الأساس النفساني للحياة الاجتماعية
(١) الآصرة الاجتماعية
(٢) مشاعر الوالدين
(٣) الحب والعدوان
على أنه يبدو، بوجه عام، أن غرض فرويد الحقيقي هو القول بأن كل تلطُّف مع الآخرين إنما هو اتجاه جنس غامض كُبت هدفه، وهذا هو أساس الأسرة، والجماعات الكبرى نفسها؛ بل إن في وسع الإيروس، من الوجهة النظرية، أن يجمع البشر كلهم في وحدة واحدة، غير أن هناك، في رأي فرويد، نوعًا من التعارض بين قوة اللبيدو العامة وبين الجنس كما يتمثل في الأسرة؛ ذلك لأن الحضارة في حاجة إلى طاقة اللبيدو؛ من أجل التغلب على الميول العدوانية، التي تهدد المجتمع بالتفكك لو تُركت دون ضابط. ومن هنا كانت القيود التي يفرضها العرف والقانون دائمًا على العلاقات الجنسية. فالحياة الحضارية أو الاجتماعية مبنية، إلى حد بعيد، على العزوف أو الزهد في العناصر العدوانية للطبيعة البشرية وفي الشهوة الجنسية معًا، وهذا الزهد يتم بصور شتَّى، وخاصة عن طريق تكوين مُثل عُليا، وعن طريق عملية التقمص. وبهذه الوسائل، يتحوَّل العدوان إلى تطور الرقيب الداخلي الذي نسميه بالضمير. والحياة الاجتماعية تستلزم اتجاهًا مشتركًا إلى قائد أو بديل للقائد، وهذا الاتجاه يرتكز على تقمصه، وهي العملية التي يفسرها فرويد بأنها تعويض عن تعلق جنسي أصلي. فالرابطة التي تجمع بين الأفراد معًا ترتكز إذن على تقمص مزدوج؛ تقمص كل منهم لشخصية القائد، وبالتالي تقمص كل منهم للباقين بأسرهم. وعلى هذا النحو ينتهي الأمر بالاتجاه العدواني الاغتصابي إما إلى التحول إلى الداخل، وإما إلى التبدل عن طريق تكوين رابطة مشتركة ومثل أعلى مشترك. ومع ذلك فقوة الرابطة التي تجمع بين الأفراد معًا داخل الجماعة تتوقف على مدى كراهيتها، أو عداوتها لجماعات أخرى، كما تتفاوت تبعًا لهذا العامل، وكثيرًا ما كانت الوحدة في الداخل تدعم عن طريق اضطهاد الأجنبي في الخارج. فالحياة الاجتماعية هي عملية تُضبط فيها الميول الكامنة وتكبت وتعلى من أجل صالح الإيروس، الذي يشن حملته على العناصر العدوانية في الطبيعة البشرية، وعلى العداوة الكامنة في الكل ضد الكل.
وإن كلًّا من العنصرين المتقابلين عند فرويد — اللبيدو والعدوان — ليستحق التعليق؛ ففي بداية هذا الفصل، نبهت إلى ثنائية أخرى، هي توكيد الذات وحب التفاني في الغير، غير أن كل زوج من المتقابلات في الحالتين لا يطابق الآخر. وإني لأميل إلى الرأي القائل بأن العدوان ليس ميلًا كامنًا إلى الإيذاء أو التحطيم، وإنما الأصح أنه صورة عنيفة من صور توكيد الذات والتعبير عنها، مهدت لبروزها ظروف من المقاومة، أو الخوف من المقاومة، أو فقدان الاستقلال، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمهد لبروزها ظروف من الشعور المتطرف بالذات، والتمتع بالغلبة والقوة. كذلك قد يكون من الممكن الربط بين عنصر الكراهية في الحب، وبين عنصر خوف المرء من فقدان استقلاله، وما تجلبه رابطة المودة من آثار تحد من الحرية. فإن كان الأمر كذلك، فإن العدوان وإضمار الشر بوجه عام قد يكونان نتيجة ثانوية للقمع والتدخل، راجعة إما إلى تنافُر الأهداف، وإما إلى المبالغة في توكيد الذات، والأنانية المفرطة. وسأعود إلى هذه المسألة عندما أناقش العنصر