نمو المجتمعات
وليس في وسعنا أن نفحص هذه التفسيرات فحصًا مفصلًا في هذا المكان، ولكن علينا أن نلاحظ الأمور الآتية؛ أولًا: أنه لا يوجد اليوم اتفاق بين علماء البيولوجيا على أن الزواج الداخلي مضرٌّ في ذاته، بغض النظر عن طبيعة العنصرين اللذين يتزوجان. ومن المحتمل أن الزواج الخارجي في عمومه أفضل من الناحية البيولوجية، غير أن من الصعب أن نقرِّر، في المرحلة الحالية من مراحل معرفتنا، أن مزايا الزواج الخارجي من الكثرة بحيث تؤدي إلى تفوُّق تلك الشعوب التي تزوجت من خارج جماعتها المباشرة على تلك التي تزوجت من داخلها. وثانيًا: يمكننا أن نسلِّم بأن قواعد الزواج الخارجي هي امتداد للقواعد التي تحظر الزواج بذوي القرابة الوثيقة، وأن القواعد المتعلقة بالقرابات البعيدة ينطبق عليها ذات التفسير الذي يسري على قواعد القرابة القريبة، أيًّا كان هذا التفسير. وثالثًا: نلاحظ فيما يتعلق بالأصول النفسية السيكولوجية لهذه القواعد، أننا نواجه هنا تلك الصعوبة التي نواجهها دائمًا كلما حاولنا أن نتوصل إلى العناصر التي هي أصيلة بحق في الطبيعة البشرية؛ فالنفور الذي يشيع الشعور به من المحارم، والأشكال التي امتدَّت عنه، قد يكون ناتجًا عن القواعد التي تحظر تلك العلاقات، بدلًا من أن تكون تلك القواعد مستمدَّة من ذلك النفور. ولا جدال في أن النفور، في حالة التحريمات الأخرى، كالتحريمات المتعلقة بأطعمة معينة، قد يبدو متأصلًا إلى حد بعيد، رغم أنه في واقع الأمر ناتج عن التحريم. وبالمثل للفكرة القائلة بأن بين السلطة والروابط الجنسية تعارضًا؛ فربما تكون ناتجة عن المشاعر العائلية، التي تخضع من جانبها للعوامل الاجتماعية والتاريخية، وربما لا يكون لمثل هذا التعارض وجود في أشكال الحياة الاجتماعية التي تبنى على الأسرة كما نعرفها. وبالاختصار، نحن في كل هذه التفسيرات نهدَّد بالتحرك في حلقة مفرغة، أعني بإرجاع النظم القائمة إلى ظروف كامنة، أو إلى عناصر فطرية في الطبيعة البشرية، ليست لنا أدلة مستقلة على وجودها، بل هي بالفعل قد استخلصت من ذات النظم المراد تفسيرها. على أن في وسعنا، دون أن نمضي في هذا النقد قُدمًا، أن نسلم بأن القواعد التي تحرم الزواج بذوي القرابة الوثيقة، أيًّا كان أصلها، قد أدت تلك الوظيفة الاجتماعية الهامة، وظيفة ربط الجماعات بعضها ببعض، وتوسيع نطاق الوحدة الاجتماعية الفعلية بالتالي. ولنُضف إلى ذلك أن القواعد المضادة لزواج ذوي القرابة الوثيقة تؤدي في المجتمعات الأكثر تقدمًا وظيفة أخرى، هي تحرير الفرد من اعتماده التام على أسرته، وهو الاعتماد الذي كان يمكن أن يزداد شدة لو كان الميل إلى المحارم قد شُجِّع أو سُمح بممارسته.
