الفصل السابع والعشرون

طابع البريد

لم يستطع القسيس النوم في تلك الليلة؛ إذ كان مُثقل الفؤاد مشوَّش العقل. وكلما غلبه النعاس رأى كابوسًا مرعبًا، حيث تخيل نفسه يقاتل خصمًا غير مرئي.

بدأ القسيس يعتبر هذا الحلم المُتكرر رمزًا لصراعه مع كاتب الرسائل المجهولة، رغم أنه يدرك تمام الإدراك أن هذا الحلم ليس سوى انعكاس لأفكاره الداخلية.

تمتم القسيس وهو يزيل رغوة الحلاقة عن وجهه المُنهك: «ألن أتخلَّص منك أبدًا؟»

نزل القسيس على الدرج العريض المُغطَّى بسجادة بروكسل مُهترئة، ووجد البهو مغمورًا بالضوء الذي تدفَّق من باب الحديقة المفتوح. كان تشارلز يُطارد كرة على العشب. وفي المطبخ انشغلت الطاهية بسلق البيض على أنغام أغنية «لقد ارتدت الشمس قُبعتها» (ذا صن هاز جوت هيز هات أون) المُنبعثة من جهاز الجراموفون.

كانت هذه الأجواء نموذجًا للحياة الدافئة المبهجة التي بدأ القسيس يُحبها. لذا استصعب استدعاء ابتسامته المُعتادة إلى شفتَيه، عندما التقى بساعي البريد عند الباب الأمامي؛ إذ كان لا يزال تحت وطأة التهديد بترك هذه الحياة والرحيل عن القرية.

لكن الأخبار التي حملها إلى غرفة الطعام مع خطاباته كانت سارة. لقد رفض القدَر تضحيته، واعتبرها «بادرة كريمة من رجل نبيل»، من أجل حسْم فوري للأمر.

فتح القسيس خطابًا ضخمًا، مكتوبًا بخطٍّ سيئ غير واضح، وأخرج ظرفًا عليه أحرف مطبوعة كان مطويًّا داخله.

صاح القسيس مبتهجًا: «حصلت عليه»، وألقى بالظرف إلى إيجناتيوس، في حين انشغل بقراءة الخطاب المُرفق.

كان الخطاب من امرأة تدعى السيدة بومفرت، وهي امرأة عجوز معروفة بورعها ونسبِها العريق. أوضحت السيدة في خطابها أنها تلقَّت لتوِّها خطابًا مجهولًا، يحتوي على اتهامٍ فاحش لا أساس له من الصحة، لن تستطيع قوة على الأرض أن تُقنعها بالكشف عنه لمخلوق.

قالت: «أشعر بالخِزي لتلقِّي مثل هذا الخطاب القذِر. لكني أثق بك مثلما يثق الكاثوليكي الروماني في كرسي الاعتراف. لقد تلقيتُ الخطاب يوم السبت في وقتٍ متأخِّر من الليل، ولأننا لا نمتلك نارًا في المطبخ في فصل الصيف، أغلقتُ عليه بإحكام حتى إذا ما سنحت لي الفرصة أحرقته. وفي صباح اليوم التالي، بعدما استمعتُ إلى خطبتك الرائعة، خُضت معركة حامية الوطيس مع ضميري، وأشعر بالرِّضا وأنا أعلن انتصار ضميري في النهاية. لم أكن سأغفر لنفسي إذا أجبِر قسيسنا العزيز على الرحيل من قريتنا بسبب سكوتي. لكن لن يعلَم أحد قط الثمن الذي دفعته من مشاعري.»

رفع القسيس عينَيه عن الخطاب، وإذا بإيجناتيوس يُعرِّض الظرف للبخار المنبعث من الغلاية التي تعمل بموقد الكحول.

قال إيجناتيوس موضحًا: «أريد أن أُلقي نظرة على طابع البريد. ربما احتوى على علامة مُميزة، وإن كان هذا أمرًا مستبعدًا.»

