ساعي البريد يطرق الباب
أخفت جدران القرميد الوردية الجميلة القديمة الواجهة الخارجية لمنزل سانت جيمس فيما عدا السقف. وبينما كان إيجناتيوس يسير في الحديقة، لاحظ وجود مجموعةٍ كبيرة من زهور الأقحوان، وحمام سباحة كبير من قماش القنب الغليظ الخشن، مليء عن آخره بالماء، كانت الشمس تغمره بأشعتها الدافئة. وعند الباب الأمامي للمنزل، كانت ثمة مُمرضتان تنقلان طفلَين رضيعَين أبيضَين من عربتي أطفالٍ بيضاوَين بياضَ الثلج.
عند سماع صوت الطفلَين، خرجت ماريان راكضة، لتغدق عليهما من حنان الأم؛ لكنها سيطرت على نفسها عندما رأت إيجناتيوس.
سألت: «أتريد رؤية الطبيب؟»
أجاب: «للأسف نعم» قابلًا الدعوة التي لاحت في عينَيها. وأضاف: «لكن ليس لاستشارةٍ طبية.»
قالت: «بالطبع لا. أنت تُقيم في منزل القسيس. رأيتك في الكنيسة.»
أجاب: «وأنا أيضًا رأيتكِ.»
وبينما كان إيجناتيوس منشغلًا بتفحص الأم، لم يلحَظ على ما يبدو أن أحد طفلَيها كان يلوِّح له بيده الضعيفة ترحيبًا به. ورغم إظهار الأم عدم اكتراثها بالزائر، اضطرَّت ماريان أن تلفت انتباهه لهذا الشرف العظيم.
قالت ماريان: «لقد عادت العائلة للتو. أليست العائلة تشكيلة عجيبة من الأفراد؟ لكن أظن أننا يجب أن نُفكر في الأجيال القادمة.»
حيَّا إيجناتيوس الطفل برسميةٍ ثم ولَّاه ظهره وسأل: «لِمَ؟ لا شيء يُزعجني مثل أن يُطلب مني تقديم تضحياتٍ لأناس كثيرين مجهولين، سيستمتعون بكل اكتشافات المُستقبل، التي لن أحيا لرؤيتها. لقد كتبتُ قصيدة عن هذا الموضوع من قبل في مجلة المدرسة. بدأت القصيدة ﺑ «الأنسال، الأنسال القادمة، لا نفع لي من ورائهم، ولا نفع لكم، فلماذا بحق السماء علينا أن نكون ضحايا للأنسال؟»
لانت ملامح إيجناتيوس عندما ضحكت ماريان إشادةً بقصيدته، وبدأ يغضُّ الطرف عن فستانها الأحمر الزاهي وجمالها الزاوي. طالما كانت الألوان الصارخة تُزعج إيجناتيوس، فصنَّف ماريان من الكائنات الآكلة للبشر.
قال إيجناتيوس مذكرًا ماريان بسبب قدومه: «أيمكنني رؤية الطبيب؟»
هزت ماريان رأسها بعُنف فتمايلت أقراطها الأرجوانية وقالت: «أنا في شدة الآسف. لقد ذهب إلى لندن في أول قطار، ولن يعود إلا على العشاء.»
سأل إيجناتيوس: «أيمكنني أن آتي لزيارته لاحقًا؟»
تردَّدت ماريان قليلًا قبل أن تُجيب في اندفاع: «بالطبع. إذا كنتَ تريد مقابلته بشأن تلك الخطابات اللعينة فأتمنَّى لكَ التوفيق. لقد أصابت هذه الخطابات القرية في مقْتل.»
تأثر إيجناتيوس بسِحر وجاذبية ماريان رغم صلابته، فأسرع الخُطى إلى بوابات المنزل. لقد أراد الابتعاد عن شعاع جاذبيَّتها الخطيرة.
بعدما انتهى من تناول العشاء، وتأهَّب للانطلاق لزيارة الطبيب للمرة الثانية، طلب مساعدة القسيس.
فقال: «تعالَ معي يا تيجر، واشغل السيدة بيري عنا. أرى أن من الحكمة دومًا الفصل بين الزوجَين عند الاستجواب. فالأزواج يتجادلون حتى أثناء اللعب.»
