مظاهر التطور العقلي
(١) التطور الأخلاقي
يذكر القارئ أننا في بحثنا للعلاقة بين علم الاجتماع والفلسفة الاجتماعية، قد ميزنا بين الأخلاق بمعناها الأخص، وبين الدراسة الاجتماعية والنفسية للعادات الأخلاقية. فالأولى تبحث في صحة أو صواب أحكامنا الأخلاقية، ومهمتها هي الكشف عن المسلَّمات الكامنة في أحكامنا الأخلاقية، وصياغة المبادئ التي تجعل هذه الأحكام متسقة مع ذاتها، متمشيةً مع المعايير التي يقبلها العقل.
أما الدراسة المقارنة للأفكار والعادات الأخلاقية، فتختص ببحث الصور التي تبتدئ بها هذه الأفكار والعادات في مختلف الشعوب أو العصور، والوظيفة التي تحققها في تنظيم الحياة، والقُوى النفسية الكامنة فيها، وعلاقاتها وارتباطاتها التاريخية. ولن نتحدث هنا إلا عن هذه المشكلة الأخيرة وحدَها، ولما كان ميدانها عظيم الاتساع، فسوف أقتصر على مناقشة طبيعة التطور الأخلاقي بوجهٍ عام، وهل من الممكن أن نلمح فيه اتجاهات عامة عن طريق الدراسة المقارنة.
ويمكننا أن نميز بوجه عام بين اتجاهات رئيسية ثلاثة، على شريطة أن نذكر أن التطور ليس متصلًا، وإنما يسير غالبًا في خطوط متباعدة، ويتعرض لتيارات متعارضة، تجلبُها الاتصالات الحضارية؛ ففي أول الأمر حدثت عملية تفرع أمكن بها أن يظهر بالتدريج اتجاه أخلاقي من بين سائر أنواع الإشراف الاجتماعي، كالإشراف التشريعي والديني. وثانيًا: حدث نمو في المعقولية، واكتسبت الأحكام الأخلاقية مزيدًا من التنزُّه والحياد والعمومية، وأصبحت المعايير العقلية تحل بالتدريج محلَّ المخاوف السحرية والنفور، أو التحيز الذي لا يقوم على أساس. وثالثًا: حدث اتساع لنطاق الأشخاص أو الجماعات التي تسري عليها الأحكام الأخلاقية؛ فكانت تلك هي بواكير العمومية الأخلاقية المطلقة.
ولكي نفهم طبيعة هذا التطور، علينا أولًا أن نتأمل بإيجازٍ طبيعة الإلزام الأخلاقي، كما يستشعره الضمير النامي؛ فالضمير يبتدئ في صورة نسق يشتمل على عناصر عقلية ووجدانية في آنٍ واحد. وليس الضمير وجدانًا محددًا، بل هو على الأصح شعور أو مجموعة من المشاعر التي تشتمل في داخلها على ميولٍ أو استعدادات انفعالية متعددة، كالابتهاج الهادئ إذا حققنا ما نرمي إليه، والأسف إذا أخفقنا، والخوف والتأنيب والخجل والغضب. غير أنه يشتمل أيضًا على الاحترام والتبجيل والشرف والولاء. وهذه الاستعدادات ترتبط بنواحي رضانا وسخطنا، وهذا الرضا وهذا السخط ليس مجرد صور لما نحبه ونكرهه، وإنما هو مزيج مركَّب من إحساسات وأحكام. فالإحساسات تسجل انسجام السلوك المقترح مع الحاجات العامة الشاملة لطبيعتنا، أو عدم انسجامه معها. والحكم يؤكد ملاءمة هذا الإحساس أو صلاحيته. وهو يعمل، في صورته النامية، وفقًا لمعايير الاتساق والحياد والعدالة. وإنه لمن الخطأ أن نرد الضمير إلى أي دافع أو شعور بعينه، كالميل إلى التكتل أو التعاطف. وإنما الأصح أنه النتيجة أو الراسب الناشئ عن المجموعة الكاملة من الأحاسيس النزوعية، عندما تكون قد كونت مركبًا صالحًا للعمل. وهذه المجموعة المنظمة من الدوافع وما يكمن فيها من أحكام الرضا والسخط، هي التي يُعبر عنها في حالة وجود الضمير بأنها هي حاسَّة الالتزام بالقواعد الأخلاقية، وهي التي تنبعث منها تلك الطاقة التي لا بد منها لأجل السيطرة على الدوافع والرغبات المنحرفة.
على أن للإلزام الأخلاقي نوعًا من الثنائية لها أهميتها الخاصة بالنسبة إلى عالم النفس الاجتماعي؛ ففيه من جهةٍ شعور بالضغط، وكأنه ناتج عن شيء فُرض علينا من الخارج، وفيه أيضًا عنصر من الإهابة أو الجاذبية يلائم النفس ويجتذبها، وكأنه شيء يُقبل عن رضًا. ولقد ذكرت تعليلات متعددة لهذه الثنائية؛ فأرجعت إلى صراع بين الهوى والعقل، أو بين الحب والكراهية، أو الدوافع الاجتماعية وغيرها من الدوافع، أو بين العقل الحر والعادات الآلية. والتفسير الذي أقترحه هو — بالاختصار — التفسير الآتي: فالمشكلة الأساسية للحياة الأخلاقية هي بعث النظام في فوضى الدوافع المتضاربة والرغبات الثائرة، غير أن القوى الباعثة للنظام تتكشَّف أولًا للضمير في الاحترام الذي يحسُّ به الفرد نحو القواعد التي تفرضها عليه الجماعة الاجتماعية؛ فضميره هو مستودع للمعتقدات الأخلاقية التي تؤمن بها الجماعة، أو هو بالأحرى يشتمل منها على ما استوعبه عن طريق السلطة والإيحاء، على الرغم من أن هذه المعتقدات قد تغدو فيما بعدُ شخصية بالنسبة إليه، مبنية على مُثل عليا وواجبات يقبلها، كما لو كانت مثله وواجباته الخاصة. فالنظام الذي يحقِّقه الفرد في داخل ذاته يعتمد أساسًا على النظام الأكبر للمجتمع، ولكن من المهم جدًّا أن نلاحظ أنه لا يقوم بين النظامين أبدًا أي تطابق دقيق. وسبب هذا التفاوت يكمن في أعماق طبيعة التطور الاجتماعي.
