اهتزاز الغصن
كما توقَّع القسيس، قَبِل إيجناتيوس دعوته بلا تردُّد. ووصل بسيارته اللانشيستر، عند الظهيرة تقريبًا، حيث كانت الأكواخ المسقوفة بالقش تتوهَّج تحت أشعة الشمس، والنحل ينهل من القرنفل الوردي وزهور المسك. تأمَّل إيجناتيوس المعمار التيودوري من نافذة غرفة مكتب القسيس مُبديًا استحسانه.
وقال: «مكان جميل. ربما آتي للاستقرار هنا بعدما أستقيل من وظيفتي المُعقدة في فعل اللاشيء … في الحقيقة، بمجرد النظر من النافذة، أراني قد حللتُ جزءًا من مشكلتك الصغيرة.»
ابتسم القسيس عندما سمع تلك الصفة المألوفة، «الصغيرة»، التي يستخدِمها إيجناتيوس دائمًا في وصف مخاوف الآخرين.
كان صديقه قصيرًا ونحيفًا جدًّا؛ يُوحي قوامه الضئيل من بعيدٍ أنه تلميذ، لكن ما إن تقع العين على وجهه تتَّضح الحقيقة؛ إذ كان مليئًا بالتجاعيد ويشعُّ ذكاءً. كما أنه — بعيدًا عن المبالغة — لم يُعانِ من أي عُقد نقص.
وافقه القسيس في ثنائه على القرية حتى وهو يتنهَّد.
وقال: «أجل، إنها رائعة. لا أحد يغادر القرية إلا للموت.»
ألقى إيجناتيوس نظرة سريعة على وجه صديقه المُضطرب. وناداه باسمه القديم الذي كان يستخدمه في الكلية، بينما يربِّت على كتفه العريضة بمزيج من الإشفاق والدعم.
قال: «هوِّن عليك يا تيجر. حدثني عن مشكلتك الصغيرة.»
انفجر الطبيب: «صغيرة؟ ليست بالصغيرة يا رجل. إنها مثل سرطان يتغذَّى على جذور نبتة صحية.»
ردَّ إيجناتيوس: «بالضبط … كيف؟»
قال القسيس: «إنه الخوف. الجار يشكُّ في جاره. العلاقات الاجتماعية في انهيار.»
علَّق إيجناتيوس: «لحُسن الحظ. هذا مجرد اسم آخر للفضيحة.»
ردَّ القسيس: «لا يا إيجناتيوس، ليس هنا. هذا مكانٌ مثالي، أو بالأحرى كان كذلك.» وبدأ يذرع غرفة مكتبه جيئةً وذهابًا، فيما تدفَّقت الشتائم من لسانه في سَيل عارم.
وقال: «أريدك أن تُحاول استيعاب أهمية هذه القرية بالنسبة إليَّ. لطالما كنت شخصًا ماديًّا. وانخرطتُ لسنواتٍ في بؤرة من الخطايا والآثام حيث ظهر كل من الرجال والنساء بلباس الوضاعة والرذيلة. أعلم أن الروح لو كانت أنقى لرأت ومضاتٍ من النور الإلهي. لكني لم أرَ منها شيئًا. بذلتُ غاية جهدي في طريق الشر. وبعدما انهرتُ أتيتُ إلى هنا … وأتتني رؤية جديدة. مثلٌ أعلى. لقد وجدتُ الهداية وبُعِثت من جديد.»
توقف عن الكلام بغتةً وضحك بخجَل.
وقال: «آسف. نسيت أنني لستُ واقفًا على المنبر. لكنني حقًّا في ورطة كبيرة.»
ردَّ إيجناتيوس: «إنها بضعة خطابات مجهولة لا ضرَرَ منها. الأمر لا يستحق. فلتُخبرني بكل ما تعرفه عن الخطابات.»
لم يبدُ إيجناتيوس مُنصتًا إلى حديث القسيس. كان أكثر انشغالًا بنفخ حلقاتٍ من الدخان على ما يبدو. ولكنه أومأ برأسه في نهاية الحكاية.
