أيام سعيدة
بعد مُضي أسبوع، قرَّر إيجناتيوس العودة إلى لندن.
قال للقسيس: «يبدو من العبث البقاء هنا في انتظار لا شيء. كل ما عرفته، من مشاهداتي الأخيرة، أن فيفيان ابنة العمدة وجوان بروك ليستا على وفاقٍ، وأن الطبيب ليس مغرمًا بزوجته. أعتذر لأنني لم أستطع مساعدتك على نحوٍ أفضل من ذلك.»
قال القسيس، الذي اعتبر رحيل صديقه إيذانًا بعودة السلام إلى الأجواء: «لكنك كنتَ عونًا عظيمًا. فأنت من أشرتَ إلى حقيقة أن الآنسة كورنر هي من كتبت الخطابَين الأوَّلين، وأن الخطابات الواردة بعد رحيلها مُداعبات سمجة لا أكثر.»
ردَّ إيجناتيوس: «لا. لقد أشرتُ إلى أن الآنسة كورنر هي من كتبت خطابها قطعًا، و«ربما» هي من كتبت الخطاب الموجَّه للآنسة أسبري. ولو لم تكن هي الفاعلة، فهذه بداية معاناتكم.»
غيَّر القسيس دفة الموضوع.
قال: «سأفتقدك وسيفتقد تشارلز سيارتك. أخشى أن كبرياءه ستتلقى ضربةً قاسية عند غيابها. فهو يظن أنني أحضرتها لاستخدامه الشخصي.»
انجرف القسيس مع تيار الحياة غير المحسوس في القرية، حيث كانت أبرز الأحداث شروق الشمس وغروبها والبقية هي الساعات البينية. بدا أن جميع مَن في دائرته نسِي واقعة وفاة الآنسة كورنر المُزعجة وما تلاها من رعب. وكأن أهل القرية قد أدركوا لا شعوريًّا أنهم ما داموا لم يجتمعوا في مكانٍ واحد بأعداد كبيرة، فهم في مأمَن من غريزة القطيع التي تجعلهم يفزعون من أي حدَث مخيف قد يقع بلا سابق إنذار.
ومع أن الخوف لم يعُد رعبًا أسود عديم الملامح مختبئًا في الظلام، تساءل القسيس في بعض الأحيان عما إذا كان قد تلاشى حقًّا للأبد. ولازمه شك بغيض في أن الزائر الكئيب ربما لم يكن غير مرئي له؛ لأنه ينتشِر بكل جرأة في وضح النهار.
ربما كان الرجال والسيدات من أهل القرية قد ألِفوا حضرته، حتى صاروا يجدون متعة غريبة وشاذة في رفقته، واستمتعوا باختلاس الحديث معه، في جحور وزوايا سرية، بعيدًا عن مرأى الجميع ومسمعهم.
آنذاك، تذكر القسيس المثل العربي الذي قاله الطبيب: «هي ليلة واحدة يا مكاري»، وحدث نفسه بوجوب الصبر والانتظار. فستمضي الأزمة حتمًا.
قبل ليلتَين من عودة إيجناتيوس المُزمعة، توجَّه مع القسيس إلى منزل «ذا كلوك»، لتناول العشاء. كان العشاء عبارة عن وجبة عائلة سكودامور الرسمية المُعتادة، مع المشروبات المثلجة والمناقشات التقليدية، التي كانت بمنزلة مُهدئ لعقل القسيس المُضطرب. وسرعان ما حمل إليهما السيد سكودامور نبأً محليًّا يبعث على التفاؤل، بدا يُلمح إلى إمكانية استعادة الحياة الاجتماعية.
قال: «سمعتُ أن منزل «تاورز» ستُفتَح أبوابه من جديد.»
رفع إيجناتيوس بصرَه عن الهليون الذي كان يتناوله.
وسأل: «أتقصد الأبراج الأسطوانية المُرعبة على طريق لندن؟ من يعيش هناك؟»
أجاب: «عائلة مارتن. إنها عائلة في غاية الثراء. وكانوا بالخارج طوال عامَين.»