علق القسيس: «لم أكن لأُزعِج أي طفل في أثناء لعبه. كل ما أريده أن أشدِّد على ضرورة الحفاظ على سرية هذا الخطاب. لقد قدمت السيدة بومفرت تضحيةً جليلة، ولأن أقطع يدي اليمنى أحب إليَّ من أن أسبِّب لها الألم.»

قال إيجناتيوس وهو ينزع الطابع عن الظرف ثم يُلصقه على زجاج النافذة: «أقبل إهانتك الأولى، ولكني أُعارض الثانية.»

وفجأة أطلق صرخةً رفيعة حادة.

وقال: «يحتوي الظرف على علامةٍ مميزة. ألا ترى ما يُشبه ثقب الدبوس في إحدى الزوايا؟»

قال القسيس: «ما عرفته أنه لم يُبع أي طابع بريدي عليه علامة مميزة.»

قال إيجناتيوس: «بِيع دفتر طوابع واحد لليدي دارسي. كانت السيدة رقم ٣ على قائمتنا. وهذا الطابع به ثُقب في موضع الرقم ٣.»

فرك القسيس عينَيه في حيرة.

وقال: «بالتأكيد أنتَ لا تتَّهم ليدي دارسي بكتابة رسالة بغيضة للسيدة بومفرت، أليس كذلك؟»

أجاب إيجناتيوس: «لا. إنها لا تُجيد هذا التفكير العميق.»

سأل القسيس: «فيمن تشتبِه إذن؟»

بينما ظل إيجناتيوس صامتًا، حدَّق إليه القسيس، ثم أشاح ببصره عنه.

سأل القسيس بفتور: «أتقصد … جوان بروك؟»

وافقه إيجناتيوس وهو يعود إلى مقعده مرةً أخرى ويبدأ في دهن التوست بالزبدة: «لا يمكن أن يكون أحد سواها. جوان ليست السكرتيرة التي تقضي وقت فراغها في غرفتها تكتب خطاباتٍ على عجل بخطٍّ فوضوي. لا، إنها مثل الورد المُتعرِّش. تتجول هنا وهناك وفي كل مكان. لذا من غير المُحتمل أن تشتري طوابع لاستخدامها الخاص. ستسرق الطوابع البريدية، متى شاءت، من دفتر ليدي دارسي.»

شرع القسيس يذرع الغرفة جيئةً وذهابًا.

وقال في شرود: «أنتَ لا تعتقد أن جوان كتبت هذه الخطابات أليس كذلك؟ لا أُصدق أنها دفعت عائلة سكودامور إلى الموت. لا يمكن أن تفعل ذلك.»

قال إيجناتيوس: «بل يُمكنها. لكني لا أتَّهمها بكتابة الخطابات. اجلس وأكمل فطورك.»

جلس القسيس، وحشر التبغ في غليونه بصورةٍ آلية، في حين واصل إيجناتيوس الحديث.

قال إيجناتيوس: «يجب أن أُفكر في جميع الاحتمالات. والآنسة بروك أحد هذه الاحتمالات. إنها فتاة ذات شخصية قوية، وإرادة غير عادية، وحُب للإثارة. تأكد أنها على وعيٍ بجاذبيتها، وتعتقد أنها تستحقُّ من الحياة معاملةً أفضل مما حصلت عليها. لذا قد تنفجر، على هذا النحو، وتشنُّ هجومًا شاملًا على الأشخاص الأوفر حظًّا منها، الذين يملكون ما حُرِمت منه. سيروقها الخطر الذي ينطوي عليه هذا الهجوم؛ لأنها ليست جبانة.»

نظر إيجناتيوس إلى القسيس نظرةً ذات مغزًى وهو يضيف: «تذكر أنها تعيش حياة غير طبيعية.»

قال القسيس بامتعاض: «لا. إنها مُستقلة ماديًّا ولديها وظيفة رائعة. هناك مئات الفتيات في نفس وضعها ويعشنَ حياة نافعة سعيدة.»