إن تطور الأخلاق التام لا يتبع في سيره خطًّا واحدًا، فهو يتأثر تأثرًا قويًّا بنمو النظام الاجتماعي العام، وبالعوامل الاقتصادية والسياسية، وبالمعتقدات الدينية والتقدم العقلي الشامل. وهو مثل هذه العوامل كلها معرض للانحراف والتقهقر، ومع ذلك فإذا ألقينا على الموضوع نظرة عامة، وتأملنا الإنسانية في مجموعها؛ ففي وسعنا أن نلمح الاتجاهات التي لاحظناها من قبل، وهذا التطور يمكن، من وجهة نظر معينة، أن يُعَدَّ عملية اصطبغ بها الضمير بالصبغة الفردية الباطنة. وفي وسعنا أن نتتبع هذه العملية في التفرع التدريجي للأخلاق من القانون، وفي ظهور الفكرة القائلة إن الخير قائم بذاته، مستقل عن الجزاءات الخارجية. كما يمكننا أن نجدها متمثلة في الخلافات المتجددة دوامًا، بين الأخلاق التقليدية، بما فيها من التجاء إلى السلطة وتأكيد لفضائل الخضوع والطاعة، وبين أخلاق الأنبياء وأصحاب الدعوات الثورية الذين يدعون إلى مثَل أعلى بعيد عما هو شائع متعارف عليه. والذين يبنون دعوتهم على ما للحياة الخيِّرة من جاذبية كامنة. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدَد، تأكيد دعاة العبرانيين «لواجبات القلب»، ونقاء الضمير، والمسئولية الشخصية التي تنصبُّ على التفكير مثلما تنصب على الفعل، ونمو مذاهب اليونانيين التي ظهرت في القرن الخامس. والقائلة إن النفس البشرية هي الحكم الأعلى في الأخلاق، ولا شك في أن المجموع العام للإنسانية لم يستوعب هذه الدروس بعدُ؛ فلا يزال قدر كبير من الأخلاق خاضعًا للعرف والسلطة، كما أن العلاقات بين ما هو قانوني وما هي أخلاقي تختلف اختلافًا هائلًا بين الشعوب، بل إن الشعب الواحد قد يتراوح بين الإصرار على حرفية القانون، والالتجاء إلى الضمير الفردي الباطني. ويبقى بعد ذلك أن نقول إن النظرة الأخلاقية البحتة، أي تلك التي تعتبر الأفعال من حيث مدى مساهمتها في القيم الكامنة، قد ظهرت بشكلٍ واضح خلال مجرى التطور الأخلاقي، وإن كنا لا نستطيع أن نقدر مدى قوة هذه النظرة أو شمولها.
ويتمثل هذا التميز المتزايد للأخلاق أيضًا في التاريخ المعقَّد الذي مرت به العلاقات بين الدين والأخلاق؛ ففي الديانات الساذجة تظهر فكرة القداسة بصورةٍ غير واضحة أو متميزة، ويمتلئ العنصر الأخلاقي فيها بالمخاوف والسورات السحرية. أما في المراحل العليا فإن الآلهة تزداد اتصافًا بالأخلاقية، ويُنظر إلى ما هو إلهي على أنه تجسُّد للقانون الأخلاقي. وفي المراحل التي تلي ذلك في الرقى، تتجه القواعد الأخلاقية إلى التحرر من الجزاءات الدينية، وإلى المطالبة بأن يكون لها كيانها الخاص. بل إن الأخلاق وغيرها من القيم، بعد أن كانت تبنى على السلطة الإلهية، تُعد عندئذٍ ظواهر تقدم أسطع برهان على حقيقة الألوهية، وهكذا تتأكد بالتدريج، في التفكير النظري الحديث، وفي السلوك العملي إلى حد ما، أولوية الأخلاق على الدين واستقلالها عنه. بل إننا نستطيع أن نتابع حركة تحرر الأخلاق من اللاهوت في تاريخ الحياة والفكر الصيني أيضًا، وفي البوذية بصورة أخرى.
وخير مجال يُدرس فيه الاتجاه نحو العمومية الأخلاقية، هو تطور الأديان الروحية والاتجاهات الحديثة نحو الروح الإنسانية؛ فالأديان الروحية تتجه بذاتها إلى العمومية. وهي تنهي عن الثأر، بل عن الحرب، وتحض على التضحية بالنفس، وعلى العطف والحب. على أن هذه الأديان، عندما احتكَّت بالنظم الفعلية الموجودة، كان عليها أن تنتهي إلى حل مع ذلك المزيج من الحب والكراهية، ومن العدالة والعدوان، ومن إخضاع الذات وتأكيد الذات، وهي مقومات الأخلاق السائدة بين الجماعات السيئة التنظيم، التي تتشابك في صراع مرير من أجل البقاء. ولقد اتَّصفت التسويات التي انتهت إليها الأديان بالصحة الظاهرية في الشكل أكثر مما اتصفت بأصالة الروح، ومع ذلك فإن نظرتها الأخلاقية العميقة تظل عملًا مجيدًا حققته الروح البشرية، وقد يصل إلى الاكتمال فيما بعد.