وفي هذه الجماعات الأكثر تخصصًا، نرى القواعد الساذجة للتبادل والمشاركة، تلك القواعد التي تبدو كافية بالنسبة إلى ظروف لا تسنح فيها إلا فرص قليلة للطموح أو النشاط، توضع هذه القواعد موضع الاختبار القاسي. فالحرب أولًا تتخذ بالتدريج شكلًا يزداد تنظيمًا جنبًا إلى جنب مع المنازعات الأكثر بدائية أو يحل محلها. ورغم أن الرأي الذي نادى به كثير من الكُتاب في الفترة الأخيرة، من أن الإنسان البدائي قد عاش في حالة سلام، لا يصمد أمام الدراسة الدقيقة للحقائق المعروفة؛ فإن هناك ما يدل على أن شن الحروب يتزايد باطراد كلما تقدمت الصناعة والتنظيم الاجتماعي بوجه عام. وبنمو الحرب يزداد بالتدريج ارتكاز المجتمع على مبدأ السيطرة والائتمار. فالتنظيم العسكري يجلب معه التفاوت في المراتب وفي السلطة أو يزيد من حدة هذا التفاوت، سواء بالنسبة إلى المنتصرين أو المنهزمين، وتظهر صور عدة للإخضاع، سواء بين الأفراد والجماعات. وهنا نجد مرة أخرى أن هذه الظاهرة ترتبط ارتباطًا وثيقًا مع التطور الاقتصادي. فبالانتقال من الصيادين إلى الرعاة والزراع، نجد الفوارق في المرتبة تحل محل المساواة الساذجة القديمة، ومع ذلك فمن الصعب أن نقرر مدى ما يرجع إليه هذا التفاوت من الحرب ذاتها، ومدى ما يرجع منه إلى تكديس الثروة الذي نجم عن التوسع في الصناعة.
وعلينا الآن أن نتساءل: هل القوة عامل متميز من عوامل الربط الاجتماعي؟ وإلى أي حد تكون كذلك؟ على أننا حين نحاول الإجابة عن هذا السؤال نصادف صعوبة أولى، ناشئة عن غموض لفظ القوة في هذا المجال. فإذا كانت القوة تشتمل على كل صور الضغط التي تفرض بها إرادة أفراد، أو جماعات معينة على غيرهم من الأفراد أو الجماعات، فمن الواضح أنه لم يسبق وجود مجتمع لا يتمثل فيه عنصر معين من عناصر القوة، بل إن أبسط المجتمعات التي تحدثنا عنها، والتي تقوم في عمومها على روابط القربى والمشاركة، تعتمد رغم ذلك في المحافظة على نظامها وأمنها على الخوف من الخصومات أو الثأر، اعتمادًا جزئيًّا على الأقل.
وفي هذا الصدد يكون للفروق في القوة بين الأقارب أهميتها. ومن جهة أخرى، ففي أرقى صور الحكومة السياسية نجد في متناول يد السلطة العامة قُوًى ضخمة للضغط، وعلى الرغم مما يُقال من أن هذه القوى ترتكز على إرادة الشعوب، فإن موقف هذه الشعوب يتمثل فيه دائمًا قدر كبير من الخضوع القهري، أو من عدم المبالاة، أو مجرد الاستسلام.
ولكن إذا كان صحيحًا أن كل حياة جماعية منظمة تستلزم القوة، فمن الصحيح أيضًا أن القوة ترتكز، في المسائل الاجتماعية، على التنظيم، وعلى قدر من الاتحاد الاختياري. فليس في وسع فرد أن يتحكم في مجموعات كبيرة من الناس ما لم يضمن قدرًا من الاستجابة من جانبهم، وليس في وسع أية طبقة حاكمة أن تفرض إرادتها على الآخرين ما لم تعمل على تنمية إرادة مشتركة بين أفرادها، وما لم تبذل بعض الجهد لتحويل القوة الغاشمة إلى سلطة، تكون حقًّا جديرة بأن تحترم، أو بأن يذعن لها على الأقل. وبالاختصار، فمشكلة دور القوة في التنظيم الاجتماعي تنطوي على إيجاد توازن بين عناصر متداخلة يصعب الفصل بينها.
- (١)
الملكية المطلقة، حيث يحكم الملك دون أن يحد من سلطته شيء، وتتمثل فيما أشرنا إليه من التنظيمات القبلية لبعض الإفريقيين.
- (٢)
الملكية الإقطاعية التي تتلاءم مع المساحات الكبيرة، وتتضمن طبقة حاكمة متدرجة في المراتب.
