الفصل الثاني عشر

تحت الأرض

تلا التحقيق في موت الآنسة كورنر تفكُّكٌ تام لنسيج القرية الاجتماعي. كان من المُفترَض ألا تعيق وفاتها سيرَ الحياة بهذا الشكل بالنظر إلى أنها لم تتمتَّع بشعبيةٍ كبيرة في القرية، إلى جانب أنها كانت تُعتبَر وافدةً جديدة على القرية بحسب المعايير المحلية. لكن لم يشأ أحد توزيع أي دعواتٍ خشية الرفض؛ لذا نضجت الفراولة لتتحوَّل إلى مربَّى، وتفتحت الأزهار ليستمتع أصحابها فحسب بجمالها.

حين أدركت الآنسة أسبري تقلُّص الصداقة الرحبة إلى اثنَين أو ثلاثة يجتمعون حول موائد الشاي الخاصة، اتخذت زمام المبادرة من أجل الصالح العام. وعندما التقت بالسيدة سكودامور في ساحة القرية، وجَّهت لها سؤالًا مباشرًا بشأن حديقتها. أظهرت إجابة السيدة سكودامور فهمها لمغزى سؤالها؛ لأنه حين تبلُغ الحدائق أوْجَ تفتُّحها تُفتَح أبوابها للعامة، إن جاز التعبير.

قالت: «ستكون مثالية الأسبوع القادم. أظنُّ أن حديقتك ستبلغ أوْجها قريبًا يا آنسة أسبري؟»

ردَّت الآنسة: «أجل، ستكون أفضل ما يكون في القريب العاجل. لديَّ مجموعة جديدة من سوسن الماء آمُل أن ترَيها عندما تتفتح.»

اتخذت السيدة سكودامور قرارها بحسم، وقالت: «أتمنَّى ذلك. لا بد أن تستمرَّ الحياة.» ثم أضافت: «أنوي إقامة حفلٍ في الحديقة الأسبوع القادم.»

علَّقت الآنسة بابتسامة: «إذن لا بدَّ أن نتناقش في التواريخ حتى لا يحدث تعارُض. أنا أتفق معكِ. لا بدَّ للحياة أن تستمر.»

رحَّب القسيس ببطاقة الدعوة التي وصلته لحفل الآنسة أسبري، ورآها علامةً مبشِّرةً على أن الحياة الاجتماعية في القرية بدأت تعود إلى مسارها الطبيعي. كان القلق ينهشه بشأن مسألة الخطاب الثاني، وبدأت تظهر عليه علامات خصمِه القديم، وهو التوتُّر العصبي. كان القسيس رجلًا لا يأبَهُ بصحَّته على الإطلاق، ولا يُميز المرَض من الصحة؛ لكن الانهيار الذي ألمَّ به كان كارثيًّا حتى صار يفزع من ظهور أي أعراضٍ مألوفة له.

بدا حفل الآنسة أسبري بشيرًا بأيامٍ أسعد في انتظار القرية. فلم يرفض أحد دعوتها، وحتى قُبعة عمدة القرية الطويلة البيضاء، التي لاحت من خلف البوابات، اعتُبرت الختم المُميز لنجاح الحفل. كان الطقس حارًّا في هذا اليوم، مما جعل رطوبة الحديقة الناتجة عن نباتات السرخس مستساغة إلى حدٍّ كبير. عبَّر الجميع عن إعجابهم بزهور سوسن الماء الجديدة، التي كانت بضع شُجيرات قليلة، وهنَّئوا الآنسة على زراعتها.

كانت معنويات جوان بروك المُنفتحة على كل أنواع الترفيه، في أفضل حال وهي تسير بخطواتٍ حذرة على الحواف الضيِّقة للمتاهة المائية الصغيرة. لقد خضع الينبوع البدائي الأصلي الذي يعود إلى العصر التيودوري لكثيرٍ من التعديلات، لكنه ظلَّ وفيًّا للحديقة، إما في صورة الجداول الطبيعية الصغيرة، أو في انحصاره في مجارٍ حجرية ضحلة.

