مستوى الأجناس الأخرى خلال بضع مئات من السنين مثلًا، وهي حقبة لا تكون إلا جزءًا يكاد لا يذكر من الوقت الذي استغرقته أنماط الأجناس البشرية في تميُّزها بعضها عن البعض. ولنضف إلى ذلك أن هناك أسبابًا أخرى يمكننا أن نفسر بها خصائص المدنية الزنجية، نخص منها بالذكر قلة اتصالاتها بالحضارات الأخرى، والطابع الخاص الذي تتميز به الأمراض في أفريقيا، وهي الأمراض التي تودي بالقدرة الذهنية والبدنية، وتؤدي بالمرء إلى الانهيار دون أن تكسبه مناعة.٣٧
-
(٢)
ظهرت نظريات تُرجع تدهور المدنيات إلى تغيرات عنصرية: فتدهور رومة يُعزى إلى اختلاط الأجناس (تشيمبرلن Chamberlain) وإلى الافراط في زواج الأقارب (ريبماير Reibmayr)، أو إلى سير عملية الانتخاب الطبيعي في طريق عكسي؛ نتيجة للحرب وتناقص النسل، مما ينجم عنه القضاء على أصلح عناصر المجتمع (زيك، شلماير Seek, Schallmayer وغيرهما). ومن الواضح أن هذه النظريات يتعارض بعضها مع بعض، ولكن ليس ثمة، على أية حال، أي دليل موثوق منه على حدوث تدهور بيولوجي أو افتقار إلى إنجاب رجال قادرين؛ «فمن الجائز أن الأسر القديمة التي كونت الجمهورية قد انقرضت، غير أن ما اعتاده هوراس في مؤلفاته الأدبية من التباكي على الانحلال، إذا كان له أية قيمة علمية على الإطلاق، يرجع إلى أوائل عهد الإمارة Principate، الذي لم يكن عصر انحلال بل عصر تقدم ملحوظ، ظل باقيًا خلال ما يقرب من قرنين من الزمان.»٣٨ ويستبعد مؤرخون مثل بيلوخ Beloch وهيتلاند Heitland وروستفتسف Rostovtseff تلك التعليلات العنصرية؛ إذ يرونها ضئيلة القيمة.٣٩ وإن من الأسهل في تفسير التقلبات التي طرأت على العالم القديم، إرجاعها، على نحو ما فعلت البحوث التاريخية الأخيرة، إلى عوامل اجتماعية واقتصادية متشابكة، وإلى ما كان لهذه العوامل من رد فعل على العلاقات العسكرية.٤٠
-
(٣)
في بحث علماء الآثار لما قبل التاريخ الأوربي، حاولوا أن يرسموا دورات حضارية متميزة، وأن يربطوها بجماعات معينة من الأجناس، وليس في مقدوري أن أحدِّد قيمة هذه الدراسات، غير أني أستطيع أن أستنتج أنه حتى في هذه الأزمان الغابرة كان حمَلة الحضارات المتميزة هم الشعوب لا الأجناس. فهناك شواهد تدل على اختلاط الجنس حتى منذ العصر الحجري القديم Paleolithie وفى العصر الحجرى المتأخر، كان التركيب العنصري لأوروبا لا يقل تعقُّدًا عما هو عليه الآن. ويرى الأستاذ جوردون تشيلد Gordon Childe أن الجماجم التي وُجدت في مقابر الدنمارك والسويد، والتي نُسبت إلى الحضارة النوردية للعصر الحجري المتأخر (أي الألف الثالثة ق.م.) تنتمي إلى أنماط اجتماعية مختلفة؛ فليس فيها من ذوى الرءوس المستطيلة إلا ٣٠٪، وحتى هذه النسبة لا يمكن أن تُعزى إلى الجنس النوردي على نحو قاطع.٤١ ويبين تحليل شايت Scheidt المفصل أن من الممكن أن نميز على الأقل تسعة أنواع من الجماجم في أوروبا الشمالية والوسطى والشرقية في العصر الحجري المتأخر Neolithic.