زهور الكتمان المريضة
نجح حفل الحديقة الذي أقامته الآنسة أسبري نجاحًا ساحقًا، مما زاد من دهشة السيدة سكودامور واستيائها، عندما بدأت الردود على دعواتها تفِد إلى منزل «ذا كلوك». فقد قَبِلَ البعض دعواتها في حين رفضَها كثير من الشخصيات المُهمة، فطلبت المشورة من مُحاميها، الذي تصادف أن كان زوجها.
أخبرَها السيد سكودامور، الذي شعر بخطورة الموقف مثلها، بكيفية التصرُّف.
قالت: «ولكن يا عزيزي، نحن لم نؤجِّل حفلًا من قبل.»
قال: «لتكُن هذه الأولى إذن يا حبيبتي. إن لم نفعل، فقد نُخاطر بفشلِها. وستكون هذه أولى تجاربنا مع الفشل أيضًا.»
ردَّت: «أنتَ مُحق، كالعادة، يا عزيزي. لكني أصرُّ على أمرٍ واحد. لا بد من طباعة بطاقات الاعتذار.»
وهكذا صاغت السيدة سكودامور خطة للتعامُل مع ما ألمَّ بها من هلع، عندما أرسلت بطاقات الاعتذار المطبوعة، مُعلنةً عن إلغاء حفلِها بسبب حالة وفاةٍ في العائلة.
لم يحزن القسيس عندما تلقَّى الاعتذار؛ إذ كانت حفلات منزل «ذا كلوك» ذات طابعٍ رسمي إلى حدٍّ ما. ولم يعلم أن البطاقة التي قذفها بفرحٍ شديد في سلة المُهملات، كانت المسمار الأخير في نعش حفاوة القرية؛ لأنه كان قد استعاد معنوياته المُرتفعة السابقة.
لم يعُدْ يرى ذلك الكابوس المقيت؛ إذ كان عقله اللاواعي قد توقَّف عن تعذيبه. كما تقَبل نظرية الآنسة أسبري بعد أن قلَّبها في عقله من جميع الاتجاهات. فهي وإن اضطرَّت إلى قبول الهالة التي أحاطتها بها القرية، فقد ظلَّت نفس المرأة التي شغلت منصبًا منحها سلطات إدارية وتنفيذية لسنوات. ولم يشوش الزمن عقلها أو يُنقِصْ من عزيمتها.
بات في حكم المؤكد أن الآنسة كورنر المسكينة مَن كتبت خطابها المجهول؛ لذا انتهت المِحنة بوفاتها. كان ما حدث، في أسوأ الأحوال، ليس إلا هفوة عقلٍ مسَّه خلل. ومع ذلك، أحسَّ القسيس وكأن شيئًا قذرًا دُفن في اللحظة الحاسِمة بعد إصابته في مقتل.
ظل الطقس مثاليًّا، لذا أفرغ القسيس طاقته الزائدة في ممارسة الجولف، ومساعدة أحد أبناء الأبرشية المُقعَدِين في زراعة حديقته. وبعدما قضى عصرًا شاقًّا لم يخلُ من السعادة في أعمال الزراعة، راح يقطع الحقول المتموِّجة الشاسعة وسط نسيم المساء العليل، في طريقه لتناول العشاء في «ذا هول».
بدت الحياة آنذاك تبتسِم له، وكانت معنوياته مرتفعةً في أثناء تناول الطعام؛ لأنه كان يُحب عمدة القرية وعائلته وضيوفه الذين كانوا يقصُّون قصصًا ودعابات بذيئة أمامه دون أن يخطر ببالهم أنه قد يشعر بالملل. مارس القسيس الجولف كثيرًا مع الميجور بلير، الذي امتاز بقوام رياضي نموذجي، وكان يوصف بالوسامة عادةً بفضل رشاقته.
كانت عينا الميجور الصغيرتان الودودتان تُشبهان عينَي الخنزير قليلًا، وكلما ضحك ضاقت حدقتاهما ليُصبحا كشقَّين صغيرَين. عندما قارب العشاء مُنتصفه، بدأت عيناه تلمعان في بهجة.
قال: «أريد أن أسألكم، قبل أن أنسى، هل تلقَّى أحد منكم خطاباتٍ أيضًا؟»
دقَّ قلب القسيس بعُنف في حين استطرد الميجور بلير يوضح الأمر.
«أعني خطابًا مجهولًا. استلمتُ واحدًا أمس، كان مكتوبًا بحروفٍ كبيرة، كأن كاتبه طفل صغير، وحذَّرني من أنه مُطَّلع على ماضيَّ الشنيع، وأنني سأتلقَّى ما أستحقُّه في القريب العاجل.»