رفعت الآنسة جوان عينَيها مع اقتراب الآنسة ماك، وهي ترتدي أجمل ثيابها، وكان فستانًا من حرير الفولار المطبوع، ذا لونٍ أخضر ضاربٍ إلى الرمادي.

سألت الآنسة ماك: «متى سنخرج في نزهةٍ إلى تلال داونز يا آنسة بروك؟»

تذكَّرت جوان وعدَها للآنسة أسبري وهي تنظر إلى وجه الآنسة المترقِّب.

قالت بعد صمتٍ محرج: «لا أعلم متى سأكون متفرِّغة. يجب ألا تنسَي أننا «خدم للأعيان» يا آنسة ماك.»

لم تُبدِ الآنسة ماك أي أمارات إحباط.

وسألت: «أتُسمِّينها «عبودية» حين تُحبِّين مخدومتك؟»

قالت جوان: «لكني لا أُحب ليدي دارسي.»

عقَّبت الآنسة: «حقًّا؟ إنها تُحسِن معاملتك للغاية.»

ردَّت جوان: «وماذا في ذلك؟ أنا أيضًا أُحسِن معاملتها.»

تحدثت الآنسة ماك ببراءة الأطفال: «حقًّا؟»

وأضافت: «الآنسة أسبري تُحسِن معاملتي كثيرًا، لكني لا أُحسِن إليها دائمًا … ومع ذلك أُحبها حبًّا جمًّا.»

خطر ببال جوان أن الآنسة ماك ربما مُصابة بتأخُّر عقلي، لكنها سرعان ما نبذت تلك الفكرة، حين نظرت إليها مرة أخرى. فقد كانت المسئولة عن إدارة الحفل حسبما بدا، وأظهرت في ذلك مهارةً فائقة، بما لا يحتمِل الربط بينها وبين القصور العقلي.

اكتفت الآنسة أسبري بجِلستها المُتكلفة على كنبةٍ حجرية، تحت شجر التوت الوارف العتيق، فكانت مثل تمثالٍ أثري عتيق وإن كان لا يزال جميلًا. ومع ذلك، لم تكن منفصلةً عن الواقع تمامًا، مما سمح لها بمراقبة مرافقتها بصفةٍ مستمرة. وقد لاحظت جوان، التي كانت تترقَّب حدوث أي تطوُّرات مشئومة منذ نزهتها، هذه الحقيقة بعدم ارتياح.

فحدَّثت نفسها قائلة: «ثمة شيء غريب بين هاتَين السيدتَين.»

لاحظت جوان — التي كانت لا تزال تؤدي دور المتفرج المُحبب إلى قلبها — أن الحفل حقق نجاحًا تامًّا على ما يبدو، وإن كان مستواه أبسط مقارنةً بحفل الآنسة كورنر. استولت فيفيان ابنة العمدة، بفستانها الوردي الفاتح، على اهتمام الميجور بلير، الذي فرح بذلك على ما يظهر. وشكَّل الطبيب بيري وزوجته رباعيةً دافئة مع المحامي وزوجته، في أثناء احتسائهم الشاي على الطاولة نفسها. حتى وجه القسيس تبدَّد توتُّره بعض الشيء.

عندما أحضرت أدا شطائر الخيار، رحَّبت بها جوان بابتسامةٍ ودودة؛ إذ كان من حُسن حظها أنها لا تكترث بالمعايير والطبقات الاجتماعية.

قالت: «أتحداكِ أن تُقلدي فستاني الجديد يا أدا. لا أريد أن تسرقي منِّي الأضواء مرة أخرى.»

لم تُحاول أدا معارضة الحقيقة الواضحة بأنها تفوق جوان جمالًا، لكنها بذلت أقصى جهدها كي تجعل نبرة صوتها مُقنعة.

