الفصل التاسع عشر

ذيل الحيَّة

مرَّت الأيام التالية بسلام، فبدا وكأن القسيس كان مُحقًّا في آماله، أن تكون المشكلة غير خطيرة. كانت الحياة في ظاهرها تسير على نحوٍ طبيعي، والمناخ الاجتماعي لا يزال طيبًا كطيب رائحة زهور الخزامى. وتفتحت الزنابق بغزارة، ونضجت الفاكهة وطابت، وبلغت الحدائق مستوًى جديدًا من الجمال. كما كان الطقس مثاليًّا؛ إذ يكون رائعًا ومُعتدلًا في النهار، وتهطل الأمطار عادة في الليل.

توقَّف عقل القسيس اللاواعي عن مُداعبة أوتار ذاكرته، مُصدرًا نغمات متنافرة تُثير كوابيس فوضوية؛ فلم يعُد يزعجه ذلك الحلم المُتكرر الذي يحارب فيه خصمًا غير مرئي. كان قد تقبَّل فرضية أن الآنسة كورنر المسكينة هي مَن خطَّت أول خطابَين، قبل أن يأتي شخصٌ آخر غبي ويواصل الدعابة السخيفة.

قال القسيس لإيجناتيوس: «تنسجِم هذه الفرضية مع استدلالك المنطقي تمامًا. لم تكن الخطابات مؤذيةً في مُجملها حتى الخطاب الأخير. وكما هو من العبث اتهام الطبيب بيري بارتكاب خطأ طبي، فمن العبث أيضًا اتهام الآنسة أسبري بأن لها ماضيًا مُخزيًا.»

قال إيجناتيوس مُصححًا: «تقصد اتهامه بالقتل.»

أجاب القسيس: «تهمة أسخف من الأولى … لقد تركت الحادثة انطباعًا سيئًا في ذلك الحين؛ وهذا لأن السيدة بيري أثارت فوضى.»

سأل إيجناتيوس: «إمم. أرأيت بيري في الآونة الأخيرة؟»

أجاب القسيس: «لا. إنه مشغول طوال الوقت.»

علق إيجناتيوس: «إنه رجل مُثير للاهتمام. بالمناسبة، يبدو أنكَ استبعدتَ احتمالية أن يكون للحية رأس سام.»

وبينما كان إيجناتيوس يتحدث، نظر من النافذة وتأمَّل الشارع في هالته الذهبية الناعسة، تغمره أشعة شمس الظهيرة غمرًا. كانت هناك سيدتان من القرية، ترتديان قبعتَين على هيئة عيش الغراب وتحمِلان مظلتَين بيضاوَين مبطنتَين باللون الأخضر، تتبادلان مجلات الحديقة ووصفات جيلي عنب الثعلب. وكانت هناك قطة رملية اللون عند البالوعة تطارد فراشة بيضاء.

قال إيجناتيوس: «أعترف أن جميع أهل القرية رائعون في الظاهر، وعلى وفاقٍ تامٍّ فيما بينهم. لكن ماذا يختبئ تحت السطح؟ لا يُوجَد بينهم اختلاط حقيقي.»

حثَّه الطبيب: «أتقصد الضيافة؟ امنحهم بعض الوقت. بما أن مسألة الخطاب قد انتهت، سيعود كل شيءٍ إلى مساره الطبيعي بالتدريج.»

ابتسم إيجناتيوس ابتسامةً خبيثة وفرك يدَيه.

سأل إيجناتيوس: «ولكن أنَّى لك أن تعرف أن الخطابات قد توقفت؟ لا تزال تراوِدني شكوك حول أكثر الأشخاص بُعدًا عن دائرة الشبهات. أعترف أنها ليست شكوكًا قوية. لكن ثمة شيئًا يختبئ خلف كل هذا.»

وتوقف عن الكلام؛ إذ استرعت انتباهه سيارة الطبيب بيري «البيبي أوستن»، وقد أكسبها الغبار الكثيف لونًا رماديًّا، وهي تقطع الشارع ببطء.