كان الطبيب بيري وزوجته ينتهيان من احتساء القهوة، عندما أعلن الخادم وصول إيجناتيوس وصديقه. لكن تبين أن وجود القسيس بلا جدوى؛ إذ توقَّع الطبيب أن يرغب إيجناتيوس في الانفراد به. وبعد أن تجاذب معه أطراف الحديث لبضع دقائق، نهض من مقعده.
سأله: «ما رأيك في أن نذهب إلى غرفة مكتبي؟»
بدت علامات الإرهاق على الطبيب، مع أن زيارته للندن كانت رحلةً للترفيه والاستمتاع، بحسب وصفه.
كان الليل قاتمًا إلى حدٍّ ما؛ لذا أوقِدت شعلة نار صغيرة في المدفأة. جلس إيجناتيوس ينظر إلى ألسنة اللهب المتوثِّبة بينما يُحلل انطباعاته السابقة في عقله. لقد رأى علامات البذخ في أثاث المنزل وزخارفه لكنها افتقرت إلى الصيانة. حتى أشعة الشمس تواطأت في عملية الإتلاف؛ إذ بهتت الستائر المصنوعة من البروكار المُطرز، كما بهتت السجادة واهترأ نسيجها.
بدا أن الزوجَين كانا يُنفقان المال بإسراف، لكنه كان كالماء الذي يسيل من صنبور راشح يذهب جُفاءً، فلا يروي زرعًا. تذكَّر إيجناتيوس موكب المُربيات وما فيه من مباهاة عبثية وألقى باللوم على ماريان.
«هذه السيدة مثل آلة تسجيل النقد، تأخذ المال ولا ترد الباقي منه. أعتقد أن الإرث سيفيد هذا المسكين.»
ظل الطبيب صامتًا، فأخرج إيجناتيوس نسخةً قديمة من الصحيفة المحلية.
قال: «قرأتُ التقرير الصادر عن التحقيق في وفاة الآنسة كورنر. كان طويلًا جدًّا يغطي المسألة جيدًا حسبما يبدو. ولكن أيمكنكَ أن تُخبرني بأي تفاصيل إضافية لم تُذكر في التقرير؟»
تفحص الطبيب الصحيفة ببطء.
وأخيرًا قال: «لا. كل الحقائق مذكورة هنا.»
علق إيجناتيوس: «إذن يجب أن أتوجَّه إليكم بالشكر على هذا التكتُّم الوفي.»
قال الطبيب بهدوء: «لا أفهم ما تَعنيه.»
أصرَّ إيجناتيوس: «بل تفهم. لن يخفى على أقل الناس ذكاءً أن التقرير أهمل أهم حقيقة على الإطلاق. ولا بد أن مُحقق الوفيات لاحظ ذلك، وأنتَ، وربما كل أعضاء المحكمة.»
تسلل شبح ابتسامة إلى شفتَي الطبيب.
وقال: «أنت رجل غريب يا سيد براون. جرت العادة على أن يستخف العباقرة بذكاء الآخرين. أنتَ على النقيض تمامًا. لكننا لا نُعمِل عقولنا هنا. فلا تتوقَّع منَّا الكثير.»
ردَّ إيجناتيوس: «على العكس، أنا واثق أنك تتمتَّع بذكاءٍ حاد.»
سأل الطبيب: «إن كان الأمر كذلك، فلماذا أُخبرك بما تدَّعي أنكَ تعرفه بالفعل؟»
أجاب إيجناتيوس: «توفيرًا لوقتي فحسب. آمُل أن تغفر لي فظاظتي عندما أقول إنني لم أرغب في حضور زوجتك الجذابة لقاءنا؛ لأنني أردتُه أن يكون سريًّا.»
قال الطبيب: «أتفق معك. فماريان لا تستطيع كتمان أي شيء. من سوء الحظ أنها أخبرت الضابط جيمس بشأن الخطاب المجهول.»
قال إيجناتيوس: «هذا بالضبط ما أراه. فقد أثبتت بذلك حقيقة معرفتك بمضمون الخطاب ليلةَ استلامه.»
