المحامي يكشف الستار
في الرابعة مساءً، جاء القط جيرمي الذي كان دقيقًا في مواعيده مثل توقيت جرينتش، وشرب الحليب، ثم مسح فراءه بلسانه، استعدادًا لوجبة العشاء. وبعد مُضِي ساعتين، عادت الخادمات، مبتهجات سعيدات من معرض منتجات الألبان، ليكتشفنَ مأساة وفاة سيدة المنزل.
كانت باركر، صاحبة القبعة الصفراء، هي التي اقتحمت غرفة غسيل الأطباق المليئة بالغاز في شجاعة، لتفتح النوافذ وتسحب الجثة الهامدة إلى الخارج، في حين اتصلت الطاهية الذاهلة بالطبيب بيري.
لم تقدر السيدة سكودامور، التي كانت تلتزم بكلمتها دائمًا وأبدًا، على الوفاء بالوعد الذي قطعته لزوجها، بأن الطبيب بيري سيأتي إلى منزل «ذا كلوك» في زيارةٍ طبية في القريب العاجل. كان الطبيب بيري قد استُدعي لتوِّه للكشف على أحد المرضى في القرية. لكن الصوت القادم من الناحية الأخرى من الهاتف أضاف أن سيارة طبيب شلتنهام قد شُوهدت وهي تقطع القرية باتجاه «ذا هول».
بعد برهة، وصلت سيارة طبيب العمدة الجديد إلى منزل «ذا كلوك»، ليُخبر الحاضرين بما يعرفونه بالفعل. لقد فارقت السيدة سكودامور الحياة منذ عدة ساعات. وقد نفَّذت عملية مغادرتها الحياة بإتقان ودقة، كعادتها في كل الأمور.
وحتى لو كان الطبيب لم يستطِع إعادة السيدة سكودامور إلى الحياة، إلا أنه أثبت فائدته؛ إذ ذهب لاستقبال السيد سكودامور الذي كان عائدًا من لندن، وحمل إليه الأنباء المأساوية.
لم ينهَر المحامي، رغم ظهور أمارات الصدمة على ملامحه. وقرأ الخطاب المُوجَّه إليه، القابع على طاولة غرفة مكتبه، ثم صعد إلى الأعلى إلى غرفة زوجته، حيث بقي لبعض الوقت. بعد ذلك، طلب من الطبيب أن يستدعي القسيس.
عندما سمع القسيس الخبر عبر الهاتف، لم يكن مصدومًا فحسب، بل سرت قشعريرة في جسده من خوف لا يفهم كنهه.
وكرَّر بصوتٍ خالٍ من المشاعر: «انتحار؟»
أجاب الطبيب: «للأسف، لا مجال للشك.»
«أمر مُرعب. كيف حال السيد سكودامور؟»
«لقد تلقى الخبر بصبرٍ مُذهل. لديه قوة تماسُك من حديد. هل يمكنك القدوم بسرعة؟ لا أريد أن أتركه بمفرده.»
وعد القسيس: «سآتي في غضون خمس دقائق.»
اندهش القسيس عندما وجد كلَّ شيءٍ يبدو طبيعيًّا في منزل «ذا كلوك»؛ إذ راودَه شعور غريب أنه سيرى علامات اضطرابٍ واضحة. كان القط، الذي ركَّز إحدى عينَيه الخضراوَين على ساعته غير المرئية، قد تجهز للعشاء، وجلس منتظرًا في الشرفة، مثل رجلٍ صبور في حلة السهرة ذات اللونين الأبيض والأسود.
عندما فتحت الطاهية الباب الأمامي، نظر القسيس من الباب المفتوح إلى طاولة الطعام المُعدة للعشاء، وقد زينتها المزهريات وحوامل الشموع كما هو معتاد.
قالت الطاهية: «السيد مُتماسك على نحوٍ رائع. لقد انصرف الطبيب. أنا سعيدة لقدومك. ربما يمكنك البقاء للعشاء، وإقناعه بتناول بعض الطعام، ليحافظ على قوته.»
قال القسيس واعدًا: «سأبذل ما في وسعي.»
كان المحامي يذرع غرفة الاستقبال ذهابًا وإيابًا عندما دلف القسيس إلى الغرفة. بدا وجهه رماديًّا مثل بركانٍ خامل، لكن صوته كان هادئًا تمامًا.
قال السيد سكودامور عندما قبض القسيس على ذراعِه لعجزه عن الكلام: «أنا سعيد بقدومك. بالطبع أقدمَت زوجتي على الانتحار. سيكون هناك تحقيق. أريدك أن تسمع الحقائق منِّي.»
انقبضت عضلات وجهه في ألَم، مثل ماكينة تعمل في الاتجاه المعاكس، وهو يحاول الإبقاء على نبرة صوته هادئة وثابتة بينما يُلقي قنبلته المدوية.
قال: «أنا وزوجتي لسنا مُتزوِّجين في الحقيقة.»