كان الطبيب قد أمضى أكثر ساعات الصباح وهو يجوب بسيارته عبر طُرق وعرة والمسارات التي عبَّدتها العربات، لزيارة مريضٍ في البلدة. كان المريض مؤمَّنًا عليه؛ لذا لم يكن صباحًا مُربحًا بالنسبة إلى الطبيب، لكنه مُرْضٍ من منظور طبِّي.

شغلت هذه الزيارات المنزلية وقت الطبيب، غير أن صحَّة أهل القرية كانت ممتازة على غير العادة. كان مرضى الطبيب الأغنياء يعانون من أمراضٍ من وحي خيالهم في الأغلب. فكانت لديهم دراية كافية بأمراضٍ بعينها ويستطيعون تمييز أعراضها المبكرة التي تسبق شعورهم بالألم أو الانزعاج، وحينها يستدعون الطبيب الذي يتولَّى البقية.

في ذلك الوقت، كانت هناك حالةٌ مرضية حقيقية واحدة، في منزل «ذا هول». لكن كانت حُمَّى القش الموسمية والتهاب المفاصل قد أطلقا إنذاراتهما الأولية المعتادة. سارت سيدتان عذراوان غنيَّتان في حديقتهما، في نسيم المساء العليل، يتأمَّلان جمال أزهارهما.

وبينما كانت أكبرهما سنًّا تعتدل في وقفتها، بعد انحنائها على حوض لزهور الثالوث، ضمَّت يدَيها أسفل ظهرها.

وقالت لأختها: «شعرت بوخزٍ خفيف. إن عدوِّي على وشك الاقتراب.»

أومأت الأخت الصغرى قائلة: «أجل. عطستُ هذا الصباح في أثناء مروري بأحد الحقول. آن أوان استدعاء الطبيب.»

بدت أمارات التفكير على وجه الأخت الكبرى.

قالت: «أخبرتني زوجة العمدة أنه مسرور من الطبيب القادم من شلتنهام. قد يكون عالمًا بأحدث نظريات الْتهاب المفاصل. فالدكتور بيري لا يُغير طريقة علاجه على الإطلاق. أظنُّ أن من الشجاعة استشارة طبيبٍ آخر. لا سيما إن كان هناك مَن أثنى عليه.»

بدا الإصرار على وجه الأُخت الصغرى.

وقالت: «لن أرى الطبيب الجديد. أنا مخلصة للدكتور بيري العزيز.»

لكن الطبيب بيري لم يجنِ أي فائدةٍ حقيقية من وفائها؛ إذ تجاهلت بوادر حُمَّى القش لدَيها، والتي تتَّخذ مسارها الطبيعي.

أعرب الطبيب عن سعادته بالصحة العامة لأهل القرية، غير أنه كان يتساءل في بعض الأحيان عمَّا إن كان هناك سخام في الجوِّ لم تنجح الأمطار الليلية في إزالته. كان القسيس وإيجناتيوس حاضرَين في أثناء قراءة الخطاب البائس؛ وكان يرى أن القسيس ثرثار. لكنه لم يُعبر عن شيء من شكوكه لزوجته، التي كانت تقضي جلَّ أوقاتها مُستلقية تحت أشعة الشمس مثل السحالي، مع أطفالها.

ثمة شخص آخر، لم يُعجبه حالة الهدوء الحالية للقرية، وهي جوان بروك. فمع التوقُّف المفاجئ للحياة الاجتماعية، لم تحظَ جوان برؤية القسيس إلا في مناسباتٍ قليلة. ولأن القرية صارت أكثر جاذبيةً عن ذي قبل، أرجعتْ شعورها بالقلق إلى مصدره الصحيح.

كانت جوان فتاة قوية الإرادة لا تتهرب من أي مشاكل. ولأنها لم يعُد بإمكانها أن تقابل القسيس في حفلات التنس، عزمت على الخروج في رحلة صيدٍ مُحدَّدة الهدف.

حدثت نفسها في جرأة: «هذه حُمى الرجال. لا بأس، طالما أنه رجل واحد. أنا فتاة شابة، وكلانا معجب بالآخر. فلِمَ لا؟»

لكن روح العناد تسلَّلت إلى اللعبة؛ ففي الأيام التي كانت تشعر فيها بمجرد اهتمامٍ عابر نحو القسيس، كانت طرقهما تتقاطع بصفةٍ مستمرة. لكنها بعدما أصبحت تكنُّ له عاطفة حقيقية، بدا بعيدًا عن متناولها دومًا.