زادت السيدة سكودامور، التي كانت خير رفيقة، على معلومات زوجها.
قالت: «لديهم أربعُ فتيات غير متزوِّجات، جذَّابات ومتواضعات، إحداهن خُطبت حديثًا لكونت إيطالي. ستصل الابنتان الكبريان، الآنسة مارتن وكونستانس، أولًا، ثم ستتبعهما أختاهما.»
علق إيجناتيوس بفظاظة: «أظن أنني سمعتُ عنهن من قبل. ألسنَ الفتيات اللائي لا يتذكَّرن من الأماكن التي زُرنَها سوى متاجرها؟»
لكن المحامي وزوجته وأَدَا المحادثة في مهدِها.
قال السيد سكودامور: «لا أظن ذلك صحيحًا. لقد اعتادت الفتيات السفر حتى إنهنَّ يرَين خبراتهنَّ الخاصة معلوماتٍ عامة.»
وافقته السيدة سكودامور: «بالتأكيد. لطالما وجدتُ طريقتهنَّ لطيفة في البحث عن موضوعات دارجة شيقة لمناقشتها مع صديقاتهنَّ من ربَّات البيوت.»
أخذ الحنين إيجناتيوس إلى رجلٍ نمَّام في ناديه، اشتُهر بلسانه الذي كان كالسوط، واشتاق لمرارة حديثه كترياقٍ لشراب عائلة سكودامور الحلو المذاق.
لم يخطر ببال إيجناتيوس، وهو يجول ببصره عبر المائدة الخافتة الإضاءة، ذات الخشب الماهوجني اللامع المُزيَّن بمفارش الأطباق الدانتيل المُتطابقة الشكل، والخشخاش الأيسلندي الرقيق التنسيق، المنسجِم مع ظلال الشموع الكهرمانية، كيف ستبدو هذه الذكرى رائعة في ضوء حدثٍ مستقبلي ما لمَّا يأتِ بعد.
كان الطقس حارًّا ذلك المساء؛ لذا قدِّمت القهوة لهم في الشرفة. وانهمك الزوجان في احتسائها، بقناعهما المثالي الذي لم يخلعاه، عندما فُتحت بوابة الحديقة على مصراعيها ودخلت منها فتاة. كانت تلك الفتاة هي جوان بروك، وكانت متورِّدة الخدَّين من مجهود السير، حاسرة الرأس، ترتدي شملةً قصيرة فوق فستان السهرة الأبيض الذي كانت ترتديه وكان من الخامة نفسها.
لمعت عيناها عندما رأت وجه القسيس، وأشرق وجه القسيس وتبدَّدت كآبته في المقابل.
بررت جوان سبب مجيئها للسيدة سكودامور، بأنها تحمل لها دعوة لتناول الشاي مع الليدي دارسي، في عصر اليوم التالي.
ضحكت جوان قائلة: «من المُفترض بالطبع أن أرسل لك الدعوة مكتوبة. لكني أعاني من الأرق كثيرًا في المساء؛ لذا اتخذتها ذريعة للمشي.»
طمأنها المحامي: «لا يمكن أن تطمح زوجتي لرسالة أفضل من هذه»، بينما حاولت زوجته إلقاء دعابة بسيطة.
قالت: «سأطلب من الليدي دارسي أن تُرسِل إليَّ طابعي … هلا تتناولين بعض القهوة يا آنسة بروك؟ هلا تتفضَّلين بالجلوس هنا؟»
وقادت جوان إلى مقعدٍ في أقصى الصف، يبعد عن القسيس بمقعدَين. لكن الفتاة، بتصميمها المعهود، تحدثت إلى القسيس متجاوزةً إيجناتيوس.
قالت: «لم أرَك منذ زمن.»
وافقها القسيس: «أجل. لا أعلم السبب حقًّا. لكن طرقنا لا تتقاطع في الآونة الأخيرة.»
