الفصل الأول

الستائر المُسدلة

كانت القرية جميلة. كانت مستقرة في وادٍ صغير وسط تلال داونز، يلفُّها بإحكام وشاح زهري من الحدائق، ثم وشاح أخضر كبير من الحقول. ونمَت في جنباتها، بغزارة، الزنابق والخزامى. وتكتل النحل حول الأعشاب العطرية مثل العناقيد، وكان له طنين كطنين مئاتٍ من عجلات الغزل.

ومع أن الأكواخ المتراصة على جانبي الشارع المرصوف بالأحجار كانت نموذجًا مثاليًّا للطراز المعماري التيودوري، فقد كانت البيوت الكبيرة وسط الخُضرة تعود في معظمها إلى حقبةٍ زمنية أقدم. شذَّ عن هذه القاعدة قصر قديم مُشيَّد على الطراز الإليزابيثي، اسمه «سباوت مانور»، بحسب ورق رسائل الآنسة أسبري المطبوع، لكنه عُرف بين السكان المحليين باسمِه الأصلي «سباوت». كان القصر محلَّ إقامة الآنسة ديسيما أسبري، ملكة القرية، وهي عزباء طاعنة في السن، حسنة المَخبر والمظهر، وتملك دخلًا خاصًّا وفيرًا.

لم تكن رعية الآنسة أسبري حسنة التربية طيِّبة المعشر وساحرة فحسب، بل حباها الله بروح مُحبة للخير، حتى لم يعُدْ هناك فقر ولا بطالة في القرية. ولم تكن سيدات المُجتمع بحاجة إلى الانشغال بمشاكل الخدم، فسارت عجلة الضيافة بانسيابية وسلاسة. ولو نشبت نزاعات عائلية ما ذاع نبؤها على الملأ، فكانت الحيوات الشخصية مَحوطة بستائر أُسدِلت عليها فسترَتها. وهكذا كان طابع القرية الاجتماعي زكيًّا مثل رائحة إكليل الجبل، وندرت الفضائح نُدرة الكبريت الأحمر.

امتازت القرية بموقع مثالي. فتتراءى للناظر من نافذة الطائرة، في ساعات النهار، كنموذج محاكاة، من الجصِّ الأبيض والأسود، لقريةٍ من العصر التيودوري، مُحاط بصندوق زجاجي. أما في الليل، فكانت القرية تبدو على ضوء المصابيح الخافتة مثل سفينة قديمة، هيكلها الخارجي مُغطًّى بقشور البرنقيل ومقدمتها مُزدانة بتمثال حيزومي، ترسو في ميناء منسيٍّ هادئ.

لم يكن يطرُقها زائرون إلا فيما ندر. فلم يكن بها محطة سكة حديدية، ولا سكان مؤقتون، إلى جانب انخفاض معدل المواليد. حتى الموت نفسه كان لا يطرُق أبوابها إلا قليلًا؛ إذ كان السكان الأصليون يمتعِضون من فكرة الموت في مِثل هذا المكان البهيج.

لكن لم يكن ميل السكان المحليين لكل ما هو قديم، الذي ثبَّط عزم ملَك الموت، قويًّا بما يكفي لمنع الزحف المُنتصِر للحافلة ذات المحرك! كانت الحافلة الخضراء الضخمة المُترنحة تُنزل ركابها خارج القرية مباشرة؛ إذ مُنعت من السير داخل شوارعها، ثم تعود أدراجها إلى الطريق المُفضي إلى لندن.

في عصر أحد الأيام في مطلع فصل الصيف، جلبت الحافلة من مدينة لندن روائيةً جذَّابة أنيقة نحيفة، تكتب قصصًا مُثيرة في حلقاتٍ مسلسلة من أجل العيش، لكنها كانت تُشكِّك في قيمتها من حينٍ إلى آخر، عندما تستيقظ أفكارها النائمة في عقلها الباطن. كانت الروائية ترتدي حذاءً فرنسيًّا ذا كعب عالٍ، بدا كأنه انتُزِع نزعًا من أرصفة المدينة، لكنها قدَّمت هذه التضحية من أجل زيارة صديقتها جوان بروك، التي كانت تعمل مرافقة لسيدة من سكان القرية.

