الفصل الخامس عشر

روميو من لندن

تأكدت نبوءة إيجناتيوس؛ إذ جذب الفضول أهل القرية إلى الكنيسة بأعدادٍ كبيرة في صباح اليوم التالي. وتبيَّن أن مشهد الزائر المرموق مُخيب للآمال؛ إذ بدا غير لافتٍ للنظر أكثر من المعتاد؛ حيث غاص في مقعده قاصدًا ألا يجذِب الأنظار إليه.

ولكن مع بدء القداس، تبدَّد الجمود الذي يتملَّك الرجل الضئيل بصورةٍ واضحة، وبدأ يظهر اهتمامه بمقعد الآنسة أسبري. ولاحظ بعض الرعيَّة، في استمتاع، انشغاله بخادمة آنسة أسبري.

بدت أدا جميلة بفستانها الأبيض البسيط، الذي حكمت مخدومتها الآنسة أسبري بأنه الرداء المناسب للكنيسة؛ كما أنه لم يكن لها منافس بالمكان؛ إذ توسَّطت في جلستها الآنسة أسبري والآنسة ماك.

ورغم حياء عينَيها الزرقاوين كزُرقة البحر، كانت الآنسة ماك تجيد لعبة جذب الانتباه بحذافيرها، وكانت تعرف الزمان والمكان المناسبَين لإلقاء كتاب صلواتها. وفضح إيجناتيوس اهتمامه بها تمامًا عندما سقط كتابها؛ إذ قفز على الفور عبر الممرِّ لالْتقاطه.

وكان لا بدَّ له من مدِّ ذراعه أمام الآنسة ماك ليُعيد الكتاب إلى الخادمة؛ لكنها بدت غافلة عما يحدث حولها، بينما لم ترخِ الآنسة أسبري عضلة. فجلست الآنسة في مقعدها، جامدة كالتمثال، تُشبك يدَيها بإحكام وتضم شفتَيها في تأمُّل عميق امتزج بتعبير صارم.

كانت عظة القسيس مُثيرة للمشاعر وصادقة في الوقت نفسه، لكن كان إيجناتيوس مُنغلق القلب أمام سحرها، وأصمَّ الأذنَين أمام فصاحة إلقاء صديقه؛ إذ جلس يتأمل جمال أدا، كأنه يشكر الرب الذي وهبَها هذا الوجه الجميل.

ظلَّ إيجناتيوس شارد الذهن وصامتًا في أثناء تناول الغداء، وبعد الفراغ منه خرج للتجوُّل في القرية. وعندما حملته قدماه إلى بوابات قصر «سباوت»، ظهرت أدا في زينتها المباحة لها في يوم الأحد، مرتديةً فستانًا طويلًا ذا أهداب من قماش الفوال الأصفر، مزخرفًا بأزهار المخملية المطبوعة، وقبعة عريضة كبيرة، كلاهما مُستنسخ من صورة فوتوغرافية من سباق أسكوت للخيل في صحيفة «ديلي ميل» البريطانية.

لم تبدُ أدا مندهشة برؤية إيجناتيوس الذي ألقى عليها تلك الملاحظة الافتتاحية التقليدية.

فقال: «ألم نلتقِ من قبل؟»

علقت أدا على الفور: «لست غبية.»

ردَّ إيجناتيوس: «أرى أنكِ ذكية مثلما أنتِ جميلة. وأنا نفسي، بصفتي رجلًا ذكيًّا، أكره مرافقة الأغبياء.»

علقت أدا: «حسنًا، إذا كنت ذكيًّا لهذه الدرجة، ستعرف أنك لن تنجح معي أبدًا.»

حاول إيجناتيوس بأقصى جهده أن يبدو متواضعًا، لكن بلا جدوى.

فقال: «أعترف أنني لستُ وسيمًا للدرجة، لكني أمتلك سيارة فاخرة.»

لمعت عينا أدا وهي تقول: «أعلم. سيارة لانشيستر. ما رأيك في أن نذهب في جولة بالسيارة؟»

أجاب: «لا. أرغب في التريُّض. أخشى أن أكتسب وزنًا … لكن إن أتيتِ معي للتمشية، فسأسمح لك باستخدام السيارة الليلة وحدَك. وسأمنحك فرصة اختيار السائق.»

