الخطاب الثاني
كان اليوم التالي ملبدًا بالغيوم وحارًّا ورطبًا، مع أصوات قرقعة وهدير لعاصفة رعدية بعيدة توشك على الهبوب. كان يبدو أن الطقس قد أثَّر على مزاج الطبيب بيري؛ إذ كان صامتًا ومشغولَ البال، في أثناء تناول العشاء. وبعد قليل، تحدث إلى زوجته، التي كانت تتناول ملفوفًا وجزرًا نيئَين.
قال الطبيب: «ستمرضين يا ماري آن.»
ردَّت ماريان: «تتحدث مثل الأطباء. أفكاركم رجعية بشأن الطعام. الخضراوات غير المطهية رائعة للبشرة.»
عقب الطبيب: «هذا إن كانت معدتكِ تقدِر على هضمها. لكنك لستِ نعامة.»
قالت ماريان بنبرةٍ ذات مغزًى: «بالطبع لا. فأنا لا أتهرَّب من رؤية الحقيقة.»
رفع الطبيب بيري وجهه الشاحب عن الصحن.
وقال: «على ذكر ذلك، هل رأيتِ الآنسة كورنر اليوم؟»
أجابت: «أجل … بعد الظهيرة … بالقُرب من نزل «كينج هيد» … كانت مترجِّلة لتوِّها من الحافلة.»
أخذ الطبيب ينقر على غطاء المائدة بأصبعه.
قال: «كنتُ قلقًا بشأنها. خشيتُ أن تُنهك نفسها بالركض إلى بلدة شلتنهام في النهار، ولديها رحلة طويلة ومبيت ليلة في القطار. إنها تبحث عن المتاعب. لكنها عنيدة مثل الثور. بالإضافة إلى أنها لم تنَمْ هذا الأسبوع تقريبًا.»
سألت ماريان: «كيف عرفت ذلك؟»
أجاب الدكتور: «من مصابيح منزلها. ليتني أستطيع إقناعها بتناول منوِّم الليلة.»
هبَّت ماريان واقفةً متلهِّفة للتخلُّص من طاقتها العصبية.
سألت: «الدواء المعتاد؟ سأعدُّ واحدًا على سبيل الاحتياط. سيجهز عندما تجهز.»
تأمل الطبيب بيري وعاء زهور الثالوث العائمة بحاجبَين مقطِّبَين، وقال: «لا. سأعدُّه بنفسي. لا أعلم على وجه التحديد المادة التي سيستجيب لها جسدُها، كما أنني أريدها أن تأتي بالتأثير المطلوب.»
في وقتٍ متأخر من الليل، حين كانت ماريان في غرفة الأطفال غارقةً في نشوة حُبها المُفرط لصغيرَيها، خرج الطبيب من الصيدلية وفي يده قنينة زرقاء داكنة صغيرة. وبينما كان يقطع ساحة القرية، كان الظلام يزحف على القرية رويدًا رويدًا؛ ولم يتبقَّ من لوحة الغروب المُذهلة سوى خطٍّ أحمر يسفع السماء. وكانت عائلة سكودامور قد عادت إلى منزل «ذا كلوك»، وبات الشارع مقفرًا مهجورًا.
دوَّت في الأفق البعيد طَرقة ساعي البريد المزدوجة الخافتة. كانت الآنسة كورنر تتَّكئ على بوابة حديقتها. وكانت ترتدي معطفًا من قماش الدَّريل، وتفوح منها رائحة التربة الحمراء الخصبة التي كانت آثارها تُلطخ ثيابها.
صاحت الآنسة: «حسنًا يا هوريشيو. لا أزال أحاول التخلُّص من آثار حفلك.»
قال الطبيب بنبرة لوم: «كان من المُفترض أن تلتزمي الراحة.»
قالت: «كنتُ أعرف أنه أنتَ. عتابُكَ كشفَ هويتك. لقد كسرت نظارتي للتو، لكن لا جدوى من ارتداء فراء زوجتك والتظاهر بأنك عيسو. فصوتك صوتُ هوريشيو بيري.»