«هذا صحيح. لكن الآنسة بروك لديها لمسةٌ من الغموض تُحيط بشخصيتها وقدراتها تميزها عن بقية الفتيات. إنها تُهدِر حياتها في رعاية امرأة مُصابة باضطرابٍ عقلي … كان يحسُن بها الزواج.»

نظر إيجناتيوس إلى القسيس بطرف عينَيه، مثل قزم خبيث، وهو يبتسم.

وقال: «أنتَ محظوظ. فلن تُضطَرَّ إلى مغادرة القرية الآن.»

وافقه القسيس قائلًا: «نعم. لكن — بعد ما حدث — لم يعُد الأمر يُهمني كثيرًا … لقد أخبرتني أنك تريد عينةً من الخطاب. وقد حصلتَ عليه … أين نقف الآن؟»

ردَّ إيجناتيوس: «ليس لدينا موقع واضح. نحن نترنَّح بين الاحتمالات. يجب أن يكون لديَّ دليل دامغ قبل توجيه الاتهام لأي شخص. ربما أُعطِي الطابع لشخصٍ آخر مصادفةً على سبيل الاستعارة. أريد ظرفًا آخر لمقارنته بالذي بين يدي.»

تنهَّد القسيس تنهيدةً طويلة إزاء تأجيل الاتهام.

وقال: «في غضون ذلك، ستظلُّ شكوكك تحوم حول جوان.»

أجاب إيجناتيوس: «لا، إنها بريئة حتى تثبت إدانتها. لقد تلقَّيتُ استجابةً سريعة جدًّا لمناشدتك، وقد يُحالفنا الحظ ونحصل على المزيد من الردود. لا يمكن أن تكون السيدة بومفرت صاحبة الضمير الحي الوحيد في المكان.»

واصل القس عبوسه.

وقال: «لا أستطيع ترك الأمور على هذا النحو. لا أطيق هذا التوتر. يجب أن أواجه جوان بالأمر. أعلم أنها جديرة بالتصديق.»

قال إيجناتيوس بلهجةٍ آمرة: «لا، لا بد أن تترك الأمر لي. ستُدمر كل شيء لو فعلت ذلك. تذكر تعهُّدك للسيدة بومفرت بالْتزام السرية … كيف يُمكننا التواصل مع الآنسة بروك بصورة طبيعية؟»

اقترح القسيس: «يُمكننا زيارة ليدي دارسي بعد الظهيرة. سأتحدَّث مع السيدة، وأُتيح لك الفرصة لتستخلص المعلومات من جوان. لا خيار أمامي سوى أن أثِق بك. لا تُخيفها. وامنحها كل الثغرات لتبرئة نفسها ولا تحكم بالظاهر.»

اكتفى إيجناتيوس بالابتسام في سخرية. بعد ذلك، أقلَّ القس وكلبه المُلازم له إلى «ذا كورت»، بعد الظهر، بسيارته التي قطعت المسافة بسرعةٍ شديدة حتى بدا الاستياء واضحًا على تشارلز — الذي كان يتوقَّع أنهم ذاهبون في نزهة — وشعر أن هذا سوء استغلال لملكيته.

كان الطقس في ذلك اليوم حارًّا هادئًا، حيث وقفت الأشجار في الحديقة بلا حراك تحت المظلات الخضراء الداكنة، ورقصت أسراب الناموس في أشعة الشمس، فبدت مثل لفائف من الشاش البرونزي.

عندما وصلا إلى الرواق المُعمد للصرح الجورجي الضخم، المطلي باللون الأصفر الفاتح، خاب أملهما برؤية سيارة أخرى في المدخل. ولأنهما غافلان عن أيادي القدَر، لم يتخيَّلا أن زوَّار ليدي دارسي سيكون لهم دور كبير في استجلاء لغزهما.

