الفصل الثامن والعشرون

الرفقة

لم يرَ إيجناتيوس القسيس مرة أخرى، حتى صباح اليوم التالي، حينما جاء لتناول الفطور وهو لا يزال به أثر النعاس.

سأله إيجناتيوس بفضول: «متى عُدت إلى المنزل؟»

«في وقتٍ متأخر جدًّا من الليل. أشكرك على السيارة. خرجتُ بها في نزهة ليلية.»

«أظنك كنتَ ذاهبًا إلى «ذا كورت»، أليس كذلك؟»

«بلى، ذهبت.»

«حسنًا … هل أُهنئك؟»

غضب القسيس من السؤال.

وسأل: «ألا ترى أنك ذهبتَ في تماديك كل مذهب؟»

ردَّ إيجناتيوس: «ربما. لا أُريدك أن تشاركني أسرارك … أعطِني المربَّى فحسب … أشكرك … خذ راحتك.»

ابتسم القسيس بكآبة.

قال: «أرى أن استنتاجك منطقي. أخبرتُك أنني أثِق في جوان، لذا من البداهة أن أحاول إثبات براءتها بالطريقة الوحيدة المُمكنة. لكن … وصلتُ إلى طريق مسدود.»

لم يكن إيجناتيوس يندهش عادة، لكن القسيس نجح في جذب انتباهه هذه المرة. كان إيجناتيوس يعلم أن جوان تطمح إلى الشعور بالأمان، وأن لدَيها مشاعر قوية نحو القسيس، إلا أنه لم يستطِع تصديق خبر رفضها الزواج منه.

قال القسيس: «تحُول هذه الرسائل اللعينة دون زواجِنا. لا أُحب الخوض في شئوني الخاصة مع الآخرين، ولا حتى معك، لكن المسائل يرتبط بعضها ببعض. لقد عرضتُ على جوان الزواج الليلة الماضية على اعتقاد أنها ستقبَله. لكنها غيَّرت رأيها فجأة.»

سأل إيجناتيوس بلهفة: «كيف؟»

أجاب القسيس: «قالت إنه حتى العثور على كاتب الرسائل فستظلُّ الشكوك تحوم حول جميع سكان القرية، لا سيما هي حسبما يبدو. ومهما أقسمتُ على ثِقتي في براءتها، لم يُثنِها ذلك عن رأيها، لأنها رأت ضرورة إثبات براءتها أولًا. وتعلَّلت بأنه بعد زواجنا، إذا حدثت مشكلة، فسأتذكر هذه المسألة وأشكُّ فيها.»

اشتعل وجه إيجناتيوس النحيل حماسة.

هتف: «يا لها من فتاةٍ ذكية! تُريدك كلَّك لا جزءًا منك. إنها عازمة على الاستحواذ عليك تمامًا.»

ردَّ القسيس: «إن كانت كما تقول فهي تُعبر عن ذلك بطريقة غريبة.»

قال إيجناتيوس: «لا، يا تيجر، هي مُحقة. سيأتي ذلك اليوم الأسود حين يحملك الشيطان على الشكِّ فيها. حسنًا، أرى أنه لا بدَّ لي من استجلاء هذا اللغز، مكافأة لها على شجاعتها ورغبتها في التملك.»

قال القسيس في ملل: «أعترف أنني لا أعرف موقفنا الحالي على الإطلاق. هل يجِب أن نطلب مساعدة الشرطة بعد كلِّ ما حدث؟»

«من الأفضل أن تستشير العمدة. لكن أريد أن أُحذرك من خطورة هذه الخطوة. فستنصب الشرطة فخًّا محكمًا لا يُشبه ما أعدَّتْهُ مديرة البريد الضئيلة الخاصة بكم.»

لاح الخوف القديم في عيني القسيس عند ذكْر مسألة الفخ.

وراح يحثُّ إيجناتيوس على الكلام قائلًا: «أفصِح عما في نفسك. فيمن تشتبه؟»

أجاب إيجناتيوس: «إنهما شخصان، أحدهما الآنسة بروك. أعترف أنني أميل للاختيار الثاني من مُنطلقٍ نفسي. لكن لا أزال في حاجة إلى نموذج آخر من الطابع البريدي لإثبات صحة فرضيتي.»