غير الاجتماعي في الطبيعة البشرية. ولنتأمل الآن فهم فرويد للآصرة الاجتماعية بوصفها آصرة مبنية في أساسها على اللبيدو. فإن كان المقصود من ذلك هو أن التجارب التي تمارَس داخل الأسرة، بما فيها من منافسات وخصومات، وبما فيها من مصادقات ومودَّات أيضًا، هي أنموذج لكل سلوك تالٍ في المواقف الاجتماعية الأخرى؛ فإن ملاحظة الأطفال ودراسة سلوك البالغين تدعم هذا الرأي تدعيمًا قويًّا. غير أن السؤال الهام هو: هل يؤدي قبولنا لهذه الفكرة إلى تدعيم الرأي القائل بأن كل الميول الاجتماعية إنما هي تفرعات خاصة من الميول الجنسية؟ إن هذا الرأي لا يكون صحيحًا إلا إذا استُخدمت كلمة اللبيدو أو الحب في معنًى عام عمومًا بالغًا، وإلا إذا لجأنا إلى فكرة الدوافع التي تُكبت أهدافها؛ فهلَّا يكون من الأصلح أن نعترف بوجود دوافع اجتماعية في ذاتها، هدفها الحقيقي ليس الإشباع الجنسي، وإنما الاتصال الأوسع، والاستجابة المتبادلة؟ إن الاعتراف بهذه الحاجة الاجتماعية العامة، التي هي تلهف الشخص على الاتصال بغيره، يمكننا من الاعتراف بأن الجنس بمعناه الصحيح يتشعع إلى تكوين ما نسميه الحب الجنسي، ومن ذلك الجنس يمكن أن يستمد هذا الحب عنصر اللطف والرقة الذي لا يحوزه الجنس بمعناه الأخص، وتبعًا لهذا الرأي تكون الأسرة جماعة اجتماعية، تتعقد فيها الحاجات والعلاقات الاجتماعية عن طريق علاقات الجنس والحاجة إلى الاعتماد على الغير، بحيث يكون من الضروري في تفسيرنا لها أن ندخل في اعتبارنا المجتمع الأوسع، الذي تكون الأسرة منه، على ما يبدو، عنصرًا أساسيًّا، وإن يكن عنصرًا غير مكتفٍ اكتفاء ذاتيًّا.
(٤) الميل الاجتماعي
يتلخص الموقف الذي اتخذته هنا، بعد أن راجعت أهم النظريات، في أن الميل الاجتماعي لا يُستمد من أي ميل واحد بعينه، كغريزة التكتل أو الجنس أو مشاعر الغرائز الوالدية الرقيقة، بل يبدو أن الدافع الأساسي هو حاجة أوسع وأكثر عمومًا من أي واحد من هذه الميول. ويمكننا أن نصفها بأنها حاجتنا إلى الخروج عن أنفسنا، والدخول في علاقة مع الآخرين. وهي ليست بالضرورة رغبة في التعاون من أجل الغايات المشتركة، ولا هي في ذاتها حب الخير للغير. وإنما الأصح أنها الحاجة إلى تلقى نوع من الاستجابة من الآخرين، وميل إلى الاستجابة لهم. وعلينا أن نذكر هنا أننا لا نصل إلى معرفة الذوات الأخرى على أنها ذوات على الإطلاق إلا نتيجة للقدرة المتبادلة على الاستجابة؛ فمثل هذه الاستجابة المتبادلة لها أهميتها القصوى بالنسبة إلى التقدم الذهني، وهي تمثل ميلًا متأصلًا في الذهن البشري. ويرتبط بهذه الحاجة العامة إلى الآخرين والاهتمام بهم، ميول عدة أخرى أكثر تخصصًا. ففي الحب الجنسي تَتخذ المشاعر والدوافع الاجتماعية مظهرًا فرديًّا، وتندمج مع الجنس بمعناه المحدد، أي الجنس من حيث هو غريزة أو غرائز متخصصة لها مؤثراتها واستجاباتها الخاصة. وربما كانت هذه الثنائية في الحب هي التي تفسِّر الصراع بين الميل الجنس والميل الاجتماعي، وهو الصراع الذي نبه إليه أنصار فرويد؛ ذلك لأن تركيز الدوافع الاجتماعية في شخص لا بد أن يؤدي إلى إقلال الاهتمام بالحياة الاجتماعية الأوسع. ومن جهة أخرى، فإن المجتمع المتطرِّف في فرديته، الذي يكبت