جال القسيس ببصرِه، في رُعب وذهول، في أنحاء غرفة الاستقبال الأنيقة التي كان يعتبرها غرفة نمطية لزوجَين دمِثَي الخلق، قبل أن تستحيل الآن إلى عشٍّ للعشاق. وانتقل ببصره من صور العائلة الصغيرة المُعلقة على الحائط إلى غطاء كاحل المحامي المصنوع من الكتان.
بعد ذلك، استيقظ المُمثل اللاشعوري الذي بداخله، لمواكبة الموقف الدرامي. وفاض صوته بمزيج من المشاعر وهو يتحدَّث إلى المحامي.
قال: «حدثني بما شئت. فلن يُحدِث ذلك أي فارق. لطالما أثارت السيدة سكودامور إعجابي.»
لم يتفاعل المحامي مع ما أظهره القسيس من مشاعر؛ إذ شرع يتحدَّث بعبارات محددة جافة.
قال: «أريدك أن تعرِف أن ما حدث هو خطئي وحدي لا خطؤها. يعتقد الجميع أنني متزوج بأرملة. لكنها متزوجة برجُل همجي سكِّير، يقبع في مستشفًى للأمراض العقلية، ولا أملَ في شفائه. أُغرم كلٌّ منَّا بالآخر، وسلب حُبي عقلها. أنا مَن اقتلعتُها من جذور البراءة والطهر بكل ما تحمله الكلمة من معنًى. عندما رحلتْ معي، خالفتْ بفعلتها هذه كل ذرةٍ من ذرات طبيعتها النقية.»
تمتم القسيس عندما سكت المحامي: «فهمت.»
واصل المحامي كلامه بصيغة المضارع لا الماضي، مما دلَّ بوضوح على أن عقله لم يستوعب الموقف بعد من هول الصدمة.
قال المحامي: «تنحدِر زوجتي من عائلة كهنوتية، ذات تقاليد صارمة إلى حدٍّ ما. وكان والدها رئيس كاتدرائية، فانتقلت إلى دائرة اجتماعية مُغلقة. تتَّسم طبيعتها بالتزمُّت الشديد. فهي لا تعرف الخيال ولديها القليل من الشفقة والتعاطف. وهي كثيرة الانتقاد للآخرين، وشديدة الحساسية لأي انتقادٍ يُوجَّه لها … أخبرك بذلك لأنني أُحبها. وربما يساعدك ذلك في إدراك شيء آخر.»
غلبته مشاعره لحظةً؛ إذ غطَّى عينَيه بيده. وانتظره القسيس في شفقة صامتة، حتى استطاع السيطرة على صوته مرة أخرى.
قال: «الآن وقد عرفتَ طبيعتها، ألا ترى أنها لو ندمت على سلوكها لكان خيرًا لها؟ كان ندمها سيُطفئ لوعة ضميرها. وكانت ستعتبر معاناتها تكفيرًا لذنبها … لكن حُبي قد ملك عليها وجدانها، حتى أصرَّت أن ننعم بالسعادة في حُبنا. قالت إن من حقي السعادة، وإن التضحية غير مقبولة. كثيرًا ما قالت إنها غير نادمة على الماضي، وإن علينا إثبات حُبنا بأن نعيش حياة مليئة بالتفاهم والسعادة التامة.»
توقَّف المحامي لالْتقاط أنفاسه، في حين استرجع القسيس تلك الجولات المسائية التي كانت رمزًا لرباط الزواج القوي الذي يجمع الزوجَين سكودامور، والجو التقليدي لمنزل «ذا كلوك» الذي أعلنه سكنًا لشريكَين ناجحَين مهنيًّا يجمعهما زواج سعيد.
وأدرك القسيس حقيقة الأمر. ففي هذه السعادة قدمت السيدة سكودامور تضحيةً جليلة لأجل الحب.
قال: «أرى أنها كانت رائعة.»
علق المحامي: «حسنًا. لقد فهمتَ الآن. أشكرك. والآن أريد أن أخبرك بشيء آخر.»
ازداد صوته قوة من فرْط الغضب.
وأضاف: «أريدك أن تعلَم أن زوجتي قد دُفعت للموت دفعًا بالخطابات المجهولة السامة. كانت قد بدأت تتلقَّى هذه الخطابات منذ وقتٍ قريب، لكنها لم تُخبرني بشيء عنها. احتوت الخطابات على اتهاماتٍ غامضة جبانة، وجاء فيها أن حياتها السرية المليئة بالنفاق قد عُرفتْ وأن حقيقتها ستفتضح. وحذَّرها الخطاب الأخير من أن النهاية وشيكة.»
أنصت القسيس مشدوهًا من الصدمة، واقشعر بدنُه من الرعب. هذا ما كان يخشاه عندما سمع بنبأ انتحار السيدة سكودامور أول مرة، لكنه كان قد نسي الهاجس الذي راودَه آنذاك.
واصل المحامي: «تركت لي خطابًا تقول فيه إنها لا تستطيع أن تجلب لي العار أو تدمِّر حياتي المهنية … وكانت، طوال هذا الوقت، على طبيعتها؛ هادئة وعاقلة ومرحة. لم تندَّ عنها أدنى بادرة تُشير إلى أن لديها أي مشكلة تخفيها. لكنها فقدت السيطرة على نفسها في نهاية المطاف. لقد تمكنت منها الخطابات اللعينة.»
اتجه المحامي صوب الباب.
وبينما كان يقود القسيس إلى الباب سأله: «أتريد رؤيتها؟» معتبرًا موافقته أمرًا مفروغًا منه.
توقف المحامي في ردهة المنزل، كي يتحدَّث إلى الطاهية التي كانت لا تزال واقفة خارج غرفة الطعام، في انتظار الأوامر.
«أطعمي القط.»
كان جليًّا من شكل غرفة نوم الزوجين سكودامور أن ساكنيها زوجان يؤمنان بدوام العشرة، حتى كاد القسيس يشعر بأن عليه الاعتذار عن وجوده بها للسيدة الراقدة على الفراش المزدوج الكبير. اتسمت الغرفة بضخامتها، وأثاثها الأنيق، إلا أنها لم تكن مزدحمة، رغم أن كل قطعة من الأثاث المتين كان يُوجَد منها اثنان. وكان واضحًا أن غرفة ملابس السيد سكودامور هي غرفة تخزين لملابسه الفائضة لا أكثر.
كانت السيدة سكودامور ترتدي فستانها الحريري البنفسجي الغامق، وبدت عليها أمارات الهدوء والاتزان والرقي حتى في الموت. كما لم تظهر عليها أي علامة تُشير إلى نكوصها إلى مستوى البشر العادي؛ إذ احتفظت بهالة خفيفة من الشموخ والعظمة. كان شعرها لا يزال مُرتبًا بشكلٍ مثالي. فلم يسقط أي دبوس لا غنى عنه من مكانه، في أثناء تشبُّثها بالحياة.
انحنى القسيس عليها، ولثَم يدها الباردة دون تفكير. وبينما يفعل ذلك، تدفقت إلى عقله ذكرى مُشوَّشة وهو يقدم احترامه على نحوٍ مماثل إلى الآنسة أسبري.
سأل القسيس نفسه في خوف: «تُرى من طعنها في ظهرها بهذه القسوة؟»
وبينما كان المحامي ينظر إلى زوجته، فقد سيطرته على نفسه تقريبًا.
وتمتم: «ليتها أخبرتني. كنتُ سأعرف كيفية التعامُل مع هذه الخطابات. ولو كان لا بد من مواجهة فضيحة، كنا سنُجابهها معًا. لقد أتت بتضحيةٍ بلا داعٍ.»
بينما كان المحامي يستعيد رَباطة جأشه، غادر الغرفة، وفي أعقابه القسيس. وعندما وصل الرجلان إلى الردهة، تذكر القسيس الوعد الذي قطعه للطاهية، عندما ألقى نظرةً أخرى على مائدة الطعام.
سأل القسيس: «هل تناولت العشاء؟»
أجاب بردٍّ مُبهم: «بعد قليل.»
«حسنًا، ما رأيك في جرعةٍ قوية من الويسكي إذن؟»
«لا، لا. لقد أعطاني الطبيب مهدئًا.»
لم يكن خافيًا أن السيد سكودامور يتوق للبقاء بمُفرده، ومع ذلك حاول القسيس مرة أخرى.
فقال: «لا أريد أن أُسبب لك إزعاجًا، لكن هل تُمانع أن أبقى معك؟ أريد مرافقتك لا أكثر. لن أنطق بكلمةٍ واحدة. لكنك ستعرف أن هناك شخصًا بجوارك.»
حاول السيد سكودامور أن يبتسِم وهو يهز رأسه رافضًا الفكرة. قال: «هذا لطف بالغ منك أيها القسيس، لكني على ما يُرام. لديَّ خطابات مُهمة يجب أن أكتبها.»
وبينما كان المحامي يتحدَّث، فتح الباب الأمامي. حينئذٍ وقعت عيناه على القط المرفَّه، الذي كان يتحمَّم بعد تناوله وجبة عشاء دسمة.
قال: «هناك خدمة يُمكنك أن تُسديها لي. هل يمكنك البحث عن منزل دافئ للقط؟ لقد كان خاصًّا بزوجتي. ولن أطيق رؤيته يتجوَّل في الأنحاء.»
أثار هذا الكلام انتباه القسيس. لكن وجه المحامي كان في غاية الهدوء، وصوته واضحًا خاليًا من المشاعر لأقصى درجة، حتى ظنَّ القسيس أنه على خير ما يرام.
وعد القسيس بحرارة: «سأتولَّى إيواءَه في بيتي. إن كلبي اجتماعي جدًّا. ولن يتعارَكا.»
قال السيد سكودامور: «أشكرك.»
وتصافح الرجلان، وخرج القسيس من الباب المفتوح.
بعدما سار القسيس بضع يارداتٍ عبر ممرِّ السيارات، توقف لإشعال سيجارة، كي يتمالك أعصابه المتوترة. وفي أثناء ذلك، سمع دويَّ العيار الناري الذي أطلقه المحامي على رأسه.