خاتمة
الآن، وقد فرغنا من عرضنا الموجز للاتجاهات الرئيسية للتطور الاجتماعي والحضاري، يحسن بنا أن نقول في الختام كلمة عن العلاقات بين هذه الاتجاهات. ومن المهم أن نذكر، منذ البداية، أننا حينما نتحدث عن اتجاهات في التطور، لا ينبغي أن نعتقد أنها تحدث حتميًّا، أو آليًّا. فليس في وسعنا أن نشير إلى سلسلة من الأفكار أو النُّظم الاجتماعية، يمكن تتبع نموها خلال تعاقب منتظم للمراحل، يتكرر بذات النظام بين شعوب مختلفة. وأقصى ما يمكننا أن نأمل فيه هو أن نشير إلى حركة في الإنسانية من حيث هي كل تكشف عن اتجاه ثابت معين، رغم ما تدخل فيها من مؤثرات إيجابية وسلبية. وبهذا المعنى، يمكننا أن نقول إن التطور كان أكثر انتظامًا في مجال الفكر، وفيما نجم عن ذلك من سيطرة على الظروف الطبيعية. أما في ميدان الأخلاق أو الفن، فلم يكن هناك مثل هذا الانتظام. وأثر التراث، على ما يبدو، يختلف في هذه المجالات الثلاثة للحياة. ففي حالة المعرفة كما رأينا من قبل، يكون النمو تراكميًّا، ما دامت النتائج يمكن أن تسلم بالفعل من جيل إلى جيل.
وفي التفكير الأخلاقي لا يكون الأمر بهذه السهولة؛ إذ إن الوصول إلى المبادئ الأساسية يبدو هنا متوقفًا، لا على تقدم البناء المنهجي، بل على تجربة أخلاقية أعمق، لا تتكرر بأي نظام مطرد. وفي التجربة الأخلاقية العملية يصعب على كل جيل جديد أن يعمل على المضي قدمًا بالدروس التي تلقاها من السابقين؛ إذ يعوق ذلك ازدياد كثافة الحياة وتعقدها مما يؤدي إلى إثارة مشاكل تتجدد باستمرار، وتقتضي من أجل حلها، لا مجرد مراجعة للمبادئ، بل اكتساب عادات سلوكية جديدة أيضًا. وفي هذا الاكتساب قد يكون التراث معينًا، بل قد يكون عائقًا. ولقد فسر البعض انفصال مراحل تاريخ الفن بأنه راجع إلى أن الفن عملية خلق أكثر منه عملية كشف، وأن كل عمل فني هو بناء على ذلك عمل فريد، وإذا شئنا الدقة قلنا إنه عمل غير قابل للتكرار. وعلى الرغم مما في هذا من مبالغة؛ فإن كل الاحتمالات تدل على أن العناصر المختلفة في الفن ليس لها ما للمعرفة العلمية من ترابط منظَّم، وأن التطور في اتجاه معين لا يؤدى عن طريق المنطق الداخلي لهذه العناصر إلى التطور في الاتجاه الآخر، كما يحدث كثيرًا في العلم.
على أن الفكر ليس عاملًا مستقلًّا، يتحكم في التغيرات الاجتماعية دون أن يتأثر هو ذاته بها. وهو لا يمضي إلى الأمام بقوة منطقية باطنة؛ فقد تكون هناك أمور واضحة بذاتها تظل طويلًا غير معترف بها، ولم يبلغ الأفراد ولا الجماعات من الحساسية لمقتضيات المنطق درجة تجعلهم لا يطيقون أن يتركوا التناقضات دون حل. فنحن إذا عدنا بتأملنا إلى حركة الفكر وجدنا أننا أميل إلى الاعتقاد بأن حل التناقضات هو العامل المحرك لتقدُّم الفكر. أما في الواقع الفعلي فإنا نجد الناس يقبلون التناقضات في كثير من الأحيان، سواء في معتقداتهم وفي سلوكهم الخارجي. ولهذا السبب ليس في وسعنا على الإطلاق أن نؤكد أية حركة خاصة للفكر، أو أن نقول إنه قد تحدَّد تمامًا من الداخل، بعيدًا عن كل علاقة ببقية عوامل الوضع الاجتماعي والنفسي.