قال الطبيب: «بالتأكيد. ذكرتُ في إفادتي أن الآنسة قرأت الخطاب أولًا، ووجدته مضحكًا لا أكثر. لذا أعطته لي لأقرأه.»
علق إيجناتيوس: «كان الظلام قد حلَّ تقريبًا عندما أوصل ساعي البريد آخر دفعة من البريد، ومع ذلك لم يندهش أحد من قُدرة الآنسة كورنر التي تعاني من قصر النظر، على قراءته دون نظارتها، التي تحطمت في وقتٍ سابق.»
لم يرد الطبيب، فواصل إيجناتيوس كلامه.
قال: «وبما أن الآنسة كانت تحفظ محتويات الخطاب عن ظهر قلب، فهذا يعني أيضًا أنها مَن كتبته لنفسها.»
قال الطبيب: «قد يكون استنتاجُك صحيحًا. لكن لا ضير من رغبتها في تبرئة ساحتها من شكوك باطلة. ربما كانت طريقتها طفولية وساذجة قليلًا، لكنها كانت شغوفة إلى حدٍّ ما بالحلول الجذرية.»
لاحظ إيجناتيوس أن الطبيب قد تخلَّى عن حذره، وبدا متلهفًا للحديث عن الآنسة كورنر.
قال: «لقد استهانت بذكاء أهل القرية. كانت الآنسة مزيجًا فريدًا من البساطة والفطنة. لكن كان لديها مخزون وافر من الطيبة والشجاعة، ولم أعرف شخصًا في حيويتها. لا أستطيع أن أعبر لك عن مدى افتقادي لها.»
اختفى أثر التعب من جفن الطبيب ولم يعُد متهدلًا، ودبَّت الحيوية في صوته. وأحس إيجناتيوس الذي كان يُراقبه عن كثب أن شعوره بالندم كان صادقًا.
واصل الطبيب: «لقد حطَّ أهل القرية من شأنها؛ لأنها آمنت بأعمالها الأدبية الفارغة. لكن هل كان موقفها عبثيًّا حقًّا؟ لقد جنت أموالًا من كتاباتها، وتؤكد دائمًا أن أي عملٍ أدبي لا بد أن يأخذه الكاتب بجدية حتى يُحقق نجاحًا ماديًّا. أرى ذلك دليلًا على قوتها العقلية؛ أنها حملت نفسها على الإيمان بأعمالها الرديئة. كما أنها كانت تستمدُّ المُتعة من عملها، فكان دواءً منشطًا في حدِّ ذاته.»
بينما واصل الطبيب حديثه بالانفعال نفسه، رثاءً لصديقته، كان إيجناتيوس مُستمعًا رائعًا. لكنه، في النهاية، تذكَّر تعليقًا سابقًا.
قال: «تحدثت للتوِّ عن شكوك «باطلة». لكن لديَّ ما يدل على أن الآنسة كورنر كتبت ذلك الخطاب المرسَل للآنسة أسبري بالفعل.»
قال الطبيب: «لا. لم يكن في مقدورها الإتيان بمثل هذه النكاية الشنيعة.»
قال إيجناتيوس: «سنستوضح هذا الأمر فيما بعد. أيمكنك أن تُخبرني بالحرف الأول من الاسم الثاني للآنسة أسبري؟»
صرح الطبيب: «ليس لديها اسم ثانٍ. لقد طلبت توقيعها على شهادات في بضع مناسبات.»
قال إيجناتيوس: «يبدو أنها لم يكن لدَيها اسم ثانٍ لما يقرُب من خمسة وأربعين عامًا. تخضع الأسماء لفتراتٍ من عدم القبول أو السخرية، وعندما كانت طفلة كان لديها نفور شديد من اسمها الثاني. كان اسمها الثاني «فيكتوريا». لا تُخبر أحدًا من فضلك لأجل خاطرها … ولكن برغم أن لا أحد هنا يعلم هذه الحقيقة، كان الظرف الذي احتوى على الخطاب المجهول موجهًا إلى «الآنسة دي في أسبري».»