أما الحركة الإنسانية فتغشاها اليوم سحابة، ومع ذلك فلا يمكن أن يشك أحد فيما ساهمت به؛ فهي قد تغلغلت في كل نواحي الأخلاق العملية؛ مثل مشكلة الانقسام الطبقي والعنصري، ومركز المرأة، ومعاملة المجرمين، وحقوق التجمع، والمساواة الدينية، بل إن لها تأثيرها حتى في مجال العلاقات الدولية. وربما كانت أكثر المشاكل إلحاحًا أمام الأخلاق المقارنة وعلم الاجتماع، هي الإجابة عن السؤال: هل تستطيع المثل العليا للحركة الإنسانية أن تتحقق على نطاق عالمي، أم أن ما يحدث في التاريخ البشري هو مجرد إحلال للصراع بين جماعات كبيرة محلَّ الصراع بين جماعات صغيرة، واستبدال أخلاق الأمة بأخلاق القبيلة؟
إن اتجاهات التطور الأخلاقي التي تتبعناها بإيجاز ليست بطبيعة الحال مستقلة؛ فازدياد تفرع الأخلاق وتخصصها ينطوي على صبغها بمزيد من الصبغة العقلية، وهذه الصبغة العقلية، تؤدي من الوجهة المنطقية إلى تطبيق القواعد الأخلاقية بروحٍ من المساواة والنزاهة على كل البشر، أيًّا كانت جنسيتهم أو طبقتهم أو عقيدتهم (وإن كانت هذه النتيجة، للأسف، لا تطبق عمليًّا بالضرورة). فإذا تأملنا ما هو واقع بالفعل، وجدنا التطور غير تام في كل هذه الاتجاهات، فلا البصيرة الأخلاقية ولا القدرة على التعاطف الإنساني، برهنت — حتى يومنا هذا — على قدرتها على أن تحل المشكلة الأخلاقية على نطاقٍ عام يشمل العالم بأسره. والأمر الذي لا شك فيه هو أن العقل قد أخفق نسبيًّا في أن يلهمنا تلك الحماسة التي لا يمكن بدونها أن يتحقق شيء عظيم أو رفيع.
(٢) التطور الديني
علينا أن نميز في دراسة الدين — مثلما ميزنا في دراسة الأخلاق — بين المشاكل المتعلقة بنشأة الديانات ووظائفها، وبين المشاكل المتعلقة بصِدقها؛ فصدق المعتقدات الدينية أو حقيقتها أمر تختص به الميتافيزيقا. أما نحن فلا يهمنا في هذا المجال إلا الدور الذي تساهم به المعتقدات والشعائر الدينية في الحياة الاجتماعية، والطبيعة العامة للتطور الديني، وقد بُحثت هذه المشكلات بالتفصيل في علم الأديان المقارن، الذي أصبح اليوم فردًا عظيم التقدم من فروع علم الاجتماع. وإنا نحيل القارئ إلى المؤلفات المشهورة التي أصبحت الآن في متناول أيدينا، إذا أراد وصفًا وتصنيفًا للأنماط الرئيسية للدين، كما تتمثل في العقيدة والعبادة، وسوف نقتصر هنا على معالجة بعض أوجه علم الاجتماع الديني فحسب.
إن الموقف الديني يتضمن، على ما يبدو، نوعين من الانفعالات؛ تلك التي ترتبط بالعسر والفشل، وتلك التي ترتبط بفيض السوْرة وامتلائها. والنوع الأخير، الذي تنتمي إليه كل الانفعالات السارة، لم يعالجه الباحثون في علم النفس الديني عادةً، مع أن له على ما يبدو أهمية غير قليلة. فمن المحتمل أن قدرًا كبيرًا من الشعائر يرجع إلى فيض النشاط الغريزي وامتلاء الروح، وفي مستوًى أعلى من هذه، نجد لذَّات التجربة الصوفية. على أن الانفعالات المتعلقة بالعسر والفشل أوضحُ؛ ففي الأحيان التي ينهار فيها نظام الحياة اليومي الرتيب، والتي تضيع فيها الثقة، تنشأ الحاجة إلى شيء يمكن أن يلوذَ للمرء به، أو أن يلتجئ إليه. وإلى هذا تنتمي مشاعر عدم الاكتفاء، والتواكل، والنقص، والجهود التي تُبذل للتغلب على هذه المشاعر، ولإعادة الثقة بالإذعان عن رضًا لقوة هائلة، بل قد يكون بالاستسلام والقبول، والإيمان بأن العالم معنا على نحو ما، وليس ضدنا. وقد يتخذ هذا الشعور، في المستوى الفلسفي، شكل إيمان متحمس بأن النظام الأخلاقي يتغلغل على نحوِ ما في النظام الكوني ويتخلَّله، وبأن ما في تجربتنا المتناهية من حَيرة وتناقض، سوف ينحل في ضوء بصيرة أعمق. وتبعًا لتأكيد فكرة حلول الله في العالم أو علوه عليه، تقوم فكرة الحرية في العالم أو التحرر من العالم؛ فالمرء يهرب من الصراع والحيرة إذا أدرك ضآلته، وإذا آمن مستسلمًا بتلك القوى الغامضة التي توجد فيما وراء عالم الظاهر، أو إذا اتحد اتحادًا صوفيًّا مع تلك القوى، فيشعر عندئذٍ بمزيد من الحرية الإيجابية والنشوة؛ وبين هاتين مرحلة وسطى، هي «الثقة بالله» التي يبدو أن فيها اعترافًا بنقص الفرد، يصاحبه شعور بأن للفرد في نهاية الأمر قيمة.
