لوائح مكتب البريد
تتابعت الأيام، بلا صدمات أو أحداث مفاجئة، حتى بدا أن إيجناتيوس يقبل مكانته كنزيل في القرية لفترة الصيف. وسُرَّ القسيس أيَّما سرور بصحبته؛ إذ كان ضيفًا خفيفًا، وسيارته وفرت له وسيلة ترفيه. راح القسيس يقود السيارة اللامعة عبر الأزقة المتعرجة، مثل نسناس يقود عربة اللبان، وبجواره تشارلز ديكينز، الذي اكتسب عقدة الرفاهية.
لكنه اكتسب عادة جديدة، بدأت تُثير أعصاب القسيس رويدًا رويدًا. في كل مساء، اعتاد عند سماع طرقة ساعي البريد الأولى مِن بعيد، أن يذهب إلى البوابة، ويشاهد الساعي البدين وهو يتنقَّل من بابٍ لآخر.
كان يسأل دائمًا: «ما الذي أحضره ساعي البريد؟ مَن سيحصل على خطابه اليوم؟»
وفي صباح أحد الأيام أعلن القسيس عن نيَّته زيارة مكتب البريد.
قال: «لا بد أن أعرف إن كان أيٌّ من طوابعنا الجديدة قد تُدُوول بين الناس.»
وفجأة انشغل القسيس بكلبه. قال: «إنك تزداد وزنًا يا تشارلز. تجوَّلنا بالسيارة كثيرًا … لم تُعجبني فكرتك يا رجل.»
وافقه إيجناتيوس قائلًا: «ولا أنا. أعترف أنني لا أفقه شيئًا في مسألة نصب الكمائن. هذه مهمة الشرطة. لو أوكلتُ إليهم المهمة، لعرفوا كيف يتعاملون معها باحترافية من البداية إلى النهاية … لكن عليكَ أن تقرَّ أنني أتخبَّط في الظلام؛ إذ دمَّر الجميع كل الأدلة عن قصد. وليس لديَّ سوى خطابٍ واحد للعمل عليه.»
قال القسيس: «كان لديَّ خطاب أيضًا. وقد مزَّقتُه بالتأكيد. هذه استجابة طبيعية.»
علَّق إيجناتيوس: «لا بأس. لا يزال عقلي منشغلًا بالاحتمالات البعيدة. أنا لا أهمل الخطوط الجانبية من أجلك. بدا كمين الآنسة ريد بدائيًّا ورديئًا، لكنه قد يقودنا إلى شيء. سأذهب لأتحقَّق من الأمر.»
ارتدى إيجناتيوس قبعة أظلَّت وجهه، فبدا تلميذًا نحيفًا، ثم سار داخل الحديقة. دوَّى وراءه صوت القسيس بخبرٍ جديد.
قال: «لديَّ ضيف على الغداء. قسيس بروتستانتي آخر. سيأتي في الواحدة تمامًا.»
بدا الاستياء على وجه إيجناتيوس من الفكرة؛ غير مُدرك للمنافع المستقبلية لهذه الزيارة، في حين تجهَّم وجه القسيس، من خلف ظهره، مثل آثِم ينتظر العقاب.
فور أن دخل إيجناتيوس إلى مكتب البريد المُزدان بعناقيد الورد الأبيض بدا مثل عريشة زهرية، عرف سرَّ قلق القسيس. أومأت له الآنسة كاسي ريد ببرودٍ وناولته العشرة الجنيهات.
قالت: «كنتُ أنتظرك. خُذ أموالك من فضلك. لن أمضي قدمًا في تلك الخطة.»
رغم الوضعية الواثقة التي كان يتَّخذها إيجناتيوس، فقد فقدَ توازُنه حين رأى الورقة المالية.
سألها: «ألم تبيعي أيًّا من دفاتر الطوابع؟»
«بعتُ واحدًا للأسف. واشترتْه ليدي دارسي.»
تذكر إيجناتيوس سيدة ضخمة غير واضحة المعالم.
سأل: «لماذا غيرتِ رأيك؟»
أجابت الآنسة ريد: «لم تُعجبني الفكرة من البداية مطلقًا. ولكني افترضتُ موافقة القسيس عليها لأنك تُقيم معه. تذكرتُ مواعظه. فتحمَّست للمساعدة. لكن لم يتغير نفوري منها مهما فكرت. وبعد أن بعتُ أول دفتر لليدي دارسي، شعرت أنني خُنت ثقة أهل القرية.»