الاتصالات الاجتماعية، والتعبير الحر عن الاتجاهات الاجتماعية، قد يدفع الفرد إلى أن يجد متنفَّسًا له بالاندماج في حياة جنسية، مما يؤدي إلى الحض على نوع من الحب الفردي العنيف، الذي ربما لا يكون شائعًا في مجتمعات تعطي المشاعر الاجتماعية فُرصًا أكبر للتعبير عن نفسها. وبقطع النظر عن الجنس، فإن الحاجة العامة إلى الآخرين قد تغدو هي كذلك متخصصة، وتكون أساس شعور نحو أشخاص معينين ندخل معهم في علاقة استجابة فردية وثيقة. وعلينا أن نضيف إلى هذين الشعورين الميول الخيرة أو الواقية، كالميل إلى الشفقة وإلى المساعدة أو الحماية لمن هو في حاجة إلى الحماية من الآخرين؛ والتعاطف الذي هو مركَّب من البصيرة التي ينيرها الخيال ومن الميل الرقيق، فهو ميل إلى الاستجابة لحاجة الآخرين، يثيره فهمٌ لموقفهم بمعونة التخيل وتقمصنا لشخصياتهم على نحوٍ ما، مما يؤدي بنا إلى تصور أنفسنا في محلهم. وعلينا أن نلاحظ بعد هذا كله أن السعي إلى الاستجابة هو أيضًا صفة تتميز بها الميول العدائية بدورها، وخاصة الرغبة في السيطرة والقوة، كما أنه متضمن في رغبتنا في موافقة الآخرين وكراهيتنا لرفضهم. وهكذا نجد أن الميل الاجتماعي العام، والحاجة إلى الآخرين من أجل تكملة حياتنا، يكون متخصصًا في جانب منه، ومندمجًا في جانب آخر، مع سائر الميول الخاصة في علاقات الحياة الاجتماعية.
(٥) الميل إلى الذات Self-Interest
وعلى أية حال، فإن توكيد الذات ظاهرة أوسع من النزوع إلى المقاتلة أو إلى إظهار الذات. وخير فهم له هو ألَّا نعده غريزة خاصة، بل خصيصة من خصائص الشخصية بكامل كيانها، ما دام كل نشاط توكيدًا للذات، أو حالة من حالات تحقيق الذات. ومن السهل أن يتحول توكيد الذات إلى اعتداد بالذات، أي إلى الشعور بالقوة فيما تفعله الذات، وإدراك أن ما يتم إنما يتم بواسطتنا، وأنه مظهر من مظاهر نشاطنا. على أن من أشق الأمور أن يميز الميل إلى الذات من الميول إلى الموضوعات التي يوجَّه إليها نشاط الذات، ولكن عندما يكون نشاطنا متعلقًا بالمشاعر والدوافع من حيث هي أجزاء من الذات، مع ترك الموضوعات أو الأهداف التي يسلط عليها هذا النشاط، في الصورة الخلفية للحادثة، أي عندما يتجه اهتمامنا إلى تحقيق الدافع أكثر مما يتجه إلى الموضوعات، عندئذٍ نكون بإزاء ميل إلى الذات واعتداد بالذات.
ويرتبط بتأكيد الذات، الرغبة في القوة أو السيطرة. وهذه بدورها ليست غريزة خاصة، بل هي توكيد متطرِّف للذات، تسربله الوعي بنفسه. وهنا يكون لتجربة المقاومة أهمية قصوى، مثلما يكون لها في الشعور بالذات بوجه عام. فما يبدي مقاومة لدوافعنا هو أول ما نميزه على أنه مغاير للذات، ولا شك في أن المقاومة التي تبديها الذوات الأخرى، وخاصة إذا تميزت وتدرجت، تساعد على أن تجعل لدينا وعيًا قويًّا برغباتنا وميولنا. وعندما ننجح في التغلب على المقاومة، يتكون شعور متعالٍ بالذات، وعن هذا التمتع بهذا الشعور تنشأ في بعض الطبائع رغبة ملحَّة في ممارسة الملكات ضد المقاومة، والسعي إلى التنافس مع الآخرين، والرغبة في التغلب والسيطرة. وعن هذا كله، مقترنًا بالرغبة في التفوق والابتهاج بمزاولة النشاط، قد تنمو رغبة في القوة من أجل القوة، بوصفها غاية في ذاتها.