آنذاك، بدأت جوان تخشى حلول الليل. كانت غرفة نومِها، في المنزل الضخم المكسو بالجص الأصفر اللون، صغيرة الحجم، وتحتلُّ الواجهة الغربية؛ لذا كانت شديدة الحرارة في المساء، في حين كانت الأشجار، التي كانت تُضفي لمسة مُنعشة على الحديقة، تمنع أي تيار هواء من الدخول إلى الغرفة.

كانت جوان تستيقظ من نومها، يأكلها الخوف من المستقبل. كانت ترى نفسها، في تلك الساعات المُظلمة الحالكة، إحدى شخصيات قصة واقعية مبتذلة. كانت الآنسة كورنر لتغضب كثيرًا وتلخص الأمر بأنه موقف مألوف تُواجهه كل النساء.

قالت جوان: «لا جمال، ولا مال، ولا موهبة. إذا لم أتزوَّجه، فقد انتهى أمري.»

لكنها كانت تنهض مع طيور القُبرة دائمًا، لتناول حبوب الإفطار والفاكهة مع وجبة الإفطار، وكلها حماس لمواصلة حملتها.

في مساء كل اليوم، بعد العشاء، كانت جوان تسير الهوينى عبر الحقول باتجاه القرية، على أمل أن تلتقي القسيس مصادفة. وكانت تمرُّ في طريقها بالممرِّ المقدس المُفضي إلى منزل «ذا هول»، وهو مبنى عريض مُنخفض الارتفاع، رُمِّم بعدما نشبت فيه النيران، لكنه لا يزال يحتفظ بجناحٍ من الطراز التيودوري الأصيل.

كان الوصول إلى ممرِّ السيارات والمدخل الرسمي للمنزل من خلال الطريق الرئيسي، لكن في هذا الجانب من المنزل، امتدَّ جزء من الأراضي المُحيطة بالمبنى إلى السياج. وفي كل مساء تقريبًا، كانت جوان تسترق النظر إلى فيفيان والميجور بلير، في أثناء ممارستهما لرياضة التنس أو التجول في حديقة الأزهار.

كانت حدود صداقتهما العادية المشوَّشة تتبلور وتأخذ شكلَ علاقة عاطفةٍ واضحة.

راقبتهما جوان ناقمةً على فيفيان شعورها بالأمان.

في أسوأ الظروف ستجد فيفيان من يعولها؛ وفي أحسنها ستسير بخطواتٍ مُنتصرة على أنغام مارش الزفاف. فلا عجب أن عينَيها الزرقاوين الرماديَّتين تفتقران إلى العُمق، وثرثرتها العابرة لا تُخفي وراءها أي مغزًى خفِي. كانت حياة فيفيان تعيش آمنة مطمئنة.

كان مجرد شعور جوان — التي لها روح مغامر طربٍ طائش — بالحقد على فيفيان لمجرد احتمالية زواجها، ما هو إلا دلالة على أنها تعاني من نوبةٍ حادة من حُمى الرجال الفريدة التي تصيبها.

رفعت جوان بصرَها عندما سمعت بوق سيارة، ورأت إيجناتيوس أكثر ضآلة من أي وقتٍ مضى، داخل سيارته الفارهة.

سأل: «أترغبين في توصيلة؟ سأُقلك إلى حيث تريدين.»

أجابت: «حسنًا. خُذني إلى بابل ثم أعِدني مرة أخرى.»

لم تكن جوان بارعةً في التعريض في كلامها؛ لذا شعرت بالفخر عندما لاحظ إيجناتيوس مزاجها العكر.

قال: «لا. ضوء الشموع ذو خطورة شديدة. سآخُذك بدلًا من ذلك في جولة حول إنجلترا، وسأُعيدك إلى هنا قبل حلول المساء.»

هزَّت جوان رأسها وقالت: «أشكرك. هذا مُمل جدًّا.»

تنهد إيجناتيوس، وكأنه هو الآخر، في لحظةٍ ما، قد مسَّه شعور حارق بالشوق أثارته رغبته الكامنة في العودة إلى حياة المغامرة والتحدِّي القديمة. بعد ذلك استحال صوته حادًّا.