سأل إيجناتيوس: «وبعد ذلك تحدثتِ مع القسيس بشأنها، أليس كذلك؟»
أجابت: «أجل، تحدثت إلى القسيس، وأخبرتُه أنني ضحَّيتُ بجميع مبادئي من أجل الخطة. وعندما قال لي إنه هو نفسه لا شأن له بها، مزقتُ قائمة الأسماء وأخرجتُ جميع دفاتر الطوابع المؤشرة من الدرج.»
قال إيجناتيوس: «لكن يجِب ألا تتكبَّدي أي خسائر مادية.»
قالت: «لا بأس. تحتفظ الطوابع بقيمتها الاسمية. يُمكنني التبرع بها لأصدقائي في لندن وغيرها … لكن لن يُباع طابع واحد في هذه الناحية؛ حيث قد يكون في ذلك ضرر.»
قال إيجناتيوس: «أنا سعيد بذلك. لكني في غاية الأسف لأنني تسببتُ في إزعاج سيدة ذات مبادئ سامية مثلك.»
حدَّثت الآنسة ريد نفسها بسرعة: «هذا تملُّق. إنه يريد شيئًا آخر.»
طرح إيجناتيوس سؤاله رغم أنه لم يكن لدَيه أمَل حقيقي في معرفة الإجابة.
قال: «أظن أن لا جدوى من أن أسألك إن كانت هناك أي أظرُف جديدة مكتوبة بأحرُف مطبوعة قد وصلت إلى القرية، أليس كذلك؟»
وافقته الآنسة ريد: «أجل. لا جدوى من سؤالك. ولا جدوى أيضًا من محاولة رشوة ساعي البريد. أعلم أن الاعتقاد السائد هو أننا نقرأ جميع بطاقات المُعايدة، التي تأتي إلى البلدة، لكن هذا كله هراء. لن تعرِف من توملنسون سوى ما يريد أن يُخبرك به، وهو قدْر ضئيل جدًّا.»
قال إيجناتيوس مُحتجًّا: «لم أكن لأفكر في رشوة مسئول بالبريد ولو في أحلامي.»
سألت: «ولِمَ لا؟ لقد حاولتَ رشوتي.»
نظر إليها إيجناتيوس، وتأمَّل شعرها القصير الأشيب الأنيق، ووجهها المُتوتر المتورِّد، وعينَيها الزرقاوين الثاقبتين. في تلك اللحظة، أدرك سبب وقوع الجرائم. يُمكن لهذه المرأة الضئيلة العدوانية أن تمنحه أكثر معلومةٍ كان يرغب في معرفتها في تلك المرحلة.
كان هذا هو الهدف الوحيد الماثل أمامه عندما طرح مسألة الطوابع المؤشرة الغبية. لقد فعل ما يفعله الفارس في لعبة الشطرنج، فقط سلك سبيلًا غير مباشر للوصول إلى هدفه كما يحدُث عند تحريك الفارس في الشطرنج. كان يأمُل في إقامة شراكة مع الآنسة، كي يكسب ثِقتها، ويمهِّد لها الطريق رويدًا رويدًا لخيانة منصبها.
بدا إيجناتيوس ضئيلًا مُحبطًا، وهو يدير ظهره استعدادًا للرحيل، حتى إن الآنسة ريد التي كانت في حجم العصفور شعرت بالشفقة نحوَه.
قال إيجناتيوس: «لن أغفر لنفسي. آمُل ألَّا تحملي لي أي ضغينة.»
قالت: «بعدما تصالحتُ مع نفسي، لا أكنُّ لكَ أي ضغينة. لكني أُمثل حكومة إنجلترا.»
بعد أن خرج إيجناتيوس، توقَّع أن يرى رفرفة علم الاتحاد من أعلى البناية الصغيرة، وأن يسمع عزف النشيد الوطني.
لم يُدرك إيجناتيوس مدى تعويله على تلك الخطة حتى أخفقت. فراح يتجول في شوارع القرية، يتأمَّل وجوه المارة، بفضولٍ حائر. أهم جميعًا يرتدون أقنعةً أم أنها تعابيرهم الصباحية المعتادة؟ لم يبدُ على شخصٍ واحد علامات قلَّة النوم باستثناء القسيس.
حدَّث نفسه: «لا شك أن خطابًا مجهولًا يظل مجرد أمرٍ مزعج لا يهمُّ حتى يضغط على وترٍ حساس. ربما لم يتعرَّض أحد هنا لمصاعب أو تنزل به مِحَن.»