استُضيفت الروائية بدعوة من الليدي دارسي، ربة عمل جوان، في منزل «ذا كورت»، وهو مبنًى ضخم مُشيَّد على الطراز الجورجي لونه أصفر فاتح، تُطوِّقه حديقة غنَّاء، ويبعد مسافة ميل تقريبًا عن القرية. وفي أثناء تناولهما الشاي، أحسَّت المرأتان بتمزُّق أواصر الصداقة بينهما؛ إذ دار حديثهما حول أمور عامة فحسب.

راحت كل منهما تعاين الأخرى بنظارة النقد الحيادية. تأمَّلت جوان شفتي صديقتها، اللتين أوحتا لها بأنها لثمت صندوق بريدٍ عموديًّا مدهونًا حديثًا بحرارة، في حين ارتأت الروائية أن جوان شديدة الإهمال في هيئتها. لكن في طريق عودتهما إلى القرية، اندمجتا معًا — دون أن تشعرا — في انسجام، بفعل جمال الحقول بعُشبها المموج، الذي استوى على سوقه، وتشرَّب بشمس المغيب. كان وجه جوان المسفوع بالشمس دليلًا على أنها لم ترتدِ قبعةً أبدًا، لكن الروائية أيضًا خلعت قبعتها الشبكية الصغيرة المصنوعة من النسيج الحريري المَحبوك، دون أن تحسب حسابًا لتسريحة شعرها. وبينما كانت المرأتان تسيران الهوينى وتُدخنان السجائر، دلفتا إلى النفق المظلَّل ﻟ «ممشى كواكرز»، الذي يبعُد نصف ميلٍ عن جادة أشجار الكستناء.

سألت الروائية: «أتُحبين القرية؟»

الْتمعت عينا جوان الزرقاوان قائلة: «أعشقها. أعلم أنكِ تعتقدين أنني مدفونة هنا. لكن هذه الجثة الهامدة تأمُل أن يُمهلها بوق النهاية قليلًا. ما كنتُ سعيدة بهذا القدر من قبل.»

قالت الروائية: «أدعو الرب أن يُديم عليك هذه النعمة … ماذا عن الحياة الاجتماعية؟»

أجابت جوان: «حفلات التنس وحفلات الحدائق لاحقًا. أكبر المنازل هنا هي «ذا هول»، و«تاورز»، و«ذا كورت». منزلنا هو الأخير. ويعيش عمدة القرية في «هول». أما «تاورز»، فيقيم فيه أغنياء القرية لكنهم مسافرون إلى الخارج طوال الوقت.»

سألت الروائية: «وهل هناك أي رجال؟»

أجابت جوان: «هناك اثنان. القسيس والميجور بلير. الميجور هو رجل بمعنى الكلمة ومُرتبط عاطفيًّا بابنة عمدة القرية، فيفيان. فنحن الفتاتان الوحيدتان بالمكان.»

رفعت الروائية حاجبَيها المعقوفَين المصبوغَين.

قالت: «دعيني أُرتِّب ما قلتُه. هناك الفتاة فيفيان والرجل الفحل. وهكذا يتبقَّى أنتِ والقسيس. كيف يبدو؟»

أجابت جوان: «إنه مُثير نوعًا ما. رجل ضخم الجثة، أسود البشرة، ذو صوت جهوري مثل الناقوس. ليتك تسمعينه وهو يصدح ويصيح في قدَّاس الأحد. ومع ذلك أراه نقيًّا وصادقًا.»

سألت الروائية: «هل ستتزوَّجينه؟»

أجفلت جوان بعض الشيء؛ ولذا اضطرَّت إلى تذكير نفسها بصراحتها المعهودة في السابق، التي هي سِمة الحياة المعاصرة.

أجابت: «هذا مُمكن، إذا لم يرحل. لطالما أُجبرت على الخضوع لرؤسائي في العمل، وأريد أن أكون صاحبة القرار على سبيل التغيير. بيرلي، ألا ترينني أرشد السكان إلى فوائد سلق البطاطا بقشرتها وأحثُّهم على تنظيم الأسرة؟»

علَّقت صديقتها: «تناسبكِ كل الأدوار يا بروك. بالمناسبة، كيف تبدو سيدتُكِ ليدي دارسي؟»

ردَّت جوان: «امرأة ضخمة وغامضة، تَهيم على وجهها بلا هدف ولا غاية. كل ما أفعله أنني أحاول دعمَها بشكلٍ أو بآخر. وأحصل في مقابل ذلك على راتبٍ كبير لا يمكنني إنفاقه هنا. لكنه ذو فائدة لعائلتي. فهم يعيشون في ضنكٍ للأسف.»