وهكذا يتبين لنا أن التجربة الدينية تنتقل ما بين قطبَي الخوف والأمل، والشك والإخلاص، والارتكان والحرية، والشعور بالعجز والشعور بالقوة. وإن الدين لينشأ قبل كل شيء استجابة لهذه الحاجات الانفعالية، وفي العقيدة والطقوس تعبأ هذه الانفعالات والمعتقدات المرتبطة بها، وتركز على نحو رسمته التقاليد أو فُرض من الخارج، ووضع له أسلوب منظم. وترتبط الطقوس عامة بمواقف حاسمة في حياة الأفراد أو الجماعة، كالميلاد والمرض، والموت، وانخراط الشباب في سلك الحياة الاجتماعية، أو بحوادث الحياة الاقتصادية، كالبذر والحصاد؛ كما أن مناسبات الاتصال أو النزاع القبلي تؤدِّي فيها طقوس يُقصد منها تخفيف التوتر، وإضفاء الثقة؛ ففي كل العصور وبين جميع الشعوب، نجد أن العناصر غير المتوقعة في المواقف الحرجة في الحياة هي التي تكون النقط المركزية للشعائر. وعندئذٍ تؤدي الطقوس إلى الراحة؛ إما عن طريق زيادة القوة المقدسة أو تركيزها مباشرةً، أو بإبعاد أخطار ممكنة، أو في مرحلة الصلاة، وهي مرحلة عالية، بإعطاء الفرصة للتركيز الباطني والاستلهام. ولما كانت الطقوس ترجع في الأصل إلى حاجات انفعالية، كانت من أجل ذلك وسائل لتصريف الانفعالات، ولكنها أيضًا وسائل لإعلائها، وإن كان ينبغي أن نذكر أنها قد يصبح لها من الرَّتَابة ما يجعلها تفقد ما كان لها في الأصل من قيمة وقدرة.
أما من الوجهة المعرفية؛ فالدين يتعلق بتلك النقائص والإشكالات التي تكون، عندما تصبح واضحة التحديد، موضوع الميتافيزيقا. ومن هذا القبيل، التقابل بين الحقيقة والظاهر، وبين الثابت والمتغير، وبين الأزلي والفاني. وتواجه ديانات العالم تلك الإشكالات التي تنشأ على هذا النحو، بتصورِ نظامٍ روحي كامن من وراء نظام التجربة الشائعة، وتفسر العلاقات بين العالمين على أوجه مختلفة.
ففي الأديان التوحيدية يكون الاتجاه العام إلى الثنائية؛ إذ يتصور الله على أنه عالٍ، وخارج عن العالم الذي هو خالقه ومنظِّمه. أما في الأديان القائلة بحلول الله في العالم، فالاتجاه يكون إلى الوحدة، إذ يُنظر إلى عالم التجربة المألوفة على أنه هو المظهر الخادع للنظام الروحي الأعمق. وفي حالات أخرى كالبوذية، قد يكفُّ الدين عن البحث وراء الحقيقة النهائية، ويلتمس لاضطرابات التجربة وصعابها حلًّا في نظام عملي للحياة؛ يقوم على نظرة صُبغت بالحزن والعطف الرقيق، تهدف إلى خلاص الكل. وعلى ذلك فالفكرة الروحية يصبح محتواها أكثر تحددًا، إما عن طريق التقابل المادي، أو مع المتناهي والجزئي والمتركز حول ذاته. وفي الأديان العليا يزداد الوجه الأخلاقي أهميةً، ويُنظر إلى الإلهي على أنه تركيز للقيم العليا. وكل هذه الأديان تحضن على حياة مثالية، وعلى النظر إلى العالم على أنه المقر الممكن لهذه الحياة المثالية. وهذا المثل الأعلى يمكن أن يتوصل إليه بالعزوف وبقَهْر الحواس، وبكل ما ينم عن ضبط النفس، ومن هنا كان عنصر الزهد في الأديان الروحية. غير أن من الممكن أن يتأكد الجانب الاجتماعي للعنصر الروحي، كما في النزعة الإنسانية الحديثة، أو في الكنفوشيوسية، التي تنظر إلى النظام الاجتماعي على أنه خير في ذاته، وترى أن الخدمات التي يؤديها هي في ذاتها، وفي طبيعتها، مرغوب فيها.