وفي مثل هذه الظروف تكون هناك صعاب جمَّة في ربط الأنماط الحضارية، بالأنماط العنصرية.٤٢ ويعتقد الأستاذ جوردون تشيلد أن «الأنثروبولوجيا التي تدرس حقبة ما قبل التاريخ، لن تنتهي، إذا استمرت على هذا النحو، إلا إلى الفوضى»، وينتهي فاله Wahle، في بحث يستوحي فيه بصفة عامة روح تحبيذ التفسيرات العنصرية، إلى أن المحاولات التي بُذلت في هذا المضمار حتى الآن لا ترتكز على أي أساس مُقنِع، وأنها تفترض مقدمًا وجود فروق هامة في المواهب لم يثبتها حتى اليوم أي دليل.٤٣
-
(٤)
ظهر كثير من المزاعم المبالغ فيها، تشيد بالجنس النوردي بوصفه خالق المدنية والحفيظ عليها. والحق أن الكثير مما كتب في هذا الموضوع ينتمي إلى سُقم التفكير، وقيمته الكبرى هي فيما يلقيه من ضوء على عقلية كتابه. والنظرية ترتكز، من ناحية، على القول بأن الشعوب التي خُلقت وأذاعت تلك اللغة التي تفرعت عنها مجموعة اللغات المسماة حاليًّا باسم اللغات الهندية الأوربية، هي نفسها الجنس النوردي، كما ترتكز أيضًا على ما يزعمونه من دور لعِبَه الرجال ذوو البنية النوردية طوال تاريخ المدنية. أما عن «مهد» اللغات الهندية الأوربية؛ فهو أمر لا يزال موضوعًا لخلاف واسع في الرأي؛ فمن بين علماء الآثار الإنجليز، من يعتقدون أنه في إقليم السهول بجنوب روسيا، ولكن غير هؤلاء مثل الأستاذ جيلز Giles ينتهي إلى أن هذا الإقليم لا يتصف بالصفات التي يقول بها علم الأثريات اللغوية؛ ولذا يقترح بدله الإقليم الذي تقع فيه اليوم النمسا والمجر وبوهيميا، بل إن الباحث الأثري الفرنسي دي مورجان De Morgan، يحبذ العودة إلى الرأي القديم القائل بأن أصل هذه اللغات آسيوي. أما عن الخصائص العنصرية للشعوب الأصلية المتحدثة باللغة الهندية الجرمانية، فهو أمر لا نعرف عنه أكثر من أنهم كانوا ينتمون إلى الأجناس البيضاء. وفي هذا يقول الدكتور جيلز Giles: «لسنا نعرف أكانوا من ذوي الرءوس الطويلة أم العريضة، والقامة الطويلة أم القصيرة، واللون الأسمر أم الأشقر. ولقد تخيل الباحثون عادة أن لديهم شيئًا من السمات التي ذكر تاسيتوس Tacitus أنها تُنمى إلى الجرمانيين الذين عاشوا في أواخر القرن الأول الميلادي، غير أن كل الشواهد التي تقدم تدعيمًا لهذا الرأي ليست إلا شواهد خيالية.»٤٤ أما عالم الأنثروبولوجيا الإيطالي جوفريد روجيري Giuffrida Ruggeri؛ فإنه بعد أن يناقش المسألة كلها، يستبعدها بوصفها لغزًا لا يحل إلا عن طريق خيال مسرف يقصد منه اللهو الشخصي. كما يقول شرادر Schrader: «من المحتمل جدًّا أن يكون الهنود الأوربيون الأوائل قد اشتملوا على قبائل وأفراد ذوي تركيب جسمي غير متجانس.» ولا يقل عن ذلك تهافتًا، تلك الحجة التي يتذرَّع بها المتعصِّبون للعنصرية، من أن حضارة اليونانيين والرومانيين قد استُلهمت مما في هذين الشعبين من عرق نوردي. فإذا بدأنا باليونان، وجدنا الجميع يعترفون اليوم بأن ازدهار اليونان