حياة وموت
في صباح اليوم التالي، كان السيد والسيدة سكودامور يتناولان طعام الفطور، في غرفة الجلوس الصباحية الأنيقة بمنزلهما. تدفقت أشعة الشمس إلى الداخل عبر النافذة الشرقية، فزادت الأزهار البنفسجية والبيضاء على الطاولة جمالًا، وانعكس وهجُها على إبريق القهوة الفضي اللون. انهمك المحامي وزوجته في الانتهاء من وجبتهما التقليدية المكوَّنة من البيض ولحم فخذ الخنزير مع مربى الموالح والتوست. كان المحامي يتصفح الأجزاء الأساسية في جريدة «مورنينج بوست»، وتقرأ زوجته عمود المواليد والوفيات والزيجات في جريدة «تايمز». وبعد ذلك، يتبادلان الجرائد، فيتناول المحامي جريدة «تايمز»، ويترك لزوجته «مورنينج بوست».
في ذلك الصباح الفريد، كان السيد سكودامور سيسافر إلى لندن ليومٍ واحد، لقضاء بعض الأعمال.
قال المحامي: «آمُل أن أعود بحلول السابعة مساءً على أقصى تقدير. ربما، بل على الأرجح، سأعود قبل ذلك. الأمر كله يعتمِد على الحافلة التي سألحقها. فجدول الحافلات لا يتفق مع مواعيد القطارات بدقة.»
سألت زوجته: «إذن هل نحضر العشاء في السابعة وخمس عشرة دقيقة يا عزيزي؟ ستكون جائعًا ولن ترغب في الانتظار.»
«ممتاز يا حبيبتي. ماذا ستفعلين اليوم؟»
«أظنني سأبقى بالمنزل وأنجز بعض المهام غير المكتملة. أريد أن أدع الخادمات يذهبن إلى قرية دورلي لحضور معرض منتجات الألبان بعد الظهر ولا أرغب في أن أترك المنزل فارغًا.»
قال المحامي: «بلى، لا أرى ذلك تصرُّفًا حكيمًا.»
سلَّم المحامي بالاعتقاد السائد الذي يقول إن أي امرأةٍ تُترك بلا حماية يُمكنها إحباط جرائم أعتى المتشرِّدين بمجرد الجلوس في غرفة استقبال منزلها. لكن السيدة سكودامور كانت آمنة تمامًا؛ لأن عمليات السطو لم تكن مألوفة في القرية.
رفعت السيدة سكودامور بصرَها في دهشةٍ طفيفة عندما سمعت رنين جرس الباب الأمامي. بعد برهة، أخبرت إحدى الخادمات المحامي أن الطبيب بيري يرغب في رؤيته.
تبادل الزوج والزوجة النظرات، وارتفعت الحواجب قليلًا؛ بعد ذلك، مسح المحامي فمه، وحرص ألا تدعس قدمه فتات الخبز على السجادة، واتجه نحو الباب.
قال المحامي مُعقبًا: «وقت غير مألوف للزيارات. قد تكون مسألة عاجلة. هل تأذنين لي بالانصراف يا عزيزتي؟»
كان الطبيب بيري واقفًا في غرفة المكتب، يفحص صورة فوتوغرافية لمدينة لوسيرن السويسرية، وعلى وجهه نظرة استكانة مشوبة بالتبلُّد واليأس، تلك النظرة المألوفة في غرفة انتظار طبيب الأسنان. وكانت بذلته البالية، رغم أناقتها، مُتهدلة عليه على نحوٍ يوحي بأنه قد خسر بعض الوزن، لكن كان وجهه الشاحب هادئًا.
قال الطبيب: «آسف لإزعاجك في أثناء تناول الفطور يا سيد سكودامور. لكن أردتُ أن أعرف آخر تفاصيل عملية بيع منزل الآنسة كورنر. متى سأحصل على الميراث؟»
أجاب المحامي: «ليس بالإمكان تحديد موعد. سنُضطر لبيع المنزل بالتراضي. كل العروض الحالية أقل من السعر الأدنى.»
