الفصل الثامن عشر

الفخ

قال إيجناتيوس ضاحكًا بخفوت، عندما عاد هو والقسيس إلى غرفة المكتب، حيث كان تشارلز الوفي يحرس البسكويت: «كنتُ مخطئًا عندما خشيتُ التحالف الزوجي. لقد أفشت السيدة بيري سر الطبيب ببراعةٍ منقطعة النظير. يعجبني الطبيب. كم هو بائس مسكين، لا عمل ولا مال، على ما يبدو.»

قال القسيس: «لكنها طيبة القلب حقًّا. تعتني بمرضى الطبيب الفقراء، وتُبادر بتقديم مرق لحم البقر دائمًا.»

علق إيجناتيوس بتهكُّم: «لا بد أنه من أجود أنواع اللحم.» بعد ذلك، ملأ كأسه ورفعها: «في نخب صديقنا المجهول. إنه يزداد تمرُّسًا فيما يفعله.»

قال القسيس: «كيف؟ كان الخطاب كذبةً فاضحة.»

ردَّ إيجناتيوس: «أجل، لكنه اتهام واضح وليس مجرد تهديدٍ مُبهم. ما علينا فعله هو محاولة التوغل في متاهة عقل مُضطرب. لو كان الكاتب يهدف إلى خلق جوٍّ عامٍّ من الخوف والارتياب، فقد استخدم سمًّا فعالًا هذه المرة.»

كرر القسيس مستوضحًا: ««كاتب»؟ أتعتقد إذن أنه رجل؟»

أجاب إيجناتيوس: «لا. إن احتمالية أن يكون الكاتب امرأة مُرتفعة بناءً على الأرقام. أنا أستخدم صيغة المُذكر من باب التيسير لا أكثر. كم هي مزعجة لعينة تلك المرأة!»

سأل القسيس: «مَن تقصد؟»

أجاب: «آنسة كورنر.»

قال القسيس: «لا تنسَ أنها ميتة يا إيجناتيوس.»

«سواء كانت حيةً أم ميتة، لا يَعنيني منها سوى اسمها. تبًّا، لا أستطيع التعاطف مع الآنسة كورنر الرائعة. لو لم تتصرَّف بحماقة، وتخلط الأمور ببعضها، لتمكنتُ من حل مشكلتك الصغيرة بكل سهولة.»

لم يخفَ على القسيس معنويات صديقه المُمتازة؛ فقد حمل وجهه النحيل ابتسامةً رائعة وهو يلوح بالسيجارة.

قال: «هذا اللغز مثل حيَّة، وأنا عازم على أن أقضي عليها. لكن الآنسة كورنر البائسة شطرتها إلى نصفَين، وذهب كل نصف في الاتجاه المعاكس. ولا أدرى أأتبع ذيل الحية غير المؤذي أم رأسها السام.»

سأل القسيس بلهفة: «أتعني أن المسألة قد تكون هينة؟»

ردَّ إيجناتيوس: «كل الحقائق يا صديقي العزيز تُشير إلى أنها مجرد زوبعة في فنجان. مجرد غيرة بين امرأتَين عازبتَين. تكتب إحداهما خطابًا مجهولًا للأخرى نكايةً بها، فتتَّجه إليها أصابع الاتهام، فتكتب خطابًا آخر لنفسها لإبعاد الشكوك عنها. بعد ذلك، تُفارق الحياة، لسوء حظِّها. فيكتب صديقٌ وفيٌّ خطابَين مجهولين آخرين تافِهين لتبرئة ساحتها.»

قال القسيس: «لنُحدد الأسماء. الآنسة أسبري والآنسة كورنر والطبيب. كيف تثبَّتَّ من هذه الحقائق؟»

وبينما كان القسيس يُنصت إلى إيجناتيوس، أخذ يفرك مقلتَي عينَيه ويشد جفنَيه، مثل رجل يعاني من توتُّر عصبي.

قال القسيس: «حسنًا، وهو المطلوب إثباته على ما يبدو. فلا أحد يُمكنه معرفة الاسم الثاني للآنسة أسبري سوى الآنسة كورنر.»