اندهشت أدا من تلميح ذلك الغريب، لكنها أخفت اندهاشها ببراعة فائقة جعلت إيجناتيوس يرمقها بنظرة احترام مُتجدد.

قالت أدا وهي تتَّجه بحكم الفطرة نحو ظلة ممشى كواكرز: «حسنًا، اتفقنا، إذن.»

لم يمضِ وقت طويل على سيرهما تحت أشجار الكستناء، حتى أدركت أدا أن هذه الجولة لن تكون عادية. فلم ينصحها السيد القادم من لندن بتجربة التمثيل في الأفلام كما اعتادت. بل تحدث إليها عن باريس ونيويورك اللتَين تعلم عنهما أكثر منه؛ إذ رأتهما في الصحف المصورة.

ولكن سرعان ما وجدت أدا نفسها في الجزء الخلفي من قصر «سباوت»، مع أنها لم تتذكَّر كيف سارت رحلة العودة.

سأل إيجناتيوس: «هل تُعطيك الآنسة أسبري عصر كل أحدٍ إجازة؟»

ردَّت: «أنا من آخُذها.»

«وهل تكون الآنسة ماك متفرغة أيضًا؟»

«لا.»

«لكن ما نوعية العمل الذي تفعله يوم الأحد؟»

قالت بنبرة لاذعة: «عملها المُعتاد. لا شيء.»

سأل إيجناتيوس: «محظوظة هي الآنسة ماك. ألا تحسدينها؟»

«بالطبع لا.»

حملت نبرة أدا الجازمة إيجناتيوس على توجيه مزيدٍ من الأسئلة إليها.

فسألها: «لِمَ لا؟»

أجابت أدا: «اسأل نفسك.»

حاول إيجناتيوس استخدام استراتيجية أخرى في الهجوم؛ إذ كانت أدا مُتحفزة بوضوح.

فقال: «مسكينة الآنسة ماك. أظنُّها تستحق الشفقة! لا جمال. ولا حيلة لها من أمرها.»

ردَّت أدا بنبرة ناصحة: «ليست جديرة بالشفقة. هي من جنت على نفسها. وها هي الآن لم تحصد أي نفع.»

«أوه. هل حصلت على ترقيةٍ في الفترة الأخيرة؟»

«أجل. كانت تقوم بالأعمال المنزلية مثلنا. لكنها أخذت تتملَّق الآنسة أسبري حتى صارت سكرتيرتها. ومنذ ذلك الوقت وهي تجلس طوال اليوم، مع الآنسة أسبري، ولا تتحدَّث إلينا إلا فيما ندر.»

سأل: «وكيف عرفتِ أنها تملَّقت الآنسة لتحصل على تلك الوظيفة المُمتعة المُتمثلة في التواجد حبيسة مع امرأة عجوز بصفة مستمرة؟ ربما بادرت الآنسة أسبري إلى ترقيتِها بناءً على كفاءتها.»

قالت أدا مُصحِّحة: «لم أدَّعِ أنني أعرف ذلك يقينًا أبدًا. لقد قلت إنها تملَّقت الآنسة أسبري. سمعتُها وهي تتحدَّث معها أثناء الطعام.»

سأل إيجناتيوس: «أي طعام؟»

أجابت: «على العشاء. هل تُصدق أنها تريد أن تتناول نفس الطعام الذي نتناوله في المطبخ؟»

سأل: «وهل تحققت لها رغبتها؟»

ردَّت: «أجل، بعد فترةٍ قصيرة. فالآنسة طيبة جدًّا.»

جدَّ إيجناتيوس في السير، قارعًا جذوع الأشجار التي يمرُّ بها بعصاه، دون أن يدري.

وسأل: «ألا تخرج الآنسة ماك أبدًا؟»

شرحت أدا: «إنها بدينة جدًّا وكسولة. كانت بشرتها نضرة بعض الشيء فيما مضى، لكنها الآن شاحبة بيضاء كالشمع. أعتقد أنها تتناول الكثير من النشويات.»

قال إيجناتيوس: «قد يكون لذلك تفسير آخر. ربما يكون هناك شرخ في العلاقة بينك وبين الآنسة ماك. هل تحاول إملاء أوامرها عليكم؟»

أجابت: «بلى، تحاول فعل ذلك دومًا، لكننا نسخر منها مباشرة وفي وجهها. ليتك سمعتها. تقول: «أنا المسئولة هنا».»