سار القسيس عبر طرقات قريته المحبوبة بقلبٍ مُثقل بالهموم. كان الجو صافيًا كأنه ينظر إلى الحدود الخضراء البارزة لتلال داونز البعيدة عبر مسطحٍ مائي رائق. زخرت حدائق الأكواخ بالزهور. كان موسم الصيف يمدُّ يدَه ليُلامِس أنامل موسم الخريف حتى يتشاركا في عطاياهما. ونمَتْ زهور الداليا وعباد الشمس والخطمي والقبس جنبًا إلى جنبٍ مع زهور الثالوث والقرنفل والأذريون وحنك السبع.

جعلت مظاهر الجمال الوفيرة، في ظلِّ مزاجه الكئيب، الواقع المخالف أكثر حدَّة. حتى الموت، في الأيام الخوالي، كان يحترم طابع القرية المُتأنِّي؛ إذ لم يقُم بزيارة رسمية لأيٍّ من سكان القرية دون أن يطرق الباب أولًا.

لكن، في غضون ثلاثة أشهر، أُزهقت أرواح ثلاثة من أبرز شخصياتها بلا رحمة. تُرى من سيكون التالي؟

طرأت هذه الفكرة في ذهن القسيس، وإذا بشخصٍ مألوف كان يقف عند النصب التذكاري للحرب، يقطع البساط الأخضر المُرقَّط بأشعة الشمس، ويسير بجواره.

قَبِل القسيس صُحبته أمرًا مُسلَّمًا به، دون أن يُخالجه ذلك الخوف الشديد الذي اعتراه عندما لمح شبحًا أسود، أول مرة، يترصَّده ويُلاحقه.

لم يعلم القسيس حينَها أنه يسير بصحبة الخوف، إلا أن تيار أفكاره كان يسير في منحنًى سوداوي. انشغل فكرة بالقبور الثلاثة الجديدة في فناء الكنيسة، وتساءل عن موعد الوفاة التالية.

كانت القرية مُشبعة بروح المكيدة تحت الغطاء الجميل الذي يُغلفها من الخارج.

كانت ثمة سلسلة سرية من الخطابات تنتقل من بابٍ لآخر، ولكنه لم يرَ منها سوى حلقةٍ مكسورة من حينٍ لآخر. لقد اشترك الجميع في المؤامرة إما على نحوٍ مباشر أو غير مباشر.

لقد تغيَّر المكان نفسه. كانت المروج مُقلَّمة وأسيجة الزهور كثيفة؛ لكن لم تعُد حفلات الحدائق تُقام كل أسبوعَين كالمعتاد، ولم تُستخدَم مضارب التنس أو الكروكيت إلا في المباريات العائلية فحسب.

مَن المسئول عن ذلك؟ عندما طرح السؤال، همس الخوف في أذنه بعدَّة أسماء محددة.

أبعدت فيفيان ابنة العمدة القسيس عن طريقها ببوق سيارتها بينما كانت تُقلُّ الميجور بلير إلى «ذا هول». ابتسم لها القسيس ابتسامةً عريضة تحيَّةً لها، حاول أن يبثَّ فيها تهانيه على خطبتها، لكنها تجمَّدت على شفتَيه باستجابتها الباردة له.

لم يرَ القسيس على وجه الفتاة أي قدْر من الإشراق المتوقَّع رؤيته على وجه عروس مُستقبلية. كانت ترتدي قبعةً محبوكة بيضاء، وبدا وجهها المتورد، الذي كشفت عنه حافة القبعة التقليدية، أصغر من المُعتاد كأنها انكمشت من فرط شعورها بالقلق.

تساءل القسيس في نفسه: «الندم؟ أهو أنت؟»

لقد شخَّص الطبيبُ كاتبَ الخطابات بأنه مُضطرب نفسيًّا، وذكَّره الخوف بتوافر جميع مقومات هذه الحالة المرضية في سكان «ذا هول». فقد كان العمدة يقهر زوجته وابنته؛ لذا ربما دفع إحداهما إلى التنفيس عن نفسها بهذه الطريقة الملتوية.

بعد ذلك انتقل الخوف إلى فرضيةٍ أخرى أكثر إثارة.

كان العمدة، في النهاية، تجسيدًا لشخصية جون بول بكل فضائله الوطنية، في حين كان «ذا هول» نموذجًا نمطيًّا للحياة الأسرية الإنجليزية. لهذا من المُرجَّح أن تكون سعادة عائلة العمدة وثراؤها قد أثارا غيرة شخصٍ حُرم تلك المميزات لسوء حظه. شخص يرى أن سماته الشخصية الجذابة تخول له انتظار معاملة أفضل من الحياة.