لم يصطبغ وجه الروائية بأي لونٍ كي يكشف عما يعتلِج في صدرها، لكنها أومأت برأسها تعاطفًا مع الركود الاقتصادي السائد بينما تتفحَّص جوان من خلف عدستها المُفردة. كانت الفتاة طويلة القامة وقوية البِنية، ذات وجهٍ يُعبر عن شخصيتها، وعينَين تشعَّان بنظرة ثقة. كانت ترتدي فستان تنس أبيض بلا أكمام، وأساور فضية حول ذراعَيها البُنِّيتين. ورغم زيادة وزنها، بدت ذات صفاتٍ أصيلة وجاذبية.

سألت جوان: «حسنًا؟ ما حُكمك؟»

أجابت صديقتها: «مُذنبة! تبدين مثل موضة قديمة. لقد كثر لحمك. وصارت شفتاك مُثيرتَين. و… أشعر بالغيرة الشديدة منكِ يا عزيزتي.»

قالت جوان: «لا أريد مقايضة وظيفتي معك قطعًا.» وضحكت بسعادة. ثم أضافت: «هذا المكان رائع حقًّا يا بيرلي. فجميع السكان ذوو حسَب ونسَب ودخلٍ خاص. وكلهم طيبون. كما أنهم متزوِّجون يا عزيزتي.»

عقَّبت الروائية: «فهمتُك. لا حُب ولا بكاء! ما أجملها من صورة!» خرجت السيدتان من ظلام الجادة، فأبصرتا القرية بأكواخها العتيقة وحدائقها الزاخرة بالأزهار وقد اصطبغت جميعًا بلون المَغيب القرنفلي. وكلما تقدمتا خطوةً واحدة، بدتا كأنهما تقلبان صفحة جديدة من حكاية خيالية، تختلط فيها حوافها المُزخرفة بالسياج العشبي المقلَّم، وأعشاب الميرمية، وأشجار الخوخ الدمشقي، وخلايا النحل، بالإضافة إلى غطاءٍ مُتنوع من زهور الفاوانيا والقرنفل والثالوث. كان الفتيان والفتيات المُرفَّهون يقفزون في الشارع، فيما ازدادت القطط غرابةً وهي تنتظر بشائر الظلام. فعن قريبٍ ستبدأ حياتها الحقيقية.

أسلمت الروائية نفسها للأجواء الساحرة، لكنها لوت شفتَيها في امتعاضٍ عندما رأت دلائل بقاء النظام الإقطاعي؛ إذ أظهر جميع الأطفال احترامَهم للطبقة «الراقية».

أطالت السيدتان البقاء على الخُضرة، وفي تلك الأثناء أشارت جوان إلى منزلٍ متين من الجبس الأصفر الفاتح مُزين ببرج ساعة.

قالت جوان: «هذا منزل «ذا كلوك». يعيش الزوجان سكودامور هناك. آمُل أن نُقابلهما لأنهما فريدان من نوعهما. إنهما في غاية اللطف وينعمان بزواجٍ سعيد جدًّا. أناديهما ﺑ «روح القرية». عندما تقابلينهما ستجدينهما مثالًا لطابع القرية.»

حبست الروائية امتعاضَها، في حين واصلت جوان تعديد محاسن القرية. أشارت جوان بسيجارتها نحو منزلٍ حجري رمادي، في ظهره الكنيسة النورماندية.

تكلَّفت جوان نبرة جرأة وقالت: «هذا بيت القسيس. بيتي المُستقبلي. وخلفنا مباشرة منزل الطبيب، لكن الأسوار تُخفيه. وقد بُني على طراز الملكة آن، وله سِحره الخاص. يلعب الطبيب وزوجته التنس دائمًا بعد تناول العشاء. يُمكنكِ سماع صوتهما.»

وفيما وقفتا ترهفان السمع، اختلطت الخبطات المكتومة خلف الطوب الأحمر الوردي بضحكات الأطفال الخافتة، ونعيق غربان القيظ في أشجار الدردار. وفجأة خرَّت الروائية ساجدةً أمام سِحر القرية الطاغي.

هتفت الروائية: «إنها رائعة. أتساءل إن كان يُمكنني استئجار كوخ لقضاء الصيف.»

