السخي
مرَّت الأيام، دون أن تأتي بأدلة أخرى على ثقة الرعية بقسِّيسها فازداد غمًّا فوق غمِّه. أحسَّ أن كل فردٍ في القرية إما أنه ينتظر جاره أن يقوم بالتضحية بالنيابة عنه، أو يفضل أن يخسر القسيس في القريب العاجل على أن ينتهك خصوصيته الجوهرية.
ولم يجد ما يفعله سوى أن ينتظر ويُسرِّي عن نفسه بالتفكير في احتمالية أن يكون إيجناتيوس قد أخطأ في فرضيته، بشأن الإرسال الجماعي للخطابات المجهولة.
انزعج إيجناتيوس، أيضًا، من هذا التعطيل. وذات صباح، فاجأ القسيس بفكرةٍ جديدة.
سأل إيجناتيوس: «هل سافرت الآنسة ماك من قبل؟»
أجاب القسيس: «ما أدراني؟»
«هل تعتقد أنها قد تُحب القيام برحلة قصيرة إلى القارة الأوروبية؟»
«أظن ذلك.»
أضاف إيجناتيوس: «إذن ما رأيك في أن ندعوها إلى واحدة؟ أشعر أنني أريد أن أبسط يدي هذه الأيام.»
نظر القسيس إلى وجه صديقه الخالي من التعبير، ولم يرَ سوى نظرةٍ خبيثةٍ وليدةٍ في عينَيه.
سأل القسيس في ارتياب: «ما الذي ترمي إليه؟»
«لا شيء. كل ما أرجوه أن أتأكد أنني ما زلتُ على الطريق الصحيح. حتى الآن، لديَّ فرضية واحدة، لكن كل الأمور بدأت تتَّسق معًا بإحكام شديد، ولا يحتاج الأمر إلا إلى نموذجٍ واحد من رسالة؛ لإثبات صحة فرضيتي. وحتى ذلك الحين لا يُمكنني المبالغة في تصديق صحَّة فرضيتي.»
وسكت عن الكلام، لينظُر خارج النافذة، بين أغصان أشجار الأرز الوارفة التي تُظلِّل الحديقة. كانت هناك سيارة صغيرة تقِف خارج البوابة، يوشِك مالِكها على مغادرتها.
قال إيجناتيوس متذمرًا: «إنها ابنة عائلة مارتن. التقت بي أمس، وراقتها سيارتي كثيرًا. ارفض كلَّ الدعواتِ نيابةً عني.»
ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه القسيس، لعلمِه أن الآنسة مارتن ستستهدف أي عَزَبٍ ثري تلقائيًّا. خرج القسيس من النافذة الفرنسية، واستقبل كونستانس مارتن في ممرِّ السيارات.
صاحت: «أريدك وصديقك أن تتناولا الغداء معنا اليوم.»
بذل القسيس غاية ما في وسعه في المسألة، لكن انتهى به الأمر أن وعدَ الآنسة بالحضور؛ إذ كان يرفض الكذب نيابةً عن إيجناتيوس.
خرج الرجل المستاء من مَخبئه، عندما عاد القسيس إلى غرفة الطعام، وغضب عند سماعه للاتفاق.
قال: «على الأقل سيكون معي ذكرى شيقة تشدُّ من أزري في هذه المحنة. أتوقع أن أحظى ببعض التسلية في قصر «سباوت».»
سأل القسيس: «كم ستكلفك هذه الرحلة السخية النادرة؟»
أجاب إيجناتيوس: «حوالي خمسين جنيهًا على ما أعتقد. لكن لا أتوقع أن يُطلب مني الدفع. سترفض الآنسة ماك عرضي.»
«لا تكن واثقًا إلى هذا الحد.»
«ألم يخطُر ببالك أن الآنسة أسبري ستمنعها من الذهاب؟ «
«لن تفعل شيئًا من هذا القبيل مطلقًا».
عندما وصل الرجلان إلى الباب الأمامي لقصر «سباوت»، نظر القسيس إلى إيجناتيوس قبل أن يطرق الباب.
سأله: «هل أطلُب مقابلة الآنسة ماك؟»
أجاب: «لا، الآنسة أسبري. ستكون الآنسة ماك معها.»
وكان إيجناتيوس مُحقًّا في توقُّعه؛ إذ عندما قادتهما الآنسة روز إلى غرفة المكتب، كانت السيدتان معًا. وقفت الآنسة أسبري عند النافذة، في حين جلست الآنسة ماك إلى المكتب، تفتح الأظرف بجدٍّ وطاعة.
همست الآنسة ماك بلهفةٍ مشوبة بالخضوع للاختفاء من المشهد: «أيمكنني الذهاب؟»
قالت الآنسة أسبري بلهجة آمِرة: «لا، ابقَي من فضلك. سأحتاج إليكِ فيما بعد.»
ورحَّبت بالقسيس بابتسامتها الوقورة، التي شعر إيجناتيوس أنها مصطنعة. حتى القسيس نفسه شعر أن جوًّا من الكآبة يُخيم على الغرفة العتيقة المُظلمة؛ إذ كانت النافذة البابية أصغر من المعتاد، وتطلُّ على حديقة معتمة حيث تدفَّق الينبوع البُني المضطرب بين أحجار الإفريز.
تحدَّث القسيس إلى الآنسة أسبري باحترامٍ عن الأمور المعتادة؛ كي يُمهد الطريق لصديقه لتقديم عرضه. وبينما كان يفعل ذلك، أحسَّ بجوٍّ من السكينة من حوله صنَعَته الآنسة أسبري بحضورها الهادئ. وهدأت مخاوفه شيئًا فشيئًا، وتوقَّف عقله عن دوَرانه المتواصِل المُضطرب.
لكن إيجناتيوس بدَّد هذه السَّكِينة بسؤاله المفاجئ.
سأل: «هل سافرتِ كثيرًا يا آنسة أسبري؟»
نظرت إليه الآنسة بدهشةٍ تكاد لا تُلحَظ.
أجابت: «في شبابي.»
سأل إيجناتيوس: «وأنتِ يا آنسة ماك؟»
حملقت فيه الآنسة ماك بعينَيها المُستديرتَين الزرقاوَين الصافيتَين.
وأجابت: «لا.»
«هل ترغبين في السفر؟»
«أوه، بلى.»
«حسنًا. إذن يُمكنكِ إسداء خدمةٍ لأصدقاء لي. هذا إذا وافقت آنسة أسبري على الخطة.»
ومضى يُزيِّن كذبته بحماسته الفطرية التي تُصاحب مِثل هذه الشطحات الخيالية.
قال: «إليكِ المعلومات. خطَّط أولئك الأصدقاء — وهن أربعة نسوة — للذهاب في عطلة قصيرة إلى سويسرا والبحيرات الإيطالية. لسوء الحظ، اضطرَّت إحداهن إلى الانسحاب في آخِر لحظة، فصار عددهن ثلاثًا، وهو عدد غير مناسب بعض الشيء. لذا توسَّلنَ إليَّ لسدِّ هذا النقص.»
سألت الآنسة ماك: «هل ستذهب؟ هذا رائع.»
قال: «أخشى أنَّ جِنسي يحرمني من هذه المتعة. لكن نظرًا لإتمام الحجوزات وسداد مقابلها، طلبت صديقاتي أن أعثر لهنَّ على شخصٍ رابعٍ مناسب. شخص حسَن الخلق، ليِّن الطبع، رصين، مُتفهِّم، هادئ النفس؛ إنهنَّ يبحثنَ عن رفيقٍ مثالي في الحقيقة. بطبيعة الحال، فكرتُ في الآنسة ماك.»
ثم التفت إيجناتيوس إلى الآنسة أسبري.
وسألها: «أيمكنكِ الاستغناء عنها أسبوعَين؟»
أجابت الآنسة أسبري دون تردُّد: «بالتأكيد.» نظر إيجناتيوس إلى الآنسة ماك التي كانت تبتسِم في حيرة. وسأل: «هل ستأتين؟ هل يُمكنني أن أراسل صديقاتي وأخبرهنَّ أنني نجحتُ في مسعاي؟»
لاحت اللهفة في عيني المرأة الضئيلة، لكن بدا عليها التردُّد، وهي تختلِس النظر إلى الآنسة أسبري.
قالت: «أنا … أنا لا أعرف حقًّا.»
قال إيجناتيوس: «ألا يُعجبك العرض؟ لا يوجد أي التزامٍ ماديٍّ من أي نوع، وستكون صديقاتي في غاية الامتنان لكِ. بالمناسبة، تُحب صديقاتي الراحة. لن يُمارسنَ رياضة التسلُّق ولا السير على الأقدام. سيسافرنَ بالسيارة، وسيتوقفنَ من حينٍ لآخر، ويبِتْنَ في أرقى الفنادق. وسيكون الطعام شهيًّا.»
لعقت الآنسة ماك شفتَيها الورديتَين الباهتتَين بطرف لسانها.
وقالت: «يبدو العرض مُغريًا جدًّا. هل أنت متأكد أنني لن أدفع أيَّ شيء؟»
أجاب: «ولا بنسًا واحدًا.»
قالت: «هذا لطف بالِغ منكم. أظنُّ أنني أُحب القدوم.»
سُرَّ القسيس فأشرق وجهه المُكفهر، لكن بدا أنه يجد الموقف مضحكًا عندما نظر إلى إيجناتيوس.
سألت الآنسة أسبري: «متى ستُغادر صديقاتك إنجلترا؟ يجب أن نبدأ في تجهيز أغراض الآنسة ماك على الفور.»
بدت الآنسة أسبري مسرورةً حقًّا بالعطلة التي تنتظر مرافقتها؛ حتى إن إيجناتيوس لم يدفع الخمسين جنيهًا فحسب وإنما دفع ضعفها؛ إذ تعهَّد بإيجاد مرافق للآنسة ماك.
قال إيجناتيوس: «نحو أسبوعَين من الآن. لا أذكر اليوم بالتحديد، لكن سأبحث في الخطاب الذي تلقيتُه من صديقاتي، فور عودتي إلى بيت القسيس.»
قالت الآنسة ماك: «لا، من فضلك لا تُزعج نفسك. فقد اكتشفتُ أنني لن أستطيع القدوم على كل حال.»
سألت الآنسة أسبري بنبرةٍ حاسمة: «لِمَ لا؟»
أجابت: «لا أريد أن أتركك يا آنسة أسبري.»
صُعق القسيس من الصدمة عندما رفضت الآنسة ماك العرض؛ لا سيما أن إيجناتيوس رمقه بنظرة انتصار. كان وجه الآنسة أسبري هادئًا، فلَمْ يكشف عن مشاعرها الحقيقية، حين بدأت تُجادل مرافقتها بالنبرة الهادئة المُسيطرة التي تُستخدَم للتأثير على الأطفال.
قالت: «لكن يا آنسة ماك، هذه فرصة يجِب ألا تُضيِّعيها. أستطيع إدارة أموري جيدًا في غيابك. أتمنَّى أن تسافري حقًّا.»
غمغمت الآنسة ماك: «أنا آسفة يا آنسة.»
سأل إيجناتيوس: «ألا ترغبين في السفر؟»
حمل بريق اللهفة الذي لاح في عينَي المرأة الإجابة على السؤال.
ردَّت المرأة: «أجل. أريد السفر حقًّا. لكنَّ مكاني بجوار الآنسة أسبري العزيزة. أنا أسعد ما يكون هنا، وأنا أقوم بعملي. أعلَم الأصلح لي. ولن يستطيع أحد أن يَثنيني عن قراري.»
ونهضت عن مكتبِها واتَّجهت نحو باب الغرفة.
سألت وهي تُغادر الغرفة: «أتأذنين لي بالانصراف يا آنسة؟»
التفت القسيس إلى الآنسة أسبري، التي جلست في مكانها بلا حراك، كأنها تمثال من الحجر.
وقال دون رويَّة: «ما أروع الولاء الذي تبثِّينه في الآخرين!»
ارتسمت ابتسامةٌ خافتة على شفتَي الآنسة أسبري لذلك الثناء، في حين تحدَّث إيجناتيوس بنبرة بها مسحة تهكُّم.
قال: «في تلك الحالة، لا بد أن الآنسة أسبري لها تأثير على شخصٍ طيِّع كالآنسة ماك. هل يُمكنني الاعتماد عليك في إقناعها؟»
ردَّت ببرود: «لا أستطيع أن أعِدك بشيءٍ من هذا القبيل. الآنسة ماك امرأة حُرة. ولا أومن بالإكراه. لقد أذِنتُ لها بالذهاب كما رأيت.»
لم يُعلق إيجناتيوس، ولكنه واصل تفحُّص الآنسة أسبري بعينَيه، في حين تحوَّل تعبير وجهها من الورع إلى غطرسة تكاد لا تُلحَظ. وعندما تحدَّثت أعطت انطباعًا يُوحي بقبولِ تحدٍّ.
قالت: «ينجح الغريب أحيانًا فيما يفشل فيه الصديق. ما رأيك يا سيد براون أن تخوض تجربة إثناء امرأة عن قرارها؟ أريدُها أن تذهب حقًّا … قد يكون من الحكمة أن تلتقي بها بمفردها. قد تتأثر بوجودي دون وعيٍ لأنني مخدومتها في نهاية المطاف.»
كان عرضها عادلًا أيما عدل. لكن كانت المسألة واضحة لكلٍّ منهما وضوح الشمس. لن تستطيع قوة على الأرض أن تحوِّل الآنسة ماك عن ولائها لمخدومتها.
همس القسيس بينما كان الرجلان يسيران في ممرِّ السيارات: «ستُجرب حظك، أليس كذلك؟»
ضحك إيجناتيوس ضحكةً خافتة مبتهجة، وهو يخبط على جيبه: «نعم، سألعب اللعبة. لكن أموالي بأمان. هل وصلك قصدي؟»
سأل القسيس بنبرة دفاعية: «أي مقصد؟»
أجاب إيجناتيوس: «أن السجين قد يتشبَّث بزنزانته حتى بعد أن تَفتَح له الباب.»
لم يعلق القسيس. وسقط ضحيةً للكآبة مرة أخرى، في حين كان إيجناتيوس في سعادةٍ غامرة. كان مُبتهجًا حتى إنه نسِيَ أن يتذمَّر في طريقهما إلى قصر «تاورز» بالسيارة.
علَّق إيجناتيوس: «بما أن سيارتي هي مصدر الاهتمام وليس شخصي، أظنُّ أنه سيُخصَّص لها مكان على مائدة الغداء.»
عندما وصلا إلى المنزل الضخم، الذي كان يعجُّ بالأبراج والنوافذ الزجاجية البراقة، شعر إيجناتيوس بالنفور منه، لاكتظاظه بمظاهر الترَف وجوِّه المُضطرِب. كانت فتيات عائلة مارتن متحمِّسات على نحوٍ مُفرط، وأربكنَه بثرثرتهنَّ التي لا تتوقف. تحمَّل إيجناتيوس وجبة الغداء الدسمة التي مرَّت ببطءٍ بتذكير نفسه بأن انزعاجه إلى زوال.
عندما كان يدخن سيجارة، بعدما انتهى من تناول الغداء، شعر بقُرب لحظة انفراج كربه، فحاول أن يتعامَل بلُطفٍ مع كونستانس مارتن التي التصقت به.
سألها إيجناتيوس بنبرةٍ ودودة: «هل استقررتما تمامًا؟»
ردَّت كونستانس: «أجل، فنحن من السكَّان القدامى. بل إنني تلقيتُ أحد تلك الخطابات المجهولة اللعينة حتى أشعر بالترحاب.»
سأل إيجناتيوس بسرعة: «أين هو؟»
أجابت: «لقد أحرقتُه بالطبع. لا أحتفظ بمِثل هذه القاذورات حولي حتى لا تقرأه خادمتي.»
سأل إيجناتيوس: «وهل أحرقتِ الظرف أيضًا؟»
أجابت: «نعم. لكن يُمكنني أن أصِف لك فحوى الخطاب إذا كنتَ تجد ذلك مُسلِّيًا. لقد احتوى على كلام فارغ بشأن الصفقات الرابحة التي حققناها بالخارج، كما أشار إلى صفقاتٍ أكثر ربحًا لم نتحدَّث عنها. لا أستطيع تذكُّر الكلمات التي استخدمها بالضبط، لكنه اتَّهمنا بسرقة المتاجر صراحة.»
عضَّ إيجناتيوس على شفتَيه في خيبة أمل، إذ تحسَّر على فقدان فرصةٍ أخرى.
هتف في انفعال: «اللعنة!» فتوهمت كونستانس أنه متعاطف معها.
فقالت موافقةً كلامه: «إنه لسيئ حقًّا. لقد فتحت الخطاب، لكنه على أي حال قد يكون مُوجهًا لأي واحدةٍ منَّا. كان الخطاب مُوجهًا إلى «الآنسة كيه مارتن»، وجميع أسمائنا تبدأ بالحرف نفسه. فأختي الكبرى تُدعى «كاثلين»، والصغرَيان اللَّتان لم تُقابلهما بعْدُ «كارول» و«كيري».»
كان من الواضح أن كونستانس تُريده أن يشعر بأنه جزء من عائلتها؛ إذ تحدثت عن تقديمه لهما في المستقبل.
قالت: «ستأتي الأخريان قريبًا، وسنبقى هنا لبعض الوقت. فلقد أكثرنا التنقُّل في العامَين الماضيين، على أي حال؛ لذا حان وقت الاستقرار.»
أكَّد إيجناتيوس على تطلُّعه للِقاء بقية عائلتها؛ لكنه ظل صامتًا ونزقًا في طريق عودته مع القسيس إلى البيت. وحدَه الكلب من حظي بثقة إيجناتيوس، عندما غاص في أحد المقاعد، وهمس في أذن تشارلز الحريرية قائلًا:
«الجاني هو ذلك الشخص الذي دارت حوله شكوكُنا. لكن يجب أن نُثبت ذلك بالأدلة لأولئك الأقل ذكاءً.»