الإنذار الأخير
كانت خطبة القسيس في الأحد التالي لا تُنسى. فلم تكن نموذجًا لحُسن البيان فحسب، وإنما كانت مطبوعةً بطابع الصدق وحُسن النية أيضًا. ولم يستطِع إيجناتيوس، الذي أنصت إليها بروح ناقدة موضوعية، رصْد نغمة واحدة يلوح فيها عدم الصدق.
تحدث القسيس بعاطفةٍ مكبوحة حتى صار جليًّا أنه يبذل أقصى ما في وسعه ليتمالك أعصابه. وذكر أن الفاجعة الأخيرة جريمةٌ ساهم فيها بعض الحاضرين على نحوٍ غير مباشر. ولو لم يكونوا مُذنبين في واقع الأمر، فهم شركاء في الجريمة بسبب صمتِهم العنيد.
ثمة فساد خفي يُدمر روح القرية الجميلة، ولا سبيل للقضاء عليه إلا بتعاون الجميع في المسئولية. أُطلِع القسيس على أول خطابٍ من قبل امرأة تغلَّبت لديها التضحية بالنفس على نفورها الشخصي من ذيوع أمرِها على الملأ. ولسوء الحظ، لم يظهر شخصٌ آخر على قدر كافٍ من الإيثار والشجاعة كي يحذو حذوها. بعد ذلك، طلب القسيس من الحاضرين طلبًا بسيطًا، وهو أن يُعطوه أي ظرفٍ أُرفقت فيه الرسائل.
كان إيجناتيوس يتحرك جانبيًّا في المقعد الخشبي الطويل في الجناح الشرقي من الكنيسة، كي يتسنَّى له تفحُّص الجزء الأكبر من رعية الكنيسة الذين ملئوا جناحها الغربي. ولاحظ أن وجوه الحاضرين لم تظهر هدوءها الخاوي المعتاد كأنهم مُغلَّفون بشريط من السوليفان الواقي. لكن بينما بدت أمارات الجدية والاضطراب واضحة على ملامحهم، بدا أن كلَّ واحدٍ منهم ينشغل بالمسئولية الواقعة على عاتق جاره.
بدا لإيجناتيوس أن صوت فكر الرعية الجمعي كان قويًّا لدرجة أنه وصل إليه فيما يُشبه الكلمات.
«بالتأكيد، بعد هذه الخطبة، سيفعل أحدهم شيئًا.»
كان القسيس يسيطر على نفسه جيدًا حتى نهاية الخطبة، حيث انفجرت مشاعره المكبوتة دون سابق إنذار، مخترقة الغشاوة الرقيقة التي كانت تحجبها، وخرجت في شكل بركانٍ من المشاعر المتأجِّجة. جرفته انفعالاته، ناسيًا الحاضرين وناسيًا نفسه، فقال أكثر مما كان ينتوي قوله، عندما كان يرسم الخطوط العريضة لخطبته.
أخبرهم أنهم لو كانوا مُذنبين، فهو مُذنب أيضًا بالقدْر نفسه. فقد خذلهم لأنه عجز عن كسب ثقتهم. وحتى لو كان حُبه للقرية يفوق حُبه للحياة نفسها، إلا أنه سيضطر إلى تركهم والخروج إلى البرية، إذا لم يتمكن من إقناعهم بالحديث.
قال: «ستكون العاقبة مريرة كمرارة الحنظل. مصيري بين أيديكم.»
راقب إيجناتيوس بسرعةٍ تفوق سرعة ابن مقرض في تعقُّب طرائده، ردود أفعال الحاضرين عامةً على الخطبة. كانت هذه هي المرة الأولى، من واقع خبرته، التي تنسى فيها رعية الكنيسة سلبيتَها المهذبة. لقد صُعقت الرعية من كلام القسيس، وأظهرت ذلك.
ترقرق الدمع في عيني زوجة العمدة. وبدا على مُحيَّا العمدة تعبير مُتجهِّم كأنه ديكتاتور سيحمل الرعية على الإدلاء باعترافٍ عام. واتَّقدت عينا الآنسة أسبري الرماديتان الواسعتان بلهيب التضحية، مثلما يليق بشخصٍ أقدم على التضحية بالفعل في وقتٍ سابق.
التقط إيجناتيوس عدة انطباعات عابرة على وجوه الحاضرين قبل أن ينتبِهَ إلى ضرورة مراقبة سيدة شابة بعينها كانت تُثير اهتمامه. ولاحظ أن الآنسة ماك ابتسمت إلى مخدومتها، كأنها تطلُب منها العون لتعرِف كيف توجِّه مشاعرها. لكن عندما نظر إيجناتيوس إلى جوان بروك، كان قد تأخَّر كثيرًا في الْتقاط الرسالة التي تلوح في عينَيها. جلست جوان تنظر إلى يدَيها المشتبكتَين خافضة الطرف.