لا شك أن فيفيان صارت، منذ خطبتها، محط أنظار الحاسدين أكثر من ذي قبل. ولو أنها صارت ضحيةً أخرى لا مُتهمة، لكان خفوت بريقها مسوَّغًا.

هتف القسيس: «لكني أثِق في جوان. لِمَ ستحقد على فيفيان وهي قد رفضت خطبتي لها؟»

فسَّر الخوف بالتفصيل سبب قيامها بهذه الحركة. لقد أتت بهذه الحركة الجريئة لإبعاد الشك عنها. لأنها كانت في موقفٍ صعب. فقد انتهى الطابع البريدي عندَها بعد تتبُّعه كما أنها كذبت عن عمدٍ.

لكن لا يزال سبب إقدامها على الكذب مُبهمًا. ربما كان ذلك جزءًا من سياسة إيجناتيوس، أن يجعلها تعتقد أنها بعيدة عن الشك، فتندفع إلى ارتكاب حماقةٍ أخرى. خطوة خاطئة أخرى، وستهوي إلى المُستنقع.

لم يكن بمقدوره الثقة بإيجناتيوس. فلم يعهده سوى رجلٍ غريب الأطوار ذي ثروة طائلة جعلت منه صديقًا نافعًا في أثناء دراستهما في الجامعة. كيف للمرء أن يعرِف ما يعتلج في صدر غيره؟ ربما كان إيجناتيوس يشعر بالحقد والملل من حياته المُحبِطة.

ملأ الخوف نفس القسيس برغبة عارمة في توجيه ضرباتٍ عشوائية للصديق والعدو. فلم يعُد يستطيع التفريق بينهما في ظلِّ ذلك الكابوس المُضلِّل. كان كمن سقط في هوةٍ سحيقة من الحيرة والضياع.

إذا دعا العمدة لاستدعاء الشرطة فسيُشغِّل ماكينة تعمل بدقة لا هوادة فيها. وإذا اعترضت جوان سبيلها، فسيُلقى القبض عليها وينتهي أمرُها. فلا جدوى من المجادلة مع المعدن، أو مِن طلبِ الرحمة من إنسانٍ آلي.

كانت الشمس ساطعةً إلا أن القسيس شعر بالبرد. سرَت في جسده قشعريرة، عندما نكزه الخوف في أضلُعه بأنامل باردة، فقط ليظهر للعالَم أنهما على وفاقٍ لا أكثر.

حدَّث القسيس نفسه: «إذا لم أفعل شيئًا فسيوجِّه العدو ضربةً جديدة في القريب العاجل. ستقع مأساة أخرى. سيُحفَر قبر آخر.»

توقف القسيس أمام كوخ تيودوري الطراز، في حين كانت الآنسة أسبري تجتاز ممشى حديقتها في عظمةٍ وشموخ. وقبل أن يتمكَّن من تقديم رفيقه المُثير للاهتمام إليها، أبصر الخوف — بعد أن تعرَّف على الآنسة أسبري — امرأة داكنة البشرة تسير على العشب، وأسرع يرافق ماريان بيري كفارسٍ شهم.

تأمل القسيس ملامح الآنسة أسبري المُتعبة الشاحبة، وشعر بانفراجةٍ مفاجئة في صدره.

سألها القسيس: «أكنتِ تزورين هاربر؟»

أجابت الآنسة أسبري: «بلى. جاءه الطبيب بيري لذا غادرت. التقَينا بجوار فراشه وتجادلنا كالعادة. إنه رجل رائع لكنه يؤمِن بالمادة مثل معظم الأطباء. ولن يعترف بالدور الذي تُساهم به الروح في صحَّة الجسد.»

«أظن ذلك يعتمد على نوعية المرض.»

«هذه هي وجهة نظري. بالطبع شرحتُ مبادئ التغذية والتهوية للسيدة هاربر، وشدَّدتُ على تنفيذ تعليماتي بدقة. لكن روح هاربر مريضة وشفاؤها في الصلاة.»

لم يستطع القسيس مُعارضتها؛ إذ عرَّضته خبرته الواسعة لحالاتٍ مرضية خاصة استعصت على الأدوية.

قال القسيس: «أنتِ أفضل من يُقدم له العلاج الروحاني. تجعلينني أشعر بالانتعاش دائمًا.»

سألت آنسة أسبري دون أن تبتسِم: «حقًّا؟ في الآونة الأخيرة، تساءلت إن كانت قدراتي قد بدأت تضمحِل. لم تعد إرادتي تفرض سيطرتها مثلما كانت في السابق.»