عقَّب قائلًا: «حسنًا. لقد حصلتُ على المعلومات اللازمة. أفهم من كلامك أن عدد سكان القرية ثابتٌ لا يتغيَّر. ألا تستقبلون سكانًا جددًا من حينٍ إلى آخر؟ مَن أحدث الوافدين؟»
عض القسيس شفتَيه.
وأجاب: «فتاة تُدعى الآنسة بروك. إنها مرافقة ليدي دارسي، ومضى على قدومِها بضعة أشهر فحسب.»
«وهل وردت الخطابات بعد وصولها؟»
«أجل. لكنها فتاة جذَّابة، أقصد أنها لطيفة نقية السريرة. هي بعيدة عن كل الشكوك.»
«بالتأكيد. من الواضح أنها آخر شخصٍ يمكن أن تُوجَّه إليه أصابع الاتهام.»
سأل القسيس مندهشًا رغم زوال أثر الكدَر عن وجهه: «لماذا؟»
تحدث إيجناتيوس بنبرةٍ لاذعة: «ألم تُعِرْ أي اهتمامٍ لتعليقي حينما قلتُ إنني ما إن نظرتُ من النافذة حللتُ نصف مشكلتك؟ لا أتحدَّث لإثارة الإعجاب. فور أن رأيت جمال القرية، علمتُ أنها شريكة في الجريمة مع كاتب الخطابات المجهول. فجمالُها أخَّاذ حتى إن لا أحد يُغادرها بإرادته الحرة مثلما ذكرت … لم أنسَ تعليقك كما ترى.»
سأل القسيس: «أفي ذلك ضرَر؟ لم يسافر أسلافنا في الماضي وأبلَوا بلاءً حسنًا.»
أجاب إيجناتيوس: «مَن أخبرك بذلك؟ كل ما تعرفه عنهم أنهم لم يعودوا بيننا. تكثُر الطفيليات في الماء الراكد. ويَصدُق هذا على البشر أيضًا. من الخطأ أن يتجذَّر الإنسان في مكانه.»
علق القسيس: «لا أوافقك الرأي. يُمكنني أن أعطيك أمثلةً لأشخاص لم يغادروا بيوتهم قط، لكنهم عاشوا حياةً سعيدة مثمرة.»
قال إيجناتيوس: «أتفق معك. لكن عليك الاعتراف، بدورك، أن لكلِّ قاعدةٍ شواذَّ، وأن شخصًا ما سيتأثر بالسلب من طول المقام. لا تنسَ أنني هنا لحلِّ قضية شاذة. هلا تُخبرني، إن استطعت، عن أقدم مَن سكن القرية دون أن يُغادرها؟»
فكر القسيس برهة.
وقال موضحًا: «عندما قُلتُ إن السكان لا يغادرون القرية أبدًا كان ذلك من باب التغليب. هناك عائلة مارتنز، من منزل «تاورز»، التي أمضت ما يقرُب من عامَين تجوب العالم.»
كان يتحدث بعفوية — غير مُدرك أهمية عودة العائلة الغائبة — وهو يردُّ على سؤال صديقه.
قال القسيس: «منذ بضعة أيام قالت لي امرأة إنها لم تنَمْ تحت سقفٍ غريب لما يقرُب من ثلاثين عامًا.»
قال الرجل بنبرة انتصار: «هي إذن المُشتبَه بها في القضية. مَن هذه المرأة؟»
أجاب القسيس: «آنسة أسبري. هي أول من تلقَّى خطابًا مجهولًا. وبالتأكيد هي أبعدُ ما يكون عن دائرة الاشتباه.»
قال إيجناتيوس: «اترك لي الحُكم في الأمر. سأضع السيدة تحت المراقبة الخاصة.»
ثم أخرج دفتر ملاحظاته وثبَّت عدسته المُفردة بإحكام.
وأضاف: «لقد استنتجتُ من الورقة الفائقة الجودة، وصحَّة الإملاء، والمعلومات الشخصية الدقيقة أن ذلك الشخص المُزعج من دائرتك الاجتماعية الصغيرة حتمًا. والآن أريد أن أعرف أسماءهم، وكل ما يُمكنك أن تُمدَّني به من معلوماتٍ عنهم، لا سيما الآنسة أسبري.»