ظلَّ إيجناتيوس في مقعده بعد أن خرجت رعية الكنيسة في صفوفٍ إلى مدفن الكنيسة المُشمس. وسرعان ما انضمَّ إليهم أعضاء الجوقة، وانتهت عازفة الأرغن — وهي فتاة من القرية — من وضع الآلات الموسيقية في مكانها. وكانت هي والقندلفت آخر مَن غادر المبنى.
مكث القسيس في غرفة الكهنة بعض الوقت؛ لكن لم يسمع أي همهمات تدلُّ على أن أيَّ فردٍ من رعية الأبرشية قد توانى عن الاعتراف للقسيس. ألقى إيجناتيوس نظرةً على ساعته، ثم قرَّر العودة إلى القسيس بمُفرده.
كاد إيجناتيوس أن يُغادر رواق الكنيسة المُغطَّى، لولا أن سمع وقع خطواتٍ على الطريق المرصوف بالخارج. فتسلَّل عائدًا إلى الكنيسة دون تفكير، واختبأ خلف أحد الأعمدة.
دخل شخصٌ المبنى المُظلم ثم تردَّد قليلًا عند المدخل. تبين أن ذلك الشخص هو الآنسة أسبري. سارت الآنسة أسبري بضع خطواتٍ في مَمشى الكنيسة، وعيناها لا تزالان مُتَّقدتَين وشفتاها مزموتَين في تعبير صارم مُتجهم.
ظن إيجناتيوس أنها تقصد غرفة الكهنة. لكنها توقفت بجانب مقعدها في الكنيسة ثم جلست وجثت على ركبتَيْها للصلاة.
استغرق إيجناتيوس في مراقبة الآنسة أسبري، فلم ينتبه إلى أن الباب فُتح مرة أخرى؛ لكنه عندما سمع وقع خطواتٍ خفيفة أدار ظهره بحدة شديدة حتى كاد يرتطم بآنسة ماك.
ندَّت عن آنسة ماك صرخة خافتة، ثم مدَّت يدَها بكتابٍ للصلوات مُغلف بالعاج، كأنها تشرح له سبب وجودها في المكان.
همست: «هل الآنسة أسبري بالداخل؟ أعتقد أنها نسِيَت كتاب الصلوات وستعود للبحث عنه. لقد أحضرته مع كتابي.»
أجاب إيجناتيوس: «نعم. إنها تبحث عنه الآن … لكني كنتُ آمُل أن تقتنصي الفرصة كي تتكلَّمي معي على انفراد.»
غمغمت الآنسة ماك قائلة: «لا أفهم ما تعنيه.»
قال إيجناتيوس: «بل تفهمين. ألا تذكُرين أنني عرضتُ عليك المساعدة من قبل؟»
أجابت: «نعم، نعم. كنتَ في غاية اللطف. ولا أعرف السبب. اسمح لي بالعثور على آنسة أسبري.»
اعترض إيجناتيوس طريقها.
وقال في همس: «لا تخافي من التحدُّث إليَّ. إنها لا تعرف أنكِ هنا. لنذهب إلى الخارج.»
فتحت الآنسة ماك شفتَيها لتتحدَّث ثم أطبقتهما مرة أخرى. وفي اللحظة نفسها، أدارت آنسة أسبري رأسها ورأتهما واقفَين عند مدخل الكنيسة. فنهضت من جثوِها وبدت قامتها الطويلة السوداء قاتمة ومهيبة في الضوء الخافت المُتسرِّب من نوافذ الكنيسة الملونة القديمة. تقدمت الآنسة أسبري نحوهما بهدوءٍ وبسرعة شديدَين، حتى إن عباءتها الخفيفة انتفشت في الهواء، مثل سحابة، وكادت تُحيط بهما.
لاح في صوت الآنسة أسبري نبرة توبيخ: «لم أتوقَّع أن تتبعيني إلى هنا يا آنسة ماك.»
ردَّت مرافقتها في تواضع: «أنا آسفة. ظننتُ أنك تبحثين عن كتاب الصلوات.»
قالت الآنسة أسبري: «حسنًا. هذا لُطف منكِ. أشكرك.» والتفتت إلى إيجناتيوس وقالت: «كنت أنوي الذهاب إلى القسيس في غرفة الكهنة. أريدك أن تطلُب منه، نيابة عني، ألا يُنفذ وعيده بالرحيل عنَّا.»
