الفصل الحادي عشر

التحقيق

الانتحار كلمة قبيحة. كان الجميع يتجنَّب ذكرها فظلَّتْ حبيسة النفس. لكن، قبل حلول الليل، امتلأت القرية بالشائعات المتناقضة. فأُشيع أن الآنسة كورنر سقطت ضحية شكوكٍ لا أساس لها من الصحة؛ إذ أثبت كاتب الخطابات المجهولة براءتها — بطريقةٍ بدائية — بوخزةٍ قاتلة من السُّم.

تملك الجميع شعور بالحسرة والندم. قال الطبيب إنها تناولت جرعة زائدة من دواءٍ منوم بطريق الخطأ. وقَبِل الجميع بهذه الرواية لأنها صادرة عن مصدرٍ رسمي موثوق فيه؛ لا سيما أن أساليب الآنسة كورنر العشوائية لم تكن تخفى على أحد، بالإضافة إلى أن واقعة النظارة المكسورة حقيقية.

علاوة على أن الجميع كانوا يميلون إلى تصديق هذه الرواية. ولأن القرية خشيت أن تكون الآنسة قد دُفِعت إلى الانتحار دفعًا، ازدادت إصرارًا على أن تُثبت لنفسها أن اتخاذ مثل هذا المسار المتطرِّف مُستحيل.

لكن، تحت الإثارة التي كانت مثل غثاء السيل، انسلَّ التيار المسموم في خفاء. كانت أدا قد تلقَّت تحذيرًا من كلٍّ من الضابط جيمس والطبيب بيري من أن تتحدَّث عن زجاجة الويسكي. لكنها، وللأسف، لم تكن تهاب الشرطة تمامًا؛ إذ تصادف أن تعاملت معها عن قُرب، وشهدت انحرافها بنفسها. كما أنها كانت ماهرةً في التلميح، ولدَيها دائرة واسعة من الأصدقاء.

سرت الشائعة، من منزلٍ لآخر، بشأن سر خزانة الثياب؛ وفي كل مرة تتكرَّر فيها الرواية كانت تكتسي بصبغة رُعب فريدة. وفي حين أن الشراب الكحولي نفسه له ما يُبرره من أغراض طبية، راود الجميع نفس السؤال.

«مَن هو العدو المجهول، المُطَّلع على دقائق حياة السيدة الخاصة، واستخدم تلك المعرفة، سلاحًا، ليطعنَها في ظهرها؟»

طارد الخوف — الذي لم يعُدْ كومةً مشوهة أو وميضًا أسود — القرية في تلك الليلة؛ فكان مثل خانقٍ يتربص بضحيته في الظلام، وينتقيها بعناية قبل أن ينقضَّ عليها. فأُسدلت الستائر في وقتٍ أبكر من المعتاد، في سابقة لم تحدُث من قبل، وسمعت جدران البيوت الأربعة تداول الفضيحة.

حينما زار الطبيب بيري منزل «ذا كلوك» — وفاءً بوعده — طربت نفسه بالجو العقلاني السوي.

لقد أثبتت السيدة سكودامور رُقيَّها عندما ظلت سيدة الموقف. فلم ينعكس الاضطراب الاجتماعي على سكينة غرفة جلوسها وهدوئها، بألوانها الحيادية الناعمة، ومجموعتها الفريدة من المُنمنمات، وخزاناتها الضخمة المقوَّسة من مُقدمتها التي تحمل أواني العائلة الزجاجية والفضيات. وتضوَّع الجو برائحة أصص البازلاء العطرية المزروعة في غير موسمها، ورائحة الخشب المشتعِل الخفيفة في مصبع الموقد الفولاذي العتيق.

كانت السيدة سكودامور ترتدي ثوب سهرةٍ ذا رقبة طويلة، من الدانتيل الأسود، مُزين بالفضة القديمة وأحجار اليشم. وتلألأ شعرُها الذي صففته بعنايةٍ ورفعته على رأسها، في ضوء المصباح المُظلل، وهي تقرأ بصوتٍ عالٍ لزوجها الذي كان يلصق طوابع البريد في ألبومه. كان مشهدًا يجسد السعادة الزوجية، وكان بمنزلة مُهدِّئ لأعصاب الطبيب.

شكرت السيدة سكودامور الطبيب على زيارته، وقال المحامي إن الحادثة برمَّتها مُزعجة. قَبِل الاثنان تفسير الطبيب لها بأنها نتيجة جرعة زائدة من منوم، أخذتها الآنسة كورنر بسبيل الخطأ، وتمنَّيا أن تذهب الحادثة الحزينة في طيِّ النسيان في المُستقبل القريب.