(٦) تضافر الميل إلى تأكيد الذات والميل الاجتماعي
وهنا أيضًا نجد مثلًا آخر لامتزاج العناصر المتقابلة في العلاقات الاجتماعية، وهو الامتزاج الذي يتمثَّل أيضًا في التداخل بين السيطرة وبين الرغبة الخيرة في القيادة الاجتماعية، وبين حب الاستحواذ، والتفاني في خدمة الغير، وفي العلاقات العائلية، وبين روح التنافس والخدمة المتبادلة في الحياة الاقتصادية. فعلينا دائمًا أن نضع نصب أعيننا هذا الازدواج في الطبيعة البشرية، عندما تكون بصدد إيجاد تفسير اجتماعي للحياة الجماعية.
(٧) الغايات المشتركة والغايات المتنافرة
- (أ)
قد يكون للأفراد أو الجماعات المختلفة موقف واحد من الشيء الواحد؛ كالكراهية أو الخوف المشترك، أو الحب المشترك؛ فقد تعين الكراهية أو الخوف المشترك على جمع الأفراد سويًّا، كما في حالة الحرب، ومن جهة أخرى قد يؤدي حب شيء واحد إلى الجمع بين الأفراد أو التفريق بينهم، تبعًا لطبيعة الشيء الذي يسعون إليه.
- (ب)
قد تكون للأفراد المختلفين مواقف مختلفة أو متعارضة من الشيء الواحد، فنجد بعض الناس يحبون أشياء أو أشخاصًا، وغيرهم يبغضون أو يكرهون هذه الأشياء أو الأشخاص نفسها. وقد يرغب البعض في الحصول على شيء، على حين يرغب الآخرون في التخلص منه. وهذا قد يسهِّل التعاون والتبادل، ولكنه قد يُورث التشاحن والتصارع أيضًا.
- (جـ)
قد يكون من طبيعة الشيء الذي نسعى إليه أن يقتضي الوصول إليه عملًا مشتركًا، وقد يكون هذا العمل المشترك تعاونيًّا متجانسًا، كما هو الحال عندما يتعاون بعض الأفراد في رفع حمل ثقيل، أو يشتركون في مهاجمة غيرهم؛ وقد يكون بعضه مكملًا لبعضه الآخر، كما هو الحال في تقسيم العمل المتخصص بين من يقومون به.
- (د)
قد تؤثر طبيعة الأشياء أو الغايات في طبيعة العلاقات الشخصية، تبعًا لكون الأشياء أو عدم كونها موضوعًا للمنافسة، أي تبعًا لكونها أو عدم كونها تنقص بالاستعمال وتتأثر بقلة العرض. ويمكن القول بأن من شأن بعض الأشياء أن يؤدي حصول البعض عليها إلى منع حصول الآخرين عليها، أو جعله أشق، كما هو الحال غالبًا في ميدان النشاط الاقتصادي. أما في ميدان المعرفة أو غيرها من الأهداف الروحية؛ فإن امتلاك البعض لها قد يؤدي بالفعل إلى زيادة فرص الآخرين في الحصول عليها، فالمشاركة فيها لا تقلل من الكمية التي يمكن الحصول عليها منها.
- (هـ)
يؤثر مدى الأشياء أو عموميتها أيضًا في العلاقات الاجتماعية؛ إذ إن بعض الأشياء يؤثر في كل الأفراد على نحو متساوٍ، على حين أن بعضها الآخر لا يروق إلا عددًا محدودًا من الناس، أو لا يروقهم جميعًا إلا بطريقة معينة.
وعن طريق تعارض المصالح في هذه العلاقات المختلفة، والمحاولات التي تبذل لإعادة التوافق بينها، تنشأ مختلف صور الهيئات والنظم، التي تتفاوت في مداها، وفي دوامها وتماسكها تبعًا للأهداف التي تتبناها، ونوع العلاقات التي تعبر عنها.