وتشامخت برأسها بقوة، حتى إن قبعة الكرينولين الخفيفة تحركت من مكانها، وألقى بها النسيم على الأرض. لم تلحظْ أدا أنها أضاعت قُبعتها؛ إذ واصلت حديثها في تباهٍ.

قالت: «إن استقلتُ من وظيفتي، فستُضطر الآنسة أسبري لتدريب خادمة جديدة. لكن إن استقالت الآنسة ماك من عملها، فسيتنافس المئات على وظيفتها.»

قال إيجناتيوس: «لديك ذاكرة تحتفظ جيدًا بالأمور التي تسمعينها بالمصادفة يا أدا. هل الآنسة أسبري تُحب الآنسة ماك؟»

أجابت أدا بحذر: «الآنسة أسبري تُحسِن معاملتنا جميعًا.»

سأل إيجناتيوس: «هل توبِّخ أحدًا؟»

ردَّت: «لا. تكتفي بالقول: «لقد أنذرتك. لن أُكرر تحذيري مرتَين. في المرة القادمة، ستغادر المنزل».»

سأل إيجناتيوس: «هل أنذرتكِ من قبل يا أدا؟»

ردَّت: «لم تُحذرني هي. إنها تعلم أن الخادمات المتمرِّسات كالعملة النادرة.»

سألت: «وهل أنذرت الآنسة ماك؟»

أجابت أدا ضاحكة: «وما جدوى ذلك؟ فلن تستطيع إقناعها بالذهاب أبدًا. ضعها عند الباب الأمامي، وستدخل لك كالجرو من الباب الخلفي. سمعت الآنسة أسبري، بأُذنيَّ هاتَين، تأمرها بالذهاب. لكنها بقيت.»

وتشامخت برأسها مرة أخرى، وبدا لها أن هناك شيئًا مفقودًا؛ إذ أطلقت صرخة خافتة.

قالت: «لم ألحظْ أبدًا. لقد أضعتُ قبعتي.»

قال إيجناتيوس: «تفضلي»، وأعطاها قبعتها المصنوعة من القش والكرينولين التي كان يُخفيها وراء ظهره. وقال: «ستُضيِّعين رأسك المرة القادمة.»

ردَّت في تباهٍ: «مُستحيل. إنه مُثبَّت بإحكام … حسنًا، حسنًا، تضيع مني الأشياء الصغيرة دائمًا، لكني لم أضيِّع قُبعتي من قبل.»

ورغم ما بحديثها من تعريض، فقد حاول إيجناتيوس استجوابها مرة أخرى.

قال: «هذا ظلم بيِّن. من المؤسف أن تُضطر فتاة جميلة مِثلك إلى القيام بكل العمل، في حين تعيش الآنسة ماك البدينة حياة مرفَّهة. ألا تودِّين تبادل الأدوار معها؟»

أجابت: «لا. شكرًا.»

عاد إيجناتيوس إلى فكرته الأصلية، لكن أدا كانت متيقظة وجاهزة بإجابتها هذه المرة، قبل أن يطرح سؤاله الحتمي.

«لماذا؟»

أجابت برسمية: «لا أريد أن أشبهها.»

ثم نظرت إلى ساعتها وصرخت.

«حان وقت العودة. يجب أن أعدَّ الشاي.»

وفي طريق عودتهما، ترك إيجناتيوس الحديث عن قصر «سباوت»، وبدأ يتحدَّث عن القرية عمومًا. ولم تكن أدا التي كانت تستمتع بهذه الأمور كثيرًا، بحاجةٍ إلى التشجيع، إذ كرَّت على مسامعه الشائعات المتداولة دون توقُّف. لكن سرعان ما تملَّكهما الصمت، وانشغل كل منهما في مراجعة المحادثة. وعندما بلغا بوابة «سباوت»، وحان وقت فراقهما، لاحظت أدا بسرعة أن إيجناتيوس لم يشِرْ إلى أي لقاءاتٍ مستقبلية.

حدَّثت نفسها في ازدراء، وهي تسير في ممشى السيارات: «يا لك من ساذج مسكين، تُريدني أن أتحدث بالسوء عن الآنسة. حسنًا، حمدًا للرب، لم تحصُل منِّي إلا على ما أردتُ أن أطلعك عليه.»