ردَّت جوان: «لو فعلتِ فلن تعودي إلى لندن بعد ذلك أبدًا. فلا أحد يطيق مغادرتها ولو لقضاء العطلات. انظري. ها هما الزوجان سكودامور.»

وارت جوان سيجارتها خلف ظهرها في خجل، بينما يتقدَّم نحوهما زوجان في منتصف العمر عبر الشارع المرصوف، يتأبط أحدهما ذراع الآخر. كان الرجل حليق الوجه، بارز الشفتَين، جاد الملامح بما يوحي أنه محامٍ من الطبقة الأرستقراطية بالمقاطعة، وكان لدَيه أنف توارثتها عائلته قرونًا.

كانت زوجته أيضًا طويلة القامة، ذات جمال شائخ وأناقة. كان شعرها الأشقر الكثيف يغزوه الشيب سريعًا، وثيابها المرفَّلة ذات لون أخضر رمادي تحار العبارة في وصفه، مثل نهر تكوَّن من جليد ذائب.

حيَّت السيدة سكودامور مرافقة الليدي دارسي بانحناءة وقورة، لكنها لم تلتفت إلى صديقتها ولو بنظرة واحدة.

غمغمت الروائية بعد رحيل عائلة سكودامور: «لم تُحبني حقًّا. هل أبدو امرأة ساقطة في نظرها؟ أخبريها أنني امرأة مُهذبة وإن كنت مُزدانة بمساحيق التجميل.»

هتفت جوان بمرح: «إنها امرأة طيبة جدًّا يا عزيزتي، ولن تُخاطر بكراهيتك. ولهذا السبب تجنَّبَت النظر إليك. إنها مُتسلطة نوعًا ما، لكنها مسيحية بحق … صدقيني يا بيرلي.»

وحين سكتت جوان وتفحَّصت صديقتها، هيَّأت الروائية نفسها لمواجهة السؤال الحتمي.

سألت جوان: «ألا يُمكنك كتابة قصة عن هذه القرية؟»

أجابت الروائية بنبرة لاذعة: «توقَّعتُ أن تقولي ذلك. ولكن ما الشيء المُثير في هذه القرية أيتها المرأة الطيبة؟ لقد سبقَتْني جين أوستن عندما كتبت عن بلدة كرانفورد. الحقيقة، يا فتاتي، أنه لولا الوقوع في الخطيئة، ما وُجِد الناشرون ولا مكتبات الإعارة.»

أصرَّت جوان: «ولكن لا بد أن تكون هناك قصة في كلِّ مكان.»

«لا أرى ذلك هنا.»

قالت جوان: «هيَّا يا بيرلي، فلتُجرِّبي. أريد أن أتسلَّى.»

ضمَّت الروائية شفتَيها المصبوغتَين في ابتسامةٍ غامضة.

قالت في إذعان: «حسنًا. لكن سأسلُك في ذلك مسلكي الخاص. سأكتب شيئًا على هذه الشاكلة. تبدو هذه القرية مثل جنة على الأرض، بسكانها الطيبين الكرماء. لكنها مثل الزهور النامية في الوحل. فعندما يحلُّ المساء، يُشعل السكان المصابيح ويسدلون ستائر منازلهم. وعندما يتوارَون عن الأنظار، تظهر حقيقتُهم.»

حثَّتها جوان قائلة: «هلا تُعطينني مثالًا؟»

أجابت: «لنبدأ بالزوجَين الوقورَين اللذَين استهجنا شفتيَّ، ونقول إنهما ليسا زوجَين في الحقيقة بل زانيَين.»

هتفت جوان: «أيتها الحمقاء المُضحكة! أخبريني بقصة حياتهما المزدوجة.»

ردَّت الروائية: «لا، يجِب أن أرسم الخطوط العريضة للقصة أولًا، وأجمع الشخصيات … هممم. يختفي بيت القسيس خلف أشجار الطقسوس الساترة؛ لذا فهو ليس بحاجةٍ إلى انتظار الظلام ليعيش حياته الأخرى. أتخيَّل، أنه في اللحظة الحالية، يُقيم حفل شرابٍ بثياب النوم مع بعض النساء الفاتنات من البلدة. وبالنسبة إلى طبيبك العزيز، فإنه يُسمِّم زوجته شيئًا فشيئًا، ويستغل ممارسة التنس لتحقيق مأربه. فعندما ينتهيان من اللعب، تكون زوجته عطشى، وحينها سيحرص زوجها الوفي على حصولها على المشروب المناسب. سيُعطيها مشروبًا آمنًا ومؤلمًا جدًّا.»