(٨) الاتصال المتبادل بين الأذهان في المجتمع
إن تأثير البيئة الاجتماعية في التطور العقلي، قد يستهين به أحيانًا أولئك الذين يؤكدون أهمية العوامل الوراثية، غير أن هذا لا يرجع إلا إلى أن هذا التأثير أعم وأشمل من أن يغيب عن الأذهان. ويمكننا أن نقول بوجه عام إن تأثير البيئة الاجتماعية يتحقق في الصور الآتية: فللبيئة الاجتماعية أولًا تأثير انتخابي أو انتقائي على الإمكانيات الموروثة للأفراد؛ إذ تقضى على بعضها وتكبت البعض الآخر. فقد يتباين سلوك الأفراد، على الرغم من تشابه استعداداتهم الفطرية، إذا ما نشئُوا في بيئات اجتماعية مختلفة. فمن الجائز مثلًا أن أهل اسكندناوة والهولنديين لا يختلفون كثيرًا عن الألمان في طبيعتهم العدوانية الموروثة، غير أن سلوكهم يختلف عن هؤلاء الأخيرين؛ نظرًا لانعدام الروح العسكرية، والعادات الذهنية الحربية. ومصير هذه الميول، من قمع أو إعلاء أو حرية كاملة في الانطلاق، يتوقف إلى حد كبير على نمط الحياة العائلية وتقاليد المجتمع الأكبر. ولنلاحظ ثانيًا أن الطريقة التي تعبر بها الميول الفطرية عن نفسها تخضع بدورها لتحكُّم التراث الاجتماعي. فقد يكون للتواضع أساس فطري، غير أن المواقف التي تثيره، والسلوك الذي يعبر به عن ذاته تخضع لتحكم الظروف التاريخية والاجتماعية. والحق أن تأثير التقاليد قد بلغ من القوة حدًّا يؤدي بنا إلى إرجاع صور معيَّنة للسلوك إلى الغرائز الفطرية، على حين أن هذه الصور السلوكية من المحتمل جدًّا أن تكون ناتجة عن تطور المجتمع. ومثال ذلك تلك الصعوبة التي نصادفها في تحديد الأصل في نفور الناس من الاتصال بالمحارم؛ أهو يرجع إلى أساس غريزي أم إلى نظام اجتماعي؟ وكذلك صعوبة الفصل بين العوامل الوراثية التي تقوم عليها مختلف صور الغيرة الجنسية. وقصارى القول أن للميول الفطرية مرونة معينة، ويتحكم المجتمع، بدرجات متفاوتة، في طريقة التعبير عنها، أو قمعها أو إعلائها. ولنلاحظ ثالثًا أن تأثير المجتمع على الأفراد في مجال المعرفة ليس أقل من ذلك عمقًا وتوثقًا. بل لقد كان دوركيم يعتقد أن للمقولات الأساسية للفكر أصلًا اجتماعيًّا، وأنها تدين بطابعها الضروري والأوَّلي المسلَّم به إلى كونها أساس كل اتصال بين الأفراد، بمعنى أن الحياة الاجتماعية تصبح مستحيلة، لو لم يكن هناك حد أدنى من اطراد واتساق منطقي، كأن يكون هناك زمان مشترك ومكان مشترك مثلًا. وسواء أصح هذا الرأي أم لم يصح؛ فمن الواضح أن الفرد يتشرَّب مناهجه ومبادئه من البيئة الاجتماعية، وأن الفكر يعتمد على هذه البيئة، لا في التعبير عن نفسه فحسب، بل في حياته الباطنة كذلك. وهنا أيضًا تؤثر البيئة الاجتماعية، بوصفها مثيرًا، وبوصفها عاملًا انتخابيًّا أو انتقائيًّا في آن واحد؛ إذ إنها تشجع وتستوعب كل ما يلائم مقتضياتها العامة، وتقاوم وتصد كل ما يتعارض مع حاجاتها. وهذا لا ينطبق فقط على التفكير في مجال السياسة الاجتماعية، حيث يغلب أن تتحكم المصالح السائدة للجماعات في تيار التفكير تحكمًا لا شعوريًّا، بل ينطبق أيضًا على العلوم البحتة، التي هي كذلك محيطها وجوُّها الاجتماعي، الذي يعارض الآراء الجديدة أو الانقلابية. وأخيرًا يقوم المجتمع بتقديم وسائل ينقل بها الأفكار من جيل إلى جيل، ويضيف بها الجديد منها إلى القديم، مما يمكن من تشييد النظم الثقافية كاللغة، والعلوم والفنون. وهكذا يصبح لهذه النظم حياة خاصة بها، وتغدو لها قدرة كامنة على النمو والتقدم، تستقل باطرادٍ عن أية مجموعة معينة من الأفراد، أو عن تغيير في التكوين العنصري أو التكوين الفطري للمجتمع. ولا شك أن الأفراد لا يمكنهم أن يستوعبوا إلا قدرًا ضئيلًا من هذه النظم الهائلة، والنصيب الذي يساهم به كل منهم فيها نصيب متناهٍ في ضآلته. فهي تَرِد إلى الأفراد وكأنها آتية من مصدر خارجي، والفرد ينمو عن طريق استيعاب أكبر قدر ممكن منها. فإذا كانت هذه النظم تجعل نمو الفرد أيسر، فإنها في الوقت نفسه تحصر هذا النمو في نطاق محدد. وعلى ذلك، فبالرغم من أن هذه النظم ناتجة عن اتصال متبادل بين العقول على نطاق واسع؛ فإنها تزداد بالتدريج استقلالًا عن أية عقول خاصة.