ذكَّرها إيجناتيوس: «كان هذا تهديدًا مشروطًا.»
قالت: «أجل. لا أتصوَّر كيف لشخصٍ أن يسمع مثل هذه المناشدة الحارة ولا يستجيب لها. هلَّا استعطفته حتى لا يأخذ الكل بجريرة البعض؟»
رد إيجناتيوس: «ولكن ألا تعتقدين أن بإمكانك أن تُخبريه بما يدور في ذهنك مباشرة أفضل مني؟ سأنتظرك والآنسة ماك ريثما تنتهِين.»
هزت الآنسة أسبري رأسها نافية، وابتسمت له ابتسامتها النادرة الظهور.
وقالت: «سآتمِن ذاكرتك على رسالتي. وأخبره أيضًا ألا يُعاقب نفسه بذنب الجميع. أعرف ماذا ستعني مغادرة القرية بالنسبة إليه. فأنا أُحبها أيضًا. لنذهب يا آنسة ماك.»
شاهد إيجناتيوس التناقُض الغريب بين المرأتين — إحداهما طويلة ونحيفة والأخرى قصيرة وعريضة — وهما تسيران في الجادة المليئة بأشجار الليم باتجاه بوابة مدفن الكنيسة. وعبس بوجهه، كأنه يسخر من المرأتَين المنسحبتَين، قبل أن يسلك طريقًا مُغطًى بنباتات اللبلاب والأعشاب بكثافة ويفضي إلى غرفة الكهنة على نحوٍ غير مباشر.
كان القسيس لا يزال ينتظر في الداخل مُترقبًا. ونظر بلهفة عندما فُتح الباب ليدخل إيجناتيوس. لكن سرعان ما اربدَّ وجهه في إحباط، وتهدَّلت كتفاه مرة أخرى.
«أهذا أنتَ؟»
أجاب إيجناتيوس بسرعة: «أجل. لقد نسيتَ نفسك في أثناء الخطبة. ولكنها … كانت رائعة. أُهنئك.»
سأل القسيس: «لماذا؟ إنها لم تلقَ أي استجابة.»
قال إيجناتيوس: «امنحها بعض الوقت. بالإضافة إلى أنها لاقت استجابةً بالفعل. كانت الآنسة أسبري قادمة لرؤيتك، لكن شيئًا ما أثار خوفها فانصرفت.»
قال القسيس: «الآنسة أسبري! لا أريد مَن حصل على الخلاص لروحه. أريد الخطَّائين الذين يحتاجون إلى التوبة … فيمَ أتت؟»
تأثر القسيس قليلًا عندما نقل إليه إيجناتيوس رسالة الآنسة أسبري بدقةٍ تُضاهي دقة الدكتافون.
علق إيجناتيوس: «بالمناسبة، لقد فاجأتنا جميعًا بقرارك. أهو قرار مفاجئ؟»
أجاب القسيس: «كان مفاجئًا حتى إنه لم يخطُر ببالي، وأنا أصعد درجات المنبر. لكن … تدفقت الكلمات من فمي هكذا … ولا بد من الالتزام بها.»
اختتم إيجناتيوس: «قد تكون حركة ضغط فعَّالة.»
قال القسيس: «لا، لا. أنت لا تفهم. لقد أجبرتني قوة خارجة عن إرادتي على الحديث على هذا النحو.»
ظلَّ القسيس منتشيًا بالإلهام الأخير الذي جاءه. لكن سرعان ما باغته السفول الذي يعقب العلو، وهوى في حضيض الكآبة. وظلَّ شبح الاعتزال يُخيم بثقله على روحه.
كان القسيس قد آلمته تبعات فاجعة سكودامور. فقد تولَّى مُحقق وفيات غريب التحقيق فيها، وافتقد تلك البراعة والسرية اللتَين ميَّزتا تحقيقات قاضي الوفيات السابق في قضية وفاة الآنسة كورنر. ونجم عن ذلك أن انكشفت كل وقائع حياة عائلة سكودامور الشخصية على الملأ، وسجلتها الأقلام بأسلوب دقيق خالٍ من المشاعر.
كما راود القسيس بعض القلق؛ لأن جيرمي، قط سكودامور رفض البقاء معه. وشعر أنه حنث بوعدِه للمحامي الراحل، وفي هذا الشعور من العبثية ما فيه.
