بيكربونات الصوديوم
مضى يومان منذ عودة الروائية إلى لندن، ولم يتبقَّ من آثار زيارتها سوى بعض لدغات البعوض على كاحلَيها، وذكرى ضبابية غير واضحة. حتى القرية لم تُبقِ أي أثر لشخصيتها؛ فقد مسحتها جوان من ذاكرتها تمامًا، في حين لم يأتِ أحد على ذِكر الغريبة ذات الأصباغ والعدسة المُفردة. حتى الصحيفة المصورة التي كانت تطبع قصتها المسلسلة الأخيرة لم تكن متداولة في القرية فلم يبقَ أثر لعملِها أيضًا.
تدفقت الحياة بهدوء مثل نهر مُترع شفاف، لكن كان هناك ما يُنذر بتداعي هذه الطمأنينة والسكينة. فكما تسبق الفريسة ظهور السبع، كانت زيارة الروائية النذير الذي يسبق وقوع الكارثة. كان التناغُم المُجتمعي مستقرًّا لا يُعكر صفوه شيء، لولا تلك الحادثة المزعجة الأولى التي كان من المُقرر حدوثها في ذلك المساء.
تأخر الطبيب بيري في عودته إلى منزله لتناول العشاء. وفور أن رأى واجهة منزله المشيد على طراز الملكة آن، تلك الواجهة المُبهجة التي كانت من الطوب الأحمر، دفع بوابة الحديقة على مصراعيها، وبداخله ذلك الشعور المألوف لبحَّار عاد لتوِّه إلى الميناء. كانت الحديقة المُقلَّمة تتخللها أشعة شمس المغيب مثل العروق، كما لا تزال الحدود العريضة، من زهور التوليب الوردية الطويلة وأذن الفأر، مثل سحابةٍ زرقاء مشوبة باللون الوردي، رغم أنها قد تجاوزت أوان ازدهارها على نحوٍ لا يكاد يُلحَظ.
استقبلته زوجته على درج المدخل المسقوف في استياء. كان الطبيب قد تزوَّج الصيدلانية المساعدة له، وهي ابنة نبيل أيرلندي فقير؛ ولهذا كانت غريبة على القرية؛ لكن أهلها رحَّبوا بها بِناءً على سُمعة زوجها.
للوهلة الأولى، بدا الزوجان على غير وفاق. فكان الطبيب سليلَ واحدةٍ من أعرق العائلات في القرية، شاحبَ الوجه نحيلَ الجسد، طيب المَعشر واهن الصوت، بينما كانت زوجته ذات بشرة داكنة جدًّا، وجمالٍ شاحب لم يُقلل شحوبه من جاذبيته.
كانت الهالات السوداء تحت عينَيها وفستان السهرة الذهبي الحريري المُتغضِّن، قد جعلاها تشبه مضيفة ملهًى ليلي سيئة السمعة تستقبل أولى بشارات النهار؛ لكن الرائحة النفَّاذة لمسحوق زهرة البنفسج أشارت إلى انشغالها بأعمال المنزل. فقد انتهت لتوِّها من تحميم طفلَين مشاغبَين، ولأن الأمومة بالنسبة إليها مثل عاصفةٍ من المشاعر، فقد أنهكت نفسها بمراوغاتهما وما تختبِره من متعةٍ شديدة في رعايتها لهما.
قال زوجها وهو يُقبِّلها قبلةً حانية: «حسنًا يا ماريان. كيف حال العائلة؟»
أجابت ماريان بيري بصوتٍ رقيق مُتهدج: «في الفراش. ليتك شاهدتهما وهما يغتسِلان. كاد ميكي أن يسبح.»
علَّق الطبيب وهما يجتازان رَدهة المنزل الفسيحة المكسوَّة بالألواح: «جيد. لكنك تبدين في غاية الإنهاك.» كانت شمس المغيب تتسلَّل عبر ستائر لونها أزرق مثل زهرة العائق، كاشفة عن تصميم داخلي جذَّاب، أفسدته اللعب المُبعثرة في كل مكان وعربتا الأطفال الواقفتان في الزوايا.
أمسكت ماريان بخصرها وقالت: «أشعر بألَم. هل تُسمِّمني يا عزيزي حتى تستطيع الزواج بمنافستي الآنسة كورنر؟»
لم يتطابق الطبيب مع تصوُّر الروائية اللندنية عن الشخصية المزدوجة؛ إذ لم تظهر عليه أي بادرة قلق.
أجاب ببساطة: «هذا لأنك تُفرِطين في تناول عنب الثعلب النيء. ينبغي أن تأخُذي بيكربونات الصوديوم. ستُهدِّئ معدتك بطريقةٍ أو أخرى.»
قالت ماريان وهي تجرُّ الطبيب بعيدًا عن الدرج: «أتريد أن تُمرضني؟ أريد أن أتناول العشاء أيها الوغد. لا يُمكنك تغيير ثيابك الآن. فلقد تأخرتَ كثيرًا. والعشاء جاهز على المائدة.»