ولقد كان تغلغل المجتمع في الفرد، بهذه الصورة العميقة، هو الذي أدى إلى ظهور مشكلة العقل الجمعي؛ فكون الإنسان حيوانًا اجتماعيًّا، هو أمر بديهي في نظر العلم الاجتماعي، منذ أن وضع أرسطو أسس دراسة السياسة. غير أن الصفة الاجتماعية للإنسان ليست هي التي تميزه عن غيره؛ إذ إن هناك عددًا كبيرًا من الحيوانات له حياة اجتماعية معقدة. وإنما يرجع الطابع الفريد في موقف الإنسان إلى جمعه الفذِّ بين صفة الفردية وصفة الاجتماعية، وقدرته على إقامة إرادته لتحدِّي إرادة الجماعة، وعلى كسب استقلال ذاتي يمكِّنه من أن يعود فيؤثر بدوره على الجماعة. على أن هذه الثنائية العميقة تصبح غامضة، إذا وُصف المجتمع بأنه عقل، تشبيهًا له بالعقل الفردي؛ فالمجتمع نسيج معقَّد من العلاقات بين العقول، غير أن العناصر التي ترتبط في هذه العلاقة هي مراكز متميِّزة من النشاط النزوعي، تحتفظ بقدر من الاستقلال الذاتي. بل إن المجتمع، في أوسع معانيه، ليست له حدود معينة أو تركيب محدد، كما تبين لنا من قبل. وليس في وُسعنا أن نتحدث عن وحدات قائمة بذاتها إلا عندما يتحول إلى مجتمعات محددة، وإن كانت هذه الوحدات ذاتها تتباين فيما بينها تباينًا هائلًا من حيث تحدد معالمها وتماسكها، والمقصود بقولنا إن المجتمع وحدة، هو أولًا أنه يميل إلى أن يحافظ على نفسه، ويصون كيانه بوصفه كلًّا، عن طريق ما تبذله الأجزاء المكونة له من محاولات تستهدف تبادل التكيف بينها. وثانيًا أن الجهود الفردية لا تهم في احتفاظ المجتمع بنفسه بقدر ما تهم الطريقة التي تصحَّح بها هذه الجهود وتعدل وتتكيف بعضها مع بعض في النتيجة النهائية. وعلى هذا النحو، قد تؤدي تغيرات طفيفة في الأفراد إلى أمرٍ له أهمية قصوى بالنسبة إلى الكل، كما أن بعض الأفعال المشتركة قد تؤدي إلى نتائج لم تكن في نية من ساهموا فيها، كما أنهم لم يكونوا يتوقعون حدوثها. فإذا استخدمنا الاصطلاحين: «العقل العام» «والإرادة العامة»، كان علينا أن ننظر إلى هذه العبارات على أنها تشير إلى مجموعة من الاستعدادات أو الميول الفكرية والانفعالية والسلوكية، تنتشر انتشارًا واسعًا في جماعة. ومثل هذه المجموعة من الاستعدادات هي نتيجة لتفاعلات ماضية بين الأفراد، ولعلاقاتهم الحالية؛ فهي لا تكون عقلًا موحدًا، وبقدر ما تتبدى هذه الاستعدادات الكامنة من حيث ظهورها في صورة أفعال، لا يمكن أن توصف — في حالة التجمعات الكبيرة على الأقل — بأنها إرادة مشتركة أو عامة. فالفعل المشترك في الجماعات الكبيرة هو بوجهٍ عام نتيجة لتلاؤم الغايات الجزئية بعضها مع بعض، وهو تلاؤم يأتي ثمرة لعدة محاولات تقع فيها أخطاء، وتُصحح بمحاولات أخرى على الطريقة المعروفة باسم المحاولة والخطأ، ويندر أن يتم عن طريق الرجوع إلى أهداف شاملة أو مستقرة تفي بمطالب الكل. ولقد وُصفت عملية التكيف وصفًا مجازيًّا بأنها