وردَّت: «يقولون، آنستي، إن هناك من تروقه الفتيات الداكنات البشرة.»

قالت جوان: «لا أعُدُّ نفسي واحدةً من هؤلاء. لو كنت مكانك لذهبت إلى هوليوود مباشرة.»

قالت أدا: «هذا ما يقوله لي جميع الضيوف؛ لكن صديقتي تقول إن تلك الأجور المرتفعة لها جانبها السلبي. فكثيرٌ من النجوم السينمائيين يعملون أسبوعًا واحدًا في السنة، ويُجبَرون على دفع أقساط الضمان الاجتماعي لبقيَّة السنة.»

سألت جوان التي كانت تعرف كل شيءٍ عن سائق العمدة: «هل نشأت صديقتك هذه في لندن؟»

أجابت: «بلي، آنستي، في حي بيملكو.» ثم خفضت صوتها وقالت: «أعلمتِ أن الطبيب ورث كل أموال آنسة كورنر؟ آلاف وآلاف الجنيهات. تقول صديقتي إنه محظوظ في كِلتا الحالتَين.»

سألت جوان: «كلتا الحالتَين؟ ماذا تقصدين بذلك؟»

ردَّت أدا: «كان محظوظًا عندما أفرغت تلك الجرعة الزائدة الكبيرة. تقول صديقتي إن الجرعة «الصحيحة» كانت ستقتُلها. لقد كانت الآنسة كورنر تسكب أدويته في البالوعة بدلًا من تناولها كما تعلَمين، وقال الطبيب في التحقيق إنه جعل هذا المنوِّم أقوى مفعولًا عن المعتاد.»

بدت جوان غارقةً في التفكير حين رحلت عنها الآنسة حاملةً صينيَّتَها.

حدثت جوان نفسها: «هذا ما تتناقله الألسن في القرية إذن. هؤلاء القرويون أذكياء. أتساءل عن رأي جماعتنا فيما يحدث … مسكينة آنسة كورنر.»

استغربت جوان افتقادها لتلك المرأة الصاخبة الطيبة وأسفها لوفاتها. فقد كانت مُنعشة مثل الرياح الشرقية في احتقارها الجسور لتحيُّزات أهل القرية، رغم إفراطها في المزاح ودعاباتها القديمة المُملَّة.

ووجدت نفسها تمتعِض من أهداب فستان فيفيان الوردية الفاتحة؛ لأنها ذكَّرتها بالفستان الذي ارتدته الآنسة كورنر في حفلها. كانت تُحملق بحزنٍ بالغ في الحاجز الشبكي حيث يتدفَّق ماء الغدير البُني تحت قوسٍ منخفض مُزيَّن بأوراق سرخس تتقطَّر منها حبَّات الماء، عندما تحدث القسيس إليها.

وسأل: «ماذا يُثير اهتمامك لهذه الدرجة؟»

أجابت: «لا شيء. منبهرة فقط بفكرة وجود جدول جوفي يجري يقينًا في مكانٍ ما تحت الحديقة. يختفي الماء عبر هذا الحاجز الشبكي كما ترى، ولا يصعد إلى السطح مرةً أخرى حتى يبلغ البركة. الأمور المُستترة مُثيرة جدًّا للفضول. أتساءل أين مكان الجدول تحديدًا؟»

«بوسعك أن تسألي الطبيب. إنه يدَّعي قدرته على التكهُّن بمواضع الماء.»

قالت جوان: «سيروقه الأمر.»

علق القسيس بازدراء: «أما أنا فلا يروقني. أكره كل الأمور المُستترة.»

لاحظت جوان أن أنف القسيس أصبح أكثر حدَّة، وفتحتيه أكثر تغطرسًا، بعدما نحل وجهه ورقَّ. صارت ملامحه، مع ظهور أولى علامات المرَض، أشبَهَ بملامح تلوح بها غطرسة إمبراطور روماني، في حين تراجعت ملامح التواضُع والطيبة إلى الخلفية.