ويبدو أن في كل الأديان العليا إيمانًا بإمكان الوصول إلى حالة من الرضا الكامل الدائم. وإنا لنلمس في الأسطورة والعقيدة، والعبادة، صورًا رمزية لهذه الحقيقة أو الإمكانية القصوى. وهذه الصور تتباين في شكلها وجوهرها تبعًا لمستوى الحضارة، وللتغير في معاييرنا للقيم ووسائل تعبيرنا عنها، وترتبط خاصة بالتغيرات في المعرفة، وفي السيطرة على القوى الطبيعية؛ ففي المراحل القديمة للدين كانت الحاجات الأولية للبشر، أي تلك التي تتعلق بضروريات الحياة، تلعب الدور الرئيسي بالضرورة. وبازدياد تقدم معرفتنا بالقوى الطبيعية، تعلمنا أن نسيطر عليها بوسائل طبيعية، أي ببحث مفصل لأسبابها وظروفها. وهنا يفقد تصور الله على أنه قوة شيئًا من أهميته، ويصبح التأكيد منصبًّا على تصور الله بوصفه مصدرًا للقيم، أو بوصفه الكائن الذي تتمثل فيه كل القيم، بل قد نتصوره على أنه ذلك الذي تتحقق بواسطته القيم تدريجيًّا.
لقد فسرنا الدين هنا بأنه ينشأ عن حاجات البشر، ويقدم طريقة أو طرقًا لإشباعها. ولكن من المهم جدًّا أن نتذكر أن هذا الرأي عن الدين لا يتضمَّن في ذاته أي تقدير للنجاح أو للإخفاق للدين أو الأديان في بلوغ هذه الغاية؛ فالدين، شأنه شأن كل النظم الاجتماعية الأخرى، قد أدى إلى إشباع حاجات، غير أنه كان يعكس أيضًا الصراع بين مختلف الحاجات، وبين حاجات الجماعات المختلفة قبل كل شيء. فمثلًا كان الدين أداة قيمة في رعاية روح الوحدة القبلية أو الوطنية وحفظها؛ ولكنه إذ فعل ذلك، قد أضفَى أيضًا قداسة على الأنانية الجماعية الوبيلة، التي كانت إحدى العقبات الكبرى في سبيل تحقيق وحدة أشمل. وفضلًا عن ذلك فإن أخلاق إنكار الذات التي أكدتها الأديان الروحية، ربما كانت عظيمة الأهمية من حيث إنها احتجاج على العنف والوحشية، ولكنها أدت في كثير من الأحيان إلى شل نشاط الإنسان، كما أدت الدعوة إلى الخيرية الشاملة إلى التستر على حالات كانت تختفي فيها أبسط أنواع العدالة. وكثيرًا ما حدث حين أكدت الأديان أولوية العنصر الروحي، أنه إما أن انفصلت الأديان عن الاتصال بالعالم الواقعي، وإما أنها أسلمت مقاليد أمورها إلى سلطات دنيوية، مما أدى بها إلى التسليم في أمور تخالف أسس تعاليمها ذاتها. ويشهد بذلك موقف الكنائس من الحرب والعبودية ورق الإقطاع. وفضلًا عن ذلك؛ فإن دعوى الدين بأن له بصيرة تعلو على المعتاد قد استغلَّ كثيرًا في الماضي للوقوف في سبيل البحث العقلي، وأثار ادعاء مضادًّا له، من ناحية الفكر العلمي، بأنه كافٍ لتفسير كل شيء. وهو ادعاء قد لا يقل عن الأول تطرفًا، وأخيرًا، إذا كان الدين مصدرًا للسلم والجهود الرفيعة، فقد أُلهم أيضًا مخاوف مريعة وفظائع بشعة، وإذا كان قد مكن الكثيرين من اكتساب تبصر أعمق، فقد عمل أيضًا على تشجيع زعم خادع، هو زعم الاحتكار الروحي، والتعصب العنيد، على نحو لا تكاد تجد له نظيرًا في أي مجال آخر من مجالات النشاط الإنساني.
(٣) التطور العقلي٤
ربما كان أوضح مجال يمكننا فيه أن نتتبع نمو المعرفة بسهولة، هو السيطرة المتزايدة التي يكتسبها الإنسان على قوى الطبيعة؛ فالتقدم في هذا الاتجاه كان أكثر اتصالًا وانتشارًا من أي تقدم آخر، وقد زادت سرعته في المدنية الحديثة إلى حد هائل. وكان قوام هذا التقدم أساسًا هو القدرة على تسخير الموارد الطبيعية — سواء منها الظاهر والخفي — في الأغراض البشرية. ولقد كان أقدم البدائيين الذين لدينا عنهم أية معرفة، يستخدمون هبات الطبيعة بحد أدنى من التحوير؛ ففيما يعلو على مستوى ملتقطي الغذاء، كان الناس لا يستخدمون ما تنتجه الطبيعة فحسب، بل يستخدمون أيضًا القوى المنتجة للطبيعة، كما هو الحال في تربية الحيوانات وفي الزراعة مثلًا. وتنتقل هذه المرحلة في المدنيات القديمة، إلى مرحلة تُستخدم فيها القوى الظاهرة للطبيعة استخدامًا واعيًا من أجل تحوير الموارد الطبيعية، كما هو الحال مثلًا في الزراعة الكثيفة، وفي استخدام المعادن والآلات البسيطة، كالعجَلة، والبكرة أو الملفاف، والرافعة، والمسمار المحوي أو البريمة، ومما يعادل ذلك — وربما يفوقه — أهمية، اختراع الكتابة، التي يسَّرت قيام الحكومات على نطاق واسع، وجعلت من الممكن أيضًا بناء أول عناصر المعرفة المنظمة. وأخيرًا ففي العصر الحديث تُبذل محاولات للمضي فيما وراء الخصائص السطحية للعالم المادي، ولاكتساب سيطرة متزايدة على الطاقات الكامنة. وكان هذا التطور أوضح ما يكون في العلوم الطبيعية أو المادية، وفي الفنون الصناعية التي تعتمد عليها، غير أن العلوم التي تبحث في الحياة والذهن والمجتمع قد أحرزت كذلك بعض التقدم.