نوع من الانتخاب والصراع من أجل البقاء، تكون العناصر المتنافسة فيه أفكارًا ونظمًا. غير أن نجاح الأفكار أو النظم في هذا الصراع لا يقرره بالضرورة إحكامها المنطقي أو اتفاقها مع الصالح العام، بل يجوز أن يكون راجعًا إلى إشباعها لحاجاتِ جماعة أو جماعات قوية في داخل المجتمع. ويبدو أنه كلما كانت الجماعة أوسع، هبط المستوى النزوعي للاندفاعات التي يمكن أن يُقال إنها مشتركة بين كل أفرادها. فالعوامل النفسانية المتضمَّنة في السلوك الجماعي الذي يتم على نطاق واسع، قد بلغت حدًّا هائلًا من الغموض والإبهام، «فهي خليط غير ملموس من الآمال والمخاوف»، ليس له البتة طابع التصميم الإرادي. ولقد صدق القائل إن العنصر العام في الفعل المشترك ليس هو الإرادة، وما هو إرادة لا يكون عامًّا. ومن الطبيعي ألا تغني الحجج العامة في تحديد مدى الإمكان لحدوث فعل متكامل، في مستوى الإرادة، في الجماعات الكبيرة، بل إنه موضوع للبحث المستقل في كل حالة على حدة.
(٩) الغرض الاجتماعي
على أن هذه الحجج، على الرغم من قوة تأثيرها، ليست مقنعة. فنلاحظ أولًا أن علينا أن نميز بين مستويات مختلفة للنزوع. وفي الفرد بدوره نجد كل درجات الوضوح والدقة في الأهداف التي يسترشد بها، وتتراوح هذه الدرجات من اضطراب غامض للتوازن الذي ينشد العودة إلى وضعه الطبيعي إلى تكييف مقصود واعٍ للوسائل؛ لكي تحقق غايات ماثلة أمام الأذهان بوضوح. وفي حالة الفرد أيضًا نجد أن النتائج التي يتوصل إليها تختلف في كثير من الأحيان اختلافًا تامًّا عن النتائج التي تكهن بها أو رغب فيها منذ البداية. وقد يكون هذا راجعًا ضمن ما يرجع إليه من العوامل، إلى أن إرادته قد تغيرت بتغير الظروف، أو إلى ازدياد معرفته للوسائل التي يمكنه الالتجاء إليها، أو لأحداث لا سلطان له عليها، أو لنمو وتغير فعلي في شخصيته. وفضلًا عن ذلك، فإن شخصية الإنسان أعمق من أهدافه التي يشكلها ويحددها في وعي ويقظة، وقد يؤثر المرء أن يختار مسلكًا معينًا من بين المسالك التي تعرض له، ويكون اختياره هنا مطابقًا لشخصيته، ولكنه يعجز تمامًا عن أن يذكر بوضوحٍ أية مبادئ محددة اتبعها في سلوكه؛ ففي الحركات الاجتماعية نجد أنفسنا بإزاء تفاعلات متشعبة، معقدة، هي إلى حدٍّ بعيد تفاعلات غير واعية، ولا يتمثلها أي ذهن منفرد تمثلًا كاملًا. وهنا أيضًا نجد للوضوح في فهم الغايات درجات متفاوتة؛ فمعظم الحركات ذات النطاق الواسع لا تصل إلى مرحلة الإرادة بمعناها الصحيح، كما تبين لنا من قبل، وربما لم تكن هذه الحركات تتجاوز مرحلة المحاولة والخطأ. ومع ذلك فقد تكون تعبيرًا عن طابع جمعي كامن، أي عن ميول توجد في المجتمع على نطاق واسع، ولكن في حالة كمون، ينقلها تغير الظروف إلى حالة الفعل الإيجابي. على أن لفظ الطابع الجمعي هذا لا يعني شيئًا محددًا أو دائمًا، وخاصة إذا أُطلق على كيانات