- (٣)
الإمبراطوريات الاستبدادية التي تتمثَّل فيها مختلف درجات التماسك والاستقلال المحلي. أما مدى تمثل مبدأ الائتمار فيما سمى بالحكومة المدنية، فتلك مسألة سوف نعود إليها بعد أن نقول كلمة عن هذا النوع من التنظيم السياسي.
ولقد رأينا أن مبدأ المشاركة أو التبادل يتمثل على نطاق ضيق في الجماعات الصغيرة للشعوب «البدائية». وفي حكومات دولة المدينة في العهود القديمة، كان هذا المبدأ يتبدى على نطاق واسع وبصورة أكثر وعيًا، أما في العصر الحديث فإنه يبرز بصعوبة وسط خلافات ونضالات عنيفة مع الملكيات المطلقة التي نمت في الوقت نفسه، وأُدمجت القبائل والشعوب في أمم. ولقد اتجهت الدولة الحديثة إلى أن تغدو دولة مكونة من أمة، أي أن تتفق في المساحة مع الجماعات التي تعتبر نفسها أمة واحدة، أو ينتهي بها الأمر إلى اعتبار نفسها أمة واحدة. كما حدثت تجارب هامة فيما يمكن أن يُعد شكلًا قائمًا بذاته من أشكال الدولة، ونعني به الدولة الاتحادية (الفيدرالية). فهنا تحدث تنوعات هامة في تقسيم القوى بين الولايات المكونة وبين السلطة الاتحادية (الفيدرالية). وإن استعراض الدول الحديثة ليُوحي بأن مستقبل المدنية يتوقف على قدرتها على اتخاذ إجراءات تكفل الجمع بين أمرين لا يقل أحدهما عن الآخر ضرورة؛ وهما: وجود قدر من الحكم الذاتي من جهة، والاتحاد الأوسع على نطاق عالمي من جهة أخرى.
ولعل مما تجدر الإشارة إليه أن في وسعنا الاهتداء إلى أنواع من الحكومة يمكن أن تسمى بالديمقراطية في المجتمعات البسيطة، بل إن التماس المشورة في الحكم هو أمر مألوف إلى حد بعيد، فهو يشيع فيها بقدر ما يشيع حكم «الرجل القوي». وحيث يكون الزعماء هم الحاكمين يغلب أن نجد أن سلطتهم ليست بالسلطة الشكلية ولا بالسلطة الحاسمة، وإنما تتوقف على صفاتهم الشخصية. على أن هذه الجماعات تختلف في الشئون السياسية عن الديمقراطيات الحديثة؛ فالقوة الحقيقية تكمن في العرف. وعلى الرغم من أن العرف لا يبلغ من الثبات أو الجمود ذلك القدر الذي اعتاد الأنثروبولوجيون القدماء أن ينسبوه إليه؛ فإن المجال لا يتسع لتغييره عن طريق التشريع المقصود، كما أن فرص النقد الحر لذلك العُرف محدودة.