وهناك مجموعات مختلفة من الظواهر، وبالتالي مجموعات مختلفة من العلوم. وهذه العلوم تصل إلى المرحلة الوضعية في أوقات مختلفة، وكل الاحتمالات تدل على أن قوانين العلوم المختلفة ليستْ قابلة لأن يرد بعضها إلى البعض. ومع ذلك فهناك وحدة في المنهج بين كل العلوم الوضعية، تجعل من هذه العلوم أساسًا صالحًا لوحدة البشر جميعهم. ومما تجدر ملاحظته أنه بينما يشتد خلاف الرأي في كل شيء آخر، يوجد اتفاق متزايد في كل المسائل التي وصلت إلى المرحلة الوضعية.
- (١) لا يبدو هناك فارق أساسي في التركيب الذهني بين الإنسان البدائي والإنسان المتمدين. وبعبارة أخرى: التحليل النفساني والمنطقي للعمليات المتضمَّنة في تفكير الإنسان البدائي وسلوكه، كما يصفه علماء الأنثروبولوجيا المحدثون، لا يكشف عن وجود ثغرات أو اختلافات في الصورة أو التركيب. وإنما ترجع الفوارق بين ما قام به كل منهما إلى فروق في نطاق التجربة، ودرجة التنظيم، والقدرة على النقد المنطقي الذاتي، وقبل هذا كله، إلى درجة سيطرة العوامل الذاتية على مجرى التفكير. ويبدو أنه ليس هناك أساس حقيقي للرأي القائل بأن مقولات الفكر، في العقلية البدائية، تكون بالفعل في حالة اضطراب واختلاط، أي إن الهمجيين لا يميزون بين الجزء والكل، وبين التشابه والهوية … إلخ. فمن الواضح أنهم في تعاملهم مع الأشياء الطبيعية في الحياة اليومية لا يقعون في مثل هذا الخلط، وإلا فإنهم ما كانوا يستطيعون أن يمضوا في هذه الحياة على الإطلاق. والواقع أنه حتى الشعوب البدائية كأقزام بنجالا Bangala لديهم عدد كبير من الكلمات المتعلقة بأعمال القوارب، وأسماء لأجزائها المختلفة، وللرسو والإقلاع والملاحة، والدوران بزوايا حادة … إلخ. كذلك يمكن إعطاء أمثلة لأقوام بدائيين لديهم أنماط متقنة لتصنيف الحيوانات والأشجار والحشائش، وأسماء لأغلبية عظام الهيكل العظمى وما إلى ذلك. وبالمثل؛ فرغم أن الهمجي ليست لديه أية فكرة عن مبدأ العلية في ذاته، فإن خصائصه الأساسية متضمنة في سلوكه، ما دام من الواضح أنه يبحث عن السوابق، ويغير سلوكه ونشاطه وفقًا للنتائج التي يريد أن يحصل عليها، ويستخدم الوسائل التي قد يصفها المنطقي، إذا ما تأمل أفعاله، بأنها مناهج استقراء، أي مناهج الاتفاق والاختلاف. وهو يرى العالم محتشدًا بقوى تؤثر على الكل بشكل مطَّرد، وهو لا يلجأ إلى القوى المتقلبة، كما هو الحال في نزعة التفسير الحيوي،٧ أو بالقوى الصوفية أو بالسحر، إلا عندما تخفق الارتباطات المعتادة. والواقع أن عنصر السر في السحر لا يرجع إلا إلى تميزه عن المعتاد؛ فعندئذٍ يسود اعتقاد قويٌّ بوجود ارتباط تظل طريقة عمله غامضة وغير مفهومة. ويبدو أن الخصائص الصوفية لا تتداخل مع الخصائص التي نسميها طبيعية، وأن الهمج يميزون تمييزًا تامًّا بين آثار السحر وآثار الأفعال البشرية المعتادة. وفضلًا عن ذلك، فإن الهمجي في التجائه إلى العلل الصوفية لا يتجاهل العلل الثانوية المعتادة، وإنما ينظر إلى هذه الأخيرة على أنها غير كافية لتفسير ظواهر معينة، ويضيف إليها عللًا أخرى ليستوثق أو ليزيد من طمأنينته، أو ليخفف من قلَقِه. وهو يصل إلى هذه القوى، حيوية كانت أم سحرية، بعمليات التفكير المعتادة. والواقع أن هذه التعليلات إنما هي أحكام عامة مبنية على ارتباطات كشفت عنها الملاحظة. غير أن الارتباطات قد وضعت تحت ضغط من تحرقه إلى الوصول إلى نتيجة، دون أن تكون في متناول يده وسائل منظمة تمكنه من استبعاد هذه العوامل الانفعالية، أو من مراجعة الميل الطبيعي إلى التعميم؛ ولذا نراه يضفي على الأفعال التي تخفف التوتر، كالطلاسم والطقوس، كل فضل تجلبه النتائج التي يؤدي إليها تخفيف التوتر عادة. وفي حالة تفسير العالم بالقُوى الحيوية، يُضاف إلى ذلك باعث آخر، هو أن الهمجي في تعامله مع الكائنات الروحية لا يتعامل مع قوى طبيعية جامدة، بل مع كائنات شبيهة به يمكن ترغيبها أو ترهيبها. وسرعان ما تجمد الارتباطات التي توضع على هذا النحو في معتقدات مسلم بها، وتبني التقاليد التي تضفي عليها مهابة. عندئذٍ يسير سلوك الناس وفقًا لها، حتى عندما لا يشعرون بذلك التوتر الانفعالي الذي أدَّى إلى بعث الاعتقاد في مبدأ الأمر. وتصبح هذه مجرد طُرق مسلَّم بها في السلوك؛ فالفارق الأساسي بين العقلية الهمجية والعقلية المتمدينة هو في نسبة مجال ما هو طبيعي إلى ما هو فوق الطبيعي عند كلٍّ منهما. فكلما اتسع مجال الأول، ضاق مجال الثاني. وهذه العملية تعتمد أساسًا على تطوير الوسائل العملية التي تمكن من اختبار التعميمات المتسرعة اختبارًا نقديًّا، وتعتمد على نمو القدرة على تحرير الاعتقاد، أو الإنكار من سيطرة العاطفة والانفعال.