مثل الأمم الحديثة. بل إن هذا الطابع يُعاد تشكيله دوامًا بفعل مختلف المؤثرات الصادرة عن تلك القُوى المتعددة التي تتصل ببيئة متغيرة. والحق أن وحدة هذا الطابع واستمراره مبالَغ فيها كل المبالغة، ما دامت الأمم مكوَّنة من جماعات كثيرة متعارضة، وما دامت عوامل الانتخاب ماضية في تأثيرها، بحيث تجعل هذا الجزء منها يسود أحيانًا، وذاك يسود أحيانًا أخرى. ومع ذلك، فإن الانفعالات والدوافع البشرية تؤدي عملها دوامًا، ولو أننا توصلنا إلى تمييز واضح للقُوى المتضمنة لرأينا في كل الحركات التاريخية أفرادًا يطرحون أنسجة معقَّدة من العلاقات، ثم تحملهم بدورهم هذه الأنسجة. أما أن الحاجات البشرية هي قوة دافعة للتاريخ؛ فذاك ما قال به الفلاسفة المثاليون والماركسيون معًا. فهذا هيجل يقول: «لم يتحقق شيء لم يكن لفاعليه اهتمام خاص به، ولم يتحقق أي شيء عظيم في العالم دون عاطفة قوية.» قال هيجل ذلك، على الرغم من أنه يعتقد أن الحشد الهائل من أوجه الاهتمام والنشاط، التي ظهرت على مسرح تاريخ العالم، ليست إلا وسائل وأدوات لغاية عُليا لا يُعرف عنها شيء. وبالمثل يؤكد إنجلز «أنه لا شيء يحدث دون قصد واعٍ أو غاية منشودة». فللغايات إذن تأثيرها حتى لو لم تكن في نفسها كافية لإحداث تغيرات. ولكن هل هي غايات اجتماعية؟ إن جواب هيجل لا يعنينا في هذا الصدد، إذ إن الغاية التي لا يعرف أحد عنها شيئًا ليست غاية على الإطلاق. أما إنجلز فيرمي على ما أعتقد إلى أن يبين أن القوانين التي تتحكم في تفاعلات الغايات البشرية ليست قوانين نفسانية. ولكن على الرغم من أن هناك بالعقل قُوًى غير نفسانية، فإن شيئًا مما ذكر لا يفند الرأي القائل بأن للغايات والحاجات البشرية المتناهية وجودًا فعليًّا، وأهمية كبرى في الحركات التاريخية. فقول بوزانكيه إنه لا شيء يكون راجعًا إلى الذهن ما لم يكن خطة ماثلة أمام ذهن ما، هذا القول لا يكفي لاستبعاد الغاية الاجتماعية. فنحن نسلِّم بأن حركة كبرى مثل المسيحية لم تكن كلها ماثلة في أي ذهن بعينه على الإطلاق. ومع ذلك فالمسيحية ليست وحدة غامضة مستقلة عن الأفراد الذين يجعلونها على ما هي عليه بتعاملهم، بل إنها لتجد في الفكر العبري واليوناني مضافًا إليها تيارات عدَّة لا تندمج في وحدة منسجمة، كل خصائص أصلها المختلط. فالغايات إذن تكون دائمًا ماثلة لأذهان فردية، غير أن الأذهان تدخل في علاقة متبادلة، وهذه العلاقة المتبادلة قد تغدو هي نفسها موضوعًا للفعل الواعي. ولدى هذه النقطة يكون لنا أن نتحدَّث عن إرادة اجتماعية وهدف اجتماعي. أما مدى تحقُّق هذه الإمكانية النظرية بالفعل، أو مدى قابليتها للتحقق؛ فتلك مشكلة كبرى من مشاكل علم الاجتماع وفلسفة التاريخ.
-
Bovet: The Fighting Instinct.
-
Glover: Waar, Sadism and Pacifism.
-
S. Isaacs: Social Development in Young Children.