ردَّ الطبيب بنبرة مرحة: «هذا مُحبط. أريد بعض السيولة. أخبرتني زوجتي أن عائلتي بحاجةٍ إلى تغيير الجو.»
قال المحامي: «لكنهم يبدون في وافر الصحة والعافية.»
أجاب الطبيب: «هم في حالة جيدة. لكن يبدو أن زوجتي ترى أن استنشاق هواء البحر مُوصى به.»
كان وجه المحامي الحليق جامدًا كأنه من الحرير الصخري؛ وكانت شفته العُليا الطويلة مزمومة، في محاولة منه لعدم الكشف عن تعاطفه مع حاجةِ صديقه المادية.
قال المحامي: «يُمكنني أن أدفع لك المبلغ مقدمًا من حسابي الشخصي إن كان هذا يناسبك.»
أجاب الطبيب: «شكرًا لك. سيكون ذلك عونًا كبيرًا.»
قال المحامي: «هل يُناسبك الليلة؟ سأستقل قطار لندن من بلدة شلتنهام. أو ما رأيك في تحرير شيك الآن؟»
قال الطبيب: «غدًا أنسب. لا ترهق نفسك بمسائل العمل الليلة. الأمر ليس ملحًّا لهذه الدرجة. شكرًا جزيلًا.»
عاد السيد سكودامور إلى غرفة الجلوس الصباحية، حيث نقل كل كلمةٍ دارت بينه وبين الطبيب إلى زوجته. كان الزوج وزوجته يتشاركان الأسرار، كما أن السيدة سكودامور لم تكن تُفشي أسرار العمل أبدًا.
قال المحامي: «تلك المرأة هي السبب. إنها تستنزف أمواله من أجل الأولاد.»
قالت زوجته: «أوافقك الرأي يا حبيبي. اللوم كله على ماريان. إنه لشيء مُريع أن تُفكر المرأة في أولادها أكثر من زوجها.»
وافقها المحامي الذي لم يكن لدَيه أطفال: «مريع حقًّا.» وبدت على وجهه علامات القلق؛ لأنه وإن كان يكبر الطبيب بأعوامٍ كثيرة، إلا أن كليهما ينتمي إلى عائلاتٍ محلية عريقة. عندما كان بيري شابًّا جذابًا هادئًا، ورث منزل سانت جيمس، إلى جانب ثروة خاصة صغيرة، وعيادة ممتازة.
آنذاك، توقع الجميع أن يتزوج الطبيب بفيفيان صغرى بنات العمدة؛ لكن الحرب، إلى جانب تعقيدات رومانسية مختلفة، حالت دون ذلك.
كانت ماريان تتصرَّف بتهذيبٍ شديد في منزل «ذا كلوك»، وتقبَّلها الزوجان سكودامور لأجل خاطر زوجها؛ لكنهما كرِها شخصيتها الجامحة وإسرافها الذي حوَّل منزل الملكة آن الأنيق إلى روضة أطفال صاخبة مثل مُستشفى الأمراض العقلية.
تنهدت السيدة سكودامور وقالت: «ليته تزوَّج فيفيان.»
قال المحامي: «أوافقكِ الرأي يا حبيبتي. السيدة بيري تُهدد مستقبله المهني. حين تكون المرأة زوجةً لرجل مِهني، لا بد أن تكون سندًا حقيقيًّا له بكل وسيلة ممكنة. وتزداد الحاجة إلى ذلك في منطقة تلعب فيها السمعة الحسَنة عاملًا أساسيًّا في بناء الثقة والمحافظة عليها.»
قالت زوجته. «أجل يا حبيبي. لكني أشعر بالفخر أن معاييرنا الأخلاقية عالية لهذا الحد.»
ردَّ المحامي وهو ينظر إلى زوجته بابتسامةٍ حانية: «أشاركك الشعور نفسه. تبدين متألقة يا عزيزتي. لكن من أجل المصلحة العامة، ألا تظنِّين أنكِ ربما تُعانين من الصداع العصبي، أو الْتهاب خفيف في المفاصل؟ لا أقصد عرَضًا مؤلمًا، وإنما عرَض بسيط يستلزم استشارة الطبيب.»