سأل الطبيب بنبرة مُشفقة: «هل كُسِرت نظارتكِ؟ لكن لديك واحدة أخرى بالتأكيد، أليس كذلك؟»
أجابت: «تركتُها في محل النظارات عندما كنتُ في شلتنهام في الصباح. لكن اتصلتُ بهم هاتفيًّا، وتعهدوا بإرسالها في أقرب وقتٍ مُمكن، مع عامل توصيل خاص، قبل أن أنطلق في رحلتي. ليباركهم الرب … وأنت أيضًا يا صديقي.»
مدَّ الطبيب يده بزجاجةٍ صغيرة، وقال بنبرة إقناعية: «سأقبل دعاءكِ إن أخذتِ شيئًا منِّي في المقابل. أعلم أنكِ تكرهين الأدوية، لكن أريدكِ أن تتناولي هذا المُنوِّم تحديدًا الليلة.»
عقَّبت الآنسة كورنر بعبوس: «أدوية قذِرة. أُفضِّل تجربة العلاج بالقبعة لآلام الأسنان على هذا المنوم. أتعرفه؟ تذهب إلى الفراش ومعك قُبعة وزجاجة ويسكي. تُعلِّق القبعة على مقبض فراشك وتشرع في شُرب الويسكي. عندما ترى القبعة ثلاثًا، فقد شُفِيَت آلام أسنانك.»
أنصت الطبيب إلى الدعابة المشهورة في أناةٍ، وتظاهر بالانضمام إليها في الضحك قدْر الإمكان. لكنه عاد إلى الموضوع.
قال: «البستنة مع لعب التنس، بالأمس، مُرهق جدًّا لمريض الضغط المُرتفع. أنا قلق عليكِ يا جوليا. أُحدثك كصديق. وأريدك أن تُنصتي لي مرة واحدة على سبيل التغيير. استعيني بالنوم الكافي على الغد. عِدِيني أنكِ ستأخُذين المنوم.»
قالت الآنسة كورنر: «حسنًا، ناوِلني الزجاجة. أهو السُّمُّ المعتاد؟»
أجاب الطبيب: «لا. أكثر قوة؛ لذا انتبهي للجرعات. أتأذنين لي بالدخول وسكب الجرعة المضبوطة؟»
قالت: «لا. لا يزال لديَّ يدان. ولديَّ عينان أيضًا. ربما أكون عمياءَ مثل الخفاش، لكني رأيتُ كل ما كان يجب رؤيته بالأمس … إن كان النقد في محلِّه فسأقبله طالما كان بنَّاءً.»
وضحكت ضحكةً عالية، لكن وجهها تحول إلى اللون القرمزي، فبدا القلق واضحًا على ملامح الطبيب.
وألح قائلًا: «لا تدعي هذه المسألة السخيفة تحرمك من النوم الليلة.»
وعدَت الآنسة كورنر قائلة: «لن يحدُث وأتعهَّد لك بذلك يا هوريشيو. بصراحة، إن الأمر لا يُهمني في شيء. أنا لا أجني شيئًا من الناس هنا. عقولهم جامدة مثل الخردل المُجفَّف … ألديك خطابات لي يا ساعي البريد؟»
توقفَت عن الكلام بغتة، لتبتسِم لساعي البريد البدين الضئيل، الذي كان قد وصل عند البوابة لتوِّه.
أجاب ساعي البريد: «أجل، خطاب واحد، يا سيدتي.»
ألقت الآنسة كورنر نظرةً سريعة على الظرف ثم رفعت حاجبَيها الكثَّين.
قالت: «العنوان مطبوع. لا بدَّ أنه خطاب من أحد المُعجبين اليافعين. أُحب فتياني الصغار حقًّا … أتسمح لي؟»
رغم هذا التوضيح، لمعت عينا الطبيب بيري خلف نظارته، وراح يُراقب الآنسة كورنر وهي تفحص الخطاب. بعد ذلك، زمَّت شفتَيها، وتغضن وجهها المرح، واهتز جسمها في نوبة من الضحك.
شهقت قائلة: «حسنًا. حسنًا. هذا خطاب مجهول، يتَّهمني بشُرب الخمر سرًّا. أنا، أحد أعمدة حركة الامتناع عن شُرب الخمر، أحتفظ بزجاجة ويسكي في خزانة ملابسي … يا إلهي، يا إلهي … انظر، اقرأه بنفسك.»