ودخلا يدًا بيدٍ إلى غرفة الطعام وكانت غرفة منسَّقة جميلة، مُزدانة بستائر من الكتان البيج الفاتح، ومُجهزة بأثاثٍ بندقي اللون. كانت فضيَّات المائدة كدرة، وطقم السفرة ناقصًا، لكن الطعام كان شهيًّا جدًّا. لم ينجح الطبيب في تسميم زوجته على ما يظهر؛ إذ تناولت طعامها بشهية مفتوحة رغم ألَم معدتها المزعوم.
سرعان ما سألت الزوجة: «كيف حال العيادة؟»
أجاب: «كالعادة. لا جديد.»
سألت: «هل ذهبت إلى الآنسة كورنر؟»
أجاب: «لا.»
قالت: «كذَّاب. أرِني دفتر الحالات.»
وضع الطبيب الدفتر على مفرش المائدة في صمت.
قالت زوجته وهي تقلِّب صفحات الدفتر: «سأسوِّي دفاتر الحسابات بعد العشاء.»
قالت ذلك باستمتاع؛ إذ كانت تلك مُهمتها المفضَّلة. كان أهل القرية يأخذون صحَّتهم على محمل الجد، ويلتزمون بدفع الفواتير الخاصة بها في مواعيدها؛ لذا كانت تعلَم أنها لا تجمَع أرباحًا على الورق فحسب، وهي تُحصي الأرقام، وإنما أرباحًا حقيقية.
غمغمت الزوجة: «جيه كيه. جيه كيه. يبدو أن الآنسة كورنر مصدر دخل سنوي لنا. ممَّ تشتكي؟»
«ما رأيك أن تسأليها بنفسكِ؟»
«أعرف. إنها في غاية البدانة. هل هي غنيَّة؟»
«لا أعرف.»
«لكن ذلك المنزل تكلَّف بناؤه آلاف الجنيهات يا هوريشيو، ومع ذلك لا تُواجِه أي أزمةٍ مالية. فهي تدفع لطاهيتها راتبًا قدرُه سبعون جنيهًا. لا يُمكنها أن تَجني كل هذه الأموال من الكتب السخيفة التي تكتبها.»
«حقًّا؟»
قالت ماريان مُحاكية نبرة زوجها الفاترة بسخرية: «حقًّا؟ هل يُثير اهتمامك أي شيءٍ أو أي شخصٍ على الإطلاق يا زوجي العزيز؟»
تحدَّث الطبيب بهدوئه المعتاد، لكن كانت هناك لمعة شاردة في عينَيه الهادئتَين: «تُهمة غريبة هذه. في الحقيقة، أعاني من حالةٍ مُزمنة من الفضول غير المُشبع … أعترف أنني لا أكترث بدخل الآخرين ما داموا يدفعون لي فواتيري، ولا تُثير فضولي الأمراض العادية. لكن ما يُثير فضولي هو ما يدور حقًّا في أذهان الآخرين.»
تساءلت ماريان: «أهذا مُمكن؟ هل تعرف ما يدور في عقلي؟»
أجاب الطبيب: «لا.» وجفل حين بدأت زوجته تُقطِّع الدجاجة التي أمامها بعنفوانها المعتاد. وأضاف: «ليتني أستطيع. لربما عرفتُ حينها سبب إصرارك على تقطيع الدجاج. كنتِ ستصيرين جرَّاحة ممتازة.»
قالت: «أُقطِّع لأني أكره رؤيتك وأنت تُمسك سكينًا. فأنتَ تستخدِمها بمهارة بالِغة لدرجة أنني أشعر أنني أُشاهد عمليةً جراحية. وهذه رسالة حقيقية من أعماق عقلي أيها السيد الفضولي. بالمناسبة، نطق ميكي كلمةً جديدة. إنها تبدو مثل «اللعنة». أنا في انتظار أن ينطقها مرةً أخرى وأعيش على ذلك الأمل.»
على مدى ما تبقَّى من وقت العشاء، تمحور حديث ماريان حول طفلَيها. لكن قبل أن ينتهي العشاء، هبَّت واقفةً على قدمَيها وأمسكت خصرها في ألَم.
هتفت قائلة: «كنتُ حمقاء عندما تناولت العشاء. لقد عاودني الألَم وبدأ ينهشني بكلِّ قوته.»
غمغم زوجها: «بيكربونات الصوديوم. ما رأيك في مُمارسة التنس لاحقًا؟»
أجابت: «لا يا عزيزي، لا تمتلك ماما وقتًا للعب مع طفلِها البكر هذا المساء. فبعدما أنتهي من تحضير الأدوية، سأنشغل بدفاتر الحسابات.»
الْتمعت عيناها حماسةً من فكرة الدفاتر، حتى إنها نسيت ألم معِدتها تمامًا.