وعند تحديد الدور الذي تساهم به إرادة المحكومين في الحكومات الديمقراطية الحديثة، نصادف صعوبة هي عكس الصعوبة التي تحدثنا عنها من قبل، عندما كنا بصدد الكلام عن الدور الذي تعلبه القوة والسيطرة. فالقول بأن الإرادة لا القوة هي أساس الدولة، هذا القول حينما يكون تعبيرًا عن أمر واقع، لا عما يُعد أمرًا مرغوبًا فيه، فإنه يُبنى على النظرية القائلة بأن المجتمعات الحديثة يسودها اتفاق عميق شامل يكمن من وراء كل الاختلافات الفرعية التي تفرَّق بين بعض أجزاء من الأمة. على أن مثل هذا الاتفاق، إن وجد حقيقة، قد يكون في الأغلب راجعًا إلى ما للنظم الاقتصادية والسياسية من تأثيرٍ عميق في شخصية الشعب، وتلك النظم بدورها ربما لا تكون انعكاسًا لشخصية الشعب في مجموعه، بل لشخصية جماعة مسيطرة عليه، أفلحت في فرض إرادتها على الباقين. ومن الممكن أن يقال أيضًا إن وسائل الإقناع الذين يتحكَّمون في هذه الوسائل من التغلغل في شخصية الفرد والسيطرة عليها، على نحوٍ أعمق وأقوى أثرًا بكثير مما تؤدي إليه القوة الغاشمة. وهكذا يظل السؤال باقيًا: هل الانتقال من القوة إلى الإقناع ينم عن شيء أكثر من مجرد تغير في الأسلوب يتلاءم مع التنظيم الواسع النطاق؟ أوليس مبدأ السيطرة لا زال هو العنصر المتحكم في العلاقات الاجتماعية؟
ولقد أصبحت الوظيفة التي شاع الاعتراف بها للدولة على أوسع نطاق هي وظيفة الدفاع، الداخلي والخارجي. ومن جهة أخرى فإن استغلال الموارد الجماعية من أجل الصالح العام ينتمي إلى مراحل أعلى في التطور، بل إن الدور الذي تساهم به الدولة في تنمية المصالح العامة مساهمة إيجابية، لا زال حتى اليوم مثارًا للجدل. فإذا تركنا جانبًا مجموعة من أبسط الشعوب، التي ليس لها حكومات متخصصة على الإطلاق، بدا لنا أن هناك اتصالًا أساسيًّا في تطور التنظيم السياسي، وأن من الضروري أن يُنظر إلى الدولة على أنها تنظيم يكاد يكون عالميًّا عامًّا. ومن جهة أخرى، فإن القول بأن الدولة تنظيم «طبيعي» هو قول غامض مضلِّل. فوجود شكل من أشكال المجتمع هو حاجة كامنة في الطبيعة البشرية، ولكن لا يمكن القول بأن نوعًا خاصًّا من أنواع الدولة، كالدولة الحديثة القائمة على وحدة شعب أو أمة، ينبعث عن حاجة طبيعية، لا بمعنى أنها تنشأ مباشرة عن دوافع الإنسان العظيمة، ولا بمعنى أنها استجابة تلقائية لهدفه النهائي أو غايته القصوى. وهنا، كما في نواحٍ عدة لعلم السياسة النظري، ينبغي علينا ألا نخلط بين الدولة والمجتمع؛ فالدولة نوع خاص بالنسبة إلى المجتمع، أعني أنها هي المجتمع موصوفًا بأنه هيئة. كما أنها أيضًا مجموعة من النظم، وهي بهذا المعنى تشتمل على كل ذلك المركب المنتظم، المكوَّن من القانون والحكومة معًا. على أنها في كلتا الحالتين لا تنتظم كل العلاقات البشرية؛ ووظائفها المتعلقة بالإشراف على هذه العلاقات تقبل تغيرات واسعة إلى حد بعيد، كما تبين لنا من قبل.
(١) صور الإشراف الاجتماعي