هتفت جوان: «لا تُوجَد حفلات. لا أدري ماذا حلَّ بالقرية. لم تعدْ كما كنت أعرفها.»
شعر إيجناتيوس بالتسلية عندما رأى السيدة سكودامور تُبادر إلى تغيير دفة الحديث.
سألت السيدة: «هل أُعلنت خطبة فيفيان بعد؟»
سألت جوان بحدة ملحوظة: «هل خُطِبت؟»
أجابت السيدة: «هذا ما أرغب في معرفته. ستكون هناك خطبة بالتأكيد. فالميجور بلير يذهب إلى منزل «ذا هول» بصورةٍ يومية؛ وفيفيان ليست فتاةً رخيصة حتى تواعِد رجلًا غير جادٍّ في نواياه.»
سألت جوان: «وماذا عن نوايا الميجور؟»
كانت جوان تألف الأحاديث العابرة الحديثة حتى إنها لم تنتبِه إلى أنها قد أبدت واحدًا من تعليقاتها الفظة.
سارع القسيس بالرد قائلًا: «بلير شابٌّ لطيف. أنا أُحبه لأنه اللاعب الوحيد الذي يُمكنني هزيمته في ملعب الجولف.»
وافقه المحامي: «أجل. بلير رجل بحق.»
وبينما يقوم بذلك التصنيف البديهي، التقت عينا إيجناتيوس بعينَي جوان، وتبادلا ابتسامة سريعة. بعد ذلك خفض إيجناتيوس صوته.
وقال: «أتعجب من عدم زواج النساء برجال يفهمونهنَّ.»
ردت جوان: «أوافقك الرأي تمامًا.»
واصل إيجناتيوس: «نحن مثال حي على ذلك. فعقولنا تسير، أو بالأحرى تترنح، في توافق. لكنكِ لن تتزوجيني ولو كنتُ آخِر رجلٍ تبقى على قيد الحياة؛ وأنا رجل أعزب بالفطرة.»
قالت جوان مازحةً: «وُلدت فردًا، لكنك قد تموت متزوجًا.»
واصل إيجناتيوس الحديث في النقطة نفسها.
وقال: «أنا أفهمك حقًّا. رأيتك قد انزعجتِ عندما سمعتِ بخطبة فيفيان.»
حدجته جوان بنظرةٍ غاضبة، ثم استعادت ثقتها بنفسها.
واعترفت قائلة: «أرى الأمر غير عادل.»
قال: «لأن لديها أكثر ما تتوقِين للحصول عليه. الأمان.»
سألت: «كيف عرفتَ ذلك؟ … ليس لأُمي سوى معاش أبي؛ لذا يجب أن نمدَّ لها يد المساعدة. كما أن شقيقيَّ عاطلان عن العمل.»
وعضَّت شفتَيها، ثم أمسكت عن الكلام.
قالت: «لمَ أخبرتُك بهذه الأمور؟ لا بد أنني جُننت. لا أحدِّث أحدًا عن عائلتي أبدًا.»
قال: «لكني أفهمك. وهذا لن يقدِر عليه صديقنا القسيس أبدًا.»
تقدمت المُضيفة الأنيقة، السيدة سكودامور، بثاني أفضل فستان سهرة لديها، وكان من قماش مطرز فضي يميل إلى الرمادي.
وقالت بنبرة عذبة: «كنَّا نود أن تبقَي معنا فترة أطول، لكن يجب أن تعودي إلى «ذا هول»، قبل حلول الظلام.»
استرقت جوان النظر إلى إيجناتيوس على غير رغبة منها، وقابل نظرتها بابتسامة عريضة. كان قلبها لا يعرف الخوف قط، إلا أنها كانت تعلم أنه لا فائدة من معارضة السيدة سكودامور.
واصلت السيدة سكودامور: «أعتقد أن بإمكاني إرسال ردٍّ شفهي على الدعوة الشفهية. فلتُبلغي اعتذاري لليدي دارسي؛ إذ إن لديَّ ارتباطًا سابقًا.»