كان القسيس — الذي لم يكن يعرف الكتابة الاختزالية — مبهورًا بالنقاط والشُّرَط التي ملأ بها صديقه صفحات دفتر ملاحظاته. وكان إيجناتيوس — الذي لم يكن يعرف الكتابة الاختزالية أيضًا — ينتظر هذه الاستجابة من القسيس. لقد أصاب عندما خمَّن أن القسيس سيُعلي من شأن إنجاز بسيط لطالبٍ من كلية التجارة على حساب ذاكرته الاستثنائية.
قال إيجناتيوس: «أريد مقابلة كل هؤلاء الأشخاص في أقرب وقتٍ ممكن. يجب أن تُقيم حفلًا.»
«لن يأتِي أحد.»
أغلق القسيس عينَيه وطقطق أصابعه، كأنه يستدعي ذكرى مُستعصية، وقال: «حسنًا، إذن فليكن نشاطًا ترفيهيًّا ريفيًّا عاديًّا. انتظر. إضاءة مُظللة خافتة. حرارة فرن. رائحة أعشاب مطحونة ساخنة مع الخوخ. زهور داليا مُقحمة في مُربعات الورق المقوى. سمِّ هذا.»
هز القسيس رأسه وهو يقول: «تقصد معرضًا للزهور. لم يحِن الوقت بعد.»
قال إيجناتيوس: «إذن ما باليدِ حيلة. لا مفرَّ من الذهاب إلى الكنيسة إذن. أعدَّ لي مخططًا، على منوال مُخططات المسارح، بأهم المقاعد، واذكر أسماء أصحابها.»
أطاعه القسيس، وأعدَّ مُخططًا تقريبيًّا لمقاعد الكنيسة، رغم استيائه من التشبيه العلماني.
وقال: «عادةً ما تمتلئ الكنيسة بالمُصلين في حضرتي. لذا سترى أكثر رعايا أبرشيتي قبل بدء القداس.»
صحَّحه إيجناتيوس: «تقصد جميعهم. سيأتون لرؤيتي.»
ابتسم القسيس ابتسامةً عريضة ثم استحال تعبير عينَيه إلى الجدية. وقال: «هذه المسألة أسوأ بكثيرٍ مما تظن يا إيجناتيوس. أيمكنني الاعتماد على مساعدتك؟»
أجاب: «لا. تُوحي كلمة المساعدة بتقسيم العمل. يُمكنك أن تترك المسألة كلَّها لي.»
وانحنى إجناتيوس ليربِّت على الكلب، وخاطبه بنبرةٍ متواضعة.
قال إيجناتيوس: «تشارلز ديكنز. لستَ سوى رجلٍ بسيط. هل قدَّم لك أحد غداءً من قبل؟»
قفز القسيس ناحية الجرس والندَم يتملكه لإغفاله إكرام ضيفه. استمتع صديقه بالوجبة البسيطة التي قدَّمها إليه، رغم اعتياده تناوُل الطعام من أيدي كبار الطهاة. وبعد الانتهاء من تناول الطعام، أصرَّ على الإرسال في طلب مُدبرة المنزل ليُهنئها بنفسه. وفي غضون فترةٍ وجيزة خرَّ نائمًا على العشب.
بعد الانتهاء من تناول الشاي، واصل إيجناتيوس خُطته النظامية.
وقال: «أرى أن نقوم بجولة في القرية. ولا بد أن تُوقِف مَن نصادفه في طريقنا. وتُقدمه إليَّ، على أن تتولى أنتَ مسئولية الكلام، وسأتولى أنا المراقبة.»
لمعت عينا القسيس؛ إذ تذكَّر أمرًا ما فجأة.
قال: «لنذهب لزيارة الكنيسة أولًا.»
وجد القسيس جوان بروك تُنظم زهور المذبح نيابة عن ليدي دارسي كما توقَّع. وسرعان ما لاحظ الإعجاب المتبادل بينها وبين إيجناتيوس؛ فقد التقت أعيُنهما في نظرة عميقة مطوَّلة كما لو أن كلًّا منهما يُقيِّم الآخر.
