الحرف الأول المفقود
عاد القسيس من صلاة السَّحَر، في صباح اليوم التالي، برسالة إلى إيجناتيوس من الآنسة أسبري.
«لدى الآنسة ارتباطات كثيرة، لكنها ستلتقي بك في الثالثة والنصف بعد ظهر اليوم. ستُخصص لك خمس عشرة دقيقة لا أكثر؛ لذا أنصحك بالذهاب في الموعد المُحدد.»
وفي خضمِّ خوفه من التأخُّر عن الموعد، تجاهل إيجناتيوس نصيحة صديقه؛ إذ دقَّ جرس المنزل التيودوري بعد الثالثة بعشرين دقيقة. وعندما ذكر توقيت موعده لروز خادمة الاستقبال، نظرت إليه نظرةً صارمة بعض الشيء، لكنها قادته إلى المكتبة الفارغة في نهاية المطاف.
أشرق وجهه المُتغضِّن بالحماسة عندما رأى جمال الجدران المكسوة بالألواح والأثاث القديم؛ لكنه بعدما نظر إلى المقاعد الخشبية قرَّر ألا يجلس عليها. وكان طبيعيًّا، وهو يقطع الغرفة جيئةً وذهابًا، أن ينظر عرضًا إلى المكتب الذي لم يكن يحمِل أشياء خاصة أكثر من مجرد خطابات لم تفتح ونشرات دورية.
لم يتطفَّل أو يفعل أي شيءٍ لم يكن ليفعله في حضرة سيدة المنزل. وعندما اتجه إلى الأرفف على الجانب المقابل، اكتفى بقراءة عناوين بعضٍ من أقدم الكتب مُتبقية لدى فتاة فيكتورية من أيام الدراسة.
فتح بعض الكتب، بصورة عشوائية، ثم أعادها مباشرة إلى مكانها؛ لكنه لم يشعر بأدنى تأنيب ضمير، عندما احتفظ بنسخةٍ من «أليس في بلاد العجائب»، مع أنه تناهى إلى سمعه صوت خطوات الآنسة أسبري في الممر.
قال وهو يحمل المجلد المُهترئ: «اعذريني لأنني نظرتُ إلى تاريخ نُسختك. لكن «أليس» هي تعويذتنا. أحسدك على امتلاكك لهذه النسخة. إنها أقدم من النسخة التي لديَّ.»
علقت الآنسة أسبري بابتسامتها الوقورة الفريدة: «هذه إحدى مكافآت الزمن.»
وأشارت لإيجناتيوس بالجلوس في كرسي منقوش، وجلست هي أيضًا، علامة على بدء المقابلة.
قالت: «فهمت من قسيسنا أنك ترغب في مقابلتي بشأن الخطاب المجهول الذي وصلني. إذا أردت نصيحتي، أظنُّ أنك ترتكب خطأً فادحًا.»
طمأنها إيجناتيوس: «يسرني للغاية أن أُنصت إلى آرائك. فأنا أعلم، مما سمعتُه عن عملك السابق وخبرتك، أن نصائحك ستكون قيِّمة.»
لان وجه الآنسة أسبري المتزمِّت قليلًا بسماعها لهذا المدح.
وعلَّقت: «كما قلتَ، أعرف عن الجانب القبيح من الحياة أكثر منك، على الأرجح. وأعلم أنه ليس من الحكمة إثارة البلبلة. في البداية حاولت وأد فتنة هذا الخطاب الحقير. فلم يكن ذا قيمةٍ تُذكَر. لم يضرَّ شخصي أو أي شخصٍ آخر … ولا شيء مما حدث منذ ذلك الوقت جعلني أغير وجهة نظري الأصلية. لا يزال الخطاب بلا قيمة.»
قال إيجناتيوس على سبيل التذكير: «ولكن كانت هناك خطابات أخرى.»
قالت: «هكذا سمعت. لكن هل تسببت في أي ضرر؟»
أجاب: «ليس للأشخاص الذين تلقَّوها. لكنها خلقت بالفعل جوًّا مقيتًا ومؤذيًا.»
لوَّحت الآنسة أسبري بيدها البيضاء النحيفة.
وقالت: «امنح المسألة بعض الوقت. وسيذهب كل شيءٍ طي النسيان.»
ذكَّرته الآنسة أسبري في نقائها الكئيب، بزهور الزنبق الأبيض التي كانت تملأ وعاءً فخاريًّا طويلًا على مقعد النافذة. لكن القديسة لم تغفُل عن فضيلة الانضباط المهنية؛ إذ عمدت إلى النظر بصورة صريحة نوعًا ما إلى الساعة الخشبية الطويلة ذات الصندوق، القابعة في الزاوية.
فهم إيجناتيوس تلميحها، وأخرج ظرفًا من محفظته.
قال: «علمت أن الخطاب الذي تلقَّيتِه كان مُرفقًا في هذا الظرف. أأنتِ واثقة من أن هذا الخط غير مألوف لك ولو قليلًا؟ كثير من الناس يستخدمون الأحرف الرومانية الكبيرة.»