كلمات رسمية من المُفترَض أن تتذكَّرها جوان في وقتٍ لاحق.
عادت جوان إلى «ذا كورت» في إحباط وامتعاض. فلم تتبادل سوى بضع كلمات مع القسيس، كما أن فيفيان قاب قوسين أو أدنى من الخطبة. ولشدَّة تعاستها، أجَّجت جوان شعورها بالبؤس بمقارنة تملؤها الغيرة بين حالها وحال فيفيان، وبانغماسٍ في التحسُّر على نفسها.
قالت: «لديها كل شيء. هما معًا الآن، وربما يتبادلان القُبَل … وأنا وحيدة. هذه مضيعة للحياة. لا أملك أي شيء، ومدفونة كالأموات في هذه القرية. لكن لا مفرَّ لي من البقاء بسبب الأجر الذي أتقاضاه. إنني أضحِّي بنفسي من أجل أسرتي.»
كان تخمينها بشأن العاشقين شِبه قريب من الحقيقة. كانت جوان تسير في تأنٍّ بالقرب من بوابة «ذا هول»، وإذا بالميجور بلير يُعانق فيفيان على الجانب الآخر من السياج. لكنه عندما حاول تقبيلها، دفعته بعيدًا عنها.
وقالت: «لستُ كتلك الفتيات.»
في واقع الأمر، كانت جوان تقبَل القُبَل العابرة، وتعتبرها من قبيل الغزل، إلا أنها كانت خجولة ومحافظة بفطرتها. هكذا كانت طبيعة النساء على مرِّ العصور دومًا، بينما تتبنَّى الفتيات مبادئ الحداثة الواحد تلوَ الآخر. وهكذا لم يعتمد سلوكهنَّ على الحقبة الزمنية التي يتواجدنَ فيها وإنما على فطرتهن. وحدَه التعريف السائد للأخلاق، ومدى قبول العامة أو رفضهم لأي انتهاكاتٍ أخلاقية، هو الذي كان يتغيَّر بتغيُّر الزمن.
كانت فيفيان تتجنَّب حدوث أي تقارُب حميمي مع الميجور بلير في الوقت الحالي. لقد عقدت العزم على الزواج بالميجور بلير، وتعرِف أنه قاب قوسين أو أدنى من طلب يدِها للزواج. لكنها لا تستطيع الاطمئنان لحبيبها حتى إرسال إعلان خطبتهما إلى صحيفتي «تايمز» و«مورنينج بوست».
وكُللت خططها بالنجاح؛ إذ نظر الميجور إليها بإعجاب، وهي تُهذب خصلات شعرها الناعم الأشقر.
قال: «أعلم أنكِ لا تُشبهين تلك الفتيات.»
علقت فيفيان بلا اكتراث: «لستُ منفتحةً لتلك الدرجة. ربما لأنني أعيش في الريف.»
واصل الميجور مؤكدًا على كلامه: «أنا سعيد لأنكِ لستِ من هذا النوع من الفتيات. لا أحب المساواة بين الرجال والنساء في المعايير الأخلاقية، أو إهدار الوقت في زواج التجربة. سيظلُّ الرجل رجلًا مهما فعل، أما المرأة فستكتشِف أنها لم تجنِ شيئًا من التخلِّي عن أخلاقها.»
كانت فيفيان تُدرك أن هناك فتيات يلعبنَ على الحبلَين لتحقيق مآربهن، لكنها رأت أن من الفطنة التزام الصمت.
أعلن الميجور: «لن أتزوَّج بامرأة لها ماضٍ. الزواج مقامرة خطيرة، إلا إذا كان الرجل يعلم كل شيءٍ عن الفتاة وأهلها وما شابه ذلك.»
أشاحت فيفيان بوجهها، وسافر بصرُها إلى تعريشة الورد البري العطري، التي كان لونها أخضرَ رماديًّا في ضوء الشفَق. كان هناك أرنب يركض عبر ملعب التنس البعيد، لا يظهر منه سوى ذيله الأبيض القصير. ودوَّى صوت طائر الصفرد الحاد من خلف السياج، في حين طغت على الأجواء رائحة نبتة العسلة.