عرَّفنا الموطن أو المجتمع المنظم بأنه مجموعة يربطها نظام من القواعد المشتركة، وعلينا الآن أن نناقش بإيجازٍ طبيعة هذه القواعد؛ ففي المجتمعات الراقية في تقدمها يمكننا أن نميز أربعة أنواع من التنظيم الاجتماعي، وهي: القواعد الأخلاقية (التي ترتبط بقواعد الدين ارتباطًا وثيقًا، وإن كانت تتَّجه إلى أن يكون لها قوامها الخاص) والقواعد التشريعية، والعرف، والأذواق. وبينما نجد أن القانون والأخلاق والعرف هي من حيث الأصل التاريخي فروع للسنن الشائعة؛ فإن من الممكن تمييز كل منها عن الآخر في صورته المتقدمة تمييزًا واضحًا. فالقواعد الأخلاقية عندما تصل إلى مرحلتها المتميزة، تحض على أفعال معينة بفضل ما يكمن فيها، أو في الغايات التي تتحقق بواسطتها، من خير؛ وهي تنهى عن أفعال أخرى؛ نظرًا لما يكمن فيها أو في نتائجها من شر. فأساس هذه القواعد يكمن في احترام الخير لذاته، وهي مستقلَّة عن أي جزاء خارجي. أما من الوجهة العملية فالقواعد الأخلاقية لا تنطبق طبعًا على هذا الوصف، ما دامت تقبل أحيانًا خضوعًا لسلطة معينة، وتُتبع نتيجة لاعتبارات من الإدراك الضيق لمعنى الحصافة. أما القانون فالمقصود به في صورته التي تطور إليها مجموع القواعد الاجتماعية التي تُعلنها وتنفذها سلطة مشروعة. والواقع أن التعريف الدقيق للقانون قد أثار، ولا يزال يثير، جدلًا كثيرًا؛ فهناك حالات انتقالية عدة، يكون مركز السلطة الاجتماعية فيها غير محدد، وهناك حالات أخرى تعلن فيها القانون سلطة مسئولة، ولكن تنفيذه لا يكون أمرًا مؤكدًا؛ فبين شعوب بدائية كثيرة توجد قواعد للسلوك يشيع اتباعها، ولكن لا توجد هيئات منتظمة لتحديد هذه القواعد أو إعلانها على الملأ. وفي حالات أخرى توجد هيئات تعلن القانون وتفسِّره، ولكن يُترك التنفيذ للفريق المظفر. وفي القانون الدولي الحالي توجد الوسائل الكفيلة بالإعلان الرسمي للقانون، ولكن تنفيذه غير مؤكد، ومع ذلك فينبغي أن يعد ذلك قانونًا بالمعنى الصحيح.
والواقع أن صعوبة تعريف القانون لا يُتغلب عليها عن طريق حصره في القواعد التي تعترف بها الدول وتفسرها وتنفذها؛ إذ إن هناك غموضًا مماثلًا في تحديد مقومات الدولة. والمشكلة في الحالتين هي تحديد النقطة التي يصل فيها التخصص في الوظائف المتعلقة بحفظ النظام داخل الجماعة إلى المرحلة التي يمكن فيها القول بوجود نظام للدولة، أو نظام تشريعي. والواقع أن نمو الدول ونمو القانون هما وجهان لظاهرة واحدة، هي إقامة دعائم نظام ثابت. ولقد نضيف إلى ذلك أن فكرة الإرغام واسعة إلى أبعد حد، وهي تقتصر على الإكراه المادي وحده وتحريم الأفعال التي يُنهى عنها، وعلى النفي من داخل الجماعة، بل تنطوي أيضًا على أنواع كثيرة أخرى من صور الضغط التي يمارسُها الرأي العام ذاته، ذلك لأن الضغط قد يمارسه المجتمع من حيث هو كل، أو يمارسه رؤساؤه، أو عن طريق أية هيئة أخرى؛ فكلما وجدنا قواعد تحد من ممارسة السلطة على الأشخاص، أو الأشياء فيما عدا التدخل العرضي أو المحدود بغرض معين، وتطبق على نحو دائم داخل جماعة متميزة الحدود والصفات، وجدنا ما هو في أساسه قواعد تشريعية، وعلينا من أجل أغراض الدراسة المقارنة أن نعترف بوجود اختلافات هامَّة في درجة تحدد السلطة التي تسهر على رعاية هذه القواعد، وفي الجزاءات التي تُستخدم في تنفيذ هذه القواعد.