تبين أن الزوَّار هم ابنتا عائلة مارتن من منزل «تاورز»؛ وقد تناهى إلى سمع القسيس وإيجناتيوس صوتهما قبل دخولهما لغرفة الجلوس. بدت السيدة دارسي ضائعةً تمامًا أمام وابل حديثهما الذي كانت تُمطَر به، وبذلت جوان — التي كانت تجلس في هدوء وترتدي فستانًا أبيض أظهر جسدها الذي سفعته الشمس فأضفت عليها جاذبية — قصارى جهدها في استعادة ليدي دارسي، وحمايتها من ضرباتهما المباشرة.

وحتى بعد انقطاع الحديث بوصول الرجُلَين، سيطرت الآنسة مارتن على الجو العام بإرادتها القوية وصوتها العالي. كانت هي وأختها مثلما توقَّع إيجناتيوس من وصف السيدة سكودامور ﻟ «التواضع» بالمقارنة بالثراء؛ فقد كانتا لطيفتَين وصريحتَين حدَّ الوقاحة.

اقتصر حديثهما على أسفارهما أو بالأحرى على موضوع خاص يرتبط بأسفارهما.

قالت إحدى الفتاتَين: «العرب لصوص بشِعون. يرفعون أسعار كل شيء. والقاهرة عتيقة وبالية للغاية. تكتظُّ بالسائحين ولا توجَد بها رائحة التخفيضات. لكن الصينيين أكثر أمانة بعض الشيء. اشترينا بعض الأوشحة الرائعة بسعرٍ زهيد من مدينة كانتون، أليس كذلك يا كون؟ … إيطاليا دولة جميلة. سماؤها زرقاء رائعة ليست كهذه. كدنا نشتري متجرًا قرويًّا بأكمله. إنهم لا يعرفون قيمة بضائعهم. أما روما فلا يوجد بها شيء باستثناء المعالم السياحية.»

وافقت كونستانس مارتن أختها في كل ما قالته، وأضافت بعض المعلومات التفصيلية، حول كيفية الحصول على صفقة جيدة.

قالت الآنسة مارتن: «نريد رؤية الحدائق، وسنرحل بعدها على الفور. سنرد جميع الزيارات في يومٍ واحد حتى ننتهي منها بسرعة.»

قالت كونستانس: «أجل، لقد قدِمنا للتوِّ من «سباوت». تبدو السيدة العجوز كأنها تنهار أخيرًا.»

اندهش الجميع بعض الشيء من هذا الوصف للقديسة الخالدة أسبري. حينئذٍ قاطعت جوان نظرة سريعة تبادلها إيجناتيوس والقسيس. وبينما كان الرجلان يستعدَّان للمغادرة طرحت جوان سؤالًا.

قالت: «أخبرني، يا أبتِ، إلى أي مدًى تتحمَّل الزهور التي وضعتها في المذبح الحرارة؟»

أجاب إيجناتيوس بسرعة: «إنها تسقط أوراقها في كلِّ مكان.»

«كنت أشك في قدرة الجريس الأبيض على الصمود. سأجلب بعض الزهور الجديدة في المساء».

تذمَّر القسيس والسيارة تجتاز الحديقة في طريق العودة: «أهدرنا فترة ما بعد الظهيرة بلا جدوى.»

قال إيجناتيوس: «لا أظنُّ ذلك. إن شخصية الآنسة بروك تُثير فضولي. ما مدى ذكائها بالضبط؟ أكانت هذه حركةً ذكية منها كي تؤمِّن لنفسها ملاذًا آمنًا؟»

«كيف أدركت أننا سنُحقق معها؟»

أجاب إيجناتيوس: «ما كان عليها سوى أن تنظر إليك لتعرِف أن ثمَّة ما يدور في ذهنك. كما أنها تعلم هوَسك الخاص. إنها أذكى منك. لكن هل هي أذكى منِّي؟»

كان إيجناتيوس يقِف حارسًا عند بوابةِ بيت القسيس، في مساء ذلك اليوم، عندما أُبلغ القسيس بوصول جوان إلى الكنيسة. وبعد دقائق معدودة، دخل الرجلان المَبنى القديم من الباب الغربي. وفور أن رأتْهما جوان، تركت مكانها على الدرج الذي يقود إلى المذبح، واتَّجهت نحوهما.