بدا المشهد الريفي مثاليًّا لعرض الزواج، فانتظرت فيفيان في ترقُّب مشبوب بالسعادة. كانت تعلم، من صمت الميجور الثقيل، أنه يُفكر بها.
ولكن بينما كان الميجور يعقد العزم على اتخاذ الخطوة، نادتها جوان بروك من عند البوابة.
قالت: «من حُسن حظي أن وجدتكِ هنا. فلن أضطر إلى السير إلى «ذا هول». جئتُ إليكم برسالة من ليدي دارسي. أيمكن أن تحضر السيدة زوجة العمدة غدًا لتناول الشاي؟»
أجابت فيفيان بنبرةٍ حادة جدًّا: «لا أدري. لستُ سكرتيرتها. ولا أحفظ مواعيدها.»
وسرعان ما ندمت على زلَّتها، وعادت إلى رِقَّتها المعتادة.
قالت: «أترغبين في أن أذهب إلى المنزل وأرى إذا كانت أمي متفرغة بالغد؟ أشكركِ كثيرًا على قدومك.»
وبينما كانت تتحدَّث، ابتعدت عن الميجور، الذي كانت ذراعه لا تزال تتأبَّط ذراعها.
نقلت جوان بصرَها من فيفيان بجسدها الأبيض النحيل إلى الميجور الذي كان يفوقها طولًا. كان وجهه، الذي سفعته الشمس فصار مثل نبيذ البورت، كبقعةٍ داكنة وسط الشفق، وبدت أسنانه بيضاء ناصعة في الظلام وهو يبتسم إلى فيفيان. ومن فرط سخطها على قدَرها البائس، نظرت جوان إلى العاشقَين في غيظ.
لم يكن هناك أدنى شك في أنهما من أبناء الطبقة الأرستقراطية بامتياز، فكان كل منهما يفهم الآخر بكل سهولة. كلاهما يتمتع بالأمان المادي إذ يملكان الكثير من سندات النصر، كما نشأ كلاهما على التقاليد نفسها وتمسَّكا بالمعايير الأخلاقية عينها. آنذاك، شعرت جوان بالهوة التي تفصل بينها وبينهما، ودفعتها سخرية همجية فظة إلى التحدُّث إليهما بلغتهما.
قالت: «أيمكن أن تتصل أُمك بالليدي دارسي؟ أخشى أن يحلَّ الظلام قبل أن أتمكن من العودة إلى «ذا كورت» لو انتظرتُ ردَّها.»
كان الميجور يفهم مغزى مثل هذا الكلام؛ إذ هم بفتح بوابة المنزل.
وقال: «كنتُ أتهيَّأ للرحيل، لذا سأعود معكِ. يجب ألا تسيري في ممرِّ السيارات وحدكِ … إلى الغد يا فيفيان.»
كان صوته عاديًّا لكن ابتسامته تحمِل معنًى. وغادر المكان بخطواتٍ سريعة كأن مرافقة ليدي دارسي، في نظره، فتاة قوية رائعة تستطيع مواكبة خطواته.
أومأت جوان لفيفيان في المقابل، لا تُدرك أنها بلغت في طيشها مداه وأفسدت عرض زواجها، ثم زادت سرعتها إلى خمسة أميال في الساعة لتتأكد أنها متى توقَّفت عن السير فلن يواصل الميجور السير وحيدًا.
عادت فيفيان عبر حديقة الأزهار في تؤدة، ومرَّت بجانب ملعب التنس وبركة الأسماك، ثم صعدت المدرجات الثلاثة باتجاه المنزل. كانت أفكارها مصطبغةً بنشوة انتصار؛ إذ أيقنت أن الميجور كان سيطلب يدَها للزواج لولا مقاطعة جوان، وإن كانت تعلم أيضًا أن إثناءه عن رأيه لن يتطلَّب جهدًا كبيرًا.