ولأن الآنسة كورنر أخبرته بفحوى الخطاب، شعر الطبيب أن اعتراضه غير ضروري. وأحس بقليل من نشوة الانتصار عندما خطر القسيس ببالِه. لقد حظي هذه المرة بثقة سيدةٍ.
لاحظ الطبيب أن الخطاب الموجز مكتوب بأحرُف رومانية كبيرة، على ورقٍ من نوعية جيدة. واحتوى على كلمة «متناقص»، وكانت مكتوبة بلُغة سليمة.
سألها: «أمِن المُفترض أن أتعامل مع هذا الخطاب بجدية؟ إنه في غاية السُّخف حقًّا. لا شك أنه مزحة.»
وافقته الآنسة كورنر: «هذا بديهي. لا بد أن مُرسِله هو المُعجب السري للآنسة أسبري. لقد حذَّرتني جوان بروك أنني سأكون الضحية القادمة على الأرجح.»
لاح الفضول في صوت الطبيب: «أقالت ذلك حقًّا؟ إنها شابة ذكية … حسنًا، ماذا ستفعلين به؟»
قالت: «أهناك أفضل من الاقتداء بالآنسة أسبري؟ سأحرقه.»
سأل: «لكن … أترين ذلك تصرُّفًا حكيمًا؟»
أجابت: «ولِمَ لا؟ الحالتان مُتطابقتان. لم يُلحِق الخطاب أدنى ضررٍ بالآنسة أسبري؛ لأنه اتَّهمها بالشيء الذي لا يمكن أن يُصدقه أحد لا في الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل. وهذا الخطاب مثله.»
بدا الارتياب على وجه الطبيب بيري؛ إذ تذكَّر التعاطُف الذي غُمرت به الضحية الأولى، وقارنه بشعبية الآنسة كورنر المُتدنية الحالية.
سأل: «إذن … تريدين منِّي التكتُّم على الأمر؟»
قالت: «الآنسة أسبري فعلتْ ذلك. يبدو أن هذه أكثر طريقة فعالة لنشر الخطاب على نطاق واسع.»
قال الطبيب: «بالضبط. لن أُخبر أحدًا. لكن … أيمكنني إخبار زوجتي؟»
أجابت: «يمكنك ذلك يا دكتور. نبِّهها أن تُبقي الأمر سرًّا فحسب.»
وعلا صوت الآنسة كورنر بالضحك. وبعد أن ودَّعت الطبيب، ظلَّت كتفاها العريضتان تهتزان، واهتز جسدُها طربًا، في أثناء عودتها إلى الطريق المبلَّط. وعند عتبة بابها، التفتت لتلوِّح للطبيب بيدِها، وطاف صوتها في سكون الليل.
قالت: «اضحك، أيها المُهرج، اضحك.»
أخبر الطبيب بيري زوجته بمسألة الخطاب المجهول، فشعرت بالإثارة من هذه المُستجدَّات المشوِّقة. ولأنها أسرع إلى الشفقة، وأمْيَل إلى الرقة والسماحة، مع اندفاعٍ حارق في القول والفعل، ساورها الندم على شكوكها السابقة، وودَّت لو تُكفِّر عن ذنبها في التوِّ واللحظة.
قالت ماريان وهي تقفِز من فوق الأريكة: «سأذهب مباشرةً إلى السيدة سكودامور، وأُخبرها أننا أخطأنا بشدَّةٍ في الحُكم على الآنسة كورنر. وسأطلب منها أن تأتي معي إلى منزل الآنسة ونصلح الموقف.»
قال زوجها ملحًّا: «اجلسي. لستِ مُنادي البلدة. لقد تأخر الوقت كثيرًا للذهاب إلى منزل «ذا كلوك».»
ردَّت ماريان: «لكن النوم سيهرب من عيني. سأبيت ليلتي أفكر في هذه الروح الجسورة المسكينة، التي يذوب قلبُها كمدًا، وتتظاهر أن الأمر مُزحة لا أكثر. «اضحك، أيها المهرج، اضحك.» مأساة ما بعدها مأساة.»