لكن كان القطُّ يتصرَّف كما يحلو له، ويعرف بالضبط ما يريده. لم يستقر القط في بيت القسيس رغم محاولات مدبرة المنزل الباسلة لاستمالته بالطعام. وأمضى الأيام القليلة الأولى بعد انتقاله إلى بيت القسيس في استطلاع المنطقة، وكان يعود إلى بيت القسيس في مواقيت الطعام المحددة دائمًا. وفي نهاية المطاف، بعدما تأكد من غلق منزل «ذا كلوك» للأبد، استقر به المقام مع عزباء ثرية.
لم يرقَ بيت القسيس لذوق جيرمي. وكان لدَيه اعتراض آخر بجانب اعتراضه على وجود الكلب وعدم انتظام جدول المائدة. لقد جاء من منزلٍ حسَن السمعة، ولم يكن متأكدًا من أن القسيس تجمعه علاقة زواج شرعية بمدبرة منزله.
بعدما توقَّف رنين جرس قداس الأطفال، نهض إيجناتيوس، الذي كان يجلس وحيدًا في بيت القسيس، من مقعده الجامعي القديم وتجوَّل في الحديقة.
خيمت السكينة المصاحبة ليوم الأحد على القرية. كان الأطفال يمكثون داخل الكنيسة، والآباء ينالون قسطًا من الراحة بعد تناول وجبة الغداء الدسمة. واستعاض إيجناتيوس عن أشعة الشمس الحارة بالظلال المُلطفة لزقاق معتم تفوح منه رائحة أشجار الليم، ومرَّ بالحدائق المعزولة الخاصة حتى وصل إلى بوابة صغيرة تستقرُّ في سياج مُقلم من أشجار الغار.
كان هذا الباب المدخل الجانبي لقصر «سباوت». وقف إيجناتيوس يتأمَّل المزيج الخلاب من الخضراوات وشجيرات الفاكهة والأزهار عندما سمع وقعَ كعب عالٍ على الأرض. كانت أدا — التي تحوَّل لون وجهها من الوردي الخفيف إلى الوردي الزاهي — تركض عبر الزقاق الزَّلِق بسبب اكتسائه بالطحالب الخضراء. وكانت ترتدي فستانًا طويلًا مكشكشًا، أوحى بأنها خارج أوقات العمل، وقُبعتها المُفضلة من الكرينولين والقش.
عندما رأت أدا إيجناتيوس، نسِيَت أن تنحني له تلك الانحناءة الرسمية، التي كانت دليل احترامها لأحد أفراد بيت القسيس. وبدلًا من ذلك، تحدثت إليه بحُرية، وهي السمة التي ميَّزت جولتهما، عندما كان مجرد ضيفٍ عابر مُولَع بجمالها على ما يبدو.
قالت أدا: «هل رأيتها؟»
سأل إيجناتيوس: «من؟»
أجابت أدا: «آنسة ماك.»
«لا، لم ألتقِ بأحد.»
«لم تسرْ في هذا الاتجاه إذن. أنا لا أفهم.»
سأل إيجناتيوس: «ما الذي يُحيرك؟»
قالت موضحة: «لقد خرج الجميع. رأيتهم بأمِّ عيني يغادرون، السيدة والخدم. قالت السيدة إنه لا داعي للعودة حتى موعد تقديم الشاي. لكني نسيتُ قفازي فعُدت … وأنا متأكدة أنني سمعت صوت خطواتٍ تتجول في الطابق العلوي.»
«لماذا لم تصعدي إلى الطابق العلوي للتحقُّق من الأمر بدلًا من الخروج إلى الحديقة؟»
احمرَّ وجه أدا.
وقالت: «شعرتُ بالخوف إذ كان وقع الخطوات غريبًا. كان أقرب إلى الصرير وليس مجرد صوت خطوات عادية … يقولون إن المنزل مسكون … لذا أطلقتُ ساقي للريح. وفجأة خطر ببالي أن الآنسة ماك ربما تسللت إلى المنزل من الخلف. لكنها لو فعلت ذلك لكنتَ رأيتها.»
سأل إيجناتيوس: «ولماذا ظننتِ أنها الآنسة ماك؟»
«بدا صوت الخطوات قادمًا من غرفتها.»
«لكن ما الذي يجعلها تتسلَّل إلى المنزل؟»
فجأة، استفاقت أدا من غفوة الحيرة التي اعترتها، وصارت عيناها الزرقاوان في غاية الشراسة.
وصاحت: «سؤال مُهم. كانت لديَّ شكوك. وسأعثر على الإجابة. سأُخبرك بمسألة واحدة فحسب. هناك أشياء تختفي لكنها لا تختفي من تلقاء نفسها.»
سأل إيجناتيوس بلهفة: «أيمكنني المجيء معك؟ لربما يكون شبحًا.»
تذكرت أدا خوفَها من المنزل الفارغ وأومأت برأسها. وسلكت مسلكًا خفيًّا بين سيقان توت العليق الكثيفة وأيكة من شجيرات البندق كي تبقى بعيدةً عن مرمى النافذة. وعندما بلغا الممر المرصوف أمام المنزل، فتحت أدا بابًا صغيرًا يُفضي إلى ردهة.
قالت: «سنسترق السمع من أعلى الدرج الخلفي.»
تبِعها إيجناتيوس، صاعدًا الدرج الضيِّق اللولبي، إلى بابٍ مُغطًّى بالكوخ الأخضر، واربَتْه أدا بحذَر. وامتدَّ أمامهما ممرٌّ طويل تُضيئه نافذة صغيرة في نهايته. كانت ألواح أرضية الغرفة البلوطية العارية المصقولة بالشمع غير مستوية بفعل الزمن، فكانت ترتفع وتنخفض من حين لآخر.
قالت أدا وهي تشير بإصبعها مُحذرة: «اصمت.»
سيطر صمت ثقيل مُميت على المنزل بأكمله. وبينما كانا يرهفان السمع، انسابت أصوات خافتة من إحدى الغرف تُشبه صرير الألواح الخشبية. شخصٌ ما كان بالداخل، يتحرك خلسةً في مهمة سرية.
همست أدا: «إنها ماك العجوز. استيقظتُ في الليل، وظننتُ أنني سمعتُ شخصًا يفتش في سائر أرجاء المنزل خلسةً. ثم قلتُ لنفسي إن ما سمعته هو صوت «الفئران». لكنني فقدتُ لآلئي الجديدة … أفهمت؟ لقد تسللت عائدةً إلى المنزل، عندما رحل الجميع، لتسرق أي شيءٍ تجده مُلقًى هنا أو هناك. لكننا سنُمسك بها … انظر.»
أشارت أدا إلى باب قديم من البلوط، كان مزلاجه الحديدي يرتفع ببطءٍ كأن يدًا خفية تحركه.
سأل إيجناتيوس حين ظلَّ المزلاج ثابتًا عند المنتصف: «غرفة مَن هذه؟»
أجابت أدا: «غرفة ماك. إنها تُخبئ ما سرقته. لكني سأواجهها وأُجبرها على إفراغ ما في أدراجها … آه.»
شهقت أدا عندما فُتح الباب بهدوء، وظهرت الآنسة أسبري عند مدخل الغرفة. كان هناك شيء من السرية والغموض في وضعيتِها المُنحنية الحذرة، وهي تقف وتُرهف السمع، حتى شعر إيجناتيوس أن قلبه يدقُّ بقوة من شدة الإثارة.
فجأة، انكسر صمتُ المنزل القديم بصوت خطواتٍ كثيرة تصعد الدرج المركزي بسرعة. كانت أدا قد أغلقت الباب، حتى لم يعُد بإمكانهما رؤية الممر، لكنهما سمِعا صوت الآنسة ماك يرتفع بصرخة حادة مثل أرنب فقد صوابه من الرُّعب عندما رأى القاقم.
قالت: «اخرجي من غرفتي. لن تجِديه أبدًا. إنه ملكي.»
نزلت أدا على الدرج مسرعة، وإيجناتيوس في أعقابها. وظلَّت صامتةً في حين اجتازا الحديقة بسرعة. وعندما وصلا إلى البوابة التي فُتحت في سياج أشجار الغار، كان صوتها هادئًا.
قالت: «إلى اللقاء يا سيدي. سأعود إلى المنزل لزيارة أمي. آسفة لأنني أزعجتك بلا سبب.»
كرَّر إيجناتيوس: «بلا سبب يا أدا؟»
كانت عينا أدا الزرقاوان خاليتَين من التعبير وهي تُكرر: «بلا سبب يا سيدي. سأتزوج قريبًا وقد وعدتني آنسة أسبري بشراء فستان العرس وكل المفروشات.»
«أعرف. لديكِ مخدومة طيبة القلب.»
«إنها طيبة وعطوفة يا سيدي. وإن كانت قد قست على الآنسة ماك في بعض الأحيان، فإنها تُعاملها بما تستحق؛ لأنها ترى نفسها فوق الجميع، حتى أصبحت بلا نفع لأحدٍ على الإطلاق.»
رفع إيجناتيوس قُبعته وانحنى لها في احترام.
وقال: «أحيي روح القرية. أنا مُعجب بكِ يا أدا. أنت لم تري شيئًا ولم تسمعي شيئًا. وأنا مثلك.»