وقال: «إن قبلتِ التوصيلة، فلن تعودي إلى البيت راجلةً على الأقل. فبحسب تعليقٍ سابقٍ لكِ، لستُ رجلًا فظًّا.»

عضَّت جوان شفتَيها.

وقالت بسرعة: «أفضِّل الذهاب معكَ على السير مع الآنسة أسبري.»

أنسى تعليقها الأحمق إيجناتيوس ذكرى تعتمِل في ذهنه.

سألها: «لماذا؟»

فحكت له تجربتها المؤلِمة مع الآنسة، بإطنابٍ يقطر حماسة، نسيت في خضمِّه نفورها منه.

قالت: «تخيَّل، يا عزيزي، كم كنتُ لاهثة، متقطعة الأنفاس، أكاد أفقد الوعي من فرط الإعياء — إذ كانت ركبتاي تخوران، ولساني يتدلَّى من فمي، وظهري يُصدِر صريرًا — بينما هي تواصل السير مثل شيطانٍ مارد، بمعدل ثلاثة أميال في الساعة. وكل هذا العناء من أجل دبوس زينة ببنسَين ونصف … لكنها كانت تريد الانتقام مني لغرَض آخر.»

سأل إيجناتيوس بنبرة فضولية: «وما هو؟»

لاحظت جوان وصول الميجور وفيفيان إلى البوابة البيضاء المُفضية إلى الممر، فأسرَّت إلى إيجناتيوس بقصة إحباط الآنسة ماك والوعد الذي قطعته للآنسة أسبري.

قالت: «لم أستطِع أن أُخبر أحدًا بهذه القصة، سواك. الجميع هنا يُعاملون الآنسة بإجلال كأنها قديسة. لكني وافدة جديدة على القرية لذا أرى الأمور على عواهنها.»

نظر إيجناتيوس إليها بإمعان.

«ليتني تحدثتُ إليكِ من قبل. إنك تُثيرين اهتمامي كثيرًا. من الواضح أنكِ تؤمِنين بأن انطباع الشخص الأصلي يجب أن يكون مقدَّمًا على الموقف العام مهما كان غريبًا.»

قالت جوان: «هذا صحيح. أعترف أنني أرتكِب أخطاءً حمقاء. ولي هفوات وزلَّات لم ترتكبها فتاة في مثل حجمي في إنجلترا. لكنَّ مكمنَ الإشكال هنا أنني أقول الحقيقة عادة.»

علق إيجناتيوس: «لا أشك في ذلك. أنتِ شخص صادق ومُباشر. ولا أظن أنك يمكن أن تكذبي.»

ردَّت جوان: «لا، أنا لستُ كاذبة. لقد تربيتُ على يدِ جدَّتي، وهي عجوز غريبة الأطوار، لكنها كانت شخصيةً جيدة برغم ذلك. كانت لديها بعض الأخلاقيات الصارمة، لكن يبدو أنها كانت تُجدي نفعًا في نهاية المطاف على ما يبدو. كانت تُخبرني دائمًا: «لا تكذبي. الكذب خلقٌ سيئ ودنيء، يلحق بصاحبه صفة الجُبن. لكن إن كان ولا بد من الكذب، فلتكن كذبةً كبيرة، وتَمسَّكي بها إلى الأبد.»

قال إيجناتيوس: «أما وقد صرتُ أفهمك أكثر الآن، ربما تُثيرين فضولي يومًا ما. لكن لا بأس.»

رغم ثناء إيجناتيوس عليها، أدركت جوان أن ساعي البريد، الذي كان يشقُّ طريقه بصعوبة وسط البقدونس البري المُحيط بالممر من الجانبين، كان يُقاسمها اهتمام إيجناتيوس.

قال إيجناتيوس: «ها هي الدفعة الأخيرة من البريد. ساعي البريد ذاك هو بطل السيناريو. تُرى ماذا يحمل للآنسة فيفيان؟»

انسلَّت فيفيان، التي كانت هيفاء مثل الهلال في فستانها الأبيض، خارجةً من الحديقة وتناولت الخطاب من ساعي البريد. بعد هُنيهة، سُمِع رنين ضحكتها المجلجل وهي تعود أدراجها إلى الميجور.