وافقه إيجناتيوس قائلًا: «هذه هي الفرضية التي توصلتُ إليها. لكن لا بد أن أجد دليلًا عليها لتُصبح حقيقة. لقد كُتب اسم الآنسة كاملًا في صفحة الغلاف في كل كُتبها القديمة التي تسنَّى لي وقتٌ لفحصها. أردتُ أن أعرف الفترة التي أخفت فيها اسمَها الثاني تحديدًا. إذا كانت قد أخفت اسمها الثاني في فترة المراهقة، فمن المُستبعَد أن تكون الآنسة كورنر على عِلم به؛ لأنها كانت تكبر الآنسة كورنر سنًّا، عندما التقتا للمرة الأولى، قبل أن تُغادر المدرسة بعد ذلك بفترة قصيرة.»

ضرب إيجناتيوس ذراع مقعده.

وقال: «اللعنة على الآنسة كورنر. لِمَ فارقت الحياة؟ لو أن لديَّ عصا سحرية وكان بإمكاني أن أُعيدها من القبر، إن جاز القول، لما توانيتُ لحظة.»

لم يشكَّ القسيس في إقدام إيجناتيوس على الأمر عندما نظر إلى شفتَيه الصغيرتَين الصارمتَين.

سأل: «ولكن ما أهمية كل هذا؟»

قال إيجناتيوس: «لأن كل شيء يتوقَّف على معرفة كاتب الخطاب الأول.»

أمسك إيجناتيوس عن الكلام كي يُشير إلى فراشات الليل التي تحلق حول مصباح الغرفة.

قال: «أنا أشبه هذه الفراشات في انجذابها للضوء المتوهِّج؛ أنجذب إلى الفرضية المُثيرة. لعل مشكلتك الصغيرة تسلك المنعطف الخطأ، وتتحوَّل إلى مكيدة شيطانية، من تدبير عقل حاقد.»

سأل القسيس: «وأنت تريد أن تفوز فرضية الرأس السام؟»

تحدث إيجناتيوس بنبرةٍ ورِعة لكنها مشوبة بالنفاق: «معاذ الله. لكن لو حدث ذلك، فسأعتبرها ضربة حظٍّ نادرًا ما تحدث، تدخَّلت للمساعدة.»

ورغم تأكيده على الكلمة الأخيرة، كان ثمة شعور بالامتنان لمساعدته لهم يغمر القسيس، حتى إنه عجز عن التعبير عنه.

قال القسيس: «يبدو من المنطقي أن تركز على فرضية ذيل الحية. إذا كنت مُحقًّا في أمر الآنسة كورنر، فأعتقد أن الخطابات ستتوقَّف، وستعود القرية إلى طبيعتها تدريجيًّا.»

ضحك إيجناتيوس في طرب.

وقال مُذكِّرًا صديقه: «هكذا كان الموقف حتى الليلة. لكن لدَينا دليلًا على أن كاتب الخطابات المجهولة لم يتوقَّف عن نشاطه. يستحيل أن يكون بيري قد كتب الخطاب الذي وصلَه كما ترى؛ لأنه كان في لندن اليوم. لن يثِق أحد في إرسال ظرفٍ مطبوع عن طريق شخصٍ آخر إلا لو كان مختلًّا.»

«ماذا عن زوجته؟»

أجاب: «لا داعي لإقحامها في الأمر. لقد أصابها الخطاب بصدمةٍ شديدة. لن يُقدم أي منهما على اتهام أحدٍ بمِثل هذه التهمة الخطيرة.»

سأل القسيس: «أين نقف الآن؟»

أجاب إيجناتيوس: «في أرضٍ مُحايدة. أرى أن نكتفي بمراقبة رأس الحية وذيلها، في الوقت الحالي، وننتظِر ما تئول إليه الأمور.»

«كيف؟»

«بالنسبة إلى الرأس، سأطلب من مُحققٍ خاص أن يتحرى عن خلفية شخصيتَين بعينهما. وأما الذيل، فإذا كان الكاتب يمزح ولا يقصد الأذى، فسأنصب له فخًّا صغيرًا.»