لكن إيجناتيوس — الذي كان يتمشَّى في ساحة القرية — رأى نفسه مُنتصرًا هو أيضًا، بفارق بعض النقاط.

وحدَّث نفسه قائلًا: «لقد أصبتُها في مقتل وحوَّلتها إلى أشلاء، مثل طائر صيد صلصالي. مسكينة يا أدا … من حُسن الحظ أن قبعتها طيَّرتها الرياح. فقد أعطتني مؤشرًا للاتجاه الذي قد تنتهِجه الأمور.»

لم يحضر إيجناتيوس القداس المسائي، مع أنه سأل باهتمامٍ عن مختلف أعضاء الكنيسة، عندما قابل القسيس على وجبة العشاء.

قال القسيس: «أحسَّت زوجة العمدة بدوار وغادرت قبل انتهاء القداس.»

علَّق إيجناتيوس: «أوه. أجل. زوجة العمدة. ذات الشعر الأشقر. إنها تزن نحو ٩٨ رطلًا. على الأرجح أنها تفرط في الأكل. هذا مثال على تمرين الذاكرة، وليست محاولة لتقليد شارلوك هولمز يا تيجر.»

آنذاك، في قصر «ذا هول»، كانت زوجة العمدة تستغلُّ وعكتها الصحِّية لأقصى درجة، إذ تمدَّدت على أريكة، بينما فيفيان تدهن جبهتها بماء الخزامى.

قالت السيدة بنبرة شاكية: «لقد عاودَني ذلك الخفقان مرة أخرى. أعرف أن ثمة خطبًا بقلبي، مع أن الدكتور بيري سيصرُّ على أن المشكلة في المعدة.»

لم يُعارضها أحد، مع أن الجميع يعلمون بتفاؤلها الشديد بشأن قوة جهازها الهضمي وقُدرته على الحيلولة دون إصابتها بالألم عند الإفراط في الأكل.

قالت: «إنه رجل مُريع. لكن من الأفضل أن تستدعيه يا فيفيان.»

قال العمدة بنبرة عدوانية: «لا. إن كان لا بدَّ لك من رؤية طبيب، فاستدعي رولينجز.»

هتفت زوجته: «أأستدعي طبيبًا غريبًا من شلتنهام؟ لأجل ماذا؟»

أجاب العمدة: «لأنني لا أريد حضور بيري هنا مرةً أخرى.»

حملقت الزوجة وابنتها في العمدة. لو كان إيجناتيوس حاضرًا، للاحظ أن المرأة الأكبر سنًّا اندهشت فحسب، في حين لاح الخوف في عينَي الشابة فيفيان.

بدت فيفيان مرعوبةً مما سيقوله أبوها؛ إذ فور أن تحدَّث عادت السكينة تكسو ملامح وجهها.

فقد قال بصوت هادر: «لا تُعجبني مسألة الإرث تلك. لا أطيق رجلًا يأخذ مالًا من امرأة. بل وعزباء أيضًا.»

جادلَتْه زوجته قائلة: «لكن يا أوسبرت، الآنسة كورنر متوفَّاة.»

ردَّ زوجها: «لا فارق عندي.»

قالت: «لكنك ورثتَ مالًا عن امرأة غير متزوِّجة.»

ردَّ: «كانت أُمي الروحية. اختارها أبي العجوز عمدًا لثرائها. كفاك حمقًا. لا بد أنه كان يتملَّقها عندما كانت على قيد الحياة.»

فكرت فيفيان أنه حان وقت تدخُّلها.

قالت: «لو أرسلتَ في طلب الدكتور رولينجز فلن يأتي يا أبي. تلك آداب المهنة. فهو يعلم أن الطبيب بيري طبيبنا.»

علق أبوها: «ليس طبيبنا. لا أريد أن تطأ قدماه منزلي مرةً أخرى. كما أنه يرفض الزيارات الطبية يوم الأحد. فهو لا يريد المال. لقد صار الرجل من الأثرياء.»

وكما يُقال في تقارير البي بي سي، «استمرَّت المناظرة.»