قالت جوان: «لم يأتِ لها بأخبارٍ شيقة على أي حال.»

قال إيجناتيوس: «هذا غير صحيح. فلدَيها حياتها السرية مِثلنا تمامًا.»

حدقت جوان في إيجناتيوس، وخطرت ببالها صديقتها الروائية فجأة.

علقت جوان: «غريب أن تقول أنتَ هذا الكلام. يجب أن أذهب. فأنا أحصل على مقابلٍ لقاء مرافقة سيدتي. أرسِل حُبي للقسيس الصغير.»

«الصغير؟»

«نعم. دائمًا ما أدعو من أُحبهم بهذا اللقب.»

فهم إيجناتيوس مُجاملتها غير المباشرة؛ وكما توقعت جوان، ذكرها إيجناتيوس عند القسيس بالثناء عليها في أثناء تناولهما وجبة العشاء.

كان وهج شمس المغيب يذوب في سماء الغسق البنفسجية، وخرج القسيس وإيجناتيوس للتجوُّل في ساحة القرية. نظر القسيس إلى بُرج منزل «ذا كلوك»، وانتابته نزعة اجتماعية مفاجئة.

قال: «لا بد أن الزوجَين سكودامور عادا من جولتهما اليومية. دعنا نزُرهما. إنهما عفويان للغاية، ويجعلانني أشعر بالتحسُّن دائمًا.»

أثبت المحامي وزوجته أن رُقيهما الأخلاقي أقوى من الظروف الجديدة. لم يجرؤا على إقامة أي حفلٍ رسمي مرة أخرى بعد ما تعرَّضا له في السابق من رفضٍ، غير أنهما واصلا دعوة الأزواج الآخرين للعشاء، في حين ندُرَ أن تتناول السيدة سكودامور شايَ ما بعد الظهيرة دون رفقة تنتقيها من معارفها أو أصدقائها.

فور أن دخل الرجلان المنزل، استشعرا الأجواء الرسمية للمنزل؛ حتى إن القط كان في أبهى هندامه استعدادًا للعشاء، بفرائه الأسود الذي يتوسطه رقعة بيضاء بدت شبيهة بالصدرية.

كان السيد سكودامور وزوجته في غرفة الاستقبال المُبهجة يشربان ماء الشعير، وعرضا على ضيفَيهما مشاركتهما للحفاظ على صحتهما. وكان من الطبيعي أن ينتقل الحديث من الصحة إلى المرض.

سأل المحامي: «كيف حال العمدة اليوم؟»

سأل القسيس: «أهو مريض؟ لم يذكر بيري أنه ذهب إلى «ذا هول».»

تبادل المحامي وزوجته النظرات.

قالت السيدة سكودامور: «ربما أصابه المرَض، حين كان في شلتنهام، فذهب لزيارة طبيب البلدة. سمعتُ أنها وعكة مفاجئة.»

أومأ القسيس، مُتجنبًا نفس الاحتمالية المُزعجة التي أقلقت المحامي، وقال: «احتمال وارد. ما خطبه؟»

أجاب المحامي: «تسمُّمٌ دمَوي. لقد تعرض لتسمُّم حادٍّ كاد يودي بحياته لولا تدخُّل الطبيب في الوقت المناسب … لم يكن الوقت يسمح بالانتظار إلى حين استدعاء بيري … ولكن هذا هو الغريب في الأمر.»

سعد السيد سكودامور بالابتعاد عن سيرة الطبيب؛ إذ راح يُسهب في الحديث عن المرض. وأنصت إليه إيجناتيوس في ملل، تحوَّل إلى انتباهٍ بشكلٍ مفاجئ.

قال المحامي: «لقد تناول سمكًا فاسدًا في أحد مطاعم شلتنهام. ولم يكدْ يتذوَّقه حتى نحَّاه جانبًا، وطلب طبَقًا آخر، وهو جيلي اللحم البارد. ومن هنا ساءت الأمور. أخبرَني العمدة أن الطبيب أوضح له أنه بما أنه تناول قضمةً صغيرة من السمك، وهو في كامل صحته، لم يكن السُّمُّ سيضرُّ جهازه الهضمي … لكنه اختار طبقًا آخر يحتوي على الجيلي؛ وتبيَّن أن الجيلاتين هو الوسط المناسب لاحتضان ميكروبات السُّم.»

