رأس الحية
غادر القسيس منزل «ذا كلوك» في عجالة، تاركًا الأمر في يد الطبيب بيري. وعندما عاد إلى بيته، بدا في غاية التأثر من تلك الفاجعة المزدوجة، مما جعل إيجناتيوس يقتصر في تعليقاته على تقديم الدعم العملي.
لكن إيجناتيوس، وهو يشاهد القسيس يبتلع جرعة الويسكي القوية التي نصح بها المحامي، لم يستطع كبح فضوله.
قال: «هذا تطوُّر مذهل حقًّا. لا سيما بعد أن تناولنا العشاء في منزل «ذا كلوك»، وانطباعاتي التي أخبرتُك بها بعد ذلك.»
ردَّ القسيس متأوهًا: «أتذكر انطباعاتك. فلا تُكررها على مسامعي الآن.»
قال إيجناتيوس: «لا أقصد الشماتة. الحقيقة هي أنني للمرة الأولى أشعر بالإعجاب بعائلة سكودامور. إنهما حقًّا نجمان تركا بصمتهما في سجل الحُب مع بول وفرجينيا.»
تسللت ابتسامة غريبة إلى شفتَيه.
وقال: «من الغريب تصوُّر محامٍ كهل رفيع المقام يرتدي كامل ثيابه حتى غطاء الكاحل، يدور معانقًا عشيقته في عالم الحُب الأبدي. لكني لا أستطيع تخيُّل السيدة سكودامور الوقورة عارية … ما هو نسيج الحوريات؟»
قال القسيس: «لا … أعلم.»
قال إيجناتيوس: «ولا أنا. ذات مرة حُزت شرفًا بسداد فواتير سيدة أنيقة مقابلَ الاطلاع على أفكارها المشوشة. ولأن اهتمامي بها كان لغرَض نفساني بحت، لم أتعرف على خزانة ثيابها. لكن أتذكَّر قطعة ثياب واحدة، وهي «نسيج الحوريات».»
وسكت ليتحدَّث إلى الكلب.
«ألا تتَّفق معي، يا تشارلز ديكينز، أن السيد والسيدة سكودامور في هذه اللحظة تحديدًا يتحدَّيان الدوَّامة في مناشف استحمام من نسيج الحوريات؟»
قال القسيس غاضبًا: «اصمت.»
ردَّ إيجناتيوس: «ممتاز. نجحتُ في إثارة انتباهك. لقد وصلتُ إلى بغيتي.»
كان القسيس يضع رأسه بين يدَيه، فرفع عينَيه، وارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة.
قال: «مِن النبل أنك لم تتباهَ بانتصارك. خاصة بعدما تبيَّن أن اللغز يكمن في رأس الحية كما قلت.»
سأل إيجناتيوس: «هل رأيتَ أيًّا من الخطابات المجهولة؟»
أجاب القسيس: «لا. دمَّرتها السيدة سكودامور كلها قبل … قتلها.»
قال: «لا تُبالغ وتقدِّس السيدة سكودامور يا تيجر. أخبرتك أنني لم أُحبها لأنني رأيتها منافقة. وما زلتُ على رأيي. الحقيقة التي لا ينازعها شيء هي أنها قتلت نفسها؛ لأنها لم تتحمَّل فكرة الفضيحة. لم تمتلك الشجاعة الكافية لتجلس في مكانها ساكنةً، وتركت العجوز المسكين يتحمَّل العواقب … أتتصوَّر جوان بروك تستسلِم قبل أن يُكشَف قِناعها؟»
قال القسيس: «إنهما من أجيال مختلفة. ولكن ما زلت أراها تضحيةً بلا داعٍ. هكذا وصفها السيد سكودامور المسكين.»
فرك القسيس عينَيه في تعب، ثم قفز على قدمَيه بحيويته السابقة.
وقال: «نسيتُ تمامًا. سيكون الأمر صدمةً كبيرة للآنسة أسبري. سوف أذهب إليها وأنقل إليها الخبر برفق، قبل أن تسمعه من إحدى خادماتها.»
اشتعلت ملامح إيجناتيوس فضولًا كأن شعاعًا من البرق مسَّها.
وقال بلهفة: «سآتي معك. لم يتأخَّر الوقت كثيرًا، أليس كذلك؟»
أجاب القسيس: «لا، لم يناموا بعد.»
لكن عندما اجتاز الرجلان بوابات قصر «سباوت»، لم يكن هناك أي ضوء ينبعث من النوافذ التي كانت ألواحها تتَّخذ شكل الألماس. وبينما كانا يقطعان ظلمة الحديقة، المصحوبة بصوتٍ يُشبه خرير الماء، أحسَّا بوحشة رطبة، كأنهما في منزل عتيق أكل عليه الدهر وشرب.
كان مصباح مدخل البيت مشتعلًا؛ لذا طرق القسيس الباب القديم المصنوع من خشب البلوط.
همس القسيس: «لا بد أنهم جالسون في غرفة المكتب.»
ولدهشتهما، قادتهما أدا التي لمعت عيناها الناعستان برؤية إيجناتيوس إلى غرفة الجلوس الأمامية المكسوة بالألواح الخشبية، حيث جلست الآنسة أسبري في مقعدٍ منحوت له مسند طويل للظهر، تقرأ على ضوء مصباحٍ وحيد. وكانت الآنسة ماك تجلس في بُقعة مظلمة تغزل الصوف.
رفعت الآنسة أسبري رأسها الأشيب، ونظرت إلى القسيس نظرةً يشوبها دهشة خفيفة. أما إيجناتيوس الذي كان يحوم في الخلفية، فنظر بإعجابٍ إلى القسيس، وهو ينقل الخبر إلى السيدة الضعيفة برفقٍ بالِغ.
قال القسيس: «أعتذر لحضوري في هذا الوقت المتأخِّر من الليل، لكني جئتكِ أحمل أخبارًا سيئة. لقد مات كلٌّ من السيد والسيدة سكودامور. كان حادث انتحارٍ مزدوجًا.»
بدت الآنسة أسبري في غاية الهشاشة، إلا أنها أظهرت صلابةً عند سماعها لهذه الأخبار الصادمة. فلم تفقد رباطة جأشها، ولم تبدُ عليها أي أمارات توتُّر عصبي. لم ترتعش شفتاها، ولم ترتجف يداها البيضاوان النحيلتان اللتان كانتا تحمِلان كتابًا ثقيل الوزن. كانت تجاعيد وجهها، وهي تُنصت إلى القسيس، جامدةً كأنها منحوتة في لوحٍ من الرخام.
وحدهُ إيجناتيوس الذي لاحظ تلك النظرات السريعة المُختلسة بين الآنسة أسبري والآنسة ماك.
قالت الآنسة أسبري: «صدمة مُريعة. مريعة حقًّا. لا أصدق ما جرى. كان لُطفًا بالغًا منكَ أيها القسيس أن تأتي وتُخبرني بما حدث.»
طمأنها القسيس: «أنتِ أول من خطر ببالي. كنتُ أعلم كم سيكون الأمر صادمًا بالنسبة لكِ.»
ردَّت الآنسة أسبري: «إنه صادم حقًّا. إذا لم يكن الأمر مؤلمًا جدًّا بالنسبة إليكَ، هل تُمانع أن تُخبرني بالتفاصيل؟»
وأنصتت الآنسة إلى القصة في تعاطف مبتور.
وسألت: «لكن لِمَ أقدما على هذه الفعلة الشنيعة؟»
قال القسيس بصوتٍ يرتجف من شدة الغضب: «لحق بها. أما هي، فدفعتها تلك الخطابات المجهولة السامَّة إلى الانتحار دفعًا.»
سألت الآنسة أسبري: «لم أفهم بعد. ما الذي كانت تخشاه؟»
أجاب القسيس: «الفضيحة. أعتقد أن القرية بأكملها تعلَم بالأمر الآن. لم تكن متزوِّجة بالسيد سكودامور.»
ندَّت عن آنسة أسبري صرخة مكتومة تكاد تُشبه النشيج. لكن إيجناتيوس لاحظ توردًا خفيفًا على وجنتَيها يشي بشعورٍ من الفضول الإنساني. ولفت انتباهه أيضًا الانتعاشة التي دبَّت في حياة رتيبة أخرى من أثر الفاجعة؛ إذ كانت مرافقة الآنسة أسبري تبتسِم ابتسامةً تخفي وراءها شعورًا بالإثارة.
عندما تكلمت الآنسة أسبري، كان صوتها يعتصره الأسف والحسرة.
قالت: «مساكين. يجب ألا نحكم عليهما. فالحزن يُكفِّر الذنب، ولا بد أنهما كانا يعانيان في كل ساعة من حياتهما.»
استدعى القسيس حديث السيد سكودامور الأخير معه للدفاع عنهما.
وبدأ حديثه قائلًا: «كانت هناك ظروف تشفع …» لكن الآنسة أسبري أسكتته.
وقالت: «لا شيء يُبرر الخطيئة، لكن المعاناة قد تساعد في التكفير عنها.» نظرت الآنسة إلى الساعة الجدارية القديمة التي كانت تواصِل وظيفتها في قياس الزمن بصبرٍ وجلد. وأضافت: «أشكرك على مجيئك. أقدِّر اهتمامك أبلغَ التقدير.»
تحرك القسيس إلى الباب.
وقال: «الوقت متأخِّر، وكلاكما بحاجةٍ إلى النوم.»
هزت الآنسة أسبري رأسها.
وغمغمت: «أظن أنهما سيحظيان بنومٍ هانئ أكثر من أي أحدٍ منَّا.»
التزم القسيس الصمت وهو عائد إلى البيت مع إيجناتيوس. وعندما بلغا حجرة المكتب، قابلهما تشارلز، الذي أشار بوضوح إلى أنه في الوقت الذي يُرحب بهما لتناول الويسكي الرديء، ينشغل هو بحراسة البسكويت الثمين بحياته. فأطعمه القسيس البسكويت، ثم نظر إلى إيجناتيوس، الذي غاص في أحد المقاعد.
وقال: «تبدو شاحبًا يا إيجناتيوس. لقد أرهقتك كثيرًا بمشكلات الأبرشية.»
ردَّ إيجناتيوس: «ما أرهقني هو جوُّ غرفة آنسة أسبري. كان جوُّها مشحونًا وخانقًا أيضًا، وأنا مثل نبتة كزبرة الثعلب، أنغلِق حين تسوء الأجواء.»
علق القسيس: «هذا غريب. فالآنسة أسبري تُشبه الإسبرطيين الذين يعيشون وسط الرياح بصفة مستمرة.»
قال إيجناتيوس: «لا بد أنها تغيرت إذن. ألم تلاحظ أن جميع النوافذ كانت مغلقة بالمصاريع؟»
أجاب القسيس: «لا لم ألحظ. إذن هذا يفسر عدم رؤيتنا أي ضوء.»
قال إيجناتيوس: «لم نرَ أي ضوء لعدة ليالٍ … كيف لم تلحَظ ذلك؟ … فور أن دلفتُ إلى الغرفة، ورأيت تلك الألواح الخشبية، راوَدَني شعور غامض أننا في مؤسسة إصلاحية.»
لكن كانت أفكار القسيس في مكانٍ آخر.
قال مناشدًا: «لن تُغادر وتتركني الآن يا إيجناتيوس، أليس كذلك؟»
تباهى الرجل المستاء: «أها! ارتفعت أسهُم إيجناتيوس الآن. لكني سأساعدك يا أبتِ. اجلس ودعني أفكر.»
ارتمى القسيس بكل ثقله على أحد المقاعد، في حين أخذ إيجناتيوس يدخن في صمت. بعد هنيهة، خرجت كلمات إيجناتيوس من بين الضباب الأزرق الذي خلفه دخان السجائر.
وقال: «هذه الخطابات ليس بها أي إيحاء بالابتزاز. وهذا أمر غير مُعتاد. لكنها تشتمل على عبارات وعيدٍ وتهديد. لذلك يبدو أنها وليدة عقل مُضطرب يشتهي تعذيب الآخرين … غير أنني أشك وبقوة أن هذه الخطابات كُتبت لغرَض مُعين، وقبيح في الوقت نفسه. ما الهدف؟ هذا ما سأعرفه عندما أكتشف سبب عزوف امرأةٍ بعينها عن الابتسام تمامًا.»
كان القسيس قد غطَّ في النوم من فرط تعبه.
على الجانب الآخر من ساحة القرية، كان الطبيب بيري لا يزال مرابطًا في موقعه، وقد بثت الفاجعة المزدوجة النشاط في جسده، فلم يشعُر بالإرهاق. ونسِي همومه الخاصة في خضم انشغاله بأزمة عائلة سكودامور الإنسانية، بما يتواءم مع شخصية المُتفرج الفضولي التي اتسم بها.
ظل الطبيب لبعض الوقت في منزل «ذا كلوك»؛ إذ كان عليه استدعاء المرأة المسئولة عن تحضير الموتى في القرية، وكذلك مقابلة الشرطة المُمَثلة في شخص الضابط جيمس.
وعندما عاد أخيرًا إلى المنزل، كان استقبال زوجته له صادمًا، كأنه تلقى ضربة في وجهه.
قالت: «هوريشيو. هل استلمت الشيك من السيد سكودامور؟»
قال وهو ينظر إليها بجمود: «لا. كان سيُحرره غدًا.» بعد ذلك نظر إلى ساعة غرفة النوم، وأضاف بضحكة متوترة: «ها قد صِرنا بالغد.»
قالت: «لقد خذلك إذن. عليه اللعنة.»
هتف الطبيب: «بربك يا ماريان، كُفِّي عن ذلك.»
قالت ماريان: «بل سألعنه. أنا أفكر في مصلحة طفليَّ. طفلاي المسكينان.»
قال الطبيب: «ستكون أمورهما على ما يُرام، إذا استمعتِ إلى المنطق، وفصلتِ المُمرضة.»
قالت ماريان: «لن أفعل ذلك. لن أسمح بالتضحية بهما. سأموت جوعًا قبل أن أفعل ذلك.»
كانت الجدران الطويلة المشيدة من الطوب الأحمر تكاد تحجُب منزل سانت جيمس عن ساحة القرية؛ لكن كانت نوافذ غرفة النوم مرئية للمارة في الطريق. كانت تتألق في شكل مُربعات صفراء دافئة، فكانت رمزًا لحياة زوجية سعيدة مزدهرة.
لكن الستائر المسدلة كانت تُخفي وراءها امرأةً مبلبلة الخاطر ورجلًا ثائر الفؤاد. وجوهًا غاضبة … أصواتًا مرتفعة. كان الزوجان على غير طبيعتهما وكأنهما غريبان عن دائرتهما الاجتماعية المقربة. وحاول الطبيب تهدئة زوجته.
قال: «ستكون الأمور على ما يرام في القريب العاجل.»
قالت ماريان بنبرة تأكيدية: «لن تتحسَّن الأمور. ستصير أسوأ من ذي قبل. وسيتهمك الجميع بأنك من كتبتَ تلك الخطابات.»
«ولماذا سيفعلون ذلك؟ أنا نفسي تلقيتُ خطابًا.»
«لكن لا أحد يعلم ذلك.»
«القسيس وصديقه يعلمان. ولقد تكرمتِ بقراءة الخطاب على أسماعهما.»
غيَّرت ماريان وضعيتها متأثرة برياح التناقُض العاصفة.
«وأذاعا فحوى الخطاب. لقد أذاع القسيس وصديقه، في كل زاوية وركن من القرية، أنكَ سمَّمت الآنسة كورنر للحصول على أموالها. أعرف ذلك … أخبِرْني لماذا توقف العمدة عن استدعائك؟ لو أنه فعل، لحذا الآخرون حذوه. إنهم يتبعونه مثل قطيع من الغنم … هوريشيو، يجب أن تستعيده مرة أخرى وإلا فسيموت طفلاي جوعًا.»
وعندما ألقت بنفسها على الفراش، في نوبة من البكاء، اتجه الطبيب نحو الباب. فرفعت نفسها، وحدقت إليه عبر خصلات شعرِها السوداء المرفوعة فوق جبينها.
سألت: «إلى أين أنتَ ذاهب؟»
«إلى امرأة أخرى.»
ضحكت ماريان بعد أن تغيَّر مزاجها فجأة. وقالت: «هذه كذبة على أي حال.»
لكن زوجها أوفى بوعده. وخرج مهرولًا من المنزل كالأعمى، واجتاز ساحة القرية، ثم دخل مدفن الكنيسة من بوابةٍ جانبية حديدية صغيرة. شق الطبيب طريقه كالعادة بين قبور الفقراء الغائرة وأقبية الأثرياء المسوَّرة، ثم توقف أمام تلة ترابية حديثة.
لقد جاء إلى صديقته جوليا كورنر كي تُسلِّيه عن همومه.