لولا الحرب لربما تزوَّجت فيفيان منذ سنواتٍ طويلة. كان العمدة وزوجته يؤمنان بالزواج المُبكر، وقاما بتزويج بقية أولادهما. كانت كل فتاة تُخطب تلقائيًّا في أول ظهورٍ لها في المجتمع الأرستقراطي، وكان كل فتًى يحظى ببيتِه الخاص، كل هذا وهم لا يزالون في العشرينيات.
كانت الصغرى فيفيان على أعتاب الارتباط بالطبيب بيري في صيف عام ١٩١٤. لكنها عندما انضمَّت إلى وحدة للمساعدة التطوعية في المستشفى المحلي، وقعت في حُب ضابطٍ برتبة ملازم ثانٍ. كانت علاقتهما لا أمل منها وبلا معالم؛ إذ كسر الشاب بيلسون كل الحواجز الاجتماعية، ومع ذلك كان في شدة الخجل ومسحورًا بفيفيان، فلم يتَّخذ أي خطوات جادة سوى أن أحبها حتى العبادة، كما يتعلق عامل المنجم بنجمة المساء من مهوى منجمه.
انتهت الحرب تاركة لفيفيان ذكرى مُلتهبة، حين قضت عطلة نهاية الأسبوع مع بيلسون في كوخ في البلدة، تحت رعاية ضابط وزوجته.
بعد فاصلٍ سعيد من السكينة والرفقة المثالية، وردت برقية تستدعي الضابط الأكبر سنًّا من إجازته. فرحل هو وزوجته على الفور، وتركا الاثنين الآخرين ليلحقا القطار التالي.
لكن القطار فاتهما. فاعتبرا ذلك من تدابير القدر واستسلما لإغراء الموقف وقضَيا استراحتهما الثمينة في الكوخ. بدأ الوقت ينفد من بين أصابع العاشقَين، وكان كلاهما يُدرك أن فراقهما وشيك. اتسمت الواقعة بالبراءة ولم يشُبْها شائبة؛ إذ لم يأتِ الشابان بما يُنافي الآداب، رغم بقائهما دون مرافق.
اكتفى الشابَّان بأن ناما تحت سقفٍ واحد والتقَيا على وجبة الإفطار كأنهما زوجان حقيقيان.
ولم يعكر صفو العطلة سوى واقعة واحدة مؤسِفة. عند منتصف الليل تقريبًا، وبينما كانت فيفيان والشاب يجلسان معًا في غرفة المعيشة، إذا بشخص يطرُق الباب الأمامي. فأطفآ المصباح في هلع، وانتظرا في الظلام حتى ينصرف الطارق. لكن الطارق المُتطفِّل لم ينصرف، وظلَّ يتلكأ في الحديقة. ظنَّ الشاب بيلسون أن الخطر قد زال، فأشعل المصباح مرة أخرى، وإذا بهما يلمحان وجهًا ينظر إليهما عَبر النافذة.
استوعب الرجل حساسية الموقف على الفور؛ إذ ذاب في ظلام الليل في حذر.
حدث ذلك منذ وقتٍ طويل. فقد أُطلقت النار على الشاب بيلسون في حملة فلاندرز وطواه النسيان. وقُتل ابنا زوجة العمدة في معركة جاتلاند البحرية، فصارت شِبه مقعدة لسنوات. ولم يتقدم الطبيب بيري للزواج من فيفيان، فأصبحت مرافقةً لأمها، وهو ما برَّر بقاءها بلا زواج.
لكنها سئمت من بقائها بالمنزل، وأرادت أن تُصبح سيدة نفسها. كما أنها كانت مغرمة بالميجور بلير حقًّا. وبينما كانت تخلع ثيابها في غرفة نومها، في تلك الليلة، أخذت تتفحَّص وجهها الصغير المتورِّد في المرآة عن كثب. كانت الخطوط الرفيعة في وجهها أقل من نظيرتها في وجه جوان، لكن لم يُغير ذلك حقيقة أنها في الثلاثينيات من عمرها، وأن شبابها بدأ في الاضمحلال. لقد آن أوان زواجها.