لكن السيد سكودامور كشف عن أن الخوف قد أثَّر فيه تأثيرًا طفيفًا، كتأثير نقضِ غُرزةٍ واحدة في سترة السهرة الخاصة به، عندما طرح سؤالًا حذرًا.

قال: «ماذا عن الخطاب المجهول؟ أتعتقِد أن الكاتب شخصٌ نعرفه؟»

لكن كلمات الطبيب المُطمئنة أعادت داربي وجوان إلى سكينتهما التي ينعمان بها بجوار الموقد.

قال الطبيب: «بحُكم عملي طبيبًا أرى أن الكاتب مريض نفسيًّا. وأُرجِّح أنها امرأة مصابة بالهستيريا، تحاول التنفيس عن غضبٍ مكتوم. قد يعود ذلك بالنفع عليها لكنه لن يضرَّنا. أما عن إصابتها للهدف، فتلك مجرد ضربة حظٍّ جاءت بطريق الصدفة.»

لكن حين وصل الطبيب بيري إلى منزله، كان عليه مواجهة مهمة أصعب. كانت الرَّدهة الأنيقة القديمة مُظلمة، وبدت كئيبةً وتعجُّ بالفوضى بما تناثر فيها من لعب منسية. ووجد ماريان في غرفة الأطفال مثلما توقَّع. لم تكن قد أبدلت ملابسها لتناول العشاء، وكان لا يزال عليها الطقم الحريري المُتغضِّن الأحمر كالفراولة، الذي كانت ترتديه في غرفة نوم الآنسة كورنر.

بدت على وجهها أمارات القلق البالِغ، وهي تتحدَّث إلى الطبيب بصوتٍ خافت مبحوح.

قالت: «لقد ماتت يا هوريشيو … لم أستوعب الأمر حينئذٍ.»

أومأ الطبيب وقال: «أجل. وأنا أيضًا أشعر بذلك.»

أعلنت ماريان بعاطفةٍ جياشة: «لا، لن أكون منافقة. أنا أفكر بهما.»

ونظرت إلى الطفلَين النائمَين في سريريهما الفاخرَين. وسألت: «أتعلم ماذا كنت أفعل؟ لقد أخرجتُ دفتر حسابك المصرفي، وأحصيتُ كل الشيكات التي حصَّلناها منها هذا العام … الأمر في غاية البشاعة … لقد خسرنا أفضل مريضةٍ لدَينا.»

قال الطبيب: «هذا هراء. نحن لا نعتمِد في دخلنا على الآنسة كورنر وحدَها. ما يؤرِّقني حقًّا هو أنني خسرتُ أحد أصدقائي.»

لم تلحظْ ماريان وجه زوجها المُنهك عندما بدأت تذرع الغرفة ذهابًا وإيابًا.

ثم هتفت: «أعلم، أعلم. لقد كان يومًا مُريعًا، وأشعر بالرعب الليلة. أشعر — بطريقةٍ ما — أن هذه بداية النهاية. لقد تشبَّث طفلي بأصبعي بقبضته الصغيرة. شعرت كأنه يطلُب منِّي أن أعتني به.»

وبينما كان الطبيب بيري يُنصت إليها، فقدَ صبرَه حتى ودَّ لو أنه يضرب امرأة؛ رغم أنه لو فعل ذلك لشكرته ماريان على هذه البادرة الكريمة؛ لأنها تظهر تفهُّمه لطبيعتها الخاصة. لكنه كان مهذبًا لدرجة أعيَتْه عن فهم هذه الدقائق فضيَّع فرصته.

قال ببرود: «تُبالِغين لدرجةٍ عبثية. إنكِ إن قارنتِ ظروفنا المعيشية الرغيدة بنظيرتها بالخارج» — كانت إنجلترا كلها هي «الخارج» بالنسبة إلى القرية — «فستجدين قلقَك محض كفران بالنعمة. أشعر بالخجل منكِ يا ماريان. لو أن الجميع مثلك ما أقدم أحد على إنجاب الأطفال.»

ونظر إلى عينَيها المعذبتَين، وأدرك أنها تكتوي بنيران جحيمها الخاص. ولأنه كان لا يقدر على تحمل فكرة عذاب ليلتها الأرقة، اندفع إلى تصرُّف أحمق.