أجابت زوجته: «أنت تفكر في الآخرين دائمًا يا عزيزي. لا أحب التظاهر الزائف، ولو في أبسط الأمور، لكني أعِدك بأن الطبيب سيقوم بزيارةٍ مهنية إلى منزلنا قريبًا.»
وتفقدت الساعة.
وقالت: «والآن، يا حبيبي، حان وقت رحيلك.»
كانت الخادمة تنتظر في الرَّدهة، وهي تحمل قُبعة المحامي ومظلته وحقيبة اليد؛ لكن السيدة سكودامور أشرفت بنفسها على تنظيف ياقة المعطف بفرشاة الملابس وعلى تفقُّد أغراضه. كما تأكدت من أن عروة معطفه المُزدانة بزهرة قرنفل بنفسجية مرقطة باللون القرمزي ثابتة في مكانها بإحكام.
وسار الزوجان عبر الحديقة المُقلَّمة بأذرع متشابكة. وعند البوابة، خلع المحامي قُبعته الحريرية الطويلة إيذانًا بالانصراف، وقبَّل زوجته التي كانت تنظر إليه بعينَين تفيضان فخرًا.
سألته زوجته بنبرةٍ تهكُّمية رقيقة: «ألا تُدرك أنكَ لم تعُد تُساير الموضة؟ أخبرتني السيدة بيري أن موضة غطاء الكاحل قد عفى عليها الزمن. يرتدي الرجال الأنيقون أحذيةً جلدية لامعة ذات سيقان من الجلد السويدي الرمادي، وياقاتٍ مشدودة من نفس قماش القمصان.»
أصدر المحامي صوت طقطقةٍ بلسانه.
وقال: «عزيزتي، عزيزتي. أخشى أن عليك أن تتقبَّليني كما أنا. ألا أتقبَّل زوجة تبدو مثل السيدات المُهذبات الوقورات دائمًا، في حين تقصُّ السيدات العصريات شعرها قصيرًا، ويرتدينَ تنانير تصِل إلى ركبتهنَّ؟»
شكل المحامي وزوجته لوحة ساحرة من الإعجاب المتبادل. بدا المحامي أنيقًا في السروال المقلم الرمادي، والمعطف الصباحي الأسود، والصدرة البيضاء، وغطاء الكاحل الكتاني، والقبعة الطويلة. وكانت زوجته ترتدي رداءً حريريًّا لونه بنفسجي غامق مُزدان بياقة وسوارَين من الموسلين. وأحاط شريط مخملي أسود بعُنقها لإخفاء عروقه.
نظر السيد سكودامور إلى ساعة جيبه وقبَّل زوجته مرة أخرى. كان هذا مشهد وداعهما الخاص، ولكن الجيران حازوا ميزة مشاهدة وداعهما هذا علنًا. سارت السيدة سكودامور مع زوجها عبر ساحة القرية، مُتشابكَي الذراعَين، حتى وصلا إلى البركة حيث ظلت تُشاهده إلى أن اختفى وراء جدار منزل سانت جيمس.
استدار السيد سكودامور وخلع قُبعته مودعًا زوجته، ثم توارى عن الأنظار، بينما تلوِّح له بيدِها. وشاهدت زوجته رحيلَه بغصَّة في القلب كعادتها، كأنه يغادر حياتها للأبد، ثم عادت إلى المنزل بخطواتٍ وئيدة، وفي قلبها كآبة العالم كلِّه.
هكذا يفترِق العاشقان الحقيقيَّان.
لكنها عندما عبرت من بوابات «ذا كلوك»، سُرَّت بجمال حديقتها ونظامها. ردَّتها الحياة مرة أخرى إلى الروتين اليومي، وأصبحت خطوتها خفيفةً مثل فتاة صغيرة، وهي تتوجَّه لفحص حوض زهور الزينيا التجريبي.