فجأة، زلزل ظل قاتم الغرفة المبهجة الصغيرة، وربَّت الخوف على كتف فيفيان.
وهمس في أذن فيفيان: «الميجور ملككِ لو لم يثنِه شيء عن الزواج بكِ. ولكن ماذا لو علم أنكِ قضيتِ ليلةً مع رجل بمفردك؟ كيف سينظر لكِ حينها؟ تذكري أن أحدهم يعلم بهذا الأمر.»
سرَت برودة في جسد فيفيان رغم أنها كانت إحدى ليالي الصيف الحارة. كانت كلما تذكرت طيشها، في الفترة التي تلت جنون الحرب، دبَّت قشعريرة في جسدها. ولكنها كانت تُدرك أن تصرُّفها في ظاهرهِ لا يصبُّ في مصلحتها، حتى وإن كان مجرد طيش لا أكثر.
وحدَّثت نفسها قائلة: «ماذا ستقول أسرتي لو علموا بالأمر؟ أو السيدة سكودامور؟»
كان مجرد التفكير في السيدة سكودامور يجعلها تتفصَّد عرقًا. تراءت لها عيناها الواسعتان الوديعتان، وقد غشيتْهُما موجة صقيع من الصدمة والذهول، لو سمعت فقط بالقصة. لن يُصدق أحد براءتها إن عرفَ ملابسات الواقعة.
في تلك اللحظة، كان صبر السيدة سكودامور يتعرَّض لاختبارٍ قاسٍ في غرفة الاستقبال بمنزلها، حيث كانت شريكة إيجناتيوس في لعبة البريدج. كان إيجناتيوس لاعبًا متمرسًا، إلا أنه شرد بذهنه تمامًا حتى إنه نسِي استخدام البطاقات الرابحة مما أدَّى إلى خسارتهما الجولة.
ولم يكن بوسع إيجناتيوس إلا الإعجاب بالسيدة التي تظاهرت بعدم ملاحظتها لخطئه، وتقبلت الخسارة بابتسامةٍ مهذبة. لكن عندما انتقد القسيس أداءه، في طريق عودتهما إلى المنزل، ضحك ضحكة قاسية.
قال: «تركت لها ذكرى لي لن تُنسى. ما أهمية ذلك؟ سيسوِّيان المسألة بينهما بعد رحيلنا. أمثالهما يفعلون ذلك دائمًا.»
قال القسيس بنبرة جافة: «لا ريب أن زواجهما علاقة تضامُنية رائعة.»
«حقًّا؟ لا أُحبهما. إنهما يتظاهران بالورع والصلاح.»
فزع القسيس.
وقال: «حذارِ من هذه التهمة. إنهما مهذَّبان لطيفان، ويُضرَب بهما المثل في كرم الضيافة.»
«تقصد أنهما يوجِّهان إليك الدعوة لزيارة منزلهما. لكنهما لا يُشعرانك بالراحة كأنك بمنزلك.»
قال القسيس: «دائمًا ما يُشعرانني بذلك. كما أنني أعجبت كثيرًا بأسلوب السيدة سكودامور مع جوان بروك الليلة. لقد عاملتها بلُطف كأنها ابنتها.»
«هذا لأن الآنسة جوان فتاة محترمة. لكنها لو أتتْ إليهما وسط عاصفة ثلجية في ظلام الليل، وهي تحمِل طفلًا رضيعًا بين ذراعَيها، وطلبت المبيت، فسيختلف الأمر تمامًا.»
ثم ضحك إجناتيوس ضحكة خافتة.