قالت وهي تُومئ ناحية المزهريات: «انتهيتُ من تنسيق الأزهار.» بعد ذلك التفتت إلى القسيس مباشرة. وسألته: «لن ترحل عن القرية، أليس كذلك؟»

أجاب القسيس بجدية: «ليس الآن.»

قالت جوان: «أوه … هل أرسل لك أحد شيئًا؟ ما هو؟ خطاب مجهول أم مجرد الظرف؟»

أجاب: «الظرف … هل تعرفين شيئًا عن الأمر؟»

هزت جوان رأسها نافية، وضحكت بخفَّة.

«ومن أين لي أن أعرف؟ إلى من أُرسِل الخطاب؟»

«لا يُمكنني إخبارك.»

«حسنًا. تريد أن تسأل وأنا أجيب. آسفة. لا يُعجبني ذلك.»

لاحظ إيجناتيوس قلة حيلة القسيس أمام ابتسامتها الساخرة. فتدخَّل في تلك اللحظة، وكانت عيناه فاحصتَين، وشفتاه قاسيتَين مثل سلك ملتوٍ. أجبرت ملامحه جوان على التزام الجدية ونظرت إلى الوجه عديم الرحمة أمامها. قال إيجناتيوس بصوتٍ حادٍّ كالسوط: «لقد قادنا الخطاب إليكِ يا آنسة بروك.»

كررت جوان: «أنا؟» وكان صوتها هادئًا، لكن بدا الحذَر عليها جليًّا. وقالت: «كيف ذلك؟»

«من طابع البريد.»

«ما زلتُ لا أفهم؟ هل أخبرك الطابع بشيء؟»

«أجل، كان يحمِل علامة مميزة.»

«هذا مُثير للاهتمام؛ لأنني لم أشترِ أي طوابع منذ أن أتيتُ إلى هنا. أنا لا أكتب رسائل على الإطلاق.»

«كيف تتواصلين مع عائلتك وأصدقائك إذن؟»

«أتَّصل بهم وأتحدَّث معهم عبر الهاتف.»

قال إيجناتيوس بنفاد صبر: «كفى يا آنسة بروك. هل تتوقَّعين مني أن أُصدق أنكِ لم تكتبي ولو رسالة صغيرة على الأقل؟»

قالت: «لا أفعل ذلك إلا بشكلٍ عارض. لذا آخُذ أحد طوابع ليدي دارسي. فهذه من امتيازات السكرتيرة كما تعلم. أليس هناك مَثَل عن عدم تكميم فم الثور الدارس أو شيء من هذا القبيل؟»

عندما أدلت جوان باعترافها القاتل، ألقى إيجناتيوس نظرةً على القسيس، ورأى كيف كان وقع الكلام عليه ثقيلًا كأنه تلقَّى ضربة قوية. في تلك اللحظة، أخذته الشفقة بالفتاة التي كانت تعتقد أنها أثبتت براءتها بثقتها الزائدة. وكاد يُوجِّه لها مزيدًا من الأسئلة لولا أن قاطعه القسيس.

«هذا يكفي. لستَ المدعي العام.»

لانت نبرة صوته والتفت ناحية جوان.

وقال: «أتساءل إن كنتِ ستغضبين إن وجَّهتُ إليكِ سؤالًا يا جوان. مهما كان جوابك، سأُصدقك. وسيُغلق هذا الموضوع للأبد.»

فتحت جوان فمها عفويًّا لتقول شيئًا ثم تردَّدت. لاحظ إيجناتيوس تسارُع أفكارها عندما ضغطت على أسنانها بإصبعها قبل أن تنظر إلى ساعتها.