لوت جوان وجهها وقالت: «عندما أصير زوجة القسيس، سأحظر رواياتك من مكتبة قريتنا.»

مرة أخرى، وجدت جوان نفسها تتحدَّث بلا رويَّةٍ عن خُططها المستقبلية بشأن القسيس، وهي جرأة نابعة من شعور غامض داخلها بأنها بذلك تحمي نفسها من تلك التُّهمة التي لا تُغتفَر، وهي الانسياق وراء العاطفة. أشعلت جوان سيجارةً أخرى وهي تتمشَّى خلف صديقتها، التي كانت تسترق النظر عبر الزخارف الحلزونية الحديدية المُفرَّغة في بوابات قصر «سباوت».

على مرمى البصر، وسط نباتات الغار، رأت الروائية امرأة عابسة بيضاء الشعر تقعد على دكة، بجوار غدير تحفُّه الزنابق. كانت يداها مُتشابكتَين، وعيناها شاخصتَين، كأنها غارقة في التأمل. جلست المرأة في مكانها جامدة، حتى لكأن طيَّات ردائها الأبيض منحوتة من الرخام، بما يوحي بأنها قديسة معبودة.

لكن ما إن عدَّلت الروائية عدستها المنفردة، حتى دبَّت الحياة في ذلك التمثال بلمسةٍ من الإنسانية الدافئة. في الزقاق المُحاط بأشجار الطقسوس، تقدَّمت امرأة بدينة الجسم قصيرة بخطوات بطيئة، وهي تحمِل كوبًا من اللبن على صينية. ربَّتت السيدة الطويلة على كتفَيها في امتنان، ثم شربت اللبن دفعةً واحدة، كأنها تُطيع نواميس التغذية، بينما تضرب بقوانين الهضم عُرض الحائط.

عندما سارت المرأة صوب المنزل، تتبعها مُرافقتها، كان فارق الطول بينهما واضحًا؛ لأنها كانت أطول من المعتاد وموظفتها أقصر من المعتاد.

همست جوان: «هذه الآنسة أسبري ومرافقتها الآنسة ماك. إنها قديسة تمشي على الأرض، وهي في غاية الكمال حتى لكأنها ليست بشرًا. تُحبها الآنسة ماك إلى حدِّ الوله، وتركض خلفها مثل كلب صغير.»

أعلنت الروائية: «سأضمُّها إلى روايتي المُسلسلة إذن. اسمعي. الآنسة أسبري، تلك القديسة النقية، ما هي إلا امرأة سادية مُتخفِّية. ما إن تُسدَل الستائر حتى تبدأ في تعذيب مرافقتها المسكينة.»

سألت جوان بقسوة: «ألا يُمكنك الكفُّ عن الحماقة؟»

ردَّت الروائية: «ألم تطلُبي مني هذه القصة؟ سأضع الخطوط العريضة للحبكة بينما ننتظر الحافلة.»

أنصتت جوان ساهمةً إلى قصة صديقتها المثيرة، التي كانت تفيض بأحداث ميلودرامية، بينما اتكأت على العوارض البيضاء التي تُحيط بالغطاء العشبي الأخضر للقرية. وبينما كانت تضحك على سخافة القصة، شعرت بالنفور منها في عقلِها الباطن من شدة فُحشها.

تساءلت جوان في نفسها: «ما خطبي؟ إن بيرلي مُضحكة جدًّا. وما تقوله مزاح لا أكثر. لكنه … مزاح رخيص.»

وتنفَّست الصعداء عندما تملَّك التعب من صاحبتها وتفقدت ساعة جيبها.

وقالت: «من الأفضل أن نتحرك الآن. مع أنني لا أُطيق فراق هذا المكان.»

كان العشب ناعمًا ولامعًا وانسيابيًّا مثل الحرير، تتخلَّله أعمدة من أشعة شمس المغيب، في حين تمايلت الأكواخ وسط غيمٍ بنفسجي اللون. كان الشفق يتزايد حاجبًا رؤية الشارع بينما كانت السيدتان تسيران في اتجاه النُّزل، لكن لم يكُن هناك مصابيح في القرية. كان سكان القرية يجلسون عند النوافذ المفتوحة أو يتسكَّعون عند البوابات، يتبادلون التحيَّات أو النمائم مع المارة. بدا كأن الجميع يتشاركون الشعور العام بالألفة والمودة الذي يسود هذه الفترة الفاصلة بين النهار والليل.