علَّقت جوان بنبرةٍ بريطانية مُخففة: «رأيتك من قبل وكنت تبدو أكثر صحَّة. هل عادت تلك الأحلام تراودك مرةً أخرى؟»

أجابت: «لم أزعجكِ بأحلامي من قبل، أليس كذلك؟ ما أقبح رجلًا يستهدف فتاةً مسكينة بائسة بهمومه!»

أصرَّت جوان: «أكنتَ تُحارب رجُلك المجهول مرة أخرى؟»

اعترف القسيس: «أجل. حاربتُه مرات عديدة في الحقيقة. كل ما في الأمر … أنني لست متأكدًا أنني أحارب إنسانًا.»

شجَّعه الاهتمام البادي في عينَي جوان على الاستفاضة.

قال: «لا شكَّ أن لكلِّ حلم تفسيرًا ما. استيقظت الليلة الماضية لأجد نفسي ملفوفًا بأغطية الفراش مثل شرنقة. إذن لا غرابة حين حلمتُ أنني أصارع السيدة أو السيد غير المرئي، أن أحسَّ بضغطٍ خانق، كأن لفائف تلتفُّ حولي تدريجيًّا حتى الموت.»

انفجرت جوان ضاحكة.

وقالت: «لا تسمح لهذه الأحلام بأن تُصيبك بالكآبة. أنتَ بحاجةٍ إلى تفسير أحلامك بطريقة علمية لا أكثر. لِمَ لا تطلب من القديسة الآنسة أسبري القيام بهذه المهمة؟»

أعرض القسيس عنها، فشعرت بالدهشة والانزعاج، في آنٍ واحد.

وقال: «سأذهب للتحدُّث إليها إذا لم يكن لديك مانع.»

عضَّت جوان شفتيها وهي تشاهد جسد القسيس الطويل ينحني أمام مقعد آنسة أسبري تكريمًا لها. بدا الأمر بعيدًا عن التصديق، لكن خُيِّل إليها أنها لمحت في عينَي الآنسة المُتصوفتَين ذلك البريق الذي يحضر دائمًا عندما تستولي امرأة على رجلِ امرأةٍ أخرى.

لقد أدرك القسيس، مثل غالبية الدبلوماسيين الناجحين في التاريخ، أن أي ملكةٍ تُحب أن تعامَل كامرأة؛ فحمل صوته نبرةَ تبجيل، لكن كانت عيناه أكثر حيادية، وهو يغوص في مقعده بجوار الآنسة.

قال: «أخيرًا. كنتُ أتحيَّن فرصة للانفراد بك.»

قبِلت الآنسة أسبري مدحه، وحين تحدَّثت إليه عن زهور السوسن المائي، وهيلين ويلز مودي، وقاعدة الذهب، وأرواح الحيوانات، وطريقة طهي البازلاء بالبخار في أوراق الخس، نسِيَ القسيس كآبته دون أن يشعر. وبعد قليلٍ علقت الآنسة أسبري على مظهره بتعاطف، أنكرته عليه جوان.

قالت: «تبدو قلقًا. لماذا؟»

تحدَّث الرجل الضخم مثل تلميذ: «أشعر بالخوف. تخيَّلي رجلًا في مثل حجمي يشعر بالخوف. الخجل يتملَّكني. ولكن أخشى ما أخشاه، في واقع الأمر، أن يكون هناك خطاب مجهول آخر.»

كانت الآنسة أسبري تُحدِّق في البقعة التي عاود الينبوع الظهور فيها بعد الإمعان في ظلمة قناته الجوفية القابعة تحت الأرض. كان الينبوع لا يزال ذلك التيار البُني الغامق الذي تسلل من الحاجز الشبكي، رغم انبثاقه، في هيئة رذاذٍ فضي، في بركة ضحلة محاطة بالأزهار.