على ساحة القرية، دنت ماريان بيري من إيجناتيوس في جرأة، فشعر بالضيق إلى حدٍّ ما. بدت كامرأةٍ لعوب جميلة، في فستانها الشفَّاف، رغم أن لونه الكريمي الغامق لم يستطِع استفزاز ذوقه الصعب الإرضاء.
سألت بعدَم اكتراث: «هلَّا تناولتَ الغداء مع زوجة قاتل؟»
لم يبتسِم إيجناتيوس وهو يُجيب عليها بأسلوب شديد الرسمية.
قال: «هذا من دواعي سروري. لولا أنني مُضطر للعودة من أجل غداء كهنوتي.»
أومأت برأسها: «أعرف. شريحة من لحم الضأن المشوي وصلصة البصل. سأُقدم لك عرضًا أفضل. ادخل وسأقدم لك الطعام نفسه. لا؟ كيف يُمكنني مساعدتك؟ تبدو تائهًا. هل أريك الطريق إلى بيت القسيس؟»
قال: «لا، أشكرك. لا أريد أن أتعرَّض للخداع.»
أومأت ماريان برأسها وتركته. قطعت المرأة الضاحكة، ذات الجسد المَمشوق والخطوات السريعة، ساحة القرية راكضة صوب حديقة منزلها.
كان مهرجان الطفولة المعتاد مقامًا على العشب؛ حيث كان الطفلان الرضيعان يلهوان في حوض السباحة القماشي، برفقة مُمرضة ومُربية أطفال.
بينما تمهَّلت ماريان في مشيتها لتملأ عينَيها من ميكي الذي بدا يجيد السباحة نوعًا ما، تلاشت ابتسامتها وقطَّبت حاجبَيها في قلق.
سألت: «ألا يبدو شاحبًا بعض الشيء أيتها الممرضة؟ أتعتقدين أنه مُصاب بالأنيميا؟»
زمَّت الممرضة شفتَيها امتعاضًا. كانت ماريان تمنحها الراتب المُرتفع الذي طلبته بِناءً على فترة عملها القصيرة مع إحدى سيدات المجتمع الراقي؛ لكن المرأة كانت مخادعة بالفطرة، وتعتمد على اقتراحاتها المُكلفة بشدة، بشكلٍ أساسي، لتبرير ارتفاع أجرها.
كانت ماريان في قرارة عقلها تكنُّ مشاعر كراهية شديدة لجوردان، غير أن ثقتها في ممرضتها المرتفعة الأجر كانت تامَّة. وانتظرت في قلقٍ بينما انشغلت الممرضة بالتفكير في طريقةٍ جديدة لإهدار مال الطبيب.
ثم قالت: «يجب أن يذهب الطفلان إلى البحر. الأجواء هنا باعثة على الكسل والارتخاء للغاية. إنهما بحاجةٍ إلى الماء المالح لتقوية عظامهما.»
ردَّت ماريان: «يجب أن يذهبا إذن.»
وركضت وهي تَصفُر كالشحرور إلى المكتب، حيث كان الطبيب يرتدي معطفًا باليًا من صوف الألبكة، ويفتش في رفوف مكتبه بحثًا عن تركيبة دوائية.
نادت بصوتٍ غنائي: «يجب أن ترسِل العائلة إلى البحر يا هوريشيو.»
أجاب الطبيب: «لا. إن تغيير الأطعمة والعادات يضرُّ أكثر مما يُفيد. من الأفضل للطفلَين البقاء في القرية.»
قالت ماريان: «لكن الممرضة تقول إنهما يجب أن يذهبا.»
قال: «الأمر محسوم إذن. ستتولى الممرضة النفقات، أليس كذلك؟»
أجابت ماريان: «أها، على ذكر الدفع. يجب دفع راتِب الممرضة غدًا. حرِّر لي شيكًا مُجزيًا يا عزيزي.»
هزَّ الطبيب رأسه.
وقال مُتشدقًا: «لا جدوى من ذلك. فلا يُمكنني الوفاء به.»
سألت ماريان: «لماذا؟»
ردَّ: «للسبب المعتاد. لا يُوجَد أموال في الحساب البنكي.»
نظرت إليه زوجته مليًّا بعينَين مذهولتَين.
وسألت: «ولكن كيف سأتصرَّف مع الممرضة؟»
أجاب: «اطرديها واعتنِ بالطفلَين بنفسك.»
وفي الحال طار صواب ماريان.
وهتفت بغضبٍ عاصف: «لا أستطيع. سأضيع بدونها. ماذا سيفعل طفلاي بدونها؟»
أجاب الطبيب: «سيكونان في أحسن حالٍ إن اتَّبعتِ تعليماتي.»