قال: «لا تقلقي يا ماريان. أنا لا أشعُر بالقلق. لكني أعلم أن وفاة جوليا لن تؤثر علينا ماديًّا. لا تُخبري أحدًا، لكنها تركت كل أموالها لي.»

غمر ماريان شعور بالراحة، أخذ شكلَ عاصفةٍ من الدموع، في حين عانقت زوجها وطفلَيها النائمَين. وبعدما أيقظتهما من نومِهما، تركها الطبيب لتتولَّى مهمة تنويمهما مرةً أخرى، وذهب إلى الطابق السُّفلي لقراءة روايته.

لم يكن قد أمضى وقتًا طويلًا في القراءة، عندما فُتح الباب ووقفت ماريان أمامه تنظر إليه نظرةً غريبة مُتحفِّظة.

سألها: «ما خطبك؟»

«لا شيء.» وأغلقت الباب. ثم قالت: «لقد كنتُ في الصيدلية يا هوريشيو. وحسبت المقادير … كانت الجرعة التي أعطيتَها للآنسة كورنر قوية جدًّا!»

ردَّ بعدم اكتراث: «بالطبع. لقد تناولت الكثير من المُهدئات حتى صارت تشتكي من أنها لم تعد تُجدي نفعًا معها. أردتُ أن تحظى بقسطٍ وافر من النوم. وكما رأيتِ بنفسكِ، لقد صبَّت جرعةً مضاعفة.»

سألتْ: «أعلم … هل سيُجرى تشريح للجثة؟»

حملق الطبيب في زوجته.

قال: «ستُغني شهادتي عن التشريح الجنائي؛ لأنني كنتُ أتولى علاجها بصفةٍ مُستمرة. كما أن السيد سكودامور، الذي سيتولى التحقيق في أسباب الوفاة، لن يرغب في إثارة البلبلة.»

«بالتأكيد. سيتكتَّم على الأمر بكل ما أوتي من قوة.»

واصل الطبيب: «لكن، لمصلحتي، سأصرُّ على إجراء تشريح جنائي.»

أطلقت ماريان زفرةً حادة تكاد تُشبه النشيج وقالت: «آه! أستُجريه بنفسك؟»

أجاب: «في ظلِّ هذه الظروف، لا. سأطلب من الطبيب رولينجز القيام به. إنه جرَّاح تابع للشرطة، وهذه وظيفته الطبيعية.»

عانقتْهُ ماريان بقوة حتى كادت تخنقه، وقالت: «أوه، عزيزي، عزيزي. الرب وحدَه يعلم كم أُحب طفليَّ … وأنتَ. سأنام ملء جفنيَّ الليلة.»

وكان — خلف الستائر المُسدلة — شخصٌ آخر يُحدق عَبر الظلام، كأنه شبكة مضيئة، وكسر سكون الليل بضحكته … شخص آخر — شخص مجهول — أمضى ليلةً سعيدة، مبتهجًا بفكرة وجود تطوُّرات مستقبلية وافرة في الطريق …

وكما توقَّع الطبيب، أُدير التحقيق في واقعة وفاة الآنسة كورنر بفطنةٍ وحذَر. ولعدم وجود مؤسسة حكومية مخصَّصة لهذه الأمور الكريهة، أُجري التشريح في مبنى «حظائر تخزين الأعشار» القديم، وهو مبنًى جميل مُشيَّد على الطراز الإليزابيثي. وتولى السيد سكودامور شئون الآنسة كورنر القانونية، بصفته مُحاميها؛ وأعرب اثنان من أبناء عمومتها — لم يكن لها سواهما — عن أسفِهما لوفاتها، وأعلنا حضورهما الجنازة، تمهيدًا لقراءة وصيَّتها على ما يبدو.

عادت السيدة بايك إلى منزل الآنسة كورنر، بعد استدعائها من عطلتها الأولى في القارة الأوروبية، كي تُرتِّب أمور الجنازة وإجراءات بيع المنزل فيما بعد. وحزنت حزنًا بالِغًا على وفاة سيدتها، ولكنها كانت سعيدةً بعودتها إلى إنجلترا، رغم أنها لم تذهب إلى أبعدَ من مدينة أوستند البلجيكية التي كرهتها بشدة.

لم تذهب السيدة بايك إلى أوروبا مرةً أخرى، لكنها واصلت الحُكم على القارة بأكملها، من واقع حنينها إلى الوطن، الذي دام ثماني ساعاتٍ في أحد مواني بلجيكا البحرية. وبهذه الطريقة تُغرس التحيُّزات العرقية في النفوس.