ونستطيع أن نميز تمييزًا عامًّا بين العرف والقانون والأخلاق تبعًا لطبيعة الجزاء من حيث هو خارجي أم باطن، وتبعًا لنوع الإكراه الذي يُستخدم فيه؛ ففي حالة الأخلاق يصبح الجزاء في المراحل العليا للتطور على أقل تقدير باطنًا في أساسه، ويتوقف على قبول الفاعل له بحريته. أما العرف فالرأي الشائع هو الذي يحميه لا السلطة الشرعية. كما أن نطاق العرف ينحصر في طبقات أو مجموعات معينة داخل المجتمع على الرغم من أن له في كثير من الأحيان احترامًا يضفي عليه قيمة توحي لأعضاء المجموعات الأخرى بمجاراته وتقليده. والعرف يرتبط بطرق السلوك التي تعد هامة في نظر مجموعات معينة، ولكنه لا يكاد يمس الحاجات الأساسية العامة للحياة بنفس العمق الذي تمسها به الأخلاق أو القواعد التشريعية. أما أحكام الذوق الشائع، فتختلف عما عداها من طرق السلوك المطلوبة في أوجه كثيرة، وخاصة في مدى بقائها وفي نطاقها. فأحكام الذوق الشائع هي بطبيعتها عابرة نسبيًّا، وهي تبدأ على أنها تجديدات، ثم تنتشر بالتقليد. ولكن ما إن يذيع حكم الذوق ويصبح عامًّا حتى يفقد طلاوة الجدة، ويضيع الفضل الذي اكتسبه مبدعوه. وعلى ذلك فبقاؤه يتوقف إلى حد بعيد على درجة انتشاره. وهو في هذه الناحية يختلف أساسًا عن سائر معايير السلوك التي تكتسب مزيدًا من التأثير والقدرة على البقاء كلما ازدادت ذيوعًا.
ولقد شاع تعريف السنن تبعًا للقوانين النفسية للعادة، فنظر إليها على أنها نوع من السلوك قد غدا شائعًا في الجماعة، وأصبح يؤدَّى بفضل التكرار المستمر على نحو شبه آلي. وإلى هذا الطابع الشبه الآلي يعزَى الشعور بعدم الارتياح الذي نحس به عندما نسلك نحن، أو يسلك غيرنا سلوكًا خارجًا على السنن الشائعة؛ فنحن نجد من الصعب أن نخالف السنن المعمول بها، كما أن العدول عنها يَلقى مقاومة شديدة. ولكن ينبغي أن نلاحظ أن الحالة الانفعالية التي ترتبط بهذه المقاومة تختلف باختلاف الظروف؛ فتارة قد يبدو الفعل المخالف للسنن الشائعة مجرد فعل يبعث على السخرية، وتارة أخرى قد يثير الغضب والعداء الفعلي. وعلى ذلك فسطوة العادات الاجتماعية لا يمكن أن تفسر تفسيرًا كاملًا في ضوء ما يقول به علم النفس من استجابات شبه آلية، وإنما هي تنطوي على مشاعر لا تتمثل على الدوام في العادات المألوفة. والحق أن السنن ليست مجرد عادات شائعة، بل هي كذلك قاعدة أو معيار للسلوك. ويدعم القاعدة، في الجانب الانفعالي، مجموعتان من القوى؛ فهناك من جهة شعور، أو مجموعة من الاستعدادات الوجدانية، ترتبط بالسنن الشائعة في ذاتها، وتنهي عن مخالفتها. وفي هذا الشعور عنصر عقلي هو الاعتراف بأهمية استتباب النظام — أيًّا كان غموض هذا الاعتراف — وضرورة معرفة ما ينبغي توقعه، وما هو متوقع فعلًا في المواقف المعينة. حول هذه الأحاسيس تنمو المشاعر الاجتماعية. وإن إطاعة قواعد السنن لهي واحدة من أبسط الطرق التي يستجيب بها الفرد لنداء الحياة الاجتماعية، ويحس فيها باعتماده على الجماعة. وبالإضافة إلى هذه المشاعر التي ترتبط بكل السنن من حيث هي سنن، هناك مشاعر أخرى تثيرها سنن خاصة كمشاعر التعاطف، والغضب، والاستحسان والاستهجان التي تبلورت في قواعد، والتي تُثار مرة أخرى كلما خرقت هذه القواعد. وبين المجموعتين من الانفعالات تداخل وثيق، لأن كل قاعدة خاصة تستند إلى تأييد المجموعة أو النسق الكامل من القواعد التي تتحكم في مجتمع معين.