على عكس جوان التي وجدت في مسار الينبوع المجهول ما أثار فضولها، رحبت الآنسة بعودة الينبوع إلى النور. ورأى القسيس ثمة دلالة رمزية في التوجُّهات العقلية المختلفة.

قالت الآنسة أسبري: «لا داعي للخوف بشأن وصول خطابٍ مجهول آخر. أنا واثقة أن ذلك لن يحدث.»

سأل القسيس بلهفة: «ما الذي دفعك إلى هذا الاعتقاد؟»

أجابت: «لأن … الكاتب قد مات.»

شعر القسيس بالصدمة من إجابتها.

سأل: «أتقصدين أن الآنسة كورنر كتبت ذلك الخطاب لنفسها؟»

«هذا اعتقادي.»

«لكن لماذا؟ لماذا؟»

أجابت: «لأنها أدركت أن أصابع الاتهام تُشير إليها في مسألة الخطاب الأول. ذلك الخطاب الحقير الذي تلقَّيتُه … من المؤسِف للغاية أن السرَّ تسرب إلى العلن. ليس لديَّ أدنى شك في أمانتك بالطبع، لكن شخصًا ما استرق السمع إلى حديثنا … كانت العواقب وخيمةً بالنسبة إليها. لكن الأمر برمَّته مسألة حظٍّ عاثر. فلو لم تسكب تلك الجرعة الزائدة، لذهب الخطاب طيَّ النسيان مع الوقت.»

شعر القسيس بنفاد الصبر بسبب تحول دفَّة الحديث عنه.

وقال: «أتظنين أنها فكرت أنها لو ادَّعت وقوعها ضحيةً لذلك الشقي المجهول هي الأخرى، فستُبعد الشكوك عن نفسها؟»

«نعم. كانت تستهين بذكاء أهل القرية.»

«ولكن ألديكِ دليل على اعتقادك هذا؟»

«بالطبع. لقد ارتدْتُ المدرسة نفسها مع جوليا كورنر. كانت فتاة ذكية، ترتدي ثياب الرياضة لا تنزعها، وتُغطي ساقيها البدينتَين بجوارب لاصقة سوداء. آنذاك، كانت تفخر باستخدام كلماتٍ غير متداولة. كانت كلمة «مُتناقص» من كلماتها المفضلة، وظلت كذلك منذ ذلك الحين.»

«فهمت». ثم خفض القسيس صوته ورفع ذراعه عفويًّا ليمنع عنكبوت «مال» كانت تركض على كمِّه من الابتعاد عنه لكي تجلب له الحظ. ثم أضاف: «لكن ما الذي دفعها إلى ذِكر … الويسكي؟»

لاحت الشفقة في صوت الآنسة أسبري: «آه، جوليا المسكينة. إنَّ حسَّها الفكاهي هو ما أوردها موارد التهلكة. كِلانا يعلم أنها لا تتناول المشروبات الروحية. لقد اشترت هذه الزجاجة سرًّا لعلاج الأرق لا أكثر. لكني أتخيَّل كيف راق ذلك لحسِّها التهكُّمي حين أخفَتْها في خزانة ثيابها. لا شك أنها لم يخطر ببالها أن أمر الزجاجة سيُكتشَف بعد وفاتها. لأنها … لم تتوقَّع الموت.»

قال القسيس: «أنا على يقينٍ من ذلك. لقد أحبَّت الآنسة كورنر الحياة حبًّا يمنعها من الإقدام على الانتحار.»

أطبق كلاهما فمَه خشية أن تستدعي الأفكار بعضها؛ إذ على الرغم من أن ميراث الطبيب بيري، المجهول القيمة، كان حديث القرية، لم يشأ أيٌّ منهما التطرُّق إليه؛ إذ اعتراهما شيء من الخوف أن يبدو وثيقَ الصِّلة بوفاتها.