سارعت جوان تتحدَّث باندفاعها المعتاد.
وسألت: «هل أتيتَ من أجل الخطابات؟»
ألقى إيجناتيوس نظرة مُعاتبة ناحية القسيس.
وسأله: «هل أخبرتَها بذلك؟»
أجابت جوان بسرعة: «لم يفعل. كل ما في الأمر أنه حدَّثني عنك منذ وقتٍ طويل.»
علق القسيس في فخرٍ واضح بذكاء جوان وبُعد نظرها: «شخص آخر غيركَ لديه ذاكرة قوية يا إيجناتيوس.»
ردَّ إيجناتيوس: «يبدو أن أحدهم يحفظ ملاحظاتك جيدًا. إلى أي مدى تمتدُّ ذاكرتك يا آنسة بروك؟»
أجابت: «الربُّ وحدَه أعلم. لكن أكثر الذكريات حضورًا في ذهني هي ذكرى المال الذي سرقتُه من حقيبة أمي.»
قال إيجناتيوس: «أما أنا فأتذكَّر أنني تشاجرتُ مع طفلٍ رضيع يصغُرني حجمًا. أظن أنه كان لديَّ أحد عشر شهرًا، لكن انتابني إحساسٌ رائع حينها. فقدتُ أثر الطفل، ومنذ ذلك الوقت وأنا أشقُّ طريقي في الحياة، بحثًا عن شخصٍ يصغُرني حجمًا، لأُصارعه وأغلبه.»
دوَّت ضحكات جوان عاليًا، بما لا يتناسب مع وجودها داخل كنيسة، فبذل القسيس غاية وُسعه للسيطرة على الموقف.
قال بوقار: «أقدم ذكرياتي هي جلوسي فوق ركبة والدي، في ضوء الموقد، وهو يقصُّ عليَّ الحكايات.»
علَّقت جوان: «لا بد أن أباك كان صغيرًا آنذاك. أكانت القصص عن الملائكة؟»
أجاب: «لا. كانت تُشبه مغامرات ديك تيربن. أظن أنها كانت مُصنفة قصصًا بوليسية.»
وابتسم القسيس لكنه عاد إلى توتره مرة أخرى. أحسَّ إيجناتيوس، الذي كان يتأثر بالأجواء النفسية من حوله، بانقباضٍ طفيف، مثل نبتةٍ حساسة مسَّتها أصابع خشنة.
وراقب بفضول الطبيب بيري، وهو يسير عبر ممرِّ الكنيسة، ليتعرَّف إلى الزائر بدوره.
قال القسيس مُتصنعًا الودَّ بالمبالغة فيه: «ها قد جاء الرجل المحظوظ. لقد ورث لتوِّه ثروةً ضخمة.»
علق الطبيب بيري بصوتٍ لا يكاد يكون مسموعًا: «هكذا سمعت.»
سألت جوان بحسَد: «هل ستجوب العالم؟ سأفعل لو كنتُ مكانك.»
أجاب الطبيب: «ربما أرحل من عالَمنا إلى العالَم الآخر، لكني لا أعتزم حاليًّا الدوران حوله.»
أصرَّت جوان: «ولكن ألا تشعُر بحماسة غامرة؟»
ردَّ الطبيب: «هذا كلام سابق لأوانه. ستستغرق تسوية التركة طويلًا. وقد لا يجد المنزل مُشتريًا. فسُوقُ العقارات كاسدة.»
قال القسيس: «عندما يُباع أريدك أن تشتريَ لي مجموعة أجراس جديدة.»
نظر الطبيب إلى القسيس نظرةً مِهنية متفحِّصة ولاحظ عينَيه المنتفختَين ووجهه الغائر. قال: «لن أنسى ذلك يا أبتِ. ألا تزال قلقًا بسبب هذا الخطاب العبثي؟»
أجاب القسيس: «بلى، أعترف أنني أشعر بالقلق.»