القديمة كان في أساسه راجعًا إلى بعث للمدنية الإيجية التي هي أقدم منها كثيرًا. وجنس الإيجيين كان، على ما يبدو، من نوع البحر المتوسط، مع اختلاطهم فيما بعد بذوي الرءوس المستديرة. وفي العهد الكلاسيكي لليونان كان النوعان الأشقر والأسمر يوجدان جنبًا إلى جنب، ولكن ليس هناك أي أساس لربط عظمة اليونان بأي عنصر معين من عناصر الجنس فيها، بل إن أولى نتائج غزو الشعوب الشمالية لليونان كان بدء فترة من الظلام لم تُفق منها اليونان إلا بعد بضعة قرون، وكان الوافدون بلا جدال أحط في حضارتهم من الشعوب التي سيطروا عليها. أما عن الرومان، فإن التركيب الأصلي لشعبهم لا يزال مثارًا للجدل. فقيل إن النبلاء Patricians والعامة Plebeians يختلفان في الجنس، غير أن هذا يبدو أمرًا مشكوكًا فيه إلى حد بعيد؛ ففي وصف دكسون Dixon لما دلت عليه الجماجم من شواهد، كان الرومانيون الأولون هم في الأغلب من ذوي الرءوس المستطيلة المنتمين إلى نوع البحر المتوسط، أما في فترة الإمبراطورية فقد أصبح الشعب في أساسه من ذوي الرءوس العريضة، ويبدو أن غزاة العصر الحديدي الذين كانوا يشتملون على رجال من النوع النوردي، وكانوا على ما يبدو قليلي العدد، قد اندمجوا سريعًا في النمط الموجود من قبل.والحق أن من الممكن في مشكلة المدنيات القديمة بوجه عام أن ينسب المرء الفضل لجنس البحر المتوسط أكثر مما ينسبه إلى أي جنس آخر؛ فهذا الجنس لم يشيد الحضارات الإيجية فحسب، بل شيد أيضًا حضارة أور Ur وكيش Kish،٤٥ وكان أحد فروعه أساسًا للمدنية المصرية القديمة، غير أن الجزم بأن الفضل يرجع إلى نوع البحر المتوسط وحده لا يقل خطأ عن القول بأنه يرجع إلى النوع النوردي وحده؛ إذ إننا لا نصادف في أية حالة من هذه الحالات التي عرضناها جنسًا نقيًّا؛ ففي حالة المدنيات المصرية والسومارية Sumarian٤٦ والإيجية مثلًا كان هناك عنصر دخيل، هو عنصر شبه أرمني Armenoid لا يمكننا أن نحدد مدى تأثيره بدقة. أما في حالة ألمانيا الحديثة، فإن ادعاء النورديين بأنهم خالقو الحضارة لا تدعمه إلا شواهد ضئيلة للغاية. فبواكير ازدهار الحضارة الألمانية لم تظهر في شمال ألمانيا، وإنما ظهرت في جنوبها، وفي وقت كان العنصر غير النوردي هو السائد في الشعب.٤٧ وفضلًا عن ذلك؛ فإن الدراسات التي أجريت على كبار المفكرين الألمان لقياس أبعاد رءوسهم قد كشفت عن انتشار ملحوظ لنمط الرءوس العريضة بينهم. ويقدم إلينا فيدنريش Weidenreich هذه الأرقام لأبعاد الرأس: شوبنهور ٩٠ – ليبنتز ٩٢ – كانْت ٨٥ – بيتهوفن ٨٥ – شيلر ٨٤٫٢ – جيته ٨٨ – أما باخ فهو متوسط الرأس، وهو قطعًا لم يكن من النمط النوردي. بل إن فيدنريش يذهب إلى حد القول بأنه لم تظهر حتى الآن أية حالة كان فيها أحد عظماء الألمان مستطيل الرأس.٤٨ ولقد دلت دراسة هنتنجدن Huntingdon عن توزيع العبقرية في أوروبا،٤٩ على أنه لا توجد أية علاقة بين الطابع العنصري، وبين كثرة العباقرة أو نوعهم.