وأوشكت لحظة الانسحاب.

سرعان ما توقفت الروائية مأسورةً بمنظر مبنًى مُظلم، منخفض الارتفاع، مُشيَّد من الجص والشرائح الخشبية، وتحيط به حديقة مُمهدة.

قالت: «يا إلهي، أشم رائحة عفونة من مكاني. أعتقد أن هذا أقدم منزلٍ في القرية.»

ابتهجت جوان قائلة: «كنتُ أعلم أنكِ ستقعين في هذا الخطأ. كل السائحين يقعون فيه على أي حال. لقد شُيِّد هذا المنزل ليبدو مثل المنازل القديمة، فاستُخدِمت فيه أجزاء من حظائر قديمة، ويحتوي على مختلف وسائل الراحة الحديثة. أنا أُحبه، لكن سكان القرية لا يُحبونه؛ لا سيما أن مالكته وافدة جديدة على القرية. فقد مضى على وجودها في القرية إحدى عشرة سنة فحسب.»

تنهَّدت الروائية وسألت: «مَن هي سعيدة الحظ؟»

أجابت جوان: «روائيتنا المحلية، الآنسة جوليا كورنر.»

سرعان ما أبدت الروائية ذلك الجهل التلقائي بأقرانها من أهل المهنة.

«لم أسمع بها من قبل. ما الاسم المُستعار الذي تستخدِمه؟»

أجابت جوان: «تستخدم اسمها الحقيقي، وتُبلي بلاءً حسنًا أيضًا. إنها عجوز ضخمة محبوبة، لكنَّ لديها حسًّا فكاهيًّا سوداويًّا تمامًا.»

قالت الروائية: «همم.» تذكَّرت الروائية شقتها الصغيرة التي تقع في بنايةٍ سكنية. قالت: «من الواضح أنها تجني أموالًا كثيرة. هل لدَيها عمل خاص؟»

ردَّت جوان: «أجل، إنها رئيسة جمعية «الاعتدال» المحلية للإقلاع عن الكحوليات، وتجعل الأطفال يوقِّعون على «التعهد».»

قالت الروائية: «إذن سأنتقِم منها لحصولها على منزلٍ أفضل مني وسأضمُّها إلى روايتي المسلسلة. إنها تُعاقر الكحوليات سرًّا، وتُخبِّئ زجاجة ويسكي في خزانة ملابسها. وهي، في اللحظة الراهنة، تستلقي تحت فراشها في ثمالةٍ تامَّة.»

آنذاك، فُتح باب البيت المصنوع من خشب البلوط الذي ابيضَّ لونه بفِعل الزمن، وحَجب مدخلَه جسد ضخم، لوَّح بإبريق الشاي ترحيبًا بالسيدتَين.

صاحت المرأة: «تفضَّلا كوبًا من الشاي.»

ردَّت جوان: «معذرة، لكننا ننتظِر الحافلة.»

على الفور، تهادت الآنسة كورنر في المَمشى المُبلَّط، حتى وصلت إلى بوابة الحديقة، بسرعة خادعة غير مُتوقَّعة من امرأة كالفيل في الحجم. رأت الروائية القادمة من لندن وجهًا ضخمًا متوردًا، يشعُّ دماثة وطيبة، وشعرًا أشيبَ ذا قَصَّة قصيرة، وعينَين متلألئتَين من خلف نظارة ضخمة ذات إطارٍ قرني من البلاستيك السميك. ارتدت الآنسة كورنر بلوزةً طفولية عليها رسمة كاريكاتيرية لباستر براون، مزدانة بياقةٍ عريضة وفيونكة شريطية، وتنُّورة رمادية اللون من قماش التويد.

صرحت المرأة بزهو: «أكتب قصة قصيرة لإصدار عيد الميلاد المجيد لمجلة «بويز أنيوال». لقد كُلفت بهذه المُهمة بالطبع. فلديَّ اهتمام عام بالفتيان. لِمَ لا تدخُلين وتتعرَّفين على شريكي الكابتن كتِل؟»

ضحكت ملء فِيها على الدُّعابة التي ألقتْها، لكن كان مصدر تسليتِها شفتي المرأة الغريبة المصبوغتَين وعدستها المفردة.