قالت: «أنتَ. أنتَ مجرد طبيب. ماذا تعرف عن الأطفال؟ لا بد من وجود امرأة تفهمهما. لا يمكن أن أدع الممرضة تذهب.»
اقترح عليها الطبيب القيام بمهمتها المُفضلة في محاولة يائسة لتهدئتها.
قال: «بدلًا من أن تنزعجي من أجل لا شيء، ما رأيك في جني بعض المال؟ أرسلي الفواتير.»
انفرجت أسارير ماريان لدى سماع الفكرة.
قالت: «الوقت مُبكر بعض الشيء، لكن سأبدأ العمل عليها. سيبدأ المحاسب الخاص بك عمله.»
عاود الطبيب بحثَه عن الوصفة. وبعد نحو خمس عشرة دقيقة، وجد الورقة المفقودة وذهب إلى الصيدلية، وإذا بزوجته واقفة عند النافذة. كانت تُراقِب طفليها في الحديقة، وكان هناك جمود في وقفتها لفت انتباه الطبيب.
سأل الطبيب: «متى ستبدئين تحرير الفواتير؟»
أجابت: «لقد انتهيتُ منها.»
سأل الطبيب: «بهذه السرعة؟»
أجابت: «أجل. لم تكن كثيرة.»
بينما كانا يتبادلان النظرات، حاولت ماريان أن ترسم ابتسامة جامدة على شفتيها. أدرك زوجها أن شدَّة الصدمة أطفأت ثورة غضبها تمامًا. كانت ضربة قوية له أيضًا؛ لأنه كان مطلوبًا بصفة مُستمرة بسبب تفشٍّ محدودٍ لداء الحصبة. كان يعيش في أرض الأحلام دائمًا، فلم يختبر ذلك الجانب الكاسد لوظيفته.
قالت ماريان: «نحن في فترة ركود. لا بد من تسريح المحاسب.»
انقبض وجهُها فجأة، حتى وهي تُلقي دعابتها السخيفة، وهرعت خارجةً من الغرفة.
في هذه الأثناء، كان إيجناتيوس قد عاد إلى بيت القسيس على غير رغبةٍ منه، غير واعٍ بوقوع أي عواصف رعدية وسط هذا الجوِّ العليل الذي يسود القرية. وعندما قدَّمه القسيس إلى الضيف، تبيَّن أن الوضع أسوأ بكثيرٍ مما كان يخشى. فلم يكن القسيس الزائر في نفس عمرهما، بل والدًا لأحد أصدقاء القسيس في الكلية، وعمره يتجاوز السبعين.
كان الضيف بدينَ الجسم قصيرًا، أشيب الشعر، متورِّد الخدَّين، لديه مخزون كبير من الحماسة. حتى إنه أخذ يُطنب في وصف القرية مُستعينًا بصفات لا حصر لها، تاركًا أثرًا بالغًا في نفس القسيس، ما دفع القسيس لدعوته للبقاء حتى موعد الشاي بدون تفكير.
قال السيد جنكينز: «سأكون في غاية السرور. كانت جولتي في القرية سريعة جدًّا فلم أعطِ الكنيسة حقَّها.»
مضى وقت الغداء ببطء، وإيجناتيوس يزداد سأمًا فوق سأمِه، بينما الأب جنكينز يهيم على وجهه في ضباب ذكريات الماضي. أسهب جنكينز العجوز في الحديث بلا توقف، يستدعي أحداث الماضي ويتذكره، ويحكي قصصًا عن أناسٍ رحلوا ومبانٍ هدمت. ولكن بعد قليل، وعلى ذكر تاريخٍ بعينه، اعتدل إيجناتيوس في جلسته، وقد أصبح مُنتبهًا يملؤه الفضول.
سأل إيجناتيوس: «أكنتَ كاهن كنيسة سانت جايلز منذ أربعين سنة؟»
«بل منذ ثلاثٍ وخمسين سنة. عملتُ هناك ست سنوات.»
سأل إيجناتيوس: «تُرى هل التقيتَ بسيدة تُدعى الآنسة أسبري، كانت مديرةً لدار الإنقاذ، في أبرشيتك؟»
كرَّر الكاهن الاسم: «آنسة أسبري؟ أجل. أجل بالتأكيد. أعرفها جيدًا.»
«كيف كانت؟»
«امرأة جميلة.»