«فخًّا؟»

عندما سمع القسيس هذه الكلمة المشئومة، رفع بصره إلى إيجناتيوس في دهشةٍ حتى خُيل إليه أنه يسمع صليل فكَّي المصيدة الصلب.

قال إيجناتيوس موضحًا: «مجرد فخ بسيط. كثيرًا ما كنت أتردَّد على مكتب البريد، ولي علاقة وطيدة بمديرته. تبدو لي ذكيةً وكتومة. لذا سأدخل معها في شراكةٍ وأصدر مجموعة جديدة من الطوابع.»

جذب القسيس أذنَي تشارلز الناعمتَين كالحرير. ولم تمضِ لحظات حتى تحدث.

قال: «لا تعجبني فكرة الفخ. أفضِّل أن أترك الأمور على حالها.»

قال إيجناتيوس: «سأعود إلى لندن إذن.»

قال القسيس مُخاطبًا كلبه: «لا. لا يمكن أن نتركه يذهب بعد أن أحضرناه إلى هنا. أليس كذلك يا تشارلز؟»

قال إيجناتيوس بصرامة: «دع تشارلز وشأنه. إنه كلب مُهذب ولن يجرحَ مشاعري.»

قام تشارلز المُهذب من فوره بعرضٍ مُبتذل لسيلان اللعاب ليُعرب عن صداقته لكلٍّ من الطرفين المتناحِرَين. وما لبث إيجناتيوس أن استرخى كي يشرح مُخططه.

قال: «قد لا يجدي هذا الفخ أو يثبت عدم فاعليته عند التطبيق كما تعلم. لكن أريد أن أكون في مسرح الأحداث إذا ما جدَّ جديد. لذا أفكر في الإقامة بالنزل. فأنا أُثقل مُدبرة منزلك بأعباء أكثر مما ينبغي.»

ردَّ القسيس: «أنت تعلم أن السيدة ويلز تُحبك حبًّا جمًّا أيها المنافق الكبير؛ لأنك تساعدها في تذوُّق الطعام.»

قال إيجناتيوس: «بل تراني بحاجةٍ إلى التسمين كأبناء الأحياء الفقيرة. ماذا يقول تشارلز؟ … شكرًا لك يا تشارلز، هذا كافٍ جدًّا. لن أرحل.»

في صباح اليوم التالي، وقبل مواعيد العمل الرسمية لمكتب البريد، زار إيجناتيوس الآنسة كاسي ريد مُديرة مكتب البريد. كان أصلها من مقاطعة بيكهام، وذات ذكاءٍ حاد كالسيف. كما كانت شيباء، ذات نظارات، نضِرة البشرة قصيرة الشعر؛ لا بد أنه كان من الصعب تمييزها عن الفتيان في شبابها.

وجد إيجناتيوس في صُحبتها تغييرًا مُمتعًا يُخفف عنه صحبة القسيس؛ لأنها استوعبت النقاط البارزة في مقترحه قبل أن يشرحها، وسرعان ما تشبَّعت بروح المؤامرة.

قالت: «من دواعي سروري أن أُساعدك. أعلم أن الخطابات المجهولة مُزعجة. لن يكون الأمر صعبًا؛ لأننا سنتعامل مع الطبقة الأرستقراطية فحسب.»

سأل إيجناتيوس: «كيف ذلك؟»

أجابت: «لا تشتري الطبقة الأرستقراطية طوابع مفردة قط، بل دفاتر كاملة، إلا في حالة الدعوات الخيرية، تشتري ورقة طوابع كاملة. أُفكر في إعداد قائمة سرية بأسماء الذين يشترون دفاتر طوابع بصفةٍ مستمرة، وأُخصص رقمًا محددًا لكل اسم. على سبيل المثال، «الآنسة أسبري: ١»، «ليدي دارسي: ٢». وهكذا. ثم سأضع على كل دفترٍ الرقم المُطابق له بقلم رصاص خفيف.»

وأخذت تشرح لإيجناتيوس كأنه فتًى صغير من فتيان القرية.

قالت: «إذا قدمت الآنسة أسبري لشراء الطوابع، فسأبيع لها دفتر الطوابع رقم واحد.»