قالت: «بالطبع سأُجيب على أي سؤالٍ ما دام لا يتعلق بعمري الحقيقي. لكن أوجِز في الكلام؛ إذ يجب أن أعود إلى «ذا كورت» لأكمل مجموعةً من أربعة لاعبين استعدادًا للعب البريدج بعد العشاء. لذا يجب أن أتعجَّل في الرحيل. إذا صحبتني إلى الخارج، بينما أرمي هذه في فتحة الموقد، فسيوفر ذلك بعض الوقت.»

عندما حمل القسيس سلتها الفارغة، انتزعت باقة الزهور الميتة وركضت خارجة من الكنيسة باتجاه مبنى الموقد. اتَّبعها إيجناتيوس كي يعرض عليها المساعدة، لكنها شِبه دفعته بعيدًا وهي تصعد الدرج الصغير وتواجِه القسيس.

سألت جوان: «ما سؤالك؟»

نظر القسيس في عينَيها الصافيتَين نظرة فاحصة.

وسأل: «هل كتبتِ خطابًا مجهولًا؟»

نظرت إليه جوان بثباتٍ دون أن يرفَّ لها جفن. وأجابت: «لا. أبدًا.»

أجاب القسيس: «أشكرك.» وحبس أنفاسه. وسألها: «هلا تُسامحينني؟»

قالت: «لم ترتكِب ما أُسامحك عليه. ولستَ بحاجةٍ للاعتذار. أعطِني السلة. أشكرك. إلى اللقاء يا أبتِ. أنا سعيدة لأنك لن ترحَل عن القرية.»

لم تولِ جوان أدنى اهتمامٍ لإيجناتيوس الذي كان يرمُقها بابتسامة عريضة ساخرة.

قال إيجناتيوس بعد أن خرجت جوان من فناء الكنيسة بخطواتٍ واسعة: «تُعجبني تلك الفتاة. لم أسمع كذبةً مقنعة كهذه من قبل.»

كرر القسيس: «كذبة؟»

أجاب إيجناتيوس: «بالطبع كذبة. ألم تلحَظ واقعةً مُهمة؟ ألم يلفت انتباهك أنها فور أن أدركت أن أمرها أوشك أن يفتضح، لم تسمح لك بطرح هذا السؤال داخل الكنيسة؟ لقد انتابها ما يُشبه الاشمئزاز الروحي أو خوفٌ وهمي من أن تُقتَل في مكانها بسبب شهادتها الكاذبة.»

قال القسيس بغضب: «لن أُنصِت إلى هذا الافتراء.»

قال إيجناتيوس: «حسنًا، حسنًا. لكنها اختلقت مسألة فوهة الموقد. لم تشتعل النار في مبنى الموقد منذ فترةٍ طويلة، كما لم تُستخدَم حاوية للقمامة.»

ساد صمت طويل بينما كان القسيس يستوعِب الحقيقة تدريجيًّا.

سأل القسيس بصوتٍ خفيض: «ماذا أفعل؟»

أجاب إيجناتيوس: «لا شيء. بعد تلك الكذبة، أمتنع عن الحُكم على الآنسة بروك. أريد مزيدًا من الأدلة للإمساك بها، مثل نموذج آخر من الخطاب المجهول.»

أشرق وجه الرجل الضخم إشراقةً مفاجئة تشي بمدى تشبُّثه بكلمات صديقه الضئيل.

سأل إيجناتيوس: «هل تُصدقها؟ أم استيقظتَ من حلمِك؟»

أجاب: «لا يُهم. أنا أثق بها.»

لم يتحدث القسيس في أثناء تناول العشاء تقريبًا. وفي منتصف الوجبة، هبَّ واقفًا على قدمَيه فجأة، ووضع صحنَه على السجادة.

ونادى: «تشارلز، عشاؤك. أيُمكنني أن أستعير سيارتك يا إيجناتيوس؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