غطَّت ماريان في النوم، رغم نبوءتها الكئيبة، قبل زوجها بفترةٍ طويلة. وظلَّ هو يتقلب في الفراش لساعات، يُضيء المشعل مرةً تلوَ الأخرى ليتفقَّد ساعته. وعند الساعة الثانية صباحًا تقريبًا، نهض من الفراش، وتسلَّل إلى غرفة النوم الخاصة بالضيوف، التي كانت نوافذها تطلُّ على منزل الآنسة كورنر.
ولأول مرة منذ ما يقرُب من أسبوع، لم يخترق أي ضوءٍ ظلامَ الليل، ليُبلغه أن الروائية لا تزال جالسة إلى الآلة الكاتبة. أخذ الطبيب بيري نفَسًا عميقًا، وسرت بجسده رعشة خفيفة، وعاد إلى غرفته.
كانت الآنسة كورنر لا تزال في فراشها حين أوصل بيَّاع الحليب أول طلبية. وترك زجاجة الحليب على عتبة الباب الخلفي لعدَم وجود خادمة لتفتح له الباب.
ظلَّت الزجاجة في مكانها، غير مفتوحة، عندما قدِمَ صبي الخبَّاز عند الظهيرة تقريبًا. كانت السيدة بايك قد ألغت الطلبات اليومية، لكنه أطاع نداءه الداخلي، ووضع رغيف خبزٍ كبيرًا بجانب زجاجة الحليب، على عتبة الباب، كي يؤنس وحدتَها.
كان مِن المُفترض أن تستقل الآنسة كورنر حافلة الثانية والنصف، ولكن ظلَّ الصمت يُخيم على المنزل حتى انقضى الصباح وحلَّ العصر. ولم يصدُر أي صوت عن البيت باستثناء دقات الساعة، وفي بعض الأحيان، كانت نحلة تطير داخل المنزل، عبر نوافذ بسطة السُّلم المفتوحة.
وفي الواحدة والنصف تقريبًا، دقَّ مساعد النظاراتي، القادم من شلتنهام، جرس الباب الأمامي، لكن لم يُجِبْه أحد، رغم أنه دقَّ الجرس وطرَق الباب مرةً بعد مرة. ولأن لدَيه تعليمات واضحة بشأن تسليم النظارة للآنسة كورنر شخصيًّا، قرَّر أن يستعلِم عن تحركات الآنسة كورنر.
ولم يكد يُغلق بوابة الحديقة، حتى قابل السيدة سكودامور، ومعها ماريان بيري، وأفضى إليهما بمشكلته.
قالت السيدة سكودامور: «ربما استغرقت في النوم.»
وافقتها ماريان قائلة: «أجل. أعطاها زوجي منومًا ليلة أمس.»
علَّق الشابُّ وهو يتفقَّد ساعته: «بهذه الطريقة ستفوتها الحافلة، وأنا كذلك.»
قالت السيدة سكودامور: «أعطِني النظارة. لا داعي لانتظارك. سأتولَّى مسئولية تسليم هذه الطلبية.»
ووقَّعَت على الاستمارة، ثم انضمَّت إلى ماريان، التي كانت تطرق باب منزل الآنسة كورنر الأبيض المصنوع من خشب البلوط بقوة.
وهتفت لاهثة من فرط إثارتها: «قرعت الجرس مرارًا وتكرارًا دون جدوى.»
قالت السيدة سكودامور: «لنذهب إلى الباب الخلفي.»
عندما رأت السيدتان زجاجة الحليب ورغيف الخبز على عتبة الباب، تبادَلَتا النظرات، وفي أعيُنهما سؤال مكتوم. لكن السيدة سكودامور ظلت سيدة الموقف.
وسألت: «ما رأيك أن نبحث عن طريقةٍ ندخل بها إلى المنزل؟»
فدارتا حول المنزل، وإذا بجميع الأبواب والنوافذ مُغلقة بإحكام، مع أن النوافذ البابية العلوية كانت مفتوحة. نظرت ماريان إلى الطريق المُبلَّط، علَّها تعثر على حصًى، لكن دون جدوى. بعد قليل ملأت يدَها بحفنة من التراب، وحزمته في منديلها، ثم قذفته عبر نافذة غرفة نوم الآنسة كورنر.
ونادت بصوتٍ عالٍ: «آنسة كور-نر.»