قال الطبيب: «لا تقلق. تذكَّر المثل العربي: «هي ليلة يا مكاري».»
وابتسم الطبيب، لكنها كانت ابتسامةً كئيبة على نحوٍ غريب، بالنسبة إلى رجلٍ ورث ثروة لتوِّه.
قال الطبيب: «أريد استشارتك يا أبتِ بشأن حالة تتماثل للشفاء في القرية. أظن أنه يجدُر بنا تنظيم رحلة إلى الساحل لتغيير الجو.»
وعندما انتحى الطبيب بالقسيس جانبًا، تحدث إيجناتيوس الذي كان منهمكًا في فحص لوحة جدارية، إلى جوان بصوتٍ خفيض.
وقال: «ملامح ذلك الطبيب لافتة للنظر. يتراءى لي أن بها مسحةَ قداسة. ليت صديقنا القسيس الضخم يُشبهه.»
لم يُعجِب جوان تشبيهه ورمقته بنظرةٍ غاضبة.
وقالت: «لا أوافقك الرأي. أفضل أن يبدو الرجل رجلًا.»
سأل إيجناتيوس بسخرية: «أتُقيِّمين الرجولة بالأرطال والإنشات؟»
لم تكن زلَّة لسان جوان مقصودة؛ لأنها عضَّت على شفتَيها، وبدأت تتحدَّث بسرعةٍ مُبالغ فيها.
قالت: «أنا أُحب الطبيب. لا أمرض قط، لكنني عندما خلعتُ إحدى أسناني أعطاني مخدرًا. فانهلت عليه بسيلٍ من الشتائم ولكمتُه في وجهه. لكنه عاملني بلُطف بالغ. وقال إنني كنتُ مُضحكة فقط بعض الشيء … أرى أن رميَه بتهمة الخطاب المجهول أمرٌ في غاية السوء.»
نظر إيجناتيوس نظرة مُتحفِّزة كنظرة كلب صيد.
وتمتم: «هو أحدُ المشتبَه بهم إذن؟ لِمَ يا تُرى؟»
قالت جوان: «أرى أن الأمر واضح. يُقال إن الخطابات — باستثناء خطاب الآنسة أسبري — تكشف عن أمورٍ شخصية حسَّاسة. والطبيب، كما تعلم، هو من يملك هذه المزية بحُكم عمله.»
علق إيجناتيوس: «لكن هناك رجلًا آخر، لدَيه فُرَص أفضل وأكثر، لمراقبة منازل الغير والاطلاع على أسرار أصحابها في غفلةٍ منهم.»
«من؟»
«عامل تنظيف زجاج النوافذ.»
«لا يُوجَد واحد في القرية. في العادة يتولى البستانيون أو السائقون تنظيف النوافذ.»
قال إيجناتيوس: «إن كان الأمر كذلك، فينبغي ألا أحرمك من الطبيب، مُشتبهك الأثير.»
امتعضت جوان من نبرة الازدراء الطفيفة التي لاحت في صوته.
فقالت: «لستُ كذلك. أعني أنني لا أفترض ذلك. فالطبيب بيري أرقى من أن يأتي بأشياء كهذه. لا بد أن كاتب الخطاب المجهول ذو عقلٍ مريض.»
ولأن التناقُض كان نزعةً مستحكمة لدى إيجناتيوس، وجد أن من الضروري وضع جوان عند حدِّها.
فقال: «ليس بالضرورة. أعرف رجلًا مهذبًا للغاية، كان رئيسه في العمل يُعذِّب كلبه دائمًا ويُقيده بالسلاسل. ولم يجرؤ هذا الرجل على الاعتراض جهرًا؛ لأن لدَيه زوجة وعائلة يعولها. لذا كتب خطابًا مجهولًا لرئيسه، أخبرَه فيه أن سلوكه عارٌ على المنطقة، وهكذا لم يضرَّ بنفسه وجاء تصرُّفه بنفعٍ بالِغ على الكلب.»
اكتفت جوان بالابتسام وهي تجمع مُتعلقاتها.
وقالت وهي تنظر إلى الباب الغربي، حيث كان القسيس يُفارق الطبيب: «احمل سلامي لأبتِ.»