وواصل كلامه: «أتخيَّل العجوز سكودامور، وهو يرتدي ملابس العشاء المناسبة ويوضح للآنسة جوان أنه لا يستطيع السماح لها بدخول منزله مراعاةً لزوجته واحترامًا لها. وستتفق معه السيدة سكودامور، بإيماءاتٍ وقورة، بينما تُغلق الباب حتى لا يسمع الخدم الحوار الدائر. بعد ذلك، سيعودان إلى لعب السوليتير.»
قال القسيس بصبر: «أنتَ أحمق ساذج. أعتقد أنه شيء خارج عن إرادتك لا تستطيع السيطرة عليه.»
رد إيجناتيوس: «هذا صحيح. تحمَّلني لأنني سأرحل قريبًا. حينها سيفتقِدني تشارلز وسيفتقد سيارتي. لكن، تذكَّر هذا … ربما تذهب السيدة سكودامور إلى الكنيسة لكنها لا تعبد الرب. إنها تعبد آراء الجيران فحسب. ستراها على حقيقتِها في يومٍ من الأيام.»
ضحك القسيس وهو يفتح بوابة منزله. وعلى الناحية الأخرى من ساحة القرية، كان منزل «ذا كلوك» لا يزال يشعُّ بنور كرم الضيافة. وخلف تلك الستائر المسدلة، كان هناك مشهد منزلي ساحر دائر، حيث كان المحامي يُقسِّم أرباحه من اللعب مع زوجته.
قال المحامي: «لا يُمكنني التزام الصمت. سينال ذاك الرجل الضئيل البائس ما يستحقُّه إن رفض الجميع لعب البريدج معه. من الفظاظة مُعاقبة سيدة بهذا الشكل المهين.»
قالت السيدة سكودامور وهي تجمع نصيبها من البطاقات: «لم أُصدق عيني عندما رأيته يختار السباتي. أشكرك يا حبيبي. بالمناسبة، آمُل أنني لم أظهر انزعاجي.»
«لا، يا عزيزتي، لقد كنتِ رائعة. لاحظتُ انبهار القسيس بكِ. لقد تجاوزنا منتصف الليل يا حبيبتي. حان موعد النوم.»
كان الخدم قد صعدوا إلى الطابق العلوي منذ وقتٍ طويل، ولم يكن الزوجان يتركان أي غرفة وهي في حالةٍ من الفوضى أبدًا. فأفرغا منافض السجائر، ووضعا أوراق اللعب في مكانها، وسوَّيا الوسائد. بعد ذلك، قاما معًا بجولة في الطابق الأرضي، حيث أوصدا النوافذ، وأطفآ المصابيح.
كما زار الزوجان جيرمي القط، كي يطمئنَّا أنه قابع في سلته، ولا يتسبَّب في فضيحة بالانضمام إلى الحفل الشعبي في ساحة القرية، وأخيرًا صعدا للنوم يتأبط كلٌّ منهما ذراع الآخر.
كانت درجات السُّلَّم الماهوجني المنخفضة العريضة مغطَّاة بسجادة تركية سميكة باللونَين الأزرق والأحمر. وعلى بسطة السلم المُربعة، قبعَ تمثال رخامي لسيدة رشيقة، تُغطي الثياب جسدها بالكامل، تمسك بمجموعة من المصابيح يشعُّ منها بريق وردي، مما أضفى صبغة وردية على السجادة المحبوكة من فراء الدب القطبي. كانت هناك أيضًا مرآة طويلة، وشجرة نخيل خلت سعفاتها اللامعة من الغبار، وطاولة حائط رخامية عليها إبريق ماء الشعير وكوبين.
ابتسم المحامي في استحسانٍ وهو يصبُّ شرابهما الأخير المعتاد قبل النوم.
قال المحامي وهو يتشارك نخبًا مع زوجته: «كانت أمسيةً في غاية الروعة باستثناء تلك الواقعة البسيطة. كل الحُب لكِ يا عزيزتي. لتكن أيامكِ سعيدة.»
ارتشفت السيدة سكودامور الشراب بأناقةٍ وردَّدت نخبَه نفسه.
«كل الحُب لكَ يا عزيزي. لتكن أيامك سعيدة.»