ولنجمع الآن بين النتائج التي انتهينا إليها خلال هذا العرض. فأولًا نلاحظ أن الجماعات التي يسميها علماء الأنثروبولوجيا بالأجناس تكون وحدات لا تساعد أبدًا على دراسة الدور الذي تلعبه العوامل الوراثية في المدنية. وسيظل لزامًا على هذه الدراسة أن تتوفر، خلال وقت طويل، على التحليل الوراثي لجماعات أكثر تحددًا، وعلى كشف الوسائل العلمية التي يمكن بها فصل عوامل البيئة من عوامل الوراثة. وثانيًا نجد أن دراسة الفروق النفسانية بين الشعوب، متميزة عن الأجناس، لا تستمد في الوقت الحالي من علم النفس العنصري عونًا كبيرًا. وثالثًا، لم يثبت حتى الآن وجود ارتباط بين الحضارة والجنس، ومن المحتمل جدًّا ألا تكون أية حضارة لأي شعب معلوم قد نشأت كلها عن النمط الأصلي لهذا الشعب. أما النتيجة الرابعة، فهي أكثر إيجابية، وأعني بها أن الحضارات تهاجر وتمتزج على الدوام. وخامسًا، قد يصاحب هذا الامتزاج أحيانًا اختلاط عنصري، وإن تكن هناك أمثلة عديدة لحضارات انتشرت، دون أن يترتب على انتشارها أي امتزاج عنصري واضح. وتلك نقطة لم أعالجها في مناقشتي العامة للموضوع، ولكن ينبغي أن أؤكدها هنا. فاللغات والأديان مثلًا قد انتشرت انتشارًا واسعًا دون أن تَفقد من حيويتها شيئًا، وكانت في انتقالها هذا مستقلة تمامًا عن الجنس، وليس هناك أي أساس لافتراض أية فروق أساسية في التركيب العنصري، يكون من شأنها أن تثبت عجز أية جماعة من الشعوب عن استيعاب الإنتاج الحضاري لشعوب أخرى، أو عن أن تساهم بنصيبها في التيار العام للمدنية. وهذا الحكم يصح، بلا جدال، على مختلف شعوب العالم المتمدين، ومن المحتمل جدًّا في رأيي، أن يكون صحيحًا حتى بالنسبة إلى الشعوب المتأخرة؛ فالحضارة في أساسها مستقلة عن الجنس. وهي تزداد عنه استقلالا كلما تقدمت المدنية. ولقد كان أقل الشعوب تقدمًا على الدوام هم المنعزلين، الذين يفتقرن إلى ذلك التأثير الخصب الذي يحدثه الاتصال الحضاري. ولا بد أن يكون للفروق الوراثية دور في خلق العناصر الحضارية ونشرها، وربما أمكننا ذات يوم أن نقيس هذه الفروق بشيء من الدقة. أما في المرحلة الحالية من مراحل المعرفة؛ فلا يبدو من المحتمل أن تكون التغيرات في التركيب الاجتماعي، وفي المدنية قد توقفت على تغيرات في التركيب الوراثي، أو أن الجنس كان عاملًا أساسيًّا خلال تيار المدنية.