وتمر الحالة البدائية للسنن بعملية تخصص تتشابه خطوطها الرئيسية إلى حد بعيد في المدنيات المختلفة. فبعض ما تقضي به السنن يُتبع بدافع الأخلاق الفردية، ويستمد سلطته من قوة تقبل الشخص له بشعور فردي أو داخلي. وبعض قواعد الحياة تتطور إلى أن تعلنها وتنفذها سلطة قائمة، على حين أن غيرها من قواعد الحياة لا ينظر إليها على أنها تؤثر في الأحوال الأساسية للحياة، فيكون منها العرف، كما قلنا من قبل. والواقع أننا نلمس في تاريخ المدنية اختلافات كثيرة في العلاقات بين أنماط الإشراف الاجتماعي هذه؛ فالسنن تظل دائمًا باقية، بوصفها أحد مصادر القانون؛ فقد كانت، على سبيل المثال، عاملًا أساسيًّا في القانون الإنجليزي، وهي أساس مجموعة من أهم مبادئ القانون العام. وتعد السنة القائمة بالفعل ملزمة من الوجهة التشريعية، وإذا استشهد بها تبين أنها لا تزال تعد قانونًا صالحًا، إذا ثبت أنها توجد بوصفها تفرعًا محليًّا للقانون المعتاد، وإذا لم يتبين أنها تناقض أي مبدأ تشريعي أساسي. وفي غير هذا من مذاهب القانون يُعترف للسنن أيضًا بأنها تؤثر تأثيرًا كبيرًا في مجرى النظم التشريعية، بل لقد عُدت المصدر النهائي لكل قانون. وعلى الرغم من ذلك، فالقانون في المذاهب التشريعية الراقية يعلو على السنة؛ إذ يمكن أن تلغيها المحاكم، وتعلن أنها أصبحت غير ملزمة لأحد، وإن كان ذلك لا يحدث كثيرًا. ومن العوامل التي تؤثر في تطور القانون اتساع التنظيم الاجتماعي، فذلك يضع أمام أنظار السلطات الحاكمة سننًا مختلفة، بل قد تكون متعارضة ينبغي التوفيق بينها، أو تعديلها، أو إلغاؤها من أجل مواجهة المقتضيات العامة الأوسع نطاقًا. وتختلف علاقة السلطة الحاكمة بالعرف الاجتماعي في مختلف مراحل المدنية. ففي الدول القائمة على السلطة الاستبدادية، يعرف القانون تعريفًا ملائمًا بأنه أمر صادر من سيد؛ إذ الغالب في مثل هذه الدول أن يفرض القانون من سلطة خارجية عن المحكومين، ولا ينشأ من عادات الشعب وحاجاته السائدة. نعم إنه ليس في وسع سلطة مستبدة أن تظل تسود طويلًا، من غير أن تستند إلى موافقة المحكومين، غير أن استجابة هؤلاء المحكومين قد تكون مجرد إذعان، أو استسلام ناشئ عن الخمول، بل قد تكون استسلامًا مضطغنًا. أما في المجتمعات الديمقراطية، فللقانون صلة أوثق بالحاسة الأخلاقية للجماعة، ولكن حتى في هذه المجتمعات قد يظل لعنصر السيطرة وجود، يتمثل فيما للطبقات القوية من تأثير على التشريع والإدارة.
وعندما تنتهي فترات التمثل والنمو هذه، تبدأ المعارضة في استجماع قواها مرة أخرى، وتحدث في الغالب هُوة بين النمو التشريعي والتطور الأخلاقي؛ فتاريخ فكرة القانون الطبيعي يوضح هذه الدورات المتبادلة أكمل توضيح. ومن المحتمل أن هذه الفكرة تؤثر بعض الأثر في القانون الدولي الحالي، ويمكن أن يُقال بوجه عام إن عصرنا يشهد تجدُّد المحاولة التي ترمي إلى مراجعة أسس القانون الموجود بالفعل، على نحوٍ يلائم بينها وبين معاني العدالة والمعقولية، وهي المعاني الأرسخ دعائم من أسس القانون هذه. وحل مثل هذه المشاكل يستلزم تعاونًا وثيقًا بين علم الاجتماع وفلسفة القانون.
وإلى كتاب J. C. Flugel: The Family from a Psychoanalytic Point of View.
أما «محكمة الانتصاف» فترجع في الأصل إلى تولي مستشار الملك القضاء في الحالات التي تعجز فيها المحاكم العادية، ولها إجراءات خاصة مخالفة للإجراءات سائر المحاكم. (المترجم)