لم ينبثق الوجه المُتورِّد المألوف، بعينَيه المرحتَين ولا غُرته الشيباء، من بين الستائر. كان الصمت يُخيم على المكان، وبدا كأنه ينتشِر في أرجاء الحديقة.
تمتمت السيدة سكودامور: «إنها نائمة مثل القتيل.»
لم تُعلق ماريان بشيء، لكن تسلَّل إلى ذهنها نفس الفكرة السامة.
وسألت: «أيمكن أن تكون … أهي … ثملة؟»
لكن ماريان نفضت الفكرة عن عقلها في جزع.
وهتفت: «لنفعل شيئًا. لنُحطِّم زجاج إحدى النوافذ.»
لكن السيدة سكودامور كانت تعلم بالإجراء اللازم باعتبارها زوجة محامٍ.
قالت: «هذا مُخالف للقانون. يجب أن نُحضر شرطيًّا ليقوم بهذا. زوجك طبيبها. أعتقد أن من الأفضل أن نستشيره في الأمر.»
كان الطبيب يقف في ممرِّ السيارات الخاص بمنزل «سانت جيمس»؛ إذ كان قد رجع لتوِّه من زيارة لأحد المرضى في القرية. لم يسعد كثيرًا برؤية السيدة سكودامور لأنه كان يريد تناول غدائه؛ لكنه فور أن استوعب جوهر حكاية زوجته، قفز عائدًا إلى سيارته، التي غطَّتها طبقة رقيقة من التراب.
قال: «سأُحضر الشرطي جيمس على الفور. سأتولى الأمر من الآن، لا تشغلي بالك يا سيدة سكودامور. سأمرُّ بمنزل «ذا كلوك» وأبلغهم بالخبر. من الأفضل أن تتناولي غداءك يا ماري آن.»
لكن ذهبت جهود الطبيب سُدًى، حين حاول إيقاف فضول زوجته الذي كان يُشبه تيَّار المد الجارف. وعندما عاد من مركز شرطة القرية — والضابط جيمس جالس بجواره — وجد زوجته تنتظره خارج باب منزل الآنسة كورنر المُوصَد.
قالت ماريان: «المنزل صامت صمت القبور.»
وبينما كان الحاضرون يشاهدون الشرطي، وهو يُحطم زجاج نافذة صغيرة على شكل ألماسة حتى يفتح مزلاج النافذة البابية، جاءت أدا، خادمة الآنسة أسبري، بزيِّها الرمادي الأبيض الجذَّاب، تركض عبر الحديقة.
قالت بأنفاسٍ متقطعة: «تريد سيدتي الاطمئنان على صحة الآنسة كورنر.»
كانت الرسالة من وحي خيالها بلا شك؛ إذ بعدما أُمِرت بالعودة إلى سيدتها، ظلَّت تتسكع عبر الحديقة. ولكنهم نالوا استحسانها؛ إذ عندما نظر رجل الشرطة إلى النافذة التيودورية الصغيرة بارتياب، تطوَّعت بفتح الباب.
اكتسب المشهد مسحةً هزلية، عندما غاصت أدا عبر الفرجة الضيقة مثل البهلوان، وركلت ساقاها الهواء. ندت عن ماريان ضحكة هستيرية عالية، دفعت الطبيب إلى إسكاتها بحدة.
همست: «إنه التوتر. أنا مرعوبة.»
كان الثلاثة يُشاركونها رُعبها، في أثناء انتظارهم خارج الباب المهترئ. تذكر الطبيب المرة الأخيرة التي رأى فيها الباب يُغلَق بواسطة سيدة المنزل وشخصيتها النشيطة المُفعمة بالحياة إلى حدٍّ يُهدِّد سلامتها، مثل محرك يعمل بسرعة مضاعفة. ودوى في أذنَيه صوت ضحكتها، وصياحها وهي تودعه: «اضحك، أيها المهرج، اضحك» قبل أن تُسدل الستائر.
عندما فتحت أدا الباب، بزيِّها الرسمي، كان لهذه المسحة الرسمية وقعٌ مُستغرَب، مما زاد الحاضرين رُعبًا فوق رعبهم بطريقةٍ ما.