أدلت هي وماي بشهادتهما في التحقيق. أثبتت ماي وفاءها وغباءها البالغ حدَّ البله؛ لكن المُحقق صاغ أسئلته بطريقةٍ تسمح لها بالإجابة ﺑ «نعم» أو «لا» كما هو مطلوب، ما أشعر الجميع بالارتياح.

أتبع عملية التحقُّق من الهوية الرسمية إفادة الطبيب بيري. قال إنه يشرف على علاج الآنسة كورنر، التي كانت تعيش منذ عرفها فعليًّا تحت حُكم بالموت؛ لأنها مصابة بمرَض في القلب، في مرحلةٍ متقدمة، وارتفاع في ضغط الدم. وأضاف أنها لم تكن تستجيب للنصائح الطبية وتمادت في إجهاد نفسها بصورةٍ خطيرة. فقد انغمست في أعمال بستنةٍ شاقة عشية وفاتها؛ لذا كانت مهيَّأة مسبقًا للاستسلام لجرعةٍ زائدة من الفيرونال، التي سكبتها بسبيل الخطأ.

أَولى المُحقق اهتمامه لواقعة النظارة المكسورة، ولم يُعِر اهتمامًا كبيرًا لأمر الخطاب المجهول. ودعم الطبيب رولينجز، جراح الشرطة القادم من البلدة المجاورة، شهادة الطبيب بيري فيما يتعلق بالحالة الصحية للآنسة كورنر، وسأل أحد المُحلَّفين عن الاتهام المجهول بالإفراط في شرب الخمر المُوجه لقائدة حركة الامتناع عن شُرب الخمر في القرية.

وعندما انتهى كل شيء تقريبًا، أعلن الطبيب رولينجز، عند استدعائه، أن التشريح الجنائي كشف عن امتناع الراحلة عن شُرب الخمر تمامًا. ودعم الطبيب بيري هذه الشهادة، في حين أقسمت السيدة مايك أن سيدتها كانت تشرَب الماء فحسب، لكنها كانت تشرب الشاي بشراهة.

وأعلنت هي وماي أن الآنسة لم تكن تحتفظ بقطرة كحولٍ واحدة في منزلها ولا حتى للضيوف. وقالت السيدة بايك إن زجاجة الويسكي، التي كانت مُخبَّأة في خزانة الملابس، قد تكون الآنسة اشترتها من شلتنهام لتجربتها في علاج الأرق؛ لأنها كانت تكرَه العقاقير وكانت تُفرغ غالبية أدوية الطبيب في البالوعة.

لم يُثِرْ أحد أي وقائع مُحرجة، أو يطرح أسئلةً غير لائقة، وأصدرت هيئة المُحلَّفين الحكم بأن الوفاة «قتل خطأ».

أقيمت الجنازة في اليوم التالي، واقتصرت على الدائرة المُقربة من الآنسة. تولى الطبيب بيري والسيد سكودامور والسيدة بايك وابنا عمومة الآنسة، فحسب، مسئولية تلقِّي العزاء، رغم امتلاء الكنيسة والمقبرة بالمُعزِّين. وأرسل الكثيرون سياراتهم وتكدَّست أكاليل الزهور.

حضر أحد ابنَي عمومتها، من باب الاحترام لا أكثر على ما يظهر، لذا لم يُحضر معه أي زهور؛ لكن الآخر، الذي كان متفائلًا بالوصية، جاء بإكليلٍ من الزهور، وعلَّق بأن «الدم لا يمكن أن يُصبح ماءً»، في إشارة ساخرة غير لبِقة لحملة الآنسة كورنر المُفضَّلة.

لكن أمل المتفائل تحطَّم، بعد عودته إلى المنزل مباشرة، وسماعه وصية الآنسة كورنر في المكتبة. كانت وصيتها قصيرةً ومباشِرة. فقد أوصت بأن تُعطى السيدة بايك راتبًا تقاعديًّا مقداره جنيهان في الأسبوع، وتركت ميراثًا لماي مقدارُه مائة جنيه. وأوصت ببقية التركة، بعد سداد جميع الديون، للدكتور هوريشيو بيري.

أبقى الطبيب عينَيه مُثبَّتتَين على مُكعب أزرق غامق في السجادة الفارسية لئلَّا يقرأ أحد تعابير وجهه. فمع أنه كان يرفع معنويات ماريان، كان هو نفسه يشكُّ في وفاء الآنسة كورنر بوعدها.