أعلنت: «أُحب هذا الأمر. أشعر بمتعةٍ حقيقية وأنا أتعامل مع الأرقام. ليتني عملتُ وكيلة مراهنات. وكلما دوَّنت البنود قلت: «ها هي علبة بسكويت للطفل الرضيع، وها هي سراويل داخلية صوفية جديدة لميكي. وأنت ماذا ستفعل؟»
أجاب: «سأُكمل قراءة الرواية.»
تمشَّى الطبيب إلى غرفة المعيشة، التي كانت لطيفةً ومبهجة، بألوان الباستيل الفاتحة واللون الأخضر المُنبعث من ظلال أشجار الجميز. تمدَّد على أريكةٍ وردية قديمة باهتة، حيث غضَّن حذاؤه غطاءه الحريري، واندمج في قراءة ترجمة مسرحيةٍ روسية. وبعد قليل دخلت ماريان الغرفة، مُحمَّلة بأدوات مكتبية وضعتْها على المكتب.
صاحت ماريان عندما رأت ما آلت إليه الأريكة من فوضى.
قالت: «تبًّا لك يا عزيزي. هذه الوسائد نظيفة.»
نزل الطبيب عن الأريكة في خفةٍ وهو يشعر بتأنيب الضمير.
قال: «أفكر في الذهاب إلى القسيس وتدخين الغليون معه.»
ردَّت: «اذهب. اذهب قبل أن أذبحك. أرسِل حُبي لذلك الشابِّ وأخبره أن يتوقَّف عن الصياح على المنبر. أعترض كأمٍّ على صياحِه الذي يوقظ كل الأطفال الرضَّع في أستراليا. ولا تسرع في العودة إلى هنا لأنني لا أتلهَّف لذلك كثيرًا. اترك لي الرواية التي تقرؤها.»
الْتقط الطبيب الرواية من فوق السجادة.
وقال لزوجته ناصحًا: «الأفضل ألا تقرئيها. فلن تستطيعي استيعاب فلسفتها العميقة، مثل كل النساء، وستتوقَّفين عند كلِّ أجزائها البذيئة. ثم ستمضين في سبِّ عموم الرجال لفساد أذواقهم … إلى اللقاء يا ماريان.»
ترك الطبيب زوجته تُقلِّب صفحاتِ أحد دفاتر الحسابات بحماسة شديدة، في حين صعد الدرَج البلوطي العريض المُنخفض، ليغتسل ويُغيِّر معطفه. وعندما انتهى من حمَّامه، تسلَّل إلى غرفة نوم الأطفال، حيث كان ينام الرضيعان بقبضتَين مضمومتَين وشعرٍ ناعم رطب.
ومع أن أحدهما كان يكبر الآخر بعشرة أشهر، فقد كان هناك تشابُه قوي بينهما؛ فكلاهما نسخة مصغرة من أبيهما الطبيب، وملامحهما تتنكَّر لأي علاقةٍ تربطهما بوالدتهما المُتقلبة المزاج. وكانا طفلَين مرفَّهين أيضًا؛ إذ ارتديا مناماتٍ باهظة الثمن، وتدثَّرا بأغطيةٍ مسامية هادئة الألوان ذات شرائط حول حوافها. وكانت هناك عُقَد فراشية حريرية فاخرة تزين فراشي الطفلَين المطلِيَّين بالمينا البيضاء، ودمًى لحيوانات ضخمة من الفراء ترافقهما في أثناء نومهما.
بينما وقف الطبيب يتأمَّلهما بحنان، فُتح الباب بهدوء، ودلفت منه ماريان. كان شريط من شرائط فستانها الذهبي قد انزلق من فوق كتفِها، وتدلَّت خصلة من شعرها الداكن على وجنتها، ما أضفى عليها لمحةً فاضحة من الإغراء. ألقت ماريان ذراعها العارية حول عُنق زوجها واستكملت صورة السعادة العائلية.
قالت بصوتٍ رقيق: «ألا يبدوان جميلَين حقًّا؟»
وافقها الطبيب قائلًا: «بلى، إنهما جميلان.»
شددت ماريان قبضتَها على كتف زوجها وانفجرت باكية.
قالت بصوتٍ متهدج: «هل كان يجب أن نُنجبهما؟ إنهما لا يملكان من أمرهما شيئًا ويعتمدان علينا تمامًا. ماذا لو حدث شيء لي؟ أو لك؟ سيعتني بهما الغرباء. ماذا لو توقَّفت العيادة عن العمل؟ ماذا سيصير بهما؟»
أغلق زوجها عينَيه بشكلٍ غريزي من هول هذه الفكرة المأساوية. وفي اللحظة التالية كان قد استعاد رباطة جأشه، وهو يربِّت على ذراع زوجته، ويضحك ضحكةً رقيقة.
قال: «أنتِ سوداوية. ربما كان ذلك من أثر الحموضة. هلا تذهبين وتتناولين بيكربونات الصوديوم.»