كان الضابط جيمس أول من دخل إلى المنزل، لكن الطبيب تولى قيادة الجميع عبر السُّلَّم البلوطي المنخفض العريض. أحس الجميع بالصمت المخيم على المنزل، حتى بعد أن كسروه بتحطيم النافذة ليتمكنوا من الدخول.
لقد سُدَّ الجوُّ سدًّا مُحكمًا.
كانت شمس ما بعد الظهيرة تتدفَّق في غرفة النوم الكبيرة المُريحة بما احتوت من أثاث غير مصقول من خشب الجوز الإيطالي. وبالقُرب من النافذة قبعت الآلة الكاتبة التي طالما تحدثت إليها الآنسة، وعلى الجدران عُلقت المرايا التي آنست وحشتها.
كانت الروائية في الفراش، وجهها إزاء الحائط؛ ولذا لم يظهر منها سوى شعرها الأبيض. وحملت الطاولة، التي كانت بجوارها، زجاجة صغيرة زرقاء غامقة وقدحًا فارغًا. كان هناك أيضًا شمعدان فضي قديم، امتلأ طبقُه برقائق الرماد وأعواد الثقاب المستهلكة.
نظر الضابط جيمس إلى المصباح الكهربائي المجاور للفراش نظرةً ذات مغزًى، في حين انحنى الطبيب بيري على الوسادة، ليتمكن من رؤية وجه الآنسة كورنر. وعندما رفع رأسه مرةً أخرى، جعل تعبير وجهه طرح السؤال المُفترض طرحه بلا داعٍ.
سأل الضابط: «هل المُتوفَّاة باردة؟»
أجاب الطبيب: «أجل. لقد مرَّت ساعات على وفاتها.» بعد ذلك، تناول الزجاجة وشم الكأس، وأضاف: «يبدو أنها تناولت جرعةً زائدة من الفيرونال بالخطأ.»
سأل الضابط: «كيف تعلم أن ما حدث كان خطأً؟»
أجاب الطبيب: «لأنها تُعاني من قصر النظر، وقد كُسِرت نظارتها في الليلة السابقة. ها هي على طاولة الزينة.»
أومأ الضابط جيمس برأسه، وهو يلتقِط النظارة المكسورة. لكن اتَّسعت عيناه وهو يوجِّه للطبيب سؤالًا آخر.
سأل: «ما هذا الخطاب الذي كانت تُحرقه؟ يبدو أنه أُحرِق حديثًا.» وأمسك ببقايا الظرف المحروق الذي كان لا يزال يحتفظ بأثر الحبر. وقال: «العنوان مطبوع.»
صاحت ماريان باندفاع: «لا بدَّ أنه الخطاب المجهول الذي اتسلَّمته أمس.»
شهدت شفتاها البيضاوان على شدة صدمتها، لكن كانت سيطرتها على أعصابها مثالية، فعلم الطبيب أنه سيتعيَّن عليه لاحقًا التعامُل مع انهيارٍ عاطفي سيُلِمُّ بها.
نقل الضابط جيمس نظره من الزوج إلى الزوجة، ثم أسرع يحجب مرمى بصر الزوجة، حتى لا تتأثر بأي إشارةٍ تحذيرية من زوجها.
وسأل: «هل تناهى إلى عِلمك، بطريقةٍ ما، يا سيدتي أن بالخطاب ما يزعجها؟»
صاحت ماريان: «لا. أوه، لا. كان الخطاب غير معقول بالمرة؛ تعجز الكلمات عن وصف عبثيته. لقد اتهمها بشُرب الخمر، في حين أنها مُمتنعة عن الخمر تمامًا. وقد اعتبرت الأمر مزحةً لا أكثر.»
«أهناك شيء آخر يا سيدتي؟»
أجابت: «أجل. ذكر الخطاب أنها تحتفظ بزجاجة ويسكي في خزانة ثيابها.»
وقبل أن يستطيع الطبيب إيقافه، اتَّجه الضابط إلى خزانة الملابس، وفتحها على مصراعيها، فكشفت عن صفٍّ من فساتين السهرة مُعلقة على المشاجب.
بعد ذلك، ندَّت عن ماريان شهقة رُعب واتسعت عينا أدا فزعًا، عندما أزاح الضابط الثياب، وأخرج زجاجة ويسكي من خزانة الملابس.