ومن الطريف أن نتساءل عن العلاقة بين الصور المختلفة للسحر وصبغ الطبيعة بالصبغة الحيوية، وبين صور التنظيم الاجتماعي والاقتصادي بين الشعوب البسيطة وفي المذنبات الأولى. ولكن أحدًا لم يحاول، فيما أعلم، أن يقوم بمهمة إيجاد مثل هذا الترابط على النطاق الذي يكون ضروريًّا؛ من أجل تبرير أي حكم عام في هذا الصدد. على أن من الفروض المحتملة أن تنظيم المعتقدات المتعلقة بإضفاء القوى الحيوية على الطبيعة يرتبط بنمو التنظيمات السياسية.
فلكل نمط من أنماط التنظيم السياسي قرينة في السماء، وباتساع نطاق التنظيم وإحكام وحدته؛ تزداد هذه النزعة الحيوية وتغدو أكثر تنظيمًا، وتصل إلى قمتها في المدنيات البربرية في العالم القديم؛ حيث تدعمها مصالح الأسر المالكة، وتبررها تبريرات شبه فلسفية. ويبدو كذلك أن السحر لا يصل إلى ذروته في المجتمع البدائي، بل في عهد يتلو ذلك بمدة طويلة، حين يوجد أناس ذوو ثراء عظيم، ولكن نفوذهم غير مستقر؛ ولذا يلجئُون إلى السحرة لاكتساب مزيد من الطمأنينة، بل إنه كثيرًا ما لُوحظت نكَسات يعود فيها الناس إلى ممارسة السحر في عهود تالية لهذه، في أوقات الاضطراب والحيرة.
ولقد ناقش كثيرٌ من الباحثين العلاقة بين العلم وبين السحر والنزعة الحيوية.٨ فقال بعضهم إن العلم مستمد من السحر، ولكن الأصوب من ذلك كثيرًا أن نقول إنَّ كلًّا منهما قد تفرع عن الإدراك السليم العام أو النظرة الإنسانية المعتادة إلى الأشياء، ولكنهما سارا في اتجاهين متضادين؛ فالعلم يصحح ببطء تلك الوقائع التي تقدمها نظرتنا المعتادة، ويحددها وينظمها، ثم يبني بناء منهجيًّا يمكنه من الحصول على وقائع أدق وأوسع، ويمكنه في الوقت نفسه من معالجتها بمزيد من الدقة.أما السحر فيعيش على الغموض، والتفكُّك والاعتماد الساذج على المصادقة، والارتباطات المطردة التي يسير عليها لا تخضع للتحقيق، بل هي لا تمكن من قيامه أصلًا. وإذ يتعارض السحر والعلم منذ بداية الأمر في منهجهما وروحهما، فإنهما يزدادان تباعدًا خلال مجرى تطورهما. وأقرب وسيلة لفهم الرأي القائل بأن العلم مستمد من السحر، هي أن نقول مع كارفث ريد Carevth Read إن العالِم مستمد من الساحر (أو الساحر الكاهن) بمعنى أن السحرة الكهنة كانوا في الغالب أناسًا أخذوا على عاتقهم اكتساب شذرات من المعلومات الإيجابية، تفيدهم في ممارسة السحر، ولكنهم اكتسبوها بمناهج لا صلة لها بالسحر. وفي العصور التالية، أصبح بعضهم أكثر شغفًا بالجانب الوضعي لمهنتهم منهم بالجانب السحري، وأصبحوا علماء، على حين ظل الباقون متعلِّقين بالجانب الصوفي فيها.ويمكن أن يُقال بوجه عام إن المعتقدات الحيوية الدينية قد أعانت العلم في مراحله الأولى بطريق غير مباشر، وذلك بإثارتها مشاكل وحضِّها على بحثها. ومن ذلك أن بناء المعابد وتنظيم الأعياد الموسمية قد شجَّع على دراسة الحساب والهندسة والفلك. وكان نمو طبقة من الكهنة أمرًا عظيم الأهمية في هذا الصدد، وظل هؤلاء الكهنة خلال آلاف السنين يحتكرون المعرفة، وكانوا هم حماة الفنون الجميلة.