هزت الآنسة أسبري بعد أن ألقت نظرة سريعة على الظرف. وأجابت: «لا. أحرِق الظرف من فضلك. يُستحسَن أن ننسى هذه الواقعة.»
استعاد إيجناتيوس الخطاب منها بكياسة وتؤدة.
وقال: «بدأتُ أقتنع بوجهة نظرك. تبدو الخطابات غير مؤذية بما أنها لا تحمِل أي تلميح بالابتزاز. لكن قد يقع ذلك لاحقًا. لهذا نريد أن نعثر على كاتب هذه الخطابات.»
فتحت آنسة أسبري شفتَيها كأنها تريد الحديث ثم أغلقتهما مرة أخرى. وظهرت عليها بوضوح أمارات ضِيق الصدر عندما طرح إيجناتيوس سؤالًا خارجًا عن الموضوع.
علق إيجناتيوس: «كم تبدو الحروف الأولى من اسمك ذات إيحاءٍ ديني! «دي في». أعرف أن اسمك ديسيما؛ لأنه اسمي المُفضل. فإلامَ يشير الحرف «في»؟»
أجابت الآنسة أسبري بحدة: «يُشير إلى اسمٍ سخيف توقفت عن استخدامه منذ أمدٍ بعيد.»
نهضت الآنسة من مقعدها إيذانًا بإنهاء المقابلة، ثم تحدثت إلى إيجناتيوس بعد قليلٍ من التردد.
قالت: «أنتَ غريبٌ على القرية، ولا يمكنك استيعاب طريقة تفكير أهل القرية. ولكن دعني أؤكد لك أنه ليس من الإحسان في شيءٍ التدخُّل في شئون الآخرين. أعتقد أن معظم أهل القرية سيفضلون أن يدفعوا ثمنًا قليلًا — هو في مقدرة الجميع — على أن يُفصحوا عن همومهم. فالخصوصية تُمثل لنا «كل شيء». والخصوصية لها ثمن.»
قال إيجناتيوس: «أفهم ذلك. أنتم تُفضلون أن تدعوا جراحكم تنزف وتُعانوا في صمتٍ على أن تفصحوا عنها. لكن ألا يتوقف ذلك على موضع الإصابة؟»
قالت: «لا أفهم ما تعنيه.»
قال: «قد يتردَّد جندي هارب من ساحة القتال في الإفصاح عن جراحه؛ لكن لن يسعه إخفاؤها إذا كانت الإصابة في وجهه.»
سألت الآنسة أسبري ببرود: «أتعني إذن أنك ستواصل مساعيك حتى تعثر على شخصٍ تخلَّى عن كرامته تمامًا؟»
فسَّر إيجناتيوس مرادَه: «يجب أن أعثر على شخصٍ يرغب في الكلام من أجل الصالح العام. طاب مساؤك وأشكركِ على استقبالك لي.»
وقفت الآنسة أسبري مِثل التمثال وهي تنتظر روز لتُجيب جرس الاستدعاء. بعد ذلك، ودَّعت إيجناتيوس بانحناءةٍ جامدة بينما صحبته خادمتها إلى الخارج.
شعر إيجناتيوس بالراحة حين غادر برودة المنزل إلى ممرِّ السيارات المُشمس؛ لذا تمهَّل في السير كي يتأمل جمال الحديقة بنظام ريِّها الذاتي. كانت أدا — التي بدت في أبهى صورة في ثياب التنظيف الزرقاء — تهز ممسحة الغبار في تباهٍ من نافذة علوية، لكنه لم ينظر في اتجاهها.
بذل إيجناتيوس غاية جهده كي يُقلل من ذكاء عينَيه، عندما رأى امرأةً بدينة وقصيرة تخرج من المنزل بخطواتٍ سريعة ورشيقة. كانت هذه هي الآنسة ماك.
تفحص إيجناتيوس الآنسة ماك بعناية، بينما تتردد في ذهنه انتقادات أدا لها، وأخذ يبحث عن أي أماراتِ علةٍ أو تعاسة. لكن كان وجهها حازمًا ومطمئنًّا رغم شحوبه، وابتسامتها هادئة، وعيناها الزرقاوان صافيتَين، مثل عيني دميةٍ خزفية.
علق إيجناتيوس: «يوم بديع. أظنك ذاهبة للتمشية؟»
أجابت الآنسة ماك: «لا. سأُنظف الحديقة من الأعشاب الضارة.»
سأل: «وهل تفضلين القيام بذلك؟»
قالت: «لا مانع لديَّ.»
نظر إيجناتيوس إلى كتلة الغبار المُتطايرة من ممسحة الغبار التي تُمسكها أدا ثم خفض صوته.
وقال: «أيُمكننا التحدُّث في مكانٍ لا يسمعنا فيه أحد؟»
بدا وجه الآنسة ماك عاجزًا عن إبداء الدهشة لكنها أظهرت سيطرتها على الموقف.
سألته بينما تقوده عبر الحديقة إلى البركة: «أترغب في رؤية زهور السوسن المائية؟» كانت عيناها مثل هلالَين أزرقَين مُبتسِمَين وهي تنظر إليه.