-
(١)
(١) أثر البيئة الطبيعية
يرى كثير من علماء البيولوجيا أن البيئة الطبيعية لا تؤثر مباشرة في التركيب الوراثي، أعني أنها لا تؤدي بذاتها إلى ظهور صفات جديدة، وإنما تُحدث تأثيرًا غير مباشر، من خلال عملية الانتخاب؛ وذلك بأن تدعم أنماطًا معينة، وتقضي على أنماط أخرى. وتدل كل الدلائل على أن هذا الحكم نفسه يسري أيضًا على تأثيرها الاجتماعي؛ فالبيئة لا تخلق فنونًا أو نظمًا جديدة، ولكنها قد تساهم بنصيب هام عن طريق تشجيع بعض التجارب وعرقلة البعض الآخر. وعلى التركيب الاجتماعي أن يتكيف تبعًا للبيئة، أو يكيف البيئة تبعًا له. والطريقة الأخيرة تزداد ظهورًا كلما ازدادت سيطرة الإنسان على الطبيعة. وباطراد تقدم المدنية، تزداد العلاقات بين الإنسان والطبيعية وثوقًا، ويصبح تأثير البيئة مرتبطًا ارتباطًا معقدًا بتركيبها الخاص وبنمو الفنون والعلوم. ونتيجة ذلك هي أن تأثير البيئة ليس ثابتًا، وكل حكم عام يصدر يكون عرضة لكثير من القيود التي تحدد من عمومه.
ومن العوامل التي لها في تقدم المجتمعات أهمية قصوى، الظروف الجغرافية، التي تتحكم في أمنها الداخلي، ومدى سهولة اتصالها بعضها ببعض. ويبدو أن خير هذه الظروف هي تلك التي تؤدي إلى أمان داخلي نسبي، وتتيح في الوقت نفسه فرصة إيجاد اتصالات عدة منوعة. وطبيعي أن ظروف البيئة في هذا الصدد تتغير على الدوام عن طريق تغير فنون الحرب وطرق المواصلات، ولكنه في أية مرحلة معينة من المراحل التي تمر بها هذه الفنون والطرق في الأمة، تظل هناك أهمية للفروق الطبيعية التي تؤثر في سهولة الوصول إلى الإقليم، وفي إمكان اتصاله بغيره.
وثمة وسيلة أخرى تؤثر بها البيئة في التطور الاجتماعي، هي تأثيرها في التركيب الجسمي. وأهم المسائل التي تُثار هنا هي مسألة المرض والمناعة؛ فانتشار الأجناس والشعوب على سطح الأرض قد تأثر بمدى قدرتها على التكيُّف مع مختلف ظروف البيئة، وتأثر على الخصوص بمدى قدرتها على اكتساب المناعة ضد الأمراض المعدية. ويبدو أن نمو حضارة المدن قد توقَّف هو كذلك على القدرة على اكتساب مناعة جزئية. ولنذكر هنا ما أوردناه من قبل من أن بعض الباحثين يرون أن أحد الأسباب الرئيسية لتخلف الشعوب الإفريقية في الحضارة، هو عُزلتها النسبية التي ترجع، ضمن ما ترجع إليه من أسباب، إلى طبيعة المرض في أفريقيا، وهو المرض الذي عاق الغزو وعاق استقرار الأجناس النازحة إليها استقرارًا على نطاق واسع، حتى القرن التاسع عشر.
والكاتب يشير إلى هذه المجموعة من الأحجار التي تستعمل في قدح الزناد، ليبين أن الإسبان؛ إذ يلتقون بعضهم ببعض، يكونون في احتكاك شخصياتهم بعضها ببعض كاحتكاك تلك الأحجار، ينشأ عنها الفرقعة والاشتعال. (المترجم)
Rostovtself: The Decay of the Ancient World.
Economic History Review, Vol. II. No. 2.
Beloch: Hist. Zeitschrift. Vol. LXXXIV.
وانظر أيضًا في الناحية الاقتصادية بوجه خاص: Lot: La Fin du Monde Antique.
-
J. Brunhes: Human Geography.
-
L. Febvre: La Terre et L’Évolution Humaine.
-
L. T. Hobhouse: Social Development. Chap. V.