اتفق الجميع على أن الأمر كان سوء حظ. بعد ذلك، جال إيجناتيوس ببصرِه في أنحاء الغرفة ذات الألوان الهادئة، بأثاثها المُرتَّب بالقلَم والمسطرة، وما تحتويه من كنوز العائلة، والمصابيح المُغطاة، وطرح سؤالًا في غير محلِّه عن عمد.

«أتلقَّيتَ خطابًا مجهولًا يا سيد سكودامور؟»

أجاب المحامي: «بالطبع لا. أرى أن هذه المسألة التافهة البغيضة قد أُغلقت.»

قالت السيدة سكودامور: «أوافق زوجي الرأي.»

قال المحامي بفخر: «زوجتي في موقِعٍ يؤهلها للحكم في هذه المسألة. إنها تقابل أشخاصًا أكثر من أي أحدٍ آخر في القرية، بحكم التواصُل الاجتماعي، مع أنها لا تُنصت أبدًا إلى النميمة.»

لاحظ إيجناتيوس أن كلماتهما المُطمئنة كانت للقسيس مثل الشراب للظمآن. أحنى القسيس رأسه بطريقته المُبجلة القديمة، كما يفعل إمبراطور روماني يَقبَل الجزية، في حين حدجته السيدة سكودامور بعينَيها الوديعتَين الواسعتَين.

قالت: «أعتقد أن موقفك هو الوحيد الصائب أيها القسيس. يجب أن تعود الحياة إلى مجراها الطبيعي وننسى ما حدث. لا يمكن لجرحٍ أن يُشفى إذا واصلنا فركه.»

أحسَّ إيجناتيوس أنها تُحاول أن تقول بطريقةٍ مُهذبة راقية: «بحق السماء، تخلَّص يا أبتِ من ذلك الشقي الذي سيحاول إثارة المتاعب دومًا كمحاولة أخيرة لخلق الفوضى.»

وبينما هم جالسون يُدخنون، باستثناء مُضيفة البيت، أحضر الخدم الدفعة الأخيرة من البريد للسيدة سكودامور. كانت عبارة عن خطابٍ واحد في ظرفٍ أبيض ثخين، عليه شعار، ولم يستطِع المحامي منع نفسه من التعليق.

فقال: «هذا خطُّ يد السيدة فيفيان.»

ابتسمت زوجته وأجابت: «أجل، هذه دعوة العرس بلا شك.» وأضافت موضحة: «ستتزوج ابنة الأسقف الكبرى الشهر القادم. وقد وعدت زوجة الأسقف بالحضور.»

لاحظ إيجناتيوس سعادة القسيس بمعرفة هذه المعلومة الاجتماعية. بدا أن مجرد ذكر اسم الأسقف مثل الرُّقية التي تطرُد روح الإفك الخبيثة.

التزم إيجناتيوس الصمت التامَّ وهما في طريق العودة إلى المنزل، حتى إن القسيس بدأ يُعرب عن بهجته الشديدة.

أعلن: «أنت مُتجهِّم لأنك لا تريد لشيءٍ أن يحول بينك وبين حل اللغز. لكن السيد سكودامور هو أكثر المحامين حصافةً وحكمة في المقاطعة، كما أنه يشاركني رأيي.»

هز إيجناتيوس رأسه نافيًا.

وأجاب: «لا، كنت أفكر في مرَض العمدة. فقد زوَّدني بخيطٍ مفيد. تخيل لو أن السُّم الأصلي كان موجودًا في القرية، في صورةٍ خاملة وربما لا يكون مؤذيًا، حتى ظهر الجيلاتين البريء في المشهد مصادفة. لكن ما جيلاتين لُغزنا تحديدًا؟ سأصل إلى هذه المعلومة إذا تأكدتُ من هوية كاتب الخطاب الأول … كما أنني كلما حاولتُ حلَّ هذه المشكلة، ظهرت لي مشكلة أخرى.»

سأل القسيس برحابة صدر: «وما المشكلة؟»

رد إيجناتيوس: «مشكلة امرأة. امرأة لا تبتسِم أبدًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