عندما قدَّمت جوان إليها صديقتها، مدَّت يدَها الكبيرة في ترحاب.

سألت: «كاتبة زميلة؟ ما الاسم المُستعار الذي تستخدِمينه في الكتابة؟»

قالت جوان في عجالة: «آسفة، لكن لا يُمكننا التوقُّف.»

علَّقت الآنسة كورنر: «وا أسفاه. كنت أُحب مناقشة مسائل المِهنة معكِ. هل تسمحين للشخصيات بأن تُسيطر عليكِ، أو تَخرجين للبحث عن قصة مثيرة؟»

ردَّت جوان: «لقد وجدَتْ قصة في هذه القرية بالفعل.»

قالت الآنسة كورنر بابتسامة عريضة: «ستكتُبها لمجلة الأبريشية إذن حسبما أظن. بما أنكِ تُصرِّين على الرحيل، فليس أمامي سوى العودة إلى الفتيان. أرسلي حُبي لفتاي المُفضَّل إيروس.»

سمعت السيدتان دويَّ قهقهتها من خلف سياج الورد البري العطري، وهما تهمَّان بالرحيل.

سألت جوان: «كيف تَرينها؟»

لم تُجِبْها الروائية؛ إذ اجتاحتها موجة عارمة من الحنين على حين غرة. حينذاك، بدت لها لندن بعيدةً جدًّا، أو مكانًا لن تعود إليه أبدًا. شعرت كأنها صارت حبيسة القرية التي لم تعُد واحةَ غروبٍ جميلة، وإنما بُقعة منسية مسحورة من الهمسات والأصداء والقصص القديمة المبتذلة التي تُحكى عند الغروب.

سألت بتعب: «هل اقتربنا من النزل؟»

أجابت جوان: «بلي. لقد وصلنا تقريبًا.»

قالت: «جيد. أرغب في احتساء كأسٍ من كوكتيل الجِن.»

كان نزل «كينج هيد» مبنًى طويلًا مُنخفضًا عتيقًا، يعلو مدخله لوحة بالزيت باهتة لقلادة أحد الملوك الراحِلين. كان هناك ضوء خافت ينبعث من مصباح من الحديد المشغول متدلٍّ من السقف، انعكس وميضُه الخافت المُتقطع على الجدران الجصية المُقشَّرة والنوافذ الشبكية الصغيرة. ارتمت الروائية على كنبةٍ قديمة مرتفعة الظهر ذات مِسندَين، وحملقت في البلدة المُمتدة أمامها في ظلام وسكون.

سألت جوان بودٍّ مَشُوب بكرم الضيافة: «ألم تريدي تناول كأس من الخمر؟»

ردَّت الروائية: «لا. فقدتُ الشغف.»

جلست الصديقتان في صمتٍ سرعان ما كسرته الروائية.

سألت: «هل حاول أحد مغادرة القرية من قبل؟»

ردَّت جوان: «لا أحد يُريد مغادرة القرية. لدى الآنسة أسبري خادمة، اسمُها أدا، وهي أجمل فتاة رأتها عيناي. عندما تَرينها تُفكرين أنها ربما ترغب في العمل على المسرح أو في السينما، لكن طموحها الوحيد هو أن تصير خادمة استقبالٍ للآنسة أسبري. سيتطلَّب الأمر طنًّا من الديناميت لنقلِها إلى هوليوود.»

لم تعلِّق الكاتبة؛ إذ بدا عقلها في حالةٍ من الجمود لا يقوى على التفكير بأي شيء.

وفجأة حدثت المعجزة. ظهرت شرارتان ذهبيتان على مرمى البصر، وشقَّ ظلام الليل صوت طنين. حين نظرت السيدتان، سطعت الإضاءة واتَّسعت أكثر وأكثر، قبل أن تختفي في مُنحدرٍ وسط التضاريس. لكن الطنين استحال إلى زئير، وعند منعطف الطريق ترنَّحت حافلة خضراء ضخمة، بنوافذ لامعة واسم سحري «لندن» يتلألأ فوق هيكلها بحروفٍ برَّاقة.

بدت الحافلة شاذةً وسط تلك الطبيعة المهجورة، حتى بدت أنها غير حقيقية، مثل مشهدٍ تخيُّلي من العصر الميكانيكي في المُستقبل يُعرَض أمام شخصٍ حالم في الماضي لا يكاد يُصدق ما يراه.