- (٢)
التفكير القديم والحديث: أرجع الباحثون بواكير العلم إلى المدنيات الشرقية القديمة، فقد وضعت في بابل ومصر والصين القديمة أولى أسس المعرفة المنظَّمة في الحساب والهندسة والفلك، كما أن هذه المدنيات سارت بكثير من الفنون إلى مستوًى في التطور رفيع نسبيًّا. وتظهر في المدنيات القديمة، بين القرنين الثامن والخامس ق.م. مرحلة من مراحل النشاط العقلي، ولو أن هذا النشاط لم يتم في مجال العلم. ففي ذلك الوقت نمت عقيدة التوحيد الأخلاقية بين العبريين، والأفكار الأخلاقية والسياسية في الصين، والمشاكل الميتافيزيقية القصوى في الهند. وأخيرًا، أصبح التفكير بين اليونانيين منهجيًّا، واعيًا نقديًّا، ورُسمت خطوط منهج منظَّم للبحث والبرهان في مختلف فروع المعرفة. وعن طريق الأمة العربية وصل الفكر اليوناني إلى أوروبا الوسطى، وكان تأثير الحضارة العربية على الغرب هو الذي أثار الاهتمام بالعلوم الرياضية من جهة، وبالبحث التجريبي من جهة أخرى. وبهذا قدم العناصر الأساسية التي بنى عليها العلم الحديث فيما بعد.
والصفة المميزة للتفكير العلمي الحديث هي الجمع بين الاستدلال المجرد الدقيق وبين الملاحظة والتجربة اللتين يتحكم فيهما الذهن البشري. ويمكننا أن نرى بواكير هذا الجمع في العلم اليوناني؛ فقد اعترف الباحثون اليوم بأن الملاحظات التي قام بها اليونانيون هي، بالنسبة إلى ما كان في متناول أيديهم من وسائل، ملاحظات دقيقة قيمة. ولقد توصلوا في الفلك إلى الجمع بين الاستدلال الرياضي وبين الملاحظة الدقيقة. ومع ذلك فإن ما اهتدوا إليه في الجانب التجريبي لا يرتقي إلى مرتبة ما ساهما به في ميادين المنطق والرياضيات والأخلاق والميتافيزيقا. والواقع أن نظريتهم عن العلم كانت إلى حد بعيد، نظرية شكلية؛ صيغت على مثال المنطق والرياضة. والعلم في رأيهم لا يبحث إلا فيما هو ضروري كلي؛ وفيما هو نموذجي، لا يتغير. ومهمته هي كشف الأنماط الأساسية، واستخلاص الصفات التي تنتج منها. أما التغير الجزئي؛ فيقع في مجال «الرأي» أو الظن، ولا يمكن أن يُتوصل إليه بالعلم. وعلى ذلك فالعلم القديم كان من الوجهة النظرية سكونيًّا شكليًّا، تصنيفيًّا، لا يتلاءم مع دراسة التنوع والتغير. أما العلم الحديث فكانت أعظم كشوفه راجعة إلى وضع مناهج تمكَّن من كشف النظام والاتصال وسط التغير والتنوع الكيفي. وكان هذا التقدم أعظم ما يكون في العلوم الطبيعية أو المادية، ولكن في العلوم المتعلقة بالحياة والذهن، أحرزت دراسة النظام وسط التنوع تقدمًا ملحوظًا في العصور الحديثة، مسترشدة بفرض التطور وبأداته، وأعني بها المنهج المقارن.
ولقد أكد بعض الثقات أن بين العلم القديم والحديث وحدة أساسية؛ ففي رأيهم أن الفارق بينهما يرجع إلى أنه بينما كان اليونانيون يبحثون عن تصورات كلية، فإن العلم الحديث يبحث عن قوانين كلية. ويرى برجسون Bergson أن هذا لا يعدو أن يكون فارقًا في الدرجة، ما دامت الأفكار هي التصورات العامة للأشياء، والقوانين هي التصورات العامة للتغيرات، غير أن الهدف النهائي في الحالتين هو الوصول إلى ما هو فردي جزئي. وهذا يثير السؤال الهام عن العلاقات بين التقسيمات العقلية وبين التجربة؛ فهل التقسيمات العقلية للعلم قضايا عامة تعبر عن علاقات بين الحقائق سجَّلتها الملاحظة، وتُختبر بمدى قدرتها على تفسير هذه العلاقة، أم أنها تقسيمات متسقة مع ذاتها، يحدث لها أن تتفق مع الحقائق الملاحظة ولكنها لا ترتبط معها بعلاقة ضرورية؟ يقول هبسون E. W. Hobson: «عندما تستخدم النظرية العلمية؛ من أجل وصف مركب من ظواهر طبيعية (أي مادية) لا يكون هناك مبرر لنقل الضرورة المنطقية من النظرية الفكرية إلى الظواهر الحسية.»٩ويبدو أن بين العلماء المحدثين فروقًا هامة في الرأي حول هذا الموضوع. وليست مهمتنا هنا بحث هذه المسألة، ولكن من المهم أن نلاحظ أن العلم كان أنجح ما يكون في صياغة القوانين، عندما تكون هذه القوانين متعلقة بكيانات مجردة بعيدة كل البعد عن التجربة العينية، وأنه كلما اقترب من المجال العيني، كان عليه أن يقنع بالوصف أو التصنيف. فإذا انتقلنا من علم الحياة إلى علم النفس وعلم الاجتماع، تزايدت صعوبة وضع القوانين. وعلى ذلك فالعلوم الذهنية والاجتماعية لا زالت في مرحلة أولية إلى أبعد حد. ويتضافر تخلف العلوم الاجتماعية هذا مع التخصص الهائل الذي حدث في فروع المعرفة الأكثر تقدمًا؛ لكي يجعل الوصول إلى الحقائق الأصلية العامة أمرًا يتزايد صعوبة، تتمثل فيه العقبات الأساسية التي تحول دون استغلال مناهج العلم في إعادة تنظيم الحياة الاجتماعية.
وانظر أيضًا: Ethical Relativity, p. 197.