كان هذا لأن حديثهما أقرب لاحتكاكٍ بين عقلَين مستنيرَين — المفهوم فيه أكثر أهميةً من المنطوق — من مجرد حديث مُمل عادي أوجبته الأعراف الاجتماعية. ركضت عنكبوت المال إلى فستان الآنسة أسبري، وتركها القسيس ترحَل دون أن يفطن إلى ذلك؛ إذ كان ينظر إلى الحديقة مُقطب الحاجبَين.

سألت الآنسة أسبري: «ألم تقتنِع بما قلتُه؟»

أجاب القسيس: «بل أزِنه على ميزان العقل. أريد التسليم بفرضيتك كما تعلمين. لذا فالحذر واجب.»

ابتسمت الآنسة أسبري ببرودٍ وقالت: «أفهم ما تعنيه. هناك أمر آخر. قد تراني، بطبيعة الحال، امرأةً عجوزًا أصاب عقلها الخمول، بعد انزوائها عن الحياة الصاخبة. لكني، مِثلك، كنتُ في وسط المعمعة عندما تعاملتُ مع كل أنواع الشخصيات؛ الضعفاء والمنحرفين والسَّفلة. كان لزامًا عليَّ الاستعداد للطوارئ واتخاذ قرارات سريعة. لذا كان عقلي يسبق مَن أتعامل معه بخطوة. قد لا تُصدق، يا صديقي، لكني لا أزال محتفظة بهذه العادة العقلية.»

طرح القسيس عنه ذلك الشكَّ الذي اعتراه في البداية، وهو يُنصت إلى تفاخُرها الراقي؛ إذ أدرك في أثناء محادثتهما أنها توقعت حقًّا ما كان يُفكر فيه. لو أنها استقبلته في البداية بإبداء التعاطف والشفقة، لادَّعى أنه ينعم بموفور الصحة والعافية، ولغيَّر دفَّة الحديث. غير أن ثرثرتها التافهة جعلته يُفضي لها بمكنون صدره.

غير أنه لم يشأ الاستسلام لها على نحوٍ تام.

قال: «فرضيتك بها خللٌ واحد. لو كانت الآنسة كورنر مشهورة بولعِها بكلمة «مُتناقص»، للاحظ آخرون غيرك هذه الحقيقة.»

اندهش القسيس من ردِّ فعل الآنسة أسبري إزاء فرضيته. فقد ظهرت خيوطٌ مشوهة غير مألوفة بدَّدت صفاء وجهها، واصطبغت بشرتُها الشاحبة بحُمرة قاتمة.

قالت: «لا.» وتردَّد في صوتها صدى غضب مكتوم. «سيكون هذا احتمالًا في غاية البشاعة. فسيعني ذلك أن أحد أصدقائنا مثل … مثل الدودة في عقولنا يقتات على أفكارِنا … ويغوص في أخصِّ أسرارنا ليكشفها للآخرين من باب الإساءة النفسية المحضة.»

ردَّ القسيس متوسلًا: «أرجوك، أرجوك. لم أقصد شيئًا من هذا القبيل بالتأكيد.»

خفَّض صوته عندما رأى جوان بروك تتجوَّل في الحديقة. لم تكن جوان على مسمع منهما على ما ظهر، لكنها امتازت بحاسَّة سمع قوية؛ لذا الْتقطت أذناها جُملة من كلام الآنسة أسبري.

«أعني أن بيننا ساديًّا مُتخفيًا.»

أشرق وجه جوان بالفضول؛ إذ أيقظت هذه الكلمات ذكرى قريةٍ حالمة من زمن تيودور تتوهَّج بلون المغيب الوردي، وقصة متسلسلة بعيدة عن التصديق، تُحكى بأسلوب مُثير على ساحة عشبية خضراء عبر شرائح متوهِّجة تُعرَض بفانوسٍ سحري خلف ستائر مسدلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