انتظر القسيس حتى وصلا إلى ساحة القرية قبل أن يتحدَّث إلى صديقه عن جوان.
سأله عرَضًا: «ما رأيك بها؟»
أجاب صديقه: «مثيرة للفضول. عيناها بها مسحة من سِحر الشرق، رغم عدم تهذيب حاجبَيها. وهي مُباشِرة لا تعرف إلَّا اليمين أو اليسار بحسب ما يقتضي الموقف. فلا مجال لأنصاف الحلول مع هذه الفتاة.»
سأل القسيس: «أتعني أنها تتَّسم بالشجاعة وقوة الشخصية معًا؟»
ردَّ صديقه: «أجل.» ثم غيَّر إيجناتيوس دفَّة الحديث. وقال: «أدين لك يا تيجر لأنك أخبرتني بمشكلتك الصغيرة. أبدو كعرَّاف الماء الذي يتكهَّن بمواضعه. فأنا أُمسك بغصن شجرة وأُمرِّره فوق الطبيعة البشرية المُستترة. ولا أعلم إطلاقًا متى سيهتز الغصن.»
ثم وقف مشدوهًا من جمال القصر الريفي الإليزابيثي «ذا سباوت». كانت بوابات القصر الطويلة المُزينة بالمشغولات الحديدية مُشرعة، فاستطاعا بوضوحٍ رؤية سيدة طويلة رشيقة القوام، ذات شعر أشيب مُغطًّى بقطعة من الدانتيل الإسباني الأبيض، وسيدة بدينة وقصيرة كانت ترتدي قميصًا صوفيًّا رغم حرارة الجو.
همس القسيس لرفيقه: «هذه الآنسة أسبري ومرافقتها.»
قال إيجناتيوس: «يا لها من صورةٍ ساحرة. كثيرًا ما تختلف الأشياء عن الظاهر. لذا سأفترض أن السيدة الطويلة الأرستقراطية هي المرافقة، والمرأة العادية القصيرة هي سيدة المنزل.»
قال القسيس: «أنت مُخطئ. في قريتي المثالية، المظاهر ليست خدَّاعة. هيَّا بنا.»
لكن إيجناتيوس تلكَّأ ليُطيل النظر في الحديقة.
وتمتم: «إذن هذه هي الآنسة أسبري. يبدو لي الموقف قابلًا لاحتمالاتٍ كثيرة يا تيجر. امرأتان تعيشان معًا، إحداهما في القمة والأخرى في القاع. إحداهما غنيَّة والأخرى فقيرة. إحداهما في إمرة الأخرى.»
سأل القسيس منفعلًا: «ماذا تعني؟ أتُشير إلى حقيقة أن الآنسة أسبري تدفع راتبًا للآنسة ماك؟»
أجاب: «أجل. تدفع لها مقابل الاستقواء عليها.»
علق القسيس: «هراء. الآنسة أسبري ربَّة عمل طيبة ومُراعية للآخرين. ولو افترضنا جدلًا أنها ليست كذلك، فالآنسة ماك مُخيَّرة. تستطيع حزم أمتعتها والرحيل متى شاءت.»
واصل إيجناتيوس السير، وهو يتأمَّل منظر الأكواخ التيودورية بحاجبَين مقطبَين.
ثم قال: «أجل، تستطيع الآنسة ماك الرحيل، شرطَ عدم تقويض إرادتها. في بعض الأحيان، لا يغادر السجين زنزانته، حتى بعد أن يُفتح الباب له؛ لأن رغبته في الهرب قد انطفأت.»
علَّق القسيس: «تتحدث بحماقةٍ لا تليق برجلٍ ذكي مثلك يا إيجناتيوس.»
قال إيجناتيوس: «ربما. لكن لا تنسَ أن عليَّ التفكير في جميع الاحتمالات القريبة والبعيدة. وأريدك أن تتذكَّر ما سأقوله الآن. إن كان حلُّ مشكلتك يكمُن في ذلك المنزل الفريد فالوضع جِدُّ خطير.»