قفز قلب الروائية عند رؤية الحافلة احتفاءً وترحيبًا. «لندن». ذكَّرتها الكلمة بأنها ستعود مجددًا إلى الوسخ والصخب، إلى الأرصفة وأضواء المدينة. وفي غمرة فرحتها انساقت مع موجةٍ من الحماسة الزائفة.

هتفت: «لقد أحببتُ كل دقيقة أمضيتُها هنا. حمدًا لله أنني سأعود إلى لندن وإلا أسرَتْني هذه القرية أيضًا.»

ردَّدت جوان متسائلة: «أيضًا؟ ماذا تعنين بذلك؟»

نظرت الكاتبة إلى صديقتها، وأدركت فجأة سبب التغيير الذي طرأ عليها.

قالت بنبرة اتهامية: «أنتِ واقعة في الحُب يا بروكي. لا يمكن أن تسرق القرية قلبك؛ لأن رجلًا سبقها إلى ذلك. إلى اللقاء. لا تنسَي إخباري بما ستئول إليه قصتي المسلسلة.»

وَعَدَتْها جوان قائلة: «لن أنسى. من المؤسِف أنكِ عائدة إلى لندن.»

«من المؤسف جدًّا.»

أدركت جوان بتأنيب ضمير ذلك الشعور بالراحة الذي غمرَها بينما كانت تُشاهد صديقتها وهي تصعد الحافلة بخطوات سريعة. أما الروائية فقد غاصت في مقعدها في امتنان، ولوَّحَت بيدِها لصديقتها مودِّعة. كانت تترك الطمأنينة والجمال خلفها، لكنها تركتهما غير آسفة. وفيما بدأت القرية المُظلمة تمر أمام النافذة رويدًا رويدًا، راقبتها الروائية وهي تُحلق خلفها بابتسامة على شفتَيها.

ستعود إلى لندن.

وقفت جوان أمام النزل، تشاهد الحافلة، حتى توارت عن الأنظار. بدأ الغبار يهبط شيئًا فشيئًا ويمتزج بالتربة الأم. وراحت أبخرة الوقود ترتفع رويدًا رويدًا حتى تبدَّدت في الهواء المُحيط. وعجَّل المحرك بزئيره الخافت الخُطى إلى أقاصي الأرض.

حدثت جوان نفسها، وهي تتسلَّى بإشعال سيجارة أخرى: «أنا سعيدة برحيل بيرلي.»

وفيما سارت الهُوينى في شوارع القرية، كان القمر قد ارتفع في كبد السماء مُلقيًا بأشعته الفضية على المباني التيودورية القديمة، فاستحال لونُها إلى لون الأبنوس والعاج. كان الجميع قد دخلوا إلى منازلهم، والمصابيح أُضيئت والستائر أُسدِلت. ومن جديد عادت السفينة القديمة إلى مرساها في ميناء الماضي الراكد.

ذكَّرت النوافذ المحجوبة جوان برواية صديقتها المُسلسلة، فلوت شفتَيها في سخرية. كانت تعلم جيدًا ما يدور بين جنبات كل منزلٍ من المنازل المُضاءة، وما يفعله أصحابها في المساء. كانت الآنسة كورنر مُنشغلة بكتابة ملحمتها الرائعة عن فوز أصغر فتًى في المدرسة في سباق الميل. وكان الطبيب وزوجته مُنشغِلَين بالقراءة؛ لأنهما مُشتركان في مكتبة لندن. وفي هذا المنزل الكبير يستمعون إلى موسيقى كلاسيكية تُبَث على الهواء مباشرة؛ وفي ذاك المنزل الصغير يشربون الكاكاو ويلعبون سوليتير.

في كل مكانٍ كانت هناك دراما محلية تُعرض على مسرح الليل الساكن. هناك، جلس الخدم السعداء في المطابخ المريحة؛ ونامت القطط والكلاب الشَّبعى على البُسُط؛ وأحصت الساعات الجدارية انقضاء الساعات الهادئة.

لم يقع ما يدلُّ على أن الميلودراما الخيالية التي حبكتها صديقتها حقيقية — ولو حادثة واحدة من الخوف والبؤس — أو يكشف ما كان يجري حقًّا خلف الستائر المُسدَلة. وحدها الجدران هي ما كانت تسمع ما يحدُث واحتفظت بما سمِعته سرًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