أعقب ذلك صمتٌ، هزَّت فيه طرقة ساعي البريد المزدوجة الجدار. أدرك إيجناتيوس، من الجمود الذي حلَّ على مُحيَّا الطبيب، والاختلاجة السريعة لعينَيه من خلف النظارة، أن عقله يعمل بسرعة فائقة بينما يتظاهر بمحاولة استيعاب هذه المفاجأة الصادمة.
كان إيجناتيوس لا يُحب الاستعجال في المواقف الدرامية، ومع ذلك سارع لتوضيح فكرته.
قال: «ذلك الخطاب كتبَه شخص يعرف الآنسة أسبري منذ صباها. وهي والآنسة أسبري كانتا زميلتَين في المدرسة. فما الاستنتاج البديهي الذي يُمكننا أن نستنتجه من هذا الأمر؟»
كان إيجناتيوس قد تأخر كثيرًا؛ إذ كان الطبيب قد بلغ هدفه العقلي.
قال: «لا شيء. لقد ثبت عدم تواطؤ آنسة كورنر بوصول خطابَين مجهولَين آخرين بعد وفاتها.»
وصل إيجناتيوس إلى بُغيته فقال: «بالضبط. كانا خطابَين تافهين، موجَّهين إلى القسيس وبلير، احتوى كلاهما على تهديداتٍ صبيانية لم تنفَّذ. ألا يكشفان عن المسرحية إذن؟»
سأل الطبيب: «عن أي مسرحية تتحدث؟»
أجاب إيجناتيوس: «أن هذين الخطابَين كتبهما صديقٌ وفيٌّ للآنسة كورنر، كي يُبرئ اسمها من كتابة الخطاب الأول للآنسة أسبري.»
عض الطبيب بيري على شفتَيه.
قال: «إذا كنت تقصد أنني من كتبتُ الخطابَين، فأنا أُنكر التهمة تمامًا.»
نهض إيجناتيوس من مقعده.
وقال: «حُسِمت المسألة إذن. لا يسعني سوى أن أشكرك على إهدار وقتِك في مشكلتنا البسيطة.»
وبينما كان الطبيب ينهض من مقعده، بدوره، انفتح باب غرفة المكتب على مصراعَيه، واندفعت السيدة بيري إلى الداخل وفي أعقابها القسيس.
صاحت قائلة: «انظر إلى هذا الخطاب يا هوريشيو. إنه مكتوب بأحرُف مطبوعة. أعتقد أنه أحد تلك الخطابات.»
وسط الصمت الثقيل الذي ساد الغرفة، فتح الطبيب بيري الظرف، وسار إلى النافذة كي يقرأ ما كُتب على الورقة.
وبينما قطَّب الطبيب حاجبَيه في تردُّد، لا يعرف السبيل الأكثر حكمة ليسلكه — أيُطلع إيجناتيوس على الخطاب الذي يُبرئه من التهمة المنسوبة إليه أم يحتفظ بمحتوياته سرًّا — كانت ماريان تسترق النظر إلى الخطاب من فوق كتفِه قبل أن تضع حدًّا لمعاناته.
فأحاطت عنق زوجها بذراعٍ عارية، وراحت تقرأ الخطاب بصوتٍ عالٍ بنبرة انتصار.
«جميع مَن في القرية يعلم أنك دسستَ السُّمَّ للآنسة كورنر للحصول على أموالها.»
لم تكد الكلمات تُغادر شفتي ماريان حتى أدركت خطأها. فاستدارت، وحلَّق فستانها البرتقالي في الهواء كشعلة لهب تلعق الغبار، وطرحت الخطاب في النار. بعد ذلك أمسكت بذراع زوجها.
وهتفت: «حسنًا، هذا الخطاب يُبرئ ذمتك يا عزيزي. لقد كنتَ في لندن اليومَ؛ لذا من غير الممكن أن تكون كتبتَ هذا الخطاب … اطمئن. نحن نعلَم وهم يعلمون بما هو متداوَل بين أهل القرية.»
فجأة، ارتعش صوتها من فرط غضبها، والتفتت إلى إيجناتيوس، وأمرته بصوتٍ مخنوق.
قالت: «توقَّف عن توجيه أصابع الاتهام إلى زوجي، واذهب للبحث عن كاتب هذه الكذبة القاسية الخبيثة.»