النذير
بعد عشر دقائق، كان الطبيب بيري يجلس مُسترخيًا على مقعدٍ مهترئ من ماركة فارستي، في حديقة القسيس التي تُظللها أشجار الطقسوس، في حين أخذ مُضيفه يقطع الأرض العشبية المزدانة بزهور الأقحوان بخطواتٍ رشيقة، ملوحًا بغليونه وملقيًا مواعظه على أذنَيه. كان هذا الشخص، وهو نسخة بشرية من الدينامو، محور اهتمام عقل الطبيب الفضولي؛ وبينما كان الطبيب يُدخِّن غليونه أخذ يتفحَّصه بحيادية هادئة.
كان القسيس سايمون بليك طويل القامة مُكتنز الرقبة، مفتول العضلات، ذا ملامح كلاسيكية غير حادة، وشعرٍ مجعد أسودَ كالفحم، وعينَين براقتَين تشعَّان غرورًا. بدا في كثيرٍ من النواحي كأنه وليد زواج إمبراطور روماني أعياه الزمن بامرأةٍ مغمورة من عامة الشعب. كان صوته قويًّا مفعمًا بالحيوية، وكانت كل إيماءاته تُوحي بالعنفوان. بدا كأنه لم يكتسب عادة الجلوس قط، وكان يتحدَّث بلا توقُّف.
كان الطبيب بيري يُدرك أن استعراض القسيس لحيويته الفيَّاضة مجرد تضليل، وأنه يفعل ما يفعل لإعادة إشعال نيران، كانت قد اضطرمت ثم انطفأت جذوتها. كان يعلم أن هذه هي الحيلة الدفاعية الأخيرة للتوتُّر العصبي الذي جعلَه مثل كوكب غير مُستقر في مداره. لقد أرهق القسيس نفسه بالعمل في أبرشية مُحاذية لرصيف الميناء، وظل متمسكًا بوظيفته حتى بعد شعوره بالإنهاك لفترة طويلة. ولم يكن سيتنازل ويقبل العيش في القرية لولا أنه انهار نفسيًّا وجسديًّا.
قال الطبيب مشجعًا: «اجلس يا رجل. أنتَ مثل جزيئات الطاقة الذرية المضطربة.»
ألقى القسيس نفسه على مقعده الضعيف في انصياعٍ بقوة آلة ثقيلة، غير أنه هبَّ واقفًا مرة أخرى.
قال: «هذا المكان مثالي يا دكتور. أدعو الله أن أعيش آخِر أيامي به. انظر إليه الآن.»
ولوَّح بغليونه نحو شارع القرية الذي كان يعرض موكب الغروب الاعتيادي على مسرحه. كان الأطفال يقفزون ويلعبون على حجارة الرصيف، في صورةٍ مطابقة للأصل للفتيات والفتيان المرفهين وكنَّاسي المداخن الصغار الذين واراهم الثرى منذ زمنٍ بعيد. وانشغلت النساء بالثرثرة من فوق بوابات حدائقهن، كما كنَّ يفعلنَ في العصور التيودورية، وتحدثنَ عن الأشياء نفسها تقريبًا. وفي الثامنة إلا الربع تقريبًا، خرج السيد سكودامور وزوجته من بوابات منزل «ذا كلوك» ليقوما بجولتهما المسائية. كانت السيدة ترتدي قبعةً من الريش وشالًا نسائيًّا رقيقًا من الدانتيل الأصلي، ورفعت القرية القبعة إعجابًا بالصنعة المبهرة للدانتيل القادمة من مدينة هونيتون.
تفحَّص الطبيبُ القسيسَ، وراح القسيس بدوره يرقُب الثنائي وهما يسيران في وقار. لاحظ القسيس كيف تذوب البرودة التي تكسو وجه المحامي كلما تحدَّث إلى زوجته، وابتهج عندما رآها تبتسِم تجاوبًا مع زوجها. لكنهما لم ينشغِلا بنفسيهما عن رؤية طفلَين سفعتهما الشمس، يرتديان قلنسوات واقية من الشمس قديمة الطراز باللون الأرجواني الفاتح. أخرجت الفتاة الصغيرة ملبس اللوز من فمها لتُثبت للحاضرين أن لونه تحول من الوردي للأبيض، وبالَغ الزوجان كثيرًا في إظهار دهشتهما بهذه المعجزة.
لوى الطبيب شفته قليلًا سخريةً، بينما انفرجت شفتي القسيس عن ابتسامةٍ مشرقة.
قال: «لا يزالان حبيبَين كما كانا. هذا هو الزواج المثالي.»
غمغم الطبيب: «في نظر الرب والجيران.» ثم أضاف بابتسامةٍ باهتة: «هناك خطر وحيد من تقديس عمدة القرية وعائلته. فلن يستطيع أهل القرية الشكوى حال تعرُّضهم لأي سوء معاملة من شدة ما ترسَّخ ذلك الاعتقاد داخلهم. فهم يُدركون أن لا أحد سيُصدقهم.»
كرر القسيس: «سوء معاملة؟ هنا؟ هل جُننت؟»
أجاب: «ربما. أغلبنا لدَيه شيء من الجنون وهذا أمر طبيعي. بالمناسبة، إذا أخذتُ إجازة من العمل في أحد أيام الأحد، فسآتي لسماع خطبتك يا أبتِ. أنتَ الشخص الوحيد الذي يستطيع طرد النوم من عيني.»
ابتسم القسيس ابتسامةً صبيانية يشوبها الخجل.
وقال معترفًا: «أعرف أنني شخص مُزعج لكن الخطابة هي موهبتي. لعلها لا تلائم المكان، إلا أنني لا أجرؤ أن أتركها دون استخدامٍ حتى لا تصدأ. إلى جانب أنها ربما كانت تصنع خيرًا في الخفاء. مَن يدري؟»
كان القسيس يعلم أن عظاته الحماسية، التي أشعل بها جنبات أبرشيته السابقة، كانت مثل سلسلةٍ من القنابل تنفجر تحت الممرات المُقنطرة للكنيسة النورماندية. لكنه لم يتوقف عن هذه العادة، وكان يحضُّ مُستمعيه كل أحدٍ على التفتيش في قلوبهم عن أي ذنوبٍ خفية. وكانت رعيته تتلقَّى مواعظه بهدوء تام، في حين كان يُعجَب هو بصوته الجهوري.
كانت عائلة سكودامور قد اختفت عن الأنظار، عندما انفتحت بوابات قصر «سباوت» ذات الزخارف الحديدية المُتقَنة، وخرجت منها فتاة. بدت هذه الفتاة من بعيدٍ تُشبه جوان بروك؛ ورأى الطبيب الذي كان مُضلَّلًا هو أيضًا، الاهتمام الذي ظهر على وجه القسيس على نحوٍ مفاجئ. لكنها عندما دنت تبيَّن أن جوان مجرد مثال على الجمال، أما هي فآية فيه.
كان شعرها بين الذهبي والأحمر، وعيناها مزيجًا بين الأخضر والأزرق، وبشرتها مُركبة من الأحمر الكرزي ولون القشدة، فيما كانت قسماتها وأسنانها الناصعة البياض مثالية. كانت ترتدي فستانًا أبيض بلا أكمام من الكريب الرخيص، وجوارب نسائية حريرية يُعرف لونها ﺑ «الماء الموحِل»، وأساور فضية على ذراعَيها الرشيقتَين. يداها الحمراوان فحسب ما كشفتا عن اشتغالها بالأعمال المنزلية.
كانت هذه الفتاة هي أدا، خادمة الآنسة أسبري الشهيرة، وفاتنة الحي بإجماع الجميع. اجتازت الفتاة ساحة القرية، ثم توقَّفت قليلًا تحت سور حديقة القسيس المُرتفعة لتتفقَّد ساعة يدِها، التي كانت تُشبه تمامًا ساعة جوان بروك من ناحية الشكل. وعلى الفور رأت الرجلَين يُدخنان فوقها، فانحنت لهما في احترامٍ كأي طفلٍ من أطفال القرية.
ابتسم القسيس ابتسامة عريضة وقال: «مساء الخير يا أدا. هل انتهيتِ من عملك؟»
بادلَته الابتسام وأجابت: «بلى يا سيدي.»
سأل القسيس: «ماذا تفعلين في نُزهاتك المسائية؟»
«الكثير يا سيدي.»
«ألا تسأمين أبدًا أو تفتقدين الأفلام؟»
امتلأت عيناها اللتان تُشبهان زهرة البنفسج باللوم وقالت: «لا، سيدي. أنا عائدة للمنزل لأرى مولود أُمِّنا الجديد.»
سأل: «طفل جديد؟ حسنًا. ما جنسُه؟»
قالت: «ذكر يا سيدي.»
نظرت إلى ساعتها مرةً أخرى، فانحنت من جديد، وأسرعت باتجاه مَمشى كواكرز.
سأل القسيس: «أليس ذلك مُمتعًا؟ إنه لا يُقارَن بدور السينما المكتظة بالمشاهدين وما تعرضه من أفلام الجريمة والجنس … بالمناسبة، لم أعلم أن السيدة لي رُزقت بمولودٍ جديد. كم عمره؟»
أجاب الطبيب: «ستٌ وعشرون سنة تقريبًا. إنه سائق عمدة القرية الجديد.»
ضحك القسيس على نفسه كثيرًا.
وقال: «صدقتها مثل الأحمق، أليس كذلك؟ لقد خدعتني. ولكنها على أي حال، تنعم بحبٍّ حقيقي لزوجها، وهذا أفضل كثيرًا من مشاهدة الحُب المُعلَّب على شاشة سينما.»
علق الطبيب: «في الحالة الأولى قد لا يتخطَّى الضرَر فقدان أربعة بنسات ثمن تذكرة السينما. لقد تعلَّمتُ في مِهنتي أن السلع المُعلبة قد تكون أقلَّ ضررًا من السلع الطازجة.»
الْتمعت عينا القسيس وقال: «لا. ليس هنا. لا يوجد انحلال أخلاقي في القرية. كما لا يُوجَد حقد طبقي ولا اضطرابات مُعاصرة. إن عموم السكان يتحلَّون بالطيبة وحُسن الخلق. فلم أشهد مكانًا تندُر فيه الفضائح مثل القرية. كما أن الجهود الخيرية تكاد تتقاطع. فلا تُوجَد أحياء فقيرة ولا أسقف متهالكة ولا أوضاع غير صحية.»
قال الطبيب بصوته المُتعَب: «أتَّفق معك. لكن هذه الحقيقة تظلُّ قائمة. لا تستخدِم أي من سيدات القرية أي مستحضرات تجميل، ولا حتى زوجتي المتحضرة؛ لأن زوجة السيد سكودامور قد أصدرت مرسومًا بأن الأصباغ تتنافى مع الذوق الرفيع. ومع ذلك هل رأيتَ شفاهًا مُتشققة أو بشرة متضررة قط؟»
سأل القسيس: «ماذا تقصد بكلامك هذا؟»
أجاب: «لا شيء سوى أنهنَّ حتمًا يستخدِمنَ كريمات غير مرئية ومراهم علاجية شفَّافة للشفاه … المغزى من الكلام، يا أبتِ، أن الطبيعة البشرية تظلُّ واحدة والفساد موجود في كل عقل.»
قال القسيس في حسرة: «لعلَّك تفوقني معرفة في هذا الشأن. فلم يعُد الناس يأتمنون قسيسهم على ما يُواجهون من صعابٍ وشكوك. لكن باعتبارك طبيبًا، فلا بد أنك تطَّلع على خبايا قلوبهم في غفلة منهم.»
سأل الطبيب: «أنا؟» كان يبتسِم وهو يحاول عبثًا اصطياد عثة بيضاء. وأضاف: «لا يا أبتِ، إنهم يظهرون أحسن ما لدَيهم عند زيارة الطبيب.»
لم يعلق القسيس؛ حتى هو استسلم للصمت أخيرًا بتأثير ذلك السحر المركَّب للشفق والتبغ. لقد تلاشت الأعمدة الأرجوانية والذهبية من سماء المَغيب، وسكنت أصوات النساء الثرثارات. ودخل أهل القرية إلى بيوتهم لتناوُل الغداء أو إعداد العشاء. وعاد الزوجان سكودامور إلى منزل «ذا كلوك» بمهابة، وظلَّا يتأبط كلٌّ منهما ذراع الآخر حتى آخِر حجرٍ رصيف. أما أدا خادمة الآنسة أسبري، فكانت تُقبِّل وتُعانق مولود أمِّها الجديد الذي نما له شارب كشارب رولاند كولمان، في ممشى كواكرز المُظلم.
طفقت المصابيح تثقب ستار الليل، في حين ارتعشت أول نجمةٍ في السماء المشوبة بلون أخضر باهت. وفي الناحية الأخرى من ساحة القرية، تلألأت ألماسات ذهبية صغيرة، مثل مجموعاتٍ متكتلة من النحل، عبر النوافذ الشبكية لقصر الآنسة أسبري ذي الطراز الإليزابيثي.
تجدَّد حماس القسيس بمشهد الألماسات.
علَّق: «لا أحد مِثالي كما قلتَ. لكن الآنسة أسبري أقرب ما تكون إلى القديسة منها إلى امرأةٍ عادية. إن لها تأثيرًا في نفسي يكاد يكون روحانيًّا. أذهب إليها كلما شعرتُ بالغضب والعصبية، وأخرج من عندها وأنا في غاية الهدوء.»
تفحَّصه الطبيب عبر عدسات نظارته، وكأنه يتفحص شيئًا على شريحة مِجهر.
وسأل: «حقًّا؟ هذا مُثير للاهتمام. في الحقيقة لقد لاحظتُ أيضًا أن أي سيدة فاضلة تمتلك سِمة مُهدئة على ما يبدو. لكنها كارثية لشخصٍ ذي طبيعة خاملة مِثلي. بعدما أذهب إلى «سباوت»، أشعر كأنني تناولتُ عقار فيرونال المُنوِّم. لم أكن ألحظ ذلك من قبل؛ لذا افترضتُ أنني إما أتقدم في العمر أو أعاني من بعض الخمول الزائد.»
تحدث الرجلان بلا تكلُّف وكانت كلماتهما تذهب طيَّ النسيان بمجرد نُطقها. لم يتوقَّعا في ذلك الوقت، أنهما عندما سيغرقان في متاهة الغموض المُظلمة لاحقًا، أن تسجيلًا لمحادثتهما بالجراموفون سيكشف لهما أحد الألغاز.
قال القسيس للطبيب ناصحًا: «يجب أن تأخُذ إجازةً من العمل.»
أجاب: «إنه مرهق جدًّا.»
كان صوت الطبيب المُتثاقل مسموعًا بالكاد. كان الليل قد غلَّف القرية بطبقاتٍ بعضها فوق بعض من الأزرق والأصفر والرمادي. غرق الرجلان في مقعدَيهما، يُدخنان غليونَيهما، في سلامٍ مع الطبيعة ومع نفسيهما. بدا كأنهما يغوصان في ظلماتِ بحرٍ لُجي، غير عابئين بمراوح السفن البخارية، التي تضرب سطح المياه من فوقهما.
لكن، حتى آنذاك، كانت الضربة الأولى توشِك أن تقع على القرية. فمِن مكان بعيد، في الأفق، دوَّت طَرقة ساعي البريد المزدوجة. وبعد برهة، ظهر أمامها رجل مُستدير البِنية ذو نظارة فولاذية الإطار. تجاهل ساعي البريد بيت القسيس، ولكنه دخل من بوابات قصر «سباوت». سمع الرجلان طرقاته المُتكررة المألوفة، ثم رأياه يخرج من الحديقة مرةً أخرى ويمضي في سبيله، لكنهما لم يُدركا أنه كان نذير الكارثة.
دبَّت الحياة في نفس القسيس على الفور.
قال: «الجو بارد. لندخل ونتناول كأسًا من الويسكي.»
بينما كان الرجلان ينهضان من مقعدَيهما المُنخفضَين بصعوبة، أصدرت بوابة بيت القسيس صريرًا، ودخلت منها روز خادمة الاستقبال لدى الآنسة أسبري، التي لم تكن هيئتها تتناسَب مع جمال اسمِها، وسارت في ممرِّ السيارات المرصوف بالحصى في خيلاء. كانت امرأةً صارمة نحيلة بارزة الشفتَين، وكانت قد عملت في وقتٍ سابق في قصر الأسقف؛ لذا لم تُظهر الاحترام للقسيس كما هي عادة أهل القرية. كان صوتها أجشَّ وهي تُملي أوامرها.
قالت: «تُرسِل الآنسة أسبري تحياتها، وتطلب منك القدوم إلى بيتها على الفور إذا سمحت.»
لم يتحمَّس القسيس للفكرة؛ إذ كانت نوافذ غرفة مكتبه المضيئة تُناديه والويسكي في انتظاره، فسأل: «هل الأمر عاجل؟»
أجابت: «الآنسة تستأذنك في المجيء على الفور؛ لأن الأمر «في غاية الأهمية».»
قال: «بالتأكيد، سآتي إليها مباشرة إذن.»
تقدمت روز الطريق، بقوامها الطويل وثيابها السوداء والبيضاء، في حين استدار القسيس إلى الطبيب بيري.
سأل: «أعتقد أنك لن تنتظِرني، أليس كذلك؟»
ردَّ الطبيب: «أشكرك يا أبتِ، لكني سأنتظِرك. أعتقد أن جيلي بوتر سيظهر على الهواء الليلة؛ لذا سأُسلِّي نفسي بالراديو.»
وبينما راح ينظر إلى طيف القسيس وهو يُغادر، اشتعلت عيناه الخاملتان في العادة فضولًا، وعزم على الانتظار إلى منتصف الليل، إذا اقتضت الضرورة، حتى عودة القسيس.»
فقد كان موقنًا تمام اليقين أن فضوله الجائع سيحظى بوليمةٍ كبيرة، وأنه للمرة الأولى في تاريخ القرية ستسقُط الأقنعة المثالية.