قال القسيس: «يمكنكِ السيطرة عليَّ دائمًا.»

أشرق وجه الآنسة أسبري مكافأةً له على مُجاملته. وودَّعته بإيماءةٍ وقورة من عنقها الرشيق، قبل أن يصِل الطبيب بيري إلى البوابة.

علَّق الطبيب باستخفاف: «اللعنة على هذه المرأة القديسة. لقد تغلَّبت عليَّ مرةً أخرى. كانت عائلة هاربر تفرغ الدواء الذي وصفتُه في البالوعة.»

سأل القسيس: «ما خطب هاربر؟»

أجاب الطبيب: «ها أنت الآن تتعدَّى على تخصُّصي يا أبتِ. كل ما يمكنني أن أقوله إن لدَيه صُحبة جيدة؛ إذ يشتكي من نفس ما يشتكي منه العمدة. لكنني منحتُ حالتهما المرضية اسمَين مختلفَين من باب التمييز بين فواتيرهما.»

سأل القسيس دون تفكير: «وكيف حال العمدة؟»

أجاب الطبيب: «وأنَّى لي أن أعرف؟ فهو ليس مريضي.»

قال القسيس: «آسف يا بيري، نسيت. لكن لا يبدو في صحَّةٍ جيدة. إنه يفتقدك.»

قال الطبيب: «على العكس، إن طبيبه الخاص أعلَمُ منِّي بكيفية علاجه، على الأرجح. ما يعجز عنه هو مجاراته مثلما كنتُ أفعل.»

تحرك قلب القسيس بذلك الإعجاب القديم، رغم ما وقع بينه وبين الطبيب من قطيعة. اتَّسم هدوء الطبيب بالطمأنينة والثبات. كانت تعلوه سحابةٌ من الشبهات المُبهمة حول محاولته لكسب ودِّ إحدى مريضاته، بهدف الحصول على أموالها، إلى جانب الاشتباه العام الذي ناله بالإهمال في إعطاء مريضةٍ دواءً منومًا. كانت عواقب الأمر جيدة جدًّا بالنسبة إليه، وفي ظلِّ زيادة دخله من هذا الإرث، شعر سكان القرية بشيءٍ من الخوف من خدماته المِهنية.

لكن عندما كانوا يلتقون به شخصيَّا كانت الولاءات القديمة ما زالت قائمة. مدَّ القسيس يد الصُّلح دون أن يتروَّى في الأمر.

سأله: «لِمَ توقفتَ عن زيارتي في المساء؟»

أجاب الطبيب: «لديك مُحققك الخاص يا أبتِ العزيز. وقد أُعطِّل سير عمليات التحقيق الحسَّاسة.»

مرَّت في ذهن القسيس تلك الذكرى الخاطفة لواقعة الطوابع المميزة. وعلى ما يبدو لم يكن سريعًا بالدرجة الكافية في مساعيه لإخفائها.

قال القسيس: «أنت تقصد إيجناتيوس براون. لكنه يُحبك.»

قال الطبيب: «أشكرك على التلميح. سألتزم الحذَر الآن.»

قال القسيس: «حسنًا، إذا لم ترغب في القدوم، فلا بأس من تجاذُب أطراف الحديث مرةً أخرى. أتمنَّى لو تُخبرني إذا كنت تعتقد أن الآنسة أسبري بدأت تفقد السيطرة على نفسها.»

أجاب الطبيب بلا اكتراث: «لا. ستعيش للأبد.»

قال القسيس: «ممتاز. وكيف حالك يا دكتور؟»

أجاب الطبيب: «مُمتازة، أشكرك. الأسرة تكبر، والأمور على أفضل ما يكون.»

قال القسيس: «أنت محظوظ … هل تتذكَّر عندما حذَّرتني من وجود أماكن مُظلمة، حتى هنا؟ لم أُصدِّقك حينها. لكن منذ ذلك الوقت …»

وحين سكت عن الكلام، أكمل الطبيب عبارته.

«منذ ذلك الوقت، صارت الأمور أكثر تشويقًا. على ذِكر ذلك، ما رأي الآنسة بروك في مسألة خطبة فيفيان؟ بالنسبة إليَّ، أجد الأمر مُسليًا. تبدو مشغولة الذهن بعدما حقَّقت أقصى ما كانت تطمح إليه.»