سألت الآنسة: «أتريد أن أؤمِّن لك شيئًا؟»
أجاب إيجناتيوس: «ليس بالمعنى التي تقصدينه. الْحقُّ أنني أجد صعوبة إلى حدٍّ ما في تفسير الإحساس الذي راودني فجأة. أنا رجل عاطل؛ لذا أشعر بالأسف على العمَّال أو بالأحرى أولئك الذين لا حيلةَ لهم في اختيار وظائفهم … أتعِدينني بشيء؟»
سألت الآنسة ماك: «وعد من أي نوع؟»
أجاب: «لا شيء يُقلق. لكن، إذ وقعتِ في مشكلة، في أي وقت، هلَّا أخطرتِني؟ تفضَّلي بطاقتي. ربما أتمكن من مساعدتك.»
لم تخفُت ابتسامة الآنسة ماك لكنها قبِلت بطاقته.
قالت: «شكرًا لك. إذا وقعتُ في مشكلة، فسأطلب مساعدة الآنسة أسبري بكل تأكيد.»
علق إيجناتيوس: «هذا يعني أحد أمرَين. إما أنكِ لن تقعي في مشكلات، أو أنك شديدة الولاء للآنسة. إلى اللقاء.»
بينما كان إيجناتيوس يسير في ممرِّ السيارات، أحسَّ بأن الآنسة أسبري تنظر إليه من نافذة المكتبة، وأنها كانت تقِف تشاهد المشهد.»
ضحك إيجناتيوس بخفوت، وهو يُغلق بوابات القصر، وقال: «ممتاز.»
في أثناء تناول الشاي، حاول القسيس أن يستجوِب إيجناتيوس بشأن زيارته للآنسة أسبري.
سأله: «هل توصلتَ إلى أي شيءٍ جديد؟»
رد إيجناتيوس: «لم أنتظر ذلك. أردتُ زيارتها للتثبُّت من الوقائع لا أكثر.»
علق القسيس: «إن كان الأمر كما تقول، فلا أفهم سبب إزعاجك لها من الأساس. لا يسعها أن تُخبرك بما تجهله هي نفسها.»
قال إيجناتيوس: «بالطبع، لكن يُمكنها أن تُخبرني بشيء تعرفه. أقصد اسمها الثاني.»
قال القسيس بثقة: «ليس لديها اسم ثانٍ. لقد أرتني لوحة الإشادة والثناء التي تلقَّتها عندما تخلت عن عملها الإغاثي. أتذكر بوضوح أن ما نُقش على اللوحة كان اسم «ديسيما» فحسب.»
علق إيجناتيوس: «هذا يعني أنها عُرفت بالحرف الأول منذ ثلاثين عامًا على الأقل، وقبل مجيئها إلى هنا. لهذا ليس من المُمكن أن يعلم أحد من السكان أنه كان لديها اسم ثانٍ.»
وافقه القسيس: «صحيح.»
بدت الدهشة على القسيس عندما أراه إيجناتيوس الظرف المتغضِّن.
سأل إيجناتيوس: «أين عيناك يا تيجر؟ ألم تلاحِظ العنوان على الظرف الذي احتفظت به دليلًا؟» هزَّ القسيس رأسه.
قال موضحًا: «في ذلك الوقت حالت الصدمة دون الانتباه للتفاصيل. بعد ذلك، ألقيتُ به في أحد الأدراج، وأقفلت عليه بالمفتاح. لكن، على أي حال، هذا انتقام من القرية بالكامل. هذه الخطابات تأتي من الخارج.»
لم يؤكد إيجناتيوس فرضيته المُطمئنة. ونهض من مقعده، وألقى بكعكته إلى تشارلز.
قال: «سأذهب لزيارة الطبيب.»
علق الطبيب: «تبدو هذه الغدوات والروحات الغامضة مُبشِّرة. هل تكوَّنت لديك فرضية واضحة؟»
«لديَّ فرضية واضحة وأخرى غير واضحة. وأميل إلى الفرضية غير الواضحة التي تُشير إلى أن لدينا مشكلة بسيطة. هذه الخطابات قد تكون إما مسألة بسيطة وإما مُعضلة مركبة ومعقدة. وليس أمامي سوى البحث عن الحلِّ السهل الواضح لعدم وجود دليلٍ كافٍ … أوه، تبًّا لتلك المرأة.»
سأل القسيس: «أي امرأة تقصد؟»
أجاب: «أقصد تلك المرأة التي تستطيع إزالة الغموض عن أمرٍ صغير، ومحوري في الوقت نفسه، على افتراض أنها تتحدَّث الصدق دائمًا.»
سأل القسيس: «وهل سترفض الحديث؟»
أجاب إيجناتيوس: «بلى سترفض.»
صعق القسيس من هذا الافتقار إلى روح الغيرة على المصلحة العامة.
سأل القسيس: «هل يمكنك إقناعها بالحديث؟ ألا تستطيع مناشدة الأمانة والشفافية لديها؟»
أجاب إيجناتيوس: «ليس لديها أيٌّ منه. ولا يُجدي مثل هذا الحديث مع الموتى. فشاهدتي المفقودة هي جوليا كورنر.»