سأل إيجناتيوس: «ولكن ألن تشتري الآنسة ماك الطوابع للآنسة أسبري؟»

قالت: «هذا احتمال كبير. فالآنسة بروك دائمًا ما تشتري الطوابع لليدي دارسي. لكن ما باليد حيلة.»

وافقها إيجناتيوس قائلًا: «أجل. هذه هي العقبة الأولى. والعقبة الثانية هي أننا لا ندري هل سيخترنَ دفتر الطوابع ذات الشلنين أم ثلاثة شلنات.»

قالت الآنسة ريد: «سنُرقِّم الدفاتر ذات الشلنَين فقط. وسأخبرهنَّ أن الدفاتر ذات الثلاثة شلنات قد نفدت.»

ردَّ إيجناتيوس في استحسان: «جيد. اسمحي لي أن أحصل على الدفاتر كي أُعلِّمها. أعلم أنها ستكون مهمةً مُملة. فلا بد من ثقب كل طابعٍ من موضعٍ مميز بحذَر شديد.»

قالت الآنسة كاسي ريد: «سأساعدك.»

رفض إيجناتيوس قائلًا: «لا، أشكرك. لا بد أن أحتفظ في ذاكرتي بالطريقة التي وسمتُ بها الطوابع.»

قالت: «لا بأس.»

بدا واضحًا أنها اتخذت الرفض دلالةً على عدم ثقته بها؛ إذ راحت ترقم الدفاتر بالقلم الرصاص في صمت، لم تكسِره إلا للحديث عن مسألة الدفع.

قالت بنبرةٍ حادة: «إذا تركت عربونًا كافيًا، فسأردُّه لك عندما تُعيد الدفاتر إلى المخزن، في حالةٍ سليمة. جنيهان سيَفِيان بالغرَض.»

أخرج إيجناتيوس عُملة ورقية من فئة عشرة جنيهات.

قال: «هناك أشياء لا يشتريها المال بالتأكيد. وهي الحذَر والسرية والكياسة والعبقرية. لذا عندما أقول لكِ لا تقلقي بأمر الباقي، أعلم أنك لن تُسيئي الفهم وتظنِّي أنني أحاول إبرام صفقة أو ما شابَه.»

برهنت الآنسة كاسي ريد أنها على نفس القدْر من البراعة في تقييمها للموقف.

قالت: «أنتَ مُحق. هناك أشياء لا يشتريها المال؛ لذا لن أحاول أن أشتري صمتك. إذا تسرَّب خبر مساعدتي لك وخسرتُ وظيفتي، فلن تكون الثمانية جنيهات ثمنًا كبيرًا. لكنها ستُساعدني في عطلتي. يبدو أننا في نفس المركب.»

قال إيجناتيوس: «يجب أن يثِق كلانا في الآخر إذن.»

وتصافحا إبرامًا للصفقة، ثم غادر إيجناتيوس مكتب البريد، حاملًا الطُّعم.

وكما توقع، كان وَسْم الطوابع مهمةً في غاية الرتابة، لكن لم يكن بوسعه إسناد هذه المهمة إلى شخصٍ آخر.

قال إيجناتيوس: «إذا تحرك الثقب عن موضعه الصحيح ولو شعرة، فقد تلتصِق الشكوك بشخصٍ آخر بريء. لكن لا تقلق يا تيجر. لا أظن أن أحدًا سيبتلِع الطُّعم.»

سأل القسيس: «لِمَ تكبَّدت كل هذا العناء إذن؟»

أجاب إيجناتيوس: «لأننا يجب ألا نُغفل شيئًا. قد ينجح طفل في صيد سمكَة بدبوس ملتوٍ، ولا ينجح الصيَّاد الخبير بصنَّارته. ومع ذلك، هذه الخطة مليئة بالثغرات … انتبه يا أحمق.»

كان القسيس قد أسقط جريدةً على صفوف دفاتر الطوابع المفتوحة فأفسد ترتيبها.

رفع إيجناتيوس عينَيه ينتظر تفسير القسيس، وإذا به يجد الطبيب بيري واقفًا عند نافذته الفرنسية المفتوحة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