سأل القسيس في جرأة: «أنت لا تُحبها، أليس كذلك؟»

قال الطبيب: «الجميع يعلم أنني كنتُ مولعًا بها في الماضي. لذا قد أكون في المرحلة الثانية من الصداقة. يجب أن أرحَل. إلى اللقاء يا أبتِ.»

سار الطبيب إلى منزله بخطواتٍ وئيدة. وعندما مر أمام النوافذ الخالية لمنزل «ذا كلوك» نظر إليها نظرة متأمِّلة.

وقال في نفسه: «أتساءل إن كان المخرج الذي اختاراه قد حظي بالنجاح المتوقَّع. لا بد أن الفناء يجلب الراحة. حسنًا، على الأقل وجدا حلًّا لمشكلتهما.»

ودفع بوابة منزله ليفتحها، ثم أخذ خطوتَين للوراء، عندما رأى زوجته تندفع للقائه. لقد علَّمته التجارب المؤلِمة أن يربط بين اندفاعات زوجته العاصفة للترحيب به وبين الطلبات الجديدة.

كشفت له نظرته السريعة الأولى أن ماريان في حالةٍ من القلق الشديد؛ نتيجة عشر دقائق أمضتها في صُحبة غريب قاتم. كان الخوف في مزاجٍ اجتماعي في ذلك اليوم؛ إذ أصرَّ على مرافقة السيدة إلى منزلها، لرؤية طفلَيها الساحرَين الوسيمَين. وقد استغلَّ تلك الفرصة أيما استغلال.

لقد انقضَّت ماريان على الطفل الأكبر وفحصته في هلع، واكتشفت أنه يُعاني من تسمُّم في الدم الإنتاني. هذا ما ألمحت إليه المُمرضة الخبيرة على الأقل؛ لأنها أكدت مرة أخرى على فوائد زيارة ساحل البحر.

لكن ما حدث حقًّا أن ميكي لدغته حشرة، اختارت ألا تكشف عن نفسها، تماشيًا مع الجو السائد في القرية. كانت الحشرة تعلَم أنها مجرد حشرة ذليلة، وأن لدغتها لا يمكن أن تُحدث أي ضرر.

لكن ميكي كان مثابرًا بطبيعته، ولم يُضِعْ وقتًا. كان لميكي بشرة شاحبة حساسة، استجابت لحكِّه القوي، فحصل على نتائج ممتازة مباشرة. ودخلت أمُّه في حالةٍ شبه هيستيرية عندما رأت بشرته المُلتهبة.

صرَّحت الممرضة: «لقد لدغته بعوضة. ألم تلدغك حشرة طائرة شقية يا عزيزي؟»

صحَّح ميكي قائلًا: «لا. بل فأر.»

كان قد تعلَّم كلمة «فأر» منذ فترةٍ قصيرة ويحاول استخدامها. صرخت ماريان، ثم رأت زوجها يفتح بوابة المنزل.

صاحت: «هوريشيو! اذهب إلى ميكي على الفور.»

فحص الطبيب بيري ذراع الطفل بتأنِّيه المُعتاد، ثم حمله إلى العيادة بِصمت.

قال لزوجته بنبرةٍ جادة: «أحضري لي ضمَّادتَين جراحيَّتَين كبيرتَين.»

سألت بصوتٍ واهن: «أنت … أنت لن تُجري له عملية جراحية، أليس كذلك؟»

أجاب: «سترَين ما سأفعله لإنقاذ حياته.»

تسلَّل شبح ابتسامةٍ إلى شفتي الطبيب، وهو يضع مُستخلص «ساحرة البندق» على ذراع ميكي، قبل أن يلفَّ يدَيه الاثنتَين بالضمَّادات، فشعر الطفل بالبهجة.

قال الطبيب: «لا تنزعي الضمَّادات حتى يختفي الالتهاب. سيهدأ التهيُّج قريبًا لأنه لم يعد قادرًا على حكِّ بشرته … وأنتِ أيتها المُمرضة، قلِّمي أظافره. لا أعتزم أن أجعل ابني مثل الماندريين الطويلي الأظافر.»

بعدما غادرت المرأة الغرفة في حالة صدمة، وهي تحمل ميكي، التفتت ماريان إلى زوجها.

قالت: «لماذا تحدَّثت إليها على هذا النحو؟ هذه إهانة واضحة.»

ردَّ الطبيب: «بلى، لكن هل ستفهمها؟ هلَّا منحتني أي أمَلٍ في ذلك؟»

كانت كلماته شرارة اندلاع العاصفة؛ إذ انهالت عليه ماريان بالتوبيخ والإساءات. لم يحاول الإنصات إليها ولا مُجادلتها، كان كل ما يشغله هو الإزعاج والضوضاء فحسب.

وبنفس اللامبالاة، نظر إلى زوجته، وأدرك أنها — إذا ما تجرَّدت من جاذبيتها ورصانتها المختلفتَين — مجرد امرأة نحيفة تُلوِّح براحتي يدَيها الغائرتَين المبسوطتَين.

كان الطبيب مغرمًا بأطفاله، ويُحب زوجته حبًّا جمًّا؛ لكن شعوره بالسلام والطمأنينة كان جزءًا لا يتجزأ من سعادته. ربما كان سيرضى كامل الرضا مع زوجة تَبرُز عروقها من تحت بشرتها البيضاء كالحليب مثل فيفيان، أو يقبَل بثاني أفضل اختيار، وهو أن يظلَّ أعزب وحياته خالية من الفوضى.

قالت ماريان في انفعالٍ شديد: «أنتَ غير جدير بالأبوة.»

بدا سكوت الطبيب علامة تأييدٍ لكلامها. لكنه في الواقع، كان يرى أمامه وجهًا أحمر مرحًا وعينَين باسمتَين تحت شعرٍ رمادي معدني كثيف. كان قلبه يعتصر شوقًا لصديقته جوليا كورنر.

كانت ستُساعده في اجتياز هذه الأزمة، لا بمالها فحسب — إذ حوَّلت الاقتراض إلى مجرد رابط آخر من روابط الصداقة — وإنما بسماحة نفسها وتعاطُفها، وذكائها الشديد المؤثر الذي لم يكن يعرفه أحد سواه.

لكن جوليا في قبرها الآن. كم هي محظوظة!

وبينما كان الطبيب يفكر في خواء الفَنَاء ونعمائه بحُزن وحنين، أعاده تعليق عابر إلى العيادة، حيث كان وابلٌ من أشعة الشمس ينهمِر إلى الداخل من السقف الزجاجي.

قالت ماريان بحدة: «أجب يا هوريشيو. اسمح لي باقتراض المال الذي نحتاجه لذهاب الأطفال في عطلةٍ إلى الشاطئ من السيدة زوجة العمدة. إنها امرأة بالِغة الكرم، وستُقرضني إيَّاه، عندما تعلم بظروفنا.»

لمعت عينا الطبيب وسط وجهه الشاحب، وفجأة اهتز صوته المُنخفض من فرط الانفعال.

قال: «إيَّاك يا ماريان والحديث عن شئوني الخاصة مع أي شخصٍ في القرية.»

«لكنك اقترضتَ من السيد سكودامور.»

قال الطبيب: «كان ذلك ضدَّ إرادتي تمامًا. لكنه كان مُحاميَّ الخاص وصديقًا قديمًا لي. بالإضافة إلى أنني كنتُ أطلب منه دفعةً مقدمة من ميراثي لا أكثر … لكنني لن أسمح بأن أجعل مشكلاتي المالية مشاعًا للعامة. أتفهمين؟»

قالت ماريان: «أجل. أفهم أنك ستُضحي بأطفالك من أجل كبريائك السخيفة. ولن أعِدَك بشيء. ولا أكترث إذا تركتني وذهبت إلى امرأتك الأخرى.»

لم تكن جادةً في كلامها، وشعرت بارتباكٍ شديد عندما كرَّر كلماتها.

«امرأتي الأخرى؟ انتبهي إلى كلامك. فقد آخُذه على محمل الجد.»

حاولت ماريان أن تضحك، لكنها جفلت عندما رأته ينظر إليها بثبات.

قالت بتوسُّل: «لا تنظر إليَّ هكذا يا هوريشيو. أنتَ تُخيفني. لن أتفوَّه بكلمة واحدة، أعدك … كدتُ أُصدِّق أنك … قبِّلني يا حبيبي. أخبِرني أنه ليس هناك امرأة أخرى في حياتك.»

ولفَّت ذراعيها حول عنقه بإحكام، حتى كادت تخنقه من شدة ضغطها عليه؛ لكنه لم يرَ الشفتَين اللتَين قبَّلهما.

كانت عيناه محجوبتَين بقبرٍ حُفر حديثًا.

قال: «إذا كانت هناك امرأة أخرى، تذكَّري هذا: إذا دفعتِني إلى فراشها فلن أُغادره أبدًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