تنفَّس الطبيب الصعداء عندما سمع الوصية؛ لذا لم يسأل أي سؤالٍ عن مقدار الأموال المتوقَّع أن يحصل عليها؛ لكن السيد سكودامور أدرك حساسية موقفه وقال بصوتٍ خافت: «سأُزوِّدك بالتفاصيل لاحقًا».

تفقد القريبان ساعتهما، وقدَّمت السيدة بايك نبيذ ماديرا والبسكويت الغني المذاق، لملاءمتهما للمناسبة بحسب رأيها. وبعد فترةٍ قصيرة، غادر القريبان ليلحقا بالقطار فَرَكِبا الحافلة.

وبعد مغادرتهما، أشعل المحامي سيجاره، وأطلع الطبيب بيري على الوضع المالي للآنسة كورنر ببطءٍ وتأنٍّ. فأشار إلى أنها كانت تتحرى الحذَر وعدم المخاطرة؛ لذا استثمرت ثروتها الصغيرة في معاشٍ تقاعدي. وبالإضافة إلى هذا الدخل، كانت تجني مبالِغ مالية كبيرة من كتاباتها، مما أتاح لها العيش في ترَف وبذخ. كذلك كانت تُقدم تبرعات كبيرة للجمعيات الخيرية ومنحت الكثيرين معاشًا تقاعديًّا. صحيح أن هناك رهنًا عقاريًّا على المنزل الذي كلَّف بناؤه آلاف الجنيهات، إلا أن أصولها تتجاوز التزاماتها المادية.

قال المحامي: «بعد حصر كل شيء، ستُغادر الدنيا وهي جديرة بالثناء والإكبار. لقد أنفقت مالها باعتدال ولن يُفقَر أحد بوفاتها. لا شك أن الوفاة، بالنسبة لك، حدثت مبكرًا عن المتوقَّع بضع سنوات. عندما حرَّرت هذه الوصية لصالحك، منذ أربعة أشهر فحسب، أخبرتني أنها ستُسدِّد رهن المنزل من دخلها الخاص، حتى تترك العقار بلا ديون. ومع ذلك، سترِث باقي التركة.»

ابتسم الطبيب بيري وشكر المحامي على معلوماته الدقيقة.

قال: «سأُغادر هذا المنزل أغنى مما دخلته. أنا في غاية الامتنان لصديقتي.»

في طريق العودة إلى منزله، بدا مكتئبًا حزينًا؛ لكن، في النهاية، غلبه هدوءُه. صحيح أنه خسر أغنى مرضاه، لكن لا تزال عيادته أفضل عيادة في المنطقة.

كان أكثر ما يخشاه هو استقبال ماريان للخبر. فمنذ أيام وهي تُحلِّق في فضاء خيالها الواسع. ولم تكن وفاة الآنسة كورنر تعنيها على الإطلاق؛ لأنها لم تُحبها أبدًا. كانت تراها أرومة عتيقة لا بد من اقتلاعها حتى تُفسح مكانًا لشجرتَيها الصغيرتَين.

وجد الطبيب ماريان في الصيدلية، تُحصي أقراص الكبد، وتضعها في صندوق كرتون صغير من أجل روز خادمة الاستقبال لدى الآنسة أسبري.

التفتت ماريان بحدَّة مثل مُذنَّب ملتهب.

هتفت: «كم؟ بسرعة، بسرعة.»

أجاب: «يعتقد السيد سكودامور أنني قد أحصل على ما يقرُب من مائتي جنيه. لا شك أن هذا المبلغ قد يكون قابلًا للزيادة قليلًا. الأمر كلُّه يتوقَّف على ثمن بيع المنزل، وعلى حقوق الملكية الفكرية القليلة المُتبقية.»

فغرت ماريان فاها، وحملقت في زوجها في صمتٍ شديد.

في تلك الأثناء، ومن نافذة غرفة الطعام، رأت الخادمة سيدتَين قادمتَين من ممرِّ السيارات. واستقبلتهما عند الباب الأمامي المفتوح. أفصحت السيدتان عن سبب زيارتهما، وبِناءً على طلبهما، قادتهما عَبر الرَّدهة إلى الصيدلية.

رأى الطبيب بيري الباب يُفتَح، وكان الأوان قد فات لاحتواء إحباط زوجته الجارف.

صرخت زوجته: «مائتان فحسب. كان بقاؤها على قيد الحياة خيرًا لك من موتها.»

همس الطبيب، حين دخلت الآنسة أسبري، تتبعُها الآنسة ماك الوفية: «اصمتي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