غير أن في صياغة المشكلة على هذا النحو نوعًا من البعد عن الحقيقة؛ فالفكر لا يعمل في فراغ، وإنما هو ينشأ داخل ميدان الميل الانفعالي، مستجيبًا لحاجات أساسية. وهو يسير إلى الأمام بقوة الأمل، ويتعثَّر أو يقف نهائيًّا خشية المخاوف. وهو يتأثر بالمادة التي يمارَس عليها، ويتحدد في صورته واتجاهه بواسطة القوى الاجتماعية، وفي تطبيق الفكر على الحياة الاجتماعية، تعوق سيره تلك الصعوبة، وأعني بها أنه لا يستطيع أن يحوز أي تقدم إلا بضبط الانفعال، وفي نفس الوقت يظل معدوم الأثر ما لم يُصبح في وسعه أن يثير الانفعال. والواقع أن هذه الصعوبة ذاتها، في شكل آخر من أشكالها، هي التي تجعل لزامًا على الفكر إن شاء أن يكون مثمرًا، أن يتصف بنوع التنزُّه، وقدرة معينة على الارتفاع فوق مستوى النظرة التي جرى عليها العُرف، على حين أن هذا التنزه ذاته يؤدي إلى نوع من العزلة، تجعل من المستحيل على المفكر في كثير من الأحيان أن يكون له أي تأثير حقيقي على جموع الناس. وعلى ذلك فالفكر في المشاكل الإنسانية؛ إما أن يكون أبعد عن الانفعالات المعتادة من أن يوقظ خيال الناس، وإما أن ينتهي به الأمر، إذا كان حيًّا متحركًا إلى الانهيار عن طريق الانفعال الذي ولده أو الذي عمِل على إثارته.
وسبب آخر أعمق يعلِّل الضعف النسبي للفكر في الأمور الاجتماعية، هو طبيعة عقلية الجماعة. فالحياة الاجتماعية تكون ناتجًا ذهنيًّا، بمعنى أنها تعبِّر عن العلاقات بين الأفراد منظورًا إليهم لا على أنهم مجرد كائنات مادية، بل على أنهم كائنات قادرة على الشعور والرغبة والتفكير. وعلى العكس من ذلك، يمكن أن يُعدَّ التطور الذهني للإنسان هو ذاته عملية اجتماعية؛ فهو في أساسه ليس نتيجة تغيرات في الملكية الفردية، وإنما يتوقف على التعاون وعلى الاستثارة المتبادلة، وعلى تراكم قوة التراث. ومع ذلك فالمجتمع ليس ذهنًا، وإنما هو نسيج من أذهان لا حصر لها، تتصارع تارة وتتعاون تارة أخرى. وقد تصل الجماعات أو المجتمعات المعينة إلى قدر من الوحدة، غير أنها كلما اتسع نطاقها، بدا المستوى الذهني للجماعة، من حيث هي كل، أكثر انخفاضًا. ولا جدال في أن الهدف المرسوم بدقَّة يلعب أحيانًا دوره، وقد تكون قدرته على السيطرة قد ازدادت خلال مجرى التطور الاجتماعي. غير أن هذا الهدف الواضح ليس عامًّا في المجتمعات الكبيرة، وعليه أن يقاوم جمود كتل الناس وعدم اكتراثها. فالجماعات الكبيرة بوجهٍ عام، تعتمد على العادات التي تتكون نتيجة لطريقة المحاولة والخطأ، أو تفرضها السلطة، ثم تكوِّن مضمون التراث الاجتماعي. وبمرور فترات طويلة من الزمان يصبح للجماعات طابع عام، يستجيب لما يقابله من سياسات، استجابة انتقائية مسايرة لهذا الطابع العام، وهذا يؤدي إلى نوع من الثبات في سلوكها. ولكن لا تكون لدى هذه الجماعات إرادة مشتركة بالمعنى الصحيح؛ إذ إن عقلية الجماهير لو استُبعد عنها ذلك النظام الآلي الذي ألفته، لعدت متأرجحة، ساذجة، مفككة، قصيرة النظر؛ فمثل هذه الوحدة التي يتوصل إليها عندئذٍ لا يحتمل أن تكون قائمة على فهمٍ شامل للحاجات الاجتماعية، بل على التجاء إلى العاطفة، وبوجه خاص على كراهية عدو مشترك وهمي أو حقيقي. والمشكلة الأساسية للمجتمعات الحديثة؛ هي كيف نخلق اهتمامًا ثابتًا بالشئون العامة، وإرادة مشتركة فعَّالة لا تعرضها أهواء العاطفة للتخبط؟
إن تاريخ البشرية هو قصة الصراع الذي يزداد احتدامًا بين العناصر العاقلة والعناصر اللاعاقلة في الطبيعة البشرية؛ فالعوامل التي تعمل على الوحدة والتعاون، تمتزج بعوامل أخرى تعمل على بث روح التشاحن والانعزال، وإذكاء مشاعر الخوف والغيرة. وباتساع نطاق هذه العملية، يزداد الصراع احتدامًا بازدياد تعقد الحياة، وتعدد فرص التنافُر. ولقد ظهرت، في الميدان النظري، تلك الفكرة القائلة بأن هذه العملية الهائلة، يمكن، أو ينبغي، أن تنظم أو توجه توجيهًا واعيًا. غير أن فكرة توجيه الإنسانية لنفسها بنفسها هي فكرة حديثة، ولا زالت حتى الآن غامضة إلى أبعد حدٍّ. ويمكننا أن نقول إن استخلاص النتائج النظرية الكاملة لهذه الفكرة، والبحث في إمكانيات تحقيقها، بمعاونة بقية العلوم، هو الغاية القصوى لعلم الاجتماع.