صاح عمدة القرية في حدة: «يا إلهي. ماذا ستفعل بشأنه؟»
أجاب: «لا شيء. لقد مزَّقته. اتخذتُ كل الإجراءات المعتادة بلا شك. هذا ما آمُله في الواقع. لكن لن أدع أحدًا يبتزُّني ويُفلت بفعلته. لستُ أحمقَ لهذه الدرجة!»
علَّق عمدة القرية: «صحيح. عامل تلك الحشرات بازدراء.»
وقالت سيدة تدَّعي أن آراءها لم يأتِ بها أحد قبلها: «لطالما أرى أنه إذا لم يفكر المرء في الأمور السيئة، فبإمكانه أن يُقنع نفسه بأنها لم تحدث. وبالتالي فهي لم تحدث.»
قال زوجها: «ستحصُلين على الخمسة الجنيهات التي رفضتُ إعطاءك إيَّاها اليوم.»
سرَت موجة ضحك حول المائدة. لدى وصول حلوى عنب الثعلب تذكَّرت زوجة العمدة امرأة قروية كانت ترتدي فستانًا بلون عنب الثعلب الأخضر الزاهي في أحد الأعراس، وسألت إذا كان أحد قد قرأ الصفحة الاجتماعية في جريدةٍ بعينِها. ثم انتهى الأمر عند ذلك وتغيَّرت دفة الحديث.
لكن النقاش ترك القسيس في حالة اضطراب شديدة. لقد ماتت الآنسة كورنر. ووارى جسدها في التراب بنفسه. ومع ذلك لا يزال الشرُّ باقيًا.
فجأة، تذكَّر القسيس حفل السيدة سكودامور المُلغى، وتساءل ما إذا كان له صِلة بالخطاب المجهول المُرسَل إلى الميجور بلير. وخفق قلبه بعُنف وبدأ رأسه يتَّجه إلى احتمالية جديدة مريعة.
تساءل عما إذا كان هناك آخرون من سكان القرية تلقَّوا خطابات مسمومة أيضًا لكنهم تكتَّموا على الأمر. وجال ببصره بين الجالسين حول مائدة العشاء، وخُيل إليه أن بعضهم يَبدون مُرتبكين، أو هادئين بشكلٍ مُبالغ فيه، كأنهم يلتزمون الحذَر.
نفض ظنَّه عن رأسه. وحدَّث نفسه بأن هذا حفل عشاء نموذجي يغلب عليه طابع المرح. بعد الانتهاء من العشاء، مارس الحاضرون ألعاب التوازن السخيفة في غرفة الاستقبال، حتى وجد القسيس الخلاص من خيالاته السوداوية في انبطاحه المُهين والآخرين على السجادة.
سار القسيس إلى منزله تحت ضوء النجوم، وهو يُدخِّن سيجار عمدة القرية الفاخر وشعر بسلامٍ مع العالم، حتى مرَّ بمدفن الكنيسة، حيث يتربَّص الخوف بضحاياه من وراء شهود القبور. وذكَّرته لسعة الهواء الباردة على وجنتَيه أن مِن سِمات القرية ألا تُجاهر بأي متاعب شخصية.
حدَّث نفسه قائلًا: «السبيل الوحيد لمحاربة هذا الشر هو مواجهته في العلن. لكنهم لو رفضوا الحديث فقد انتهى أمرنا.»
كانت مُدبرة منزله قد أضاءت المصابيح في مكتبه، وأعدَّت المشروبات استعدادًا لعودته. وكان كلبه الوفي تشارلز، يحرس وعاء البسكويت، لآخر قطرةٍ من دمه. أطعمه القسيس، وتبادل معه النمائم، ثم مدَّ يدَه لتناول خطابٍ من فوق رفِّ المدفأة.
في اللحظة التالية، شعر القسيس بضِيق في التنفُّس، كأنه تلقَّى ضربة قوية تحت الحزام. كان عنوان الخطاب مكتوبًا بالأحرف الرومانية المألوفة، وعندما فتح الظرف لاحظ نوعيَّة الورق الفاخرة المُميزة للخطابات المجهولة. كان الخطاب مؤلفًا من جملتَين قصيرتَين.
«سيحين دورك. أعرف ماضيك كلَّه.»
عاد القسيس يغوص في مقعده، وسكب لنفسه مشروبًا قويًّا. فلم يُدرك التأثير المُثبط للهمَّة للخطابات المجهولة حتى اختبرَه بنفسه.
ولأن بيوت أهل القرية ليست من زجاج، فلا تكاد تخلو كل حياةٍ من بعض الوقائع المُظلمة، من حماقات أو هفوات مؤسِفة، في غياب الخطايا الحقيقية. لمرةٍ واحدة في العمر، ستشتعل نفس أطهر عمَّال الأبرشية بنيران شهوةٍ غريزية، وستفضح عينا زوجة كاهنها، أكثر النساء حياءً، ذكرياتها الخليعة.
أثار الخطاب انزعاج القسيس لأقصى درجة، ودفعه أيضًا إلى أن يعصرَ ذهنَه وهو يُفتش في ركام ماضيه. كان قد دخل الكنيسة بعد اهتدائه إلى المسيحية الذي سار فيه على خُطى القديس بولس. وفي خلال مرحلة مجونه، استمتع بوقته، ذاهبًا في ذلك كل مذهب، وهو ما ساعده لاحقًا في التعامُل مع العاهرات والسكارى بنجاحٍ وتفهُّم تام.
وبينما كان يسترجع جميع سلوكياته المُشينة، واسترجع ذكرى الكدح الذي تجشمه في حفر طريق محفوف بالمسرَّات يقوده إلى الجحيم مباشرة، كان يبتسِم تارة ويتصبَّب عرقًا تارة أخرى، لكنه في النهاية مسح وجهه وتنفَّس الصعداء.
لقد فعل «الأمور المعتادة» مثل الميجور بلير؛ لذا لم يخشَ الابتزاز. وحذا حذو الميجور ومزَّق الخطاب وطرح بقاياه في المدفأة.
أمضى القسيس الأيام القليلة التالية في جولةٍ من الزيارات الأبرشية. لم يزُرْ فقراء الأبرشية، الذين كان يستمتِع بصحبتهم، بل اقتصر على دقِّ جرس المنازل الكبيرة فقط. وفي كل مرة تقريبًا، كانت مُضيفة المنزل في استقباله؛ ولكن أسوأ شكوكه تحقَّق.
لقد حلَّ جمود تامٌّ على كل مناحي الحياة الاجتماعية في القرية. فلم يلتقِ بأي زائر عادي آخر في أيٍّ من غرف الاستقبال التي دخلها. كانت القرية هامدة، من الشلل الذي يتبع انتشار السُّم.
وفي غضون فترة وجيزة للغاية، وجد القسيس أنه هو نفسه بدأ يتأثر بحالة التشكُّك العامة التي سادت القرية. ففي منتصف حديثٍ ودِّي، خطر بباله فجأة الخطاب المجهول الذي وصل إليه، فراح ينظر عن كثبٍ في وجهٍ باسم لشخصٍ أمامه ويتساءل: «أهذا أنت؟»
حانت له الفرصة يوم الأحد، حين أخذ يرعد ويهدر، بالمعنى الحرفي للكلمة، من فوق منبره. ولا بدَّ من الاعتراف بأنه كان مُستمتعًا، وهو يشجُب ويندِّد بالعدو السري، الذي ينشر السمَّ خصوصًا، والرعية عمومًا لمشاركتهم في الجريمة بعدما حدثت.
كان صوت القسيس يرتفع حتى يمسَّ عنان الأقواس النورماندية وينخفِض حتى يصل إلى أعماق الأقبية؛ راح يتوسَّل إلى الحاضرين لزيارته بشكلٍ خاص، في غرفة القساوسة، أو إرسال خطابٍ حال تعرضهم لاعتداء شخصي.
لم تُثمر خطبته عن أي شيء، باستثناء مجموعةٍ وافرة من الخطابات الداعمة لقضيةٍ مُعينة، والتي كانت مُزينة بكثيرٍ من الحروف المختصرة. وعلى ذلك المنوال، ظل التخثر الذي أصاب الدورة الدموية للقرية يتصدَّى لأي محاولاتٍ لإخراجه.
استبد اليأس بالقسيس، فقرَّر زيارة عمدة القرية باعتباره الأعلى شأنًا من بين أفراد الرعية، ويطلُب منه المشورة. وصل إلى «ذا هول»؛ وإذا بالرجل العظيم جالس في المكتبة، يرثي نفسه، وعلى خدِّه بقعة زرقاء برَّاقة.
قال العمدة: «نحلة»، ثم كرَّر تفسيره آسفًا: «نحلة، نحلة. لسعتْني حينَ كانت زوجتي تنقل سِرب النحل. كنتُ أتفرج فحسب أيضًا. أمر عجيب. زوجتي، التي تَركض فزعًا إذا رأت أرنبًا صغيرًا، تَستطيع ترويض ذلك النحل اللَّعين.»
كان يتحدَّث عن شجاعة زوجته النادرة، عندما دخلت السيدة الضئيلة الشقراء، للسؤال عن وجنة زوجها الملسوعة.
حيَّت السيدة القسيس، وفي عينَيها الزرقاوين الباهتتين قدر من الخوف إذ سمعت عظته الأخيرة.
سألت: «أَوَقعت مشكلة جديدة؟»
دوَّى صوت العمدة: «أي مشكلة؟»
شرح القسيس الوضع العام وطلب مساعدة العمدة.
وقال: «برأيي لا بد من إيقاف هذا الشيء. لذا أتيتُك طلبًا للمشورة.»
أعلن العمدة: «أنت مُحق تمامًا. هذه مهمة الشرطة. سأُكلف الضابط جيمس بهذه المهمة. سيراقب صناديق البريد العمودية وما شابَه.»
ردَّ القسيس: «أجل، فالشرطة على درايةٍ تامَّةٍ بكل الحيل والسُّبل للوصول إلى الهدف. لكنَّ هناك أمرًا يشغلني. ماذا لو كان الكاتب امرأة؟»
قال العمدة: «هذه احتمالية قائمة. فالقرية تكتظُّ بالنساء.»
كانت أمارات الشك لا تزال باديةً على وجه القسيس، فقال: «بالضبط. لكن أتُعجبك فكرة القبض على امرأة؟ لا يروقني ذلك. أتسمح لي باقتراحٍ بديل؟»
قال العمدة: «هاتِ ما لديك.»
قال القسيس: «لديَّ صديق، اسمُه إيجناتيوس براون، من الأغنياء العاطلين. إنه يرى نفسه شارلوك هولمز. وليس ماهرًا كما يظنُّ نفسه، لكنه يتمتع بالفراسة، ولا أحد هنا يستطيع أن يُضاهيه حذقًا. سوف أدعوه للحضور.»
قال العمدة: «لا. لا نريد هواة. سأُكلف جيمس بمباشرة هذا الأمر.»
وبينما كان يتحدث، التقت عيناه بعينَي زوجته. كانت شفتاها مضمومتَين، وأومأت برأسها بقوة علامة الموافقة في البداية، ثم هزَّت رأسها بعُنف علامة الرفض.
كانت الخبرة قد علَّمت العمدة كيفية ترجمة هذه الإشارات المتعارِضة لأنه غيَّر رأيه فجأة.
وقال: «حسنًا. ما رأيك في إرسال خطابٍ لصديقك؟»
بعدما رحل القسيس، التفت العمدة إلى زوجته. كان يستأسِد عليها في العادة، لكنه كان يتبع نصيحتها في بعض الأحيان؛ فهو وإن لم يكن يحظى بفضائل إيجابية، فلا يزال لدَيه بعض المثالب الجيدة.
قال بنبرة رقيقة: «لِمَ تدخَّلتِ في حديثنا يا كاتي؟»
أمسكت السيدة بتلابيب زوجها الضخم بفظاظةٍ كما تفعل مع نحلاتها.
وقالت: «أيًّا كان ما تنوي فعله يا أوسبرت، فلا تستدعِ الشرطة.»
«لماذا؟»
أجابت: «لأنني يا عزيزي، لا أعلم إن كان هذا الرأي صائبًا أم لا … عن نفسي لا أفهم هذه الأمور، لكن كانت الآنسة كورنر المسكينة تُحدثني عن الكبت النفسي. في بعض الأحيان قد يأخذ الكبت أشكالًا غريبة للغاية.»
بدت البُقعة الزرقاء على وجنة العمدة، أرجوانية اللون؛ إذ احمرَّ وجهه من الغضب.
صرخ قائلًا: «ما الذي تقصدينه بحقِّ السماء؟ من يُعاني من الكبت؟»
«لست … لست متأكدة، لا أدري.»
قال: «بل تعلمين. أنت تُخفين أمرًا. أهو من أفراد منزلنا؟»
أجابت: «لا أحد. لا أحد.»
فاضت عينا السيدة بالدموع، وكادت أن تصيح نافيةً اتهامات زوجها. لكنَّ سُمَّ الخطابات كان قد انتشر؛ إذ راحت تنظر حولها، ثم خفضت صوتها.
وقالت: «أشكُّ أحيانًا يا أوسبرت في حكمة قرارنا عندما لم نسمح لفيفيان بالزواج من الشاب بيلسون. لقد قُتل في الحرب على أيِّ حال؛ لذا كان من الأفضل ألا نتورَّط مع عائلته.»
زأر العمدة قائلًا: «كفاكِ تلميحًا وأخبريني بما يدور في ذهنك حقًّا.»
واندهش حين انحنت زوجتُه على عنقه الأحمر، ولثمت طيَّةً من طياته.
وهمست: «لا أعرف فيمَ أفكر يا عزيزي. لكن، أرجوك، أرجوك، لا تُقحم الشرطة. أخشى مما قد تُثيره تحقيقات الشرطة من فضائح ومتاعب.»