وبينما كانت واقفة والشمس تتدفَّق على شعرها المعقوص الآخِذ في الشيب، تناهى إلى أذنَيها صوت خطوات مسرعة، فالتفتت وإذا بالسيدة بيري تركض عبر ممرِّ السيارات، مُرتكبة ذلك الإثم الفادح المُتمثل في ركل الحصى على العشب بسبب اندفاعها.
ظنت السيدة سكودامور أن ماري تحمل أخبارًا كارثية حتمًا، حتى رأت عينيها المبتهجتَين وأسنانها اللامعة في ضوء الشمس.
هتفت ماريان: «لديَّ خبر لكِ. خبر رائع مُزلزل. سأحظى بطفلٍ آخر.»
شهقت السيدة سكودامور حرفيًّا، وهي تتذكَّر ضائقة الطبيب المالية، وسألت: «طفل آخر؟» بعد ذلك أضافت بصعوبة: «تهانينا. ما رأي زوجك في … في هذه الزيادة؟»
أجابت ماريان: «لم يحظَ بفرصةٍ للتفكير. صدمتُه بالأخبار السعيدة منذ أقلَّ من دقيقة. وجئتُ إليك على الفور. تمكَّنت للتوِّ من إبلاغ المُمرضة بالخبر بأعلى صوتي، وأمرتُها بنقله إلى جميع مَن في المنزل.»
شعرت السيدة سكودامور بالتوتُّر من ذلك السلوك الذي خالف حدود اللياقة، واعتبرته انتهاكًا صارخًا لكل قواعدها الأخلاقية.
وسألت: «أليس الإعلان مبكرًا جدًّا؟»
أجابت ماريان: «الأخبار السعيدة لا تتنظِر. فكِّري في الأمر. إنه شيء في غاية الروعة. حياة جديدة. الحياة هي أم الحقائق والموت مأساةٌ ما بعدَها مأساة.»
قالت السيدة سكودامور: «لا أوافقك الرأي. عندما نموت تبدأ حياتنا الحقيقية.»
انفجرت السيدة بيري ضاحكة.
وسألت: «ألا تشعُرين بالبهجة؟ يجب أن أعود على جناح السرعة. لا بد من إعداد الطعام ولو انهار المنزل.»
ورافقتها السيدة سكودامور، التي لم تكن تُغفل واجبات الضيافة أبدًا، إلى بوابة المنزل.
وقالت: «بالتأكيد تريدنني أن أُبقي أمر انتظارك لمولودٍ جديد سرًّا.»
عبست ماريان عندما ألمحت السيدة سكودامور إلى الطريقة التقليدية.
وأجابت في امتعاض: «لا. لن يسرق سعادتي أحدٌ. انشري الخبر قدْر استطاعتك. أريد أن يعرف العالم كله.»
ظهر شبح ابتسامة على شفتي السيدة سكودامور الجذَّابيتَن برغم ذبولهما.
وقالت: «ينبغي أن تلتزمي الصمت. لا شيء يستدعي الإثارة. الأطفال مجرد نتاج للعلاقة الزوجية لا أكثر.»
سألت ماريان في غضب: «من أين لكِ المعرفة بهذه الأمور؟ فأنتِ لم تختبري الأمومة من قبل. الحياة هي أعظم شيء في الوجود.»
هزَّت السيدة سكودامور رأسها.
وقالت: «عندما تحظَين بزواجٍ طويل مثلي، ستُدركين أن الحب هو أعظم شيء في الوجود.»
وبينما كانت ماريان تهرع مسرعة عبر ساحة القرية، في طريقها للعودة إلى منزل سانت جيمس، انتابتها شفقة ممزوجة بالازدراء تجاه السيدة سكودامور.
حدَّثت ماريان نفسها: «المسكينة تتأنَّق كل يومٍ بلا هدف. لا أطفال لديها. ذاك المنزل الجميل والحديقة الرائعة لا ينتفِع بهما سوى القط الحقير.»