وبصرف النظر عن نتيجة الجدل، عندما حل الظلام، لم يتلقَّ الطبيب أي دعواتٍ ترحيبية للحضور من منزل «ذا هول».

على ضوء القمر الفضي، تجول إيجناتيوس براون والقسيس في أنحاء القرية. كان الليل دافئًا والشارع خاليًا من المارة. وعاد آخر زوجَين مُتحابَّين من الطرق المظللة بنباتات العسلة المتشابكة. كانت الوطاويط تُحلق بلا هُدًى على ارتفاع منخفض، والبوم ينعق من فوق شجرة بلوط ذكرت في كتاب «دومزداي» («يوم الحساب» أو كتاب ونشيستر). كما تلألأت عُرُش الياسمين، مثل نجومٍ بيضاء صغيرة، وتضوَّع الجو بأريجها.

كان الفضاء الواسع من الحقول الفارغة ضبابيًّا، أشبَهَ ببحرٍ رمادي هادئ، وبدت القرية مرة أخرى، مع تسلُّل الأضواء الخافتة إلى اليمين واليسار، مثل سفينةٍ عظيمة مهجورة من ثلاثة طوابق رأسية في الميناء المنسي.

وقع إيجناتيوس أسيرًا لسحر القرية المألوف.

قال: «لا أريد أن أنعت أحدًا بالكذب يا تيجر، لكن لا بد أن أعترف بأنني أشكُّ في حقيقة وجود أي شرٍّ خفي في هذه القرية.»

علق القسيس: «لا يُهم، أطالبك بتنفيذ وعدك.»

كان جميع أهل القرية قد أووا إلى منازلهم؛ فمِن خلف جميع الستائر سواء المعدنية أو القماشية، رأى الرجلان وهج المصابيح المُستتر. وفي بعض الأحيان، يتسلل إلى أسماعهم صوت موسيقى أو مقتطفات من أحاديث وضحكات. فقد كانت النوافذ مفتوحة، ولكن ظل تقليد إسدال الستائر من الداخل قائمًا بلا مساس.

وجد القسيس نفسه فجأة يُساق للكشف عن إحساسه التام بالعجز.

فانفجر قائلًا: «ليتني أستطيع فتح كل ستارة وأرى بنفسي ما يجري في الداخل.»

وتحقَّقت أُمنيته على الفور، كأن جنية من جنيات الليل كانت تقف في الجوار تقوم على تحقيقها. فقد اتجه أحدُهم إلى النافذة التي كانا يحملقان فيها، وفتح الستارة كاشفًا عن ديكور منزلي جذاب، من ورق الجدران الملوَّن المطبوع والخزف القديم والمصابيح ذات الإضاءة الوردية. وعند الباب، كانت سيدة مهذبة تبلُغ من العمر منتصفه تُقبِّل أخيها الذي يبلغ من العمر منتصفه أيضًا، وتتمنَّى له ليلة سعيدة.

وبعد هنيهة، أطفأت المصباح، وغاص المنزل في الظلام المُطبق من جديد.

قال إيجناتيوس مشجعًا: «لقد سمِعَتك القرية على ما يبدو. فأرتكَ عينةً لغرفة في قرية نموذجية.»

كان كلامه صحيحًا. فقد كانت غرفة الاستقبال في منزل «روز كوتيدج» نموذجًا لغُرَف الاستقبال في المنازل الأخرى في إضاءتها ودفئها وهدوئها.

في أحد المنازل، نهضت امرأة من مقعدها، حيث جلست للقراءة. ولثمت، هي أيضًا، مرافقها؛ وعندما ذهبت إلى الباب عادت تنظر إلى الغرفة المُبهجة بابتسامة على محيَّاها.

لكن بمجرد أن خرجت من الغرفة، استحال وجهها شاحبًا مثل امرأةٍ ميتة؛ إذ أخرجت من حقيبتها جزءًا من ورقةٍ مُجعدة مُغطاة بحروف مطبوعة.

لقد عرف سرَّها شخصٌ ما. وانتهت سنوات الأمان والسعادة الزائفتَين. راحت المرأة تجرُّ ساقَيها، صاعدة الدرج، يكتنِفها ظلام الخوف الكثيف.

همست: «لا أستطيع مواجهة الأمر. أبدًا. أبدًا. سأموت قبل ذلك … ﺳ… سأموت.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