قال إيجناتيوس: «أقصد … كيف كانت شخصيتها؟»
عندما توقَّف الكاهن العجوز عن الحديث قبل أن يُدلي بإجابته، نظر إجناتيوس إلى القسيس نظرة خاطفة، ورأى على وجهه تعبيرًا به شيءٌ من الامتعاض والقلق. ثم جاء الرد.
«كانت أفضل امرأةٍ تشرفتُ بلقائها. كانت أشبه بقديسةٍ حقًّا. بدت نقيةً من أي نقائص. وكانت تقوم بأعمالٍ نبيلة تتطلَّب التضحية بالذات، كانت تُحيرها في بعض الأحيان بسبب عدم جدواها ظاهريًّا. ولكن بِنيتها الجسدية كانت ضعيفة وقد تكون فارقت الحياة الآن، وصارت تفهم كل ما استغلق عليها.»
قاطعه إيجناتيوس: «أوه، لا، لم تمُت. إنها تعيش هنا، في منزلٍ فخم على الطراز الإليزابيثي، وتستمتع بحياتها تمامًا.»
بدا السيد جنكينز مصدومًا. وقال: «حقًّا؟ أتعني ما تقوله؟ حسنًا، حسنًا. كيف يمضي الوقت سريعًا؟!»
لكن القسيس، الذي ندم على إهدار فترة ما بعد الظهيرة في تلك الزيارة المُملة، رأى مخرجًا من هذا المأزق فجأة.
قال: «عندما ننتهي من جولتنا في الكنيسة، سنذهب لزيارة الآنسة أسبري. ستستمتعان بالحديث عن الأيام الخوالي.»
طمأنه ضيفه: «عظيم. سيكون لقاءً مُمتعًا بلا شك. إنه لكرم أخلاق منك أن اقترحت هذه الزيارة المسلية.»
لكنه بدا غارقًا في التفكير حتى إن إيجناتيوس خمَّن سبب انطفائه. استطاع إيجناتيوس بخُبثه المعتاد أن يُحدد اللحظة التي سيجد فيها الكاهن العجوز العُذر المناسب للإفلات من هذه الزيارة؛ إذ استعاد بهجتَه وطلاقة لسانه فجأة.
راح العجوز يُثني على القرية أكثر من ذي قبل، وانتظر حتى قُدِّمتِ القهوة، ثم تفقد ساعته وتنهَّد.
قال: «أنا في غاية الحزن، لكن لا يمكنني قبول دعوتك الكريمة بالبقاء على أي حال. فلديَّ ارتباط عليَّ الوفاء به. متى ستغادر الحافلة التالية؟»
قال إيجناتيوس من باب النكاية: «يُمكنني توصيلك بسيارتي إن أردت.»
اعترض العجوز: «لا يمكن»، وأسرع يرتدي قُبعته الناعمة، واتجه إلى الباب بخطواتٍ قصيرة كالطفل. وبينما كان يُلقي تحية الوداع، كرَّر شكره للقسيس، وأضاف رسالة للآنسة أسبري.
قال: «أيُمكنك أن تنقل للآنسة أسبري بالِغ أسفي لأنني لم أحظَ بفرصة إحياء صداقتنا؟ هلا تذكُرني عندها من فضلك، وتبلغها بمدى سعادتي أن امتدَّ بها العمر لتعيش حياة مثمرة سعيدة؟»
عندما رحل ضيفهما، شعر القسيس بنشوة الانتصار.
قال: «أتمنى أن تكون راضيًا الآن. فلديك شهادة صادقة على شخصية الآنسة أسبري من شخصٍ عرفها في نطاق العمل، وهذا يختلف عن معرفتها في النطاق الاجتماعي، كما في حالتنا. فشخصية المرء الحقيقية تتضح عند الاحتكاك به بصورة يومية في الوظيفة نفسها.»
قال إيجناتيوس معترفًا: «أجل. أنا واثق من أن العجوز البدينة قد قالت الحقيقة. بل بالَغَت في الصدق أيما مُبالغة.»
علق القسيس: «أتمنَّى إذن ألا تكون ما زلت ترى أي قتامةٍ في عيش امرأتَين غير متكافئتَين معًا؟»
لاحت ابتسامة خبيثة خاطفة على وجه إيجناتيوس.
علَّق: «لقد أثنى صديقك العجوز على الآنسة أسبري ثناءً يبلغ عنان السماء لأنه كان يعتقد في موتها. لكنه كان حريصًا بشكلٍ واضح على عدم مقابلتها وجهًا لوجه. لذا أعتقد أن الموقف أكثر قتامةً من ذي قبل.»