دلفت السيدة سكودامور إلى الرَّدهة الرحبة، حيث تفوح بعبَق إناء من البليحاء المقطوفة حديثًا، وقارنت بهجة وأمان منزلها الذي يتَّسم بحُسن الإدارة والميزانية المتوازنة، بمنزل الطبيب الذي يُدار بلا انضباط ويُنفَق فيه المال بلا حساب.
وحدثت نفسها قائلة: «مسكين هوريشيو! لماذا لم يتزوج فيفيان؟ لم يكن يعلم عندما زارنا في الصباح بالمأساة الأخيرة.» ثم انحنت لتحفيز القط الذي كان يستحمُّ بنشاط، كي يستوفي معايير النظافة العالية السائدة في المنزل.
قالت: «أحسنتَ يا جيرمي. منطقة الصدر تتطلَّب منكَ الكثير من التنظيف. قِط مُطيع.»
بعد ذلك، توجهت إلى المطبخ، كي تأمُر الخدم بإعداد العشاء؛ لأنه لا بدَّ من إعداد الطعام مهما كانت الظروف الكونية حسبما صرحت ماريان.
وقالت: «ليكن العشاء جاهزًا في السابعة والربع مساءً. سيكون السيد متعبًا. لا بأس بإعداد وجبةٍ سهلة من أجل غدائي. يُمكنكن الذهاب جميعًا إلى معرض منتجات الألبان بعد الاغتسال مباشرة.»
سألت الطاهية بطاعة: «ألا تُريدين أن أحضِّر لكِ الشاي؟»
أجابت السيدة سكودامور: «سأحضره بنفسي.»
قالت الطاهية: «أشكركِ يا سيدتي. ماذا لو جاء زائرون إلى المنزل؟»
أجابت السيدة سكودامور: «لن أستقبل أي ضيوف.»
شرعت السيدة سكودامور تُنجِز مهامها الصباحية المعتادة. فارتدت قفَّازها الثخين، وقبعتها العريضة، وباشرت أعمال البستنة كما يليق بسيدة راقية. وبعدما انتهت من غسل يدَيها، تناولت كأسًا من اللبن الرائب واتجهت إلى غرفة الاستقبال لكتابة بعض الخطابات.
أمضت السيدة سكودامور وقتًا أطول من المعتاد على مكتبها؛ فقد وجدت صعوبةً في صياغة خطاب بعينِه، وفوق ذلك كان عليها إعداد قائمةٍ بطعام الأسبوع. كما كان ينتظرها بعض الطباعة، وبالأخص مُلصقات أوعية المربى؛ إذ اشتُهرت بأعمالها اليدوية المتقنة.
فور أن انتهت من كتابة رفض دعوة حضور عرس ابنة الأسقف لأن لدَيها ارتباطًا سابقًا، أعلنت الخادمات أن الغداء جاهزٌ. انتهت السيدة سكودامور من قراءة إحدى الروايات وهي تتناول طعامها؛ إذ كانت تتُوق إلى معرفة نهايتها. ووجدت الخاتمة مُرضية؛ إذ تزوج الجميع في النهاية.
من حينٍ لآخر، كانت السيدة سكودامور ترفع عينَيها عن صفحات الرواية، لتنظر إلى منزل سانت جيمس من خلال نافذتها. كانت الحياة صاخبة في ذلك المنزل. تراءى لها منزل الطبيب كأنه يخفق، مثل ومضات البرق في الصيف، ويفيض بقوة إبداعية.
بعد ذلك، جالت ببصرِها في غرفتها الأنيقة وتأملت نظامها وترتيبها، وهزَّت رأسها. لا شيء أفضل من الحب.
جلبت لها الخادمة القهوة في الشرفة، وأخبرتها أن المطبخ مرتبٌ بالكامل. وفي غضون وقت قصير، سمعت السيدة أصواتًا منخفضةً حذرة، وخطوات تسحق الحصى؛ إذ كان جميع العاملين بالمنزل يجتازون ممرَّ السيارات، في طريقهم إلى الباب الخلفي للمنزل. تظاهرت الفتيات، اللائي استشعرن شيئًا من الحرَج والارتباك بسبب ثيابهنَّ المبهرجة، بغفلتهنَّ عن عيني سيدتهنَّ التي كانت تفحصهن واحدةً تلوَ الأخرى.
نادت السيدة سكودامور: «باركر.»
تقدمت في خجل خادمة المطبخ التي بدت غريبة بقُبعتها الصفراء.
قالت سيدتها في هدوء: «هل رأيتني قطُّ أرتدي قبعة صفراء؟»
تمتمت الفتاة: «لا يا سيدتي.»
«حسنًا، إذا كنتِ تريدين أن تحظي بمظهر السيدات الراقيات، فلا بد أن ترتدي ما يرتدين.»
أمرت الطاهية الخادمة: «اصعدي للأعلى وارتدي قُبعتك البيضاء. ولا تتأخري.»
لكن السيدة سكودامور، التي كانت تراعي مشاعر موظفيها دائمًا، تدخلت.
وقالت: «لا، يجب ألا تجعل البقية يتأخرون عن موعد الحافلة. اذهبي على حالك هذا يا باركر. لكن أريدكِ أن تُحصي عدد السيدات الراقيات اللاتي يرتدين قُبعات صفراء في المعرض.»
ذهب العاملون بالمنزل إلى حال سبيلهم، وخيَّم الصمت على المنزل. جلست السيدة سكودامور، ونظرت إلى الحديقة، التي تخللتها ظلال الأشجار وأشعة الشمس حتى بدَت مثل الثوب المرقَّش. وبعد برهة من الزمن، اتجهت السيدة إلى المطبخ، وصبَّت حليبًا في صحن ووضعته في زاوية الشرفة، حيث اعتاد القط أن يجده في الرابعة مساءً بحسب روتينه الصارم الذي اعتاده.
بعد ذلك، تجوَّلت السيدة سكودامور في جميع أنحاء المنزل، وتفقَّدت جميع الغُرَف، من العلية إلى القبو. للتجوُّل في مسكنٍ فارغ سحرٌ خاص، وقد استشعرته السيدة سكودامور وهي تتجول في منزلها.
أشبع النظام والنظافة الظاهرَين بوضوح في غرف العلية غير المُستخدمة، حسَّ ربة المنزل داخل السيدة سكودامور. كانت إحدى هذه الغرَف تعجُّ بصناديق ملابس فارغة من ورق الكرتون، كلها مُرتبة بعناية، وأرفف أوعية المُربى التي لم يكن بها أثر لذرة غبار.
عندما نزلت السيدة سكودامور إلى الطابق السفلي، مرَّرَت إصبعها على الحواف المطلية بالمينا في الغرفة البيضاء لتتأكَّد أنها اسم على مسمًّى، في حين امتلأ قلبها بفخر مُضيفةٍ بالترتيبات التي تتَّخذها من أجل راحة ضيوفها.
قبعت على طاولة الكتابة، في مكتب زوجها، صورة حديثة له. كانت ترافق صورتها الشخصية؛ لأنها أصرَّت على استحالة فراقه، ولو في الصور.
كانت الصورة تُظهر زوجها في أكثر مراحل حياته بؤسًا، لكنها تفحَّصتها بانتباه، ثم طبعت قبلة على زجاج البرواز. بعد ذلك، وضعت نسخة «مورنينج بوست» مع الخطاب، على ورقة النشَّافة، ومزقت ورقةً منسية من التقويم وغادرت الغرفة.
كانت نهاية الرحلة في غرفة غسيل الأطباق الصغيرة المبلطة.
فتحت السيدة سكودامور أحد الأدراج، ووجدت كومةً من القماش، استخدمتها لسد النافذة. وبعد أن ثبَّتت لافتة — كانت قد كتبتها في الصباح — خارج الباب بدبابيس الخرائط، أغلقت على نفسها في غرفة غسيل الأطباق.
كان هناك تحذير مكتوب على الورقة بأحرف